تفسير القاسمي - ج ٣

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٣

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة النساء

روى العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقد زعم النحاس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) [النساء : ٥٨] الآية ، نزلت بمكة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة. وذلك مستند واه. لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سور طويلة ، نزل معظمها بالمدينة ، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدنيّ. ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه. ومما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده. ودخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا. وقيل : نزلت عند الهجرة. وآياتها مائة وسبعون وخمس وقيل ست وقيل سبع. كذا في الإتقان. وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أنّ لي بها الدنيا وما فيها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] الآية ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١] الآية ، و (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النساء : ٦٤]. الآية. وروى عبد الرزاق عنه أيضا قال : خمس آيات من النساء لهن أحبّ إليّ من الدنيا جميعا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ). وقوله : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها). وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٦٤]. وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠]. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء ، خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس

٣

وغربت. أوّلهن : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء : ٢٦] ، والثانية : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) [النساء : ٢٧] ، والثالثة : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ثم ذكر قول ابن مسعود سواء. يعني في الخمسة الباقية.

لطيفة : إنما سميت سورة النساء ، لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر مما نزل في غيرها.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي اخشوه أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه. ثم نبههم على اتصافه بكمال القدرة الباهرة ، لتأييد الأمر بالتقوى وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريق الترغيب والترهيب ، بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي فرّعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم. وخلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع مما يدل على القدرة العظيمة. ومن قدر على نحوه كان قادرا على كل شيء. ومنه عقابهم على معاصيهم. فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته. وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة. كما ينبئ عنه ما يأتي من الإرشاد إلى صلة الأرحام ، ورعاية حال الأيتام ، والعدل في النكاح وغير ذلك. وقد ثبت في صحيح مسلم (١) من حديث جرير بن عبد الله البجليّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الزكاة ، حديث ٦٩ ونصه : عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند رسول الله في صدر النهار ؛ قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء (أي لابسيها خارقين أوساطها مقوّرين. والنمار جمع نمرة وهي ثياب صوف فيها تنمير) متقلدي السيوف. عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر. فتمعّر (أي تغيّر) وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما رأى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذّن وأقام. فصلى ثم خطب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء : ١] إلى آخر الآية : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً). والآية التي في الحشر : (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ) [الحشر : ١٨] تصدق رجل من ديناره. من درهمه. من ثوبه. من صاع بره. من صاع تمره. (حتى قال) ولو بشق تمرة». قال : فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها. بل قد عجزت. قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب. حتى رأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهلل كأنه مذهبة (أي فضة مذهبة ، فهو أبلغ في ـ

٥

حين قدم عليه أولئك النفر من مضر ، وهم مجتابو النمار (أي من عريهم وفقرهم) قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) حتى ختم الآية. ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر : ١٨]. ثم حضهم على الصدقة فقال : تصدق رجل من ديناره. من درهمه. من صاع بره. من صاع تمره. وذكر تمام الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة. وفيها : ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) الآية. (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) أي من نفسها. يعني من جنسها ليكون بينهما ما يوجب التآلف والتضامّ. فإن الجنسية علة الضم. وقد أوضح هذا بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم : ٢١] ، (وَبَثَّ مِنْهُما) أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها ، بطريق التوالد والتناسل. (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي كثيرة. وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به. فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بأن يقولوا : أسألك بالله وأنشدك الله ، على سبيل الاستعطاف ، يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة. ولوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته. و (تَسائَلُونَ) أصله تتساءلون. فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ تسألون (من الثلاثيّ) أي تسألون به غيركم. وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع. كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه ـ أفاده أبو السعود ـ وقوله تعالى (وَالْأَرْحامَ) قرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور. والباقون بالنصب عطفا على الاسم الجليل. أي اتقوا الله والأرحام أن تقطعوها. فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى. أو عطفا على محل الجار والمجرور. كقولك مررت بزيد وعمرا. وينصره قراءة (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عزوجل.

__________________

ـ حسن الوجه وإشراقه). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

٦

ويقولون : أسألك بالله وبالرحم. ولقد نبه سبحانه وتعالى ، حيث قرنها باسمه الجليل ، على أن صلتها بمكان منه. كما في قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣]. وقال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) [النساء : ٣٦]. وقد روى الشيخان (١) عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرحم معلقة بالعرش. تقول : من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله». ورويا (٢) أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة قاطع». قال سفيان في روايته : يعني قاطع رحم. وروى البخاري (٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها». ورويا (٤) عن أبي هريرة رضي الله عنه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه. والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم وترهيب من قطيعتها كثيرة.

تنبيه :

دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى. كذا قاله الرازيّ. ووجهه أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل. لكونهم يعتقدون عظمته. ولم ينكره عليهم. نعم من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله ووسيلة للأبواب الساسانية ، فهذا محظور قطعا. وعليه يحمل ما ورد من لعن من سأل بوجه الله ، كما سنذكره. وقد ورد في هذا الباب أحاديث وافرة. منها عن ابن عمر قال (٥) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى

__________________

(١) أخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث ١٧.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ١١ ـ باب إثم القاطع ، حديث ٢٣١١ ومسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث ١٨ و ١٩.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ١٥ ـ باب ليس الواصل بالمكافئ ، حديث ٢٣١٦.

(٤) أخرجه البخاريّ في : الأدب ، ١٢ ـ باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم ، حديث ٢٣١٢ ، هذا نصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره ، فليصل رحمه».

(٥) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ٦٨.

وأبو داود في : الأدب ، ١٠٨ ـ باب في الرجل يستعيذ من الرجل ، حديث ٥١٠٩.

٧

تعلموا أن قد كافأتموه» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود (١) والنسائي وابن حبان والحاكم. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عباس مرفوعا : «من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه». وعن ابن عمر مرفوعا : «من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة». رواه البيهقيّ بإسناد ضعيف. وفي البخاري (٢) عن البراء بن عازب : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع». وذكر منها : وإبرار القسم. وروى أبو داود (٣) والضياء في (المختارة) بإسناد صحيح عن جابر مرفوعا : لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة. وروى الطبرانيّ عن أبي موسى الأشعريّ مرفوعا : ملعون من سأل بوجه الله. وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا. قال السيوطيّ : إسناده حسن. وقال الحافظ المنذريّ : رجاله رجال الصحيح إلا شيخه (يعني الطبرانيّ) يحيى بن عثمان بن صالح. وهو ثقة وفيه كلام. وهجرا (بضم الهاء وسكون الجيم) أي ما لم يسأل أمرا قبيحا لا يليق. ويحتمل أنه أراد ما لم يسأل سؤالا قبيحا بكلام قبيح. انتهى. وعن أبي عبيدة ، مولى رفاعة ، عن رافع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله». رواه الطبراني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (٤) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا أخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي. رواه الترمذيّ. وقال : حسن غريب. والنسائيّ وابن حبان في صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : الذي يسأل بالله ولا يعطي (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) أي مراقبا لجميع أحوالكم وأعمالكم. يراها ويعلمها فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. كما قال : والله على كل شيء شهيد. وفي الحديث (٥) : اعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأدب ، ١٠٨ ـ باب في الرجل يستعيذ من الرجل ، حديث ٥١٠٨.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الجنائز ، ٢ ـ باب الأمر باتباع الجنائز ، حديث ٦٦٢. وهذا نصه : عن البراء رضي الله عنه قال : أمرنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع ونهانا عن سبع : أمرنا باتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس. ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج والقسّي والإستبرق.

(٣) أخرجه أبو داود في : الزكاة ، ٣٧ ـ باب كراهية المسألة بوجه الله ، حديث ١٦٧١.

(٤) أخرجه الترمذيّ في : فضائل الجهاد ، ١٨ ـ باب ما جاء أي الناس خير.

(٥) أخرجه البخاريّ في : الإيمان ، ٣٧ ـ باب سؤال جبريل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ، حديث ٤٦ ونصه : عن أبي هريرة قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارزا يوما للناس. فأتاه جبريل فقال : ما الإيمان؟ قال : «الإيمان ، أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث» قال : ـ

٨

وهذا إرشاد وأمر بمراقبته تعالى. فعلى المرء أن يراقب أحوال نفسه ويأخذ حذره من أن ينتهز الشيطان منه فرصة فيهلك على غفلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (٢)

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا. وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام. إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب. واليتيم من مات أبوه. من اليتم ، وهو الانفراد. ومنه الدرة اليتيمة. والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار. وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم. كما روى أبو داود (١) بإسناد حسن عن عليّ عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يتم بعد احتلام. وفي الآية وجوه : الأول ـ أن يراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازا. باعتبار ما كان ، أوثر لقرب العهد بالصغر. والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ. حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعد ، غير زائل. الثاني ـ أن يراد بهم الكبار حقيقة ، واردة على أصل اللغة. الثالث ـ أن يراد بهم الصغار. وب (الإيتاء) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة. لا دفعها إليهم. وفيه بعد. الرابع ـ أن يراد بهم ما ذكر. وب (إيتائهم) الأموال ، أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ولاة السوء وقضاته ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة. فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك. قال الناصر في (الانتصاف) : هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا

__________________

ـ ما الإسلام؟ قال : «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» قال : ما الإحسان؟ قال : «أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال : متى الساعة؟ قال : «ما المسؤول عنها أعلم من السائل. وسأخبرك عن أشراطها : إذ ولدت الأمة ربّتها. وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان. في خمس لا يعلمهن إلا الله». ثم تلا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ..) الآية [لقمان : ٣٤]. ثم أدبر. فقال : «ردوه» فلم يروا شيئا. فقال : «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم».

(١) أخرجه أبو داود في : الوصايا ، ٩ ـ باب متى ينقطع اليتيم ، حديث ٢٨٧٣.

٩

النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] ، دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم. والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد. ويقويه أيضا قوله عقيب الأولى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا) إلخ .. فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره. وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحدا وهو الأمر بالإيتاء حقيقة. ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة ، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء : من البلوغ وإيناس الرشد. والله أعلم. (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو ما لكم ، وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه. أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة (إِنَّهُ) أي الأكل (كانَ حُوباً) أي ذنبا عظيما. وقرئ بفتح الحاء. وقوله تعالى : (كَبِيراً) مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور. كأنه قيل من كبار الذنوب.

تنبيه :

خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيرا لقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود. وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ ، لقوله : (إِلى أَمْوالِكُمْ). فلا يشمل مساقها الفقير. وسنوضح ذلك.

لطيفة :

قال الزمخشريّ : فإن قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم. فلم ورد النهي عن أكله معها؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق. ولأنهم كانوا يفعلون كذلك. فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم. انتهى.

قال الناصر في (الانتصاف) أهل البيان يقولون : المنهي متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيها على الأعلى. كقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣]. وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفا لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه. وأدناها أن يأكله وهو

١٠

فقير إليه. فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى. وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية. فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته. ولا شك أن النهي عن الأدنى ، وإن أفاد النهي عن الأعلى ، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضا فائدة أخرى جليلة ، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى. وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد. ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل. فخصص بالنهي تشنيعا على من يقع فيه. حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقا. ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم. ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة معينة على الاجتناب ، كإعانتها عليه في الصورة الأولى. ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل. مع أن تناول مال اليتيم ، على أي وجه كان ، منهيّ عنه. كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلا ، أو غير ذلك. إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل. وتعدّ البطنة من البهيمية. وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ. فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا. فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به. حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلا أو غيره. ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠]. فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون. ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر. وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيها على الأعلى. وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب. ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) الآية [النساء : ٨] ، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم. وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال. فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم. بخلاف ما إذا حضروا. فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد. فإذا أمرت في هذه الحالة

١١

بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع. ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقا حضر أو غاب. فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يلقى إلا في الكتاب العزيز. ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق. نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط. فخذ هذا القانون عمدة. وهو : أن النهي ، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى. وإن خص الأعلى ، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقا من الانكفاف عن الأقبح. ومثل هذا ، النظر في جانب الأمر. والله الموفق. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا) (٣)

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي أن لا تعدلوا (فِي الْيَتامى) أي يتامى النساء. قال الزمخشريّ : ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة ، على القلب. كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) أي من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ومعنى الآية : وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن ، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق ، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم. فالآية للتحذير من التورط في الجور والأمر بالاحتياط. وإنّ في غيرهن متسعا إلى الأربع. وروى البخاري (١) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (أي نخلة) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء. فنزلت فيه : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى). أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله. ورواه مسلم وأبو داود والنسائيّ. وفي رواية لهم عن عائشة (٢) هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٤ ـ سورة النساء ، ١ ـ باب قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، حديث ١٢٣٤.

(٢) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ٤ ـ سورة النساء ، ١ ـ باب قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، حديث ١٢٣٤.

١٢

مالها وجمالها. فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنّتهن في الصداق. فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) [النساء : ١٢٧]. قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] ، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. قالت : فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، إذا كن قليلات المال والجمال.

وفي رواية (١) في قوله تعالى : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ...) إلى آخر الآية. قالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها. فنهاهم الله عن ذلك. زاد أبو داود (٢) رحمه‌الله تعالى : وقال ربيعة في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى). قال يقول : اتركوهنّ إن خفتم فقد أحللت لكم أربعا.

لطائف :

الأول : (ما) في قوله تعالى : ما طاب لكم ، موصولة. وجاء ب (ما) مكان (من) لأنهما قد يتعاقبان. فيقع كل واحد منهما مكان الآخر. كما في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] ، وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٥]. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥]. قال بعضهم : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول.

الثانية : في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى ، مع أنه المقصود بالذات ، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك. فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه. كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه ، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن. وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى ـ أفاده أبو السعود ـ.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ٣٧ ـ باب إذا كان الوليّ هو الخاطب ، حديث ١٢٣٤.

(٢) أخرجه أبو داود في : النكاح ، ١٢ ـ باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء ، حديث ٢٠٦٥.

١٣

الثالثة : اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له. وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.

الرابعة : مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة. ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل (طاب) مؤكدة لما أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن ، والاستمالة إليهن ، بتوسيع دائرة الإذن. أي فانكحوا الطيبات لكم ، معدودات هذا العدد. ثنتين ثنتين. وثلاثا ثلاثا. وأربعا أربعا. حسبما تريدون. فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت : الخطاب للجميع. فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له. كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. ولو أفردت لم يكن له معنى. فإن قلت : فلم جاء العطف بالواو دون (أو). قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك. ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة. وليس لهم أن يجمعوا بينها. فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع. وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. وتحريره أن الواو. دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظورا عليهم ما وراء ذلك. أفاده الزمخشري.

بحث جليل :

قال الرازيّ : ذهب قوم سدّى (كحتى. موضع قرب زبيد باليمن اه قاموس) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد. واحتجوا بالقرآن والخبر. أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول ـ أن قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، إطلاق في جميع الأعداد. بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه. وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا. والثاني ـ أن قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ، لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي. بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا. فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت. اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا. ورفع الحجر والحرج

١٤

عنه مطلقا. ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة. بل كان ذلك إذنا في المذكور وغيره. فكذا هنا. وأيضا ، فذكر جميع الأعداد متعذر. فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد. الثالث ـ أن الواو للجمع المطلق. فقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، يفيد حل هذا المجموع. وهو يفيد تسعة. بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر. لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين. وكذلك القول في البقية.

وأما الخبر فمن وجهين : الأول ـ أنه ثبت بالتواتر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات عن تسع. ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : فاتّبعوه ، وأقل مراتب الأمر الإباحة. الثاني ـ أن سنة الرجل طريقته. وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام. فكان ذلك سنة له. ثم إنه عليه‌السلام قال (١) : فمن رغب عن سنتي فليس مني. فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة. فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز.

واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول ـ الخبر. وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك أربعا وفارق باقيهن. وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام : أمسك أربعا وفارق واحدة.

واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول ـ أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وأنه غير جائز. والثاني ـ وهو أن الخبر واقعة حال. فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب أو بسبب

__________________

(١) أخرجه البخاري في : النكاح ، ١ ـ باب الترغيب في النكاح ، حديث ٢٠٩٩ ونصه : عن أنس بن مالك قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألون عن عبادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما أخبروا ، كأنهم تقالّوها. فقالوا : وأين نحن من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

١٥

الرضاع وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله (الطريق الثاني) وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع. وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول ـ أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ. فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية؟ الثاني ـ أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع. والإجماع ، مع مخالفة الواحد والاثنين ، لا ينعقد.

(والجواب عن الأول) أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وعن الثاني) أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة. فلا عبرة بمخالفته ، انتهى كلام الرازيّ ، وقوله (من أهل البدعة) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه.

قال الإمام الشوكانيّ رحمه‌الله تعالى في (وبل الغمام) : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم ، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثرا يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفرد في قوة تلك الأعداد. فإن كان مجيء القوم مثلا اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة ، وكانوا ألوفا مؤلفة ، فقلت : جاءني القوم مثنى ، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين ، حتى تكاملوا. فإن قلت : مثنى وثلاث ورباع ، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين ، وتارة ثلاثة ثلاثة ، وتارة أربعة أربعة. فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم ، فإنه لا يستفاد منها أصلا. بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثرا تشق الإحاطة به. ومثل هذا إذا قلت : نكحت النساء مثنى. فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين. وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى. كما أنه لا دليل في قولك : جاءني القوم مثنى ، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان. إذا تقرر هذا فقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا. والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات. وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن. بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين. كما قدمنا في مجيء القوم. وليس فيه أيضا دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى. ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا ، فهذا مقام الاستفادة منه ، فليتفضل بها علينا. وابن عباس ، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة. وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف

١٦

يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ ، والعمرانيّ ، والقاسم بن إبراهيم ، نجم آل الرسول ، وجماعة من الشيعة ، وثلة من محققي المتأخرين ، وخالفه أيضا القرآن الكريم ، كما بيناه. وخالفه أيضا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما صح ذلك تواترا ، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات. (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] ، (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١]. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل. والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير.

وأما حديث (١) أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيلان ، لما أسلم وتحته عشر نسوة ، بأن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن ، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق ، فقد قال ابن عبد البر : كلها معلولة. وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى. ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفويّ الذي مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه والبراءة الأصلية. ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ، أو جاءنا بدليل في معناه ، فجزاه الله خيرا. فليس بين أحد وبين الحق عداوة. وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير. كما نفعله في كثير من الأبحاث. وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب. فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك ، لقيل وقال. ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال. فإنك لا تسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومن ورد البحر استقل السواقيا. انتهى.

وقال الشوكانيّ قدس‌سره أيضا في (نيل الأوطار) : حديث قيس بن الحارث (وفي رواية الحارث بن قيس) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. قال أبو القاسم البغويّ : ولا أعلم للحارث بن قيس حديثا غير هذا. وقال أبو عمرو النمري : ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح. وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفيّ وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال : أسلم غيلان الثقفيّ وتحته عشر نسوة ، في الجاهلية. فأسلمن معه. فأمره

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : النكاح ، ٣٣ ـ باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة.

وابن ماجة في : النكاح ، ٤٠ ـ باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة ، حديث ١٩٥٣.

١٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يختار منهن أربعا. رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ. وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة. قال : فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة. وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقيّ بظاهر الحكم ، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خرسان وأهل اليمامة عنه. قال الحافظ : ولا يفيد ذلك شيئا. فإن هؤلاء كلهم ، إنما سمعوا منه بالبصرة. وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها ، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب. لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة. وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها. اتفق على ذلك أهل العلم. كابن المدينيّ والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم. وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح. والعمل عليه. وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده. وقال ابن عبد البر : طرقه كلها معلولة. وقد أطال الدار قطني في (العلل) تخريج طرقه. ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلا. ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك. وقد وافق معمرا على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ. ولكنه ضعيف. وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك. ويحيى ضعيف. وفي الباب عن نوفل بن معاوية ، عند الشافعي ، أنه أسلم وتحته خمس نسوة. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك أربعا وفارق الأخرى. وفي إسناده رجل مجهول. لأن الشافعيّ قال : حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن نوفل بن معاوية قال : أسلمت ، فذكره. وفي الباب أيضا عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ. وقوله : اختر منهن أربعا ، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع. وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا. ولعل وجهه قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل ، تسع. وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمرانيّ وبعض الشيعة. وحكي أيضا عن القاسم بن إبراهيم. وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه. وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية ، وقوم مجاهيل. وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم. وأجابوا عن حديث غيلان الثقفيّ بما تقدم فيه من المقال. وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول. قالوا : ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك. ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة ، وقد قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ

١٨

اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١]. وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع. ولم يقم عليه دليل. وأما قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، فالواو فيه للجمع لا للتخيير. وأيضا لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين. وهو يدل على تناول ما كان متصفا من الأعداد بصفته الاثنينية. وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف. فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين. وهكذا ثلاث ورباع. وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد. فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا. وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها. فإنه لا شك أنه يصح ، لغة وعرفا ، أن يقول الرجل ، لألف رجل عنده : جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة. فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير. سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير. لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم. فكأن الله سبحانه وتعالى قال ، لكل فرد من الناس : انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع. ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة. وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها. وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره ، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج. وإن كان كل واحد لا يخلو عن مقال. ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة. كما صرح به الخطابيّ. فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل. وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع. كما صرح بذلك في (البحر).

وقال في (الفتح) اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن. وقد ذكر الحافظ في (الفتح) و (التلخيص) الحكمة في تكثير نسائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليراجع ذلك. انتهى.

وقال قدس‌سره في تفسيره (فتح القدير) : وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة. وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد. كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال. وهو ألف درهم (أو هذا المال الذي في البدرة) درهمين درهمين. وثلاثة ثلاثة. وأربعة أربعة. وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عيّن مكانه. أما لو كان مطلقا ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد بها ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر لا

١٩

من الباب الأول. على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كبيرا : اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين. وبعضه ثلاثة ثلاثة. وبعضه أربعة أربعة. كان هذا هو المعنى العربي. ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف ، كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين. هكذا : جاءني القوم ثلاث ورباع. والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد. كما في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، ونحوها. ومعنى قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثا وثلاثا وأربعا أربعا. هذا ما تقتضي لغة العرب. فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه. ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد. فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن. وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربيّ. ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا كان هذا القول له وجه. وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا. وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره. وذلك ليس بمراد من النظم القرآنيّ.

أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدّارقطنيّ والبيهقيّ ، عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم وتحته عشر نسوة. فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اختر منهن (وفي لفظ أمسك منهن) أربعا وفارق سائرهن. وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق. وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال : أسلمت وعندي خمس نسوة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك أربعا وفارق الأخرى. أخرجه الشافعيّ في مسنده.

وأخرج ابن ماجة والنحاس في (تاريخه) عن قيس بن الحارث الأسديّ قال : أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة. فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته. فقال : اختر منهن أربعا وخل سائرهن. ففعلت. وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ.

وقال قدس‌سره أيضا في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) : أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عزوجل : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، فغير صحيح. كما أوضحته في (شرحي للمنتقى) وقد

٢٠