تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباء منثورا كما يدل عليه آيات أخر ، ويؤيده مقابلة هذه الآية ، لقوله في أهل الجنة (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي تدخل نارا متناهية في الحرارة. قال القاشاني : أي مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي بلغت غايتها في شدة الحر (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) وهو من جنس الشوك ، ترعاه الإبل ما دام رطبا. فإذا يبس تحامته ، وهو سم قاتل. قال ابن جرير : الضريع عند العرب نبت يقال له الشبرق ، وتسميه أهل الحجاز الضريع ، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦]. لأن العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع وقيل الضريع مجاز أو كناية ، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك ، فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا (لا يُسْمِنُ) أي لا يخصب البدن (وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ذات حسن ، على أنه من النعومة ، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة ، على أنه من النعيم (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي لعملها الذي عملته في الدنيا ، وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل ، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦)

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر ، من علوّ المكانة.

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لغوا ، أو كلمة ذات لغو ، أو نفسا تلغو. لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والحميد (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي لا انقطاع لها (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي مرتفعة ليروا ، إذا جلسوا عليها. جميع ما خولوه من النعيم والملك (وَأَكْوابٌ) جمع كوب ، وهو إناء لا أذن له (مَوْضُوعَةٌ) أي بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها (وَنَمارِقُ) أي وسائد (مَصْفُوفَةٌ) أي فوق الأسرة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها (وَزَرابِيُ) أي بسط (مَبْثُوثَةٌ) أي مفروشة. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠)

٤٦١

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) قال أبو السعود : استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية ، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون ، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها ، معلقة لفعل النظر. والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من (الإبل) أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه ، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزوجل ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين ، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات ، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة ، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش ، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير ، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك ، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض ، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء ، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير (وَإِلَى السَّماءِ) التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار (كَيْفَ رُفِعَتْ) أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى ، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه (وَإِلَى الْجِبالِ) أي التي ينزلون في أقطارها (كَيْفَ نُصِبَتْ) أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها ، حفظ للأرض من الميدان (وَإِلَى الْأَرْضِ) أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها (كَيْفَ سُطِحَتْ) أي بسطت ومهدت ، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق.

قال الزمخشري : والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق. حتى لا ينكروا اقتداره على البعث ، فيسمعوا إنذار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.

لطيفة :

ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي ؛ أن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال. وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر ، أنى يستحلى كلام رب العزة مع أهل الوبر ، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) الآيات ، لبعد البعير عن خياله في مقام النظر ، ثم لبعده في خياله عن السماء ، وبعد

٤٦٢

خلقه عن رفعها. وكذا البواقي. لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم ، جاء الاستحلاء. وذلك إذا نظر أن أهل الوبر ، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي ، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعا ، وهي الإبل. ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب ، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر ، وأهم مسارح النظر عندهم السماء ، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.

لنا جبل يحتلّه من نجيره

منيع يردّ الطرف وهو كليل

فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل ـ ومن لأصحاب مواش بذاك ـ كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور. فعند نظره هذا ، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له ، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة ، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما ، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا. وإنما الحضري ، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور ، وما جمع خياله تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت ، ظن النسق بجهله معيبا للعيب فيه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦)

(فَذَكِّرْ) أي من أرسلت إليه بآياته تعالى ، التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي مبلغ ما نسي من أمره تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع. أي لكن من تولى وكفر ، فإن لله الولاية والقهر ، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده ، باعتبار معنى (من) كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي فنجازيهم بالعذاب الأكبر. فإن القهر والغلبة له تعالى وحده.

٤٦٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفجر

مكية. وآيها تسع عشرة روى النسائي (١) عن جابر قال : صلى معاذ صلاة. فجاء رجل فصلى معه ، فطول. فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف. فبلغ ذلك معاذا ، فقال : منافق. فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل الفتى فقال : يا رسول الله! حيث أصلي معه يطول عليّ. فانصرفت وصليت في ناحية المسجد فعلفت ناقة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفتانا يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥)

(وَالْفَجْرِ) أي الصبح كقوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٨] ، أقسم تعالى بآياته ، لما يحصل به من انقضاء الليل وظهور الضّوء وانتشار الناس وسائر الحيوانات ، لطلب الأرزاق. وذلك مشاكل لنشور الموتى من قبورهم. وفيه عبرة لمن تأمل (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هي ، على قول ابن عباس ومجاهد ، عشر ذي الحجة ، لأنها أيام الاهتمام بنسك الحج. وفي البخاري (٢) عن ابن عباس مرفوعا : ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة.

وحكى ابن جرير : أنه قيل عني بها عشر المحرم. والرازي ، قولا أنها العشر الأواخر من رمضان ، لما فيه من ليلة القدر ، ولما صح (٣) أنه صلوات الله عليه كان إذا

__________________

(١) أخرجه في : الافتتاح ، ٦٣ ـ باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

(٢) أخرجه الترمذي في : الصوم ، ٥٢ ـ باب ما جاء في العمل في أيام العشر ، حديث رقم ٧٥٧.

(٣) أخرجه البخاري في : فضل ليلة القدر ، ٥ ـ باب العمل في العشر الأواخر من رمضان ، حديث رقم ١٠٢٧ ، عن عائشة.

٤٦٤

دخل العشر الأخير من رمضان شدّ مئزره وأحيى ليله وأيقظ أهله. وثمة وجه آخر في العشر. وهو أنها الليالي التي يحلولك فيها الليل ويشتد ظلامه ويغشى الأفق سواده. وتلك خمس من أوائله وخمس من أواخره. وإن لفظة (عشر) بمثابة قوله في السور الآتية (إِذا يَغْشى إِذا سَجى) مما يبيّن وجه العبرة ويجلّيها أتم الجلاء ، ولا بعد في هذا المعنى. بل فيه توافق لبقية الآيات. وبالجملة فأوضح المخصصات ما عضده دليل أو أيدته قرينة أو حاكى نظائره. والله أعلم.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يعني الخلق والخالق. فالشفع بمعنى جميع الخلق ، للازدواج فيه كما في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩] ، قال مجاهد : كل خلق الله شفع. السماء والأرض. والبر والبحر. والجن والإنس والشمس والقمر والكفر والإيمان. والسعادة والشقاوة. والهدى والضلالة. والليل والنهار.

(وَالْوَتْرِ) هو الله تعالى لأنه من أسمائه. وهو بمعنى الواحد الأحد. فأقسم الله بذاته وخلقه. وقيل : المعنى بالشفع والوتر ، جميع الموجودات من الذوات والمعاني. لأنها لا تخلو من شفع ووتر.

قال القاضي : ومن فسرهما بالبروج والسيارات أو شفع الصلوات ووترها أو بيومي النحر وعرفة ، فلعله أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد ، أو مدخلا في الدين ، أو مناسبة لما قبلهما.

قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر ، ولم يخصص نوعا من الشفع ولا من الوتر ، دون نوع ، بخبر ولا عقل ، وكل شفع ووتر ، فهو مما أقسم به. مما قال أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا ، لعموم قسمه بذلك.

وقد قرئ (الوتر) بفتح الواو وكسرها. وهما لغتان.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي إذا يمضي ، كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣] ، والتقييد بذلك لما في التعاقب من قوة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة. ففي الليل الراحة التي هي من أعظم النعم ، وفي النهار المكاسب وغيرها. وحذف الياء للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي. ومن القراء من حذفها ، أصلا ووقفا. ومنهم من خصه بأحدهما ، كما فصل في كتب الأداء.

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قال ابن جرير : أي هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر. وإنما عني بذلك : أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه ، مما هو أغلظ منه في الإقسام.

٤٦٥

وقال الرازي : المراد من الاستفهام التأكيد. كمن ذكر حجة باهرة ثم قال : هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى أن من كان ذا لبّ علم أن ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه. أي على طريقة قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦] ، وإنما أوثرت هذه الطريقة هضما للخلق ، وإيذانا بظهور الأمر. و (الحجر) العقل. لأنه يحجر صاحبه ، أي يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي. والمقسم عليه محذوف. وهو (ليعذبن) كما ينبئ عنه قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٨)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) أي ألم تعلم علما يقينيّا كيف عذب ربك عادا ، فيعذب هؤلاء أيضا ، لاشتراكهم فيما يوجبه من جحود الحق والمعاصي. و (عاد) قبيلة من العرب البائدة. وتلقب بإرم أيضا. وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه‌السلام. فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. فقوله تعالى : (إِرَمَ) عطف بيان لعاد (ذاتِ الْعِمادِ) أي ذات الخيام المعمّدة ؛ لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان. ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت. وقيل : كني بالعماد عن العلوّ والشرف والقوة ، إلا أن الأشبه ـ كما قال ابن جرير ـ بظاهر التنزيل هو الأول. وهو أنهم كانوا أهل عمد سيارة. لأن المعروف في كلام العرب من العماد ، ما عمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء. ثم قال : وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه ، ما وجد إلى ذلك سبيل ، دون الأنكر. (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي في العظم والبطش والأيدي.

قال ابن كثير : كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا. ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم. فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف : ٦٩]. وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥].

تنبيه :

قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في (مقدمة) تاريخه في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله : وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير

٤٦٦

سورة (الفجر) في قوله تعالى : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) فيجعلون لفظه (إِرَمَ) اسما لمدينة وصفت بأنها ذات عماد أي أساطين ، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان. هما شديد وشداد. ملكا من بعده. وهلك شديد فخلص الملك لشداد. ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنينّ مثلها. فبنى مدينة (إرم) في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة. وكان عمره تسعمائة سنة. وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت. وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته. حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة ، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين. وينقلون عن عبد الله بن قلابة ، من الصحابة ، أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه. وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه. فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال : هي (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له. ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا ، والله ، ذاك الرجل.

قال ابن خلدون : وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض. وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا. والأدلاء تقص طرقه من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم ، ولو قالوا إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه. إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة. وبعضهم يقول إنها دمشق ، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة ، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبه بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة (ذاتِ الْعِمادِ) أنها صفة (إِرَمَ) وحملوا العماد على الأساطين. فتعين أن يكون بناء. ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير (عاد إرم) على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات. وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين ، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم. بما اشتهر من قوتهم. لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت ، كما في قراءة ابن الزبير ، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة. كما تقول : قريش كنانة وإلياس مضر ، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة؟ انتهى. وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال : ومن زعم

٤٦٧

أن المراد بقوله : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) مدينة إما دمشق أو إسكندرية ، ففيه نظر. فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا ، إن جعل (إِرَمَ) بدلا أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.

قال : وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية ، من ذكر مدينة يقال لها (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ. فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين ، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس ؛ إن صدقهم في جميع ذلك. وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها. ولو صح إلى ذلك الأعرابي ، فقد يكون اختلق ذلك ، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج ، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين ، ومن وجود مطالب تحت الأرض ، فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير. لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها. فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء. فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ، ونحو ذلك من الهذيانات. ويطنزون بهم. والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤)

(وَثَمُودَ) وهم قوم صالح عليه‌السلام (الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي قطعوا صخر الجبال ، واتخذوا فيها بيوتا. كما في قوله : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) [الحجر : ٨٢] ، والباء ظرفية. والمجرور متعلق ب (جابوا) أو هو حال من الفاعل أو المفعول. وقرئ بالياء وبإسقاطها. كما في (يسر) والوادي هو وادي القرى. كانت منازلهم فيه. كما قاله ابن إسحاق (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي الجنود الذين يشدون له أمره. أو هي أوتاد يشد بها من يعذّبه. أو القوى والعدد والعدد التي تم له بها ملكه ، ورسخ بطشه وسلطانه ، ومنه قولهم ، لمن تمكن في أرض ما : ضرب بها أوتادا (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) صفة للمذكورين : عاد وثمود وفرعون. أي تجاوزوا ما وجب عليهم إلى ما حظر من الكفر بالحق والعتو والتمرّد والبغي في

٤٦٨

بلادهم ، اغترارا بالقوة وعظم السلطان (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي الضرر والإيذاء وهضم الحقوق (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي أنزل بهم عذابه ، وأحلّ بهم نقمته ، بما طغوا في البلاد وأفسدوا فيها. وقد بين تعالى إهلاكهم مفصلا في غير ما سورة وآية. و (السوط) إما مصدر (ساطه) أي خلطه كما في قول كعب :

لكنها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل

أريد به المفعول هنا. أي أنزل عليهم ما خلط لهم من أنواع العذاب. قيل : وبما ذكر سميت الآلة المعروفة ، وهو الجلد المضفور الذي يضرب به ، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. وإما أن يكون السوط الآلة المعروفة. استعيرت لعذاب أدون من غيره. وهو ما اختاره الزمخشري حيث قال : وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.

وقيل : هو من قبيل (لجين الماء) أي عذابا كالسوط في شدته ، وهو ما يقتضيه كلام الطبري ، حيث زعم أن السوط مثل لشدة العذاب.

قال الشهاب : وأما استعارة الصبّ للعذاب فشائعة ، كالإذاقة. يقال : صبّ عليه السوط ، وقنّعه به وغشّاه. وهو تمثيل وتصوير لحلوله أو تتابعه عليه وتكرره. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم ، ولضربائهم من الكفرة بالحق والعاثين بالفساد. و (المرصاد) اسم مكان للذي يترقب فيه الرصد ـ جمع راصد ـ أو صيغة مبالغة. كمطعام ومطعان. فالياء تجريدية وفيه استعارة تمثيلية. شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العباد ، مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها. بحيث لا ينجو منه أحد ـ بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ، ليأخذه فيوقع به ما يريد. ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.

ثم أشار إلى غفلة الإنسان في حالي غناه وفقره. ونعى عليه شأنه فيهما. بما يقرر ما تقدم من استحقاقه صبّ العذاب ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦)

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) أي بالغنى واليسار (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي فضّلني ، لما لي عنده من الكرامة (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي

٤٦٩

ضيّقه عليه وقتّره ، فلم يكثر ماله ولم يوسع عليه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي أذلني بالفقر. وذلك لسوء فكره وقصور نظره في الحالين. فإنه إنما ابتلاه بالغنى ليقوم بواجبه ويعرف حق الله فيه. وبالفقر ليظهر بمظهر العفاف ويتخلق بخلق الصبر على الكفاف. ففي كلّ ابتلاء وامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب. ونظير الآية ، آية : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وآية ، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وآية ، (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج : ١٩ ـ ٢٢]. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)

(كَلَّا) ردع عن قوليه في حاليه. أعني اعتقاد الإكرام في الإعطاء ، والإهانة في المنع ، بل لطلب الشكر. وهو صرف النعم إلى ما خلقت له ، وإعطاء المال لذويه ، وأحقهم الأيتام وهم لا يفعلونه ، كما قال : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) وهو من فقد كافله ومربيه. فإن من آكد الواجبات القيام على تأديبه وكفالته ، صونا له إذا أهمل من فساد طبيعته وعيثه بالضرر في أهل جبلته. ومثله التحاضّ على مواساة البؤساء. وهؤلاء المنعي عليهم ضلالهم في غفلة عنه ، كما قال : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا يحض بعضكم بعضا عليه ولا يتواصى به.

قال الإمام : وإنما ذكر التحاض على الطعام ، ولم يكتف بالإطعام فيقول لم تطعموا المسكين) ليصرح لك بالبيان الجلي أن أفراد الأمة متكافلون. وإنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع التزام كلّ لما يأمر به ، وابتعاده عما ينهى عنه.

لطيفة :

قال القاشاني : في دلالة قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) : أي الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمان ، لحديث (الإيمان نصفان. نصف : صبر ، ونصف شكر) لأن الله تعالى إما إن يبتليه بالنعم والرخاء ، فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه. ولا

٤٧٠

يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول : إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده ، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال وبمنع المستحقين. أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول : إنّ الله أهانني. فربما كان ذلك إكراما له. بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ، ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق ، كما أن الأول ربما كان استدراجا منه. انتهى.

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) قال ابن جرير : أي تأكلون الميراث أكلا شديدا ، لا تتركون منه شيئا. من قولهم : (لممت ما على الخوان أجمع فأنا ألمه لمّا) إذا أكلت ما عليه فأتيت على جميعه.

قال ابن زيد : كانوا لا يورّثون النساء ولا يورّثون الصغار ، وقرأ (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) [النساء : ١٢٧] ، أي لا تورثونهن أيضا. وقال بكر بن عبد الله : اللمّ : الاعتداء في الميراث. يأكل ميراثه وميراث غيره (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي جمعه وكنزه ، حبّا كثيرا شديدا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦)

(كَلَّا) ردع لهم عن ذلك ، وإنكار لفعلهم. وما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم وتحسرهم حين لا ينفعهم الندم (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي دكا بعد دك حتى عادت هباء منثورا.

قال الشهاب : ليس الثاني تأكيدا ، بل التكرير للدلالة على الاستيعاب. كقرأت النحو بابا بابا. وجاء القوم رجلا رجلا. و (الدك) قريب من الدق ، لفظا ومعنى (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) قال ابن كثير : أي وجاء الرب ، تبارك وتعالى ، لفصل القضاء ، كما يشاء والملائكة بين يديه صفوفا صفوفا. وسبقه ابن جرير إلى ذلك وعضده بآثار عن ابن عباس وأبي هريرة والضحاك في نزوله تعالى من السماء يومئذ في ظلل من الغمام ، والملائكة بين يديه ، وإشراق الأرض بنور ربها. ومذهب الخلف في ذلك

٤٧١

معروف ، من جعل الكلام على حذف مضاف ، للتهويل. أي جاء أمره وقضاؤه. أو استعارة تمثيلية لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه.

قال الزمخشري : مثلت حاله في ذلك ، بحال الملك إذا حضر بنفسه ، ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم انتهى.

وكأنّ الخلاف بين المذهبين لفظي ، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد. ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق ، فوجب تأويله. وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق. بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى ، كما أنها لا تشبه الذوات ، فكذلك صفات لا تشبه الصفات. لأنها لا تكيف ولا تعلم بوجه ما. فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه. على ما يليق به. كالعلم والقدرة. لا تمثيل ولا تعطيل.

قال الإمام ابن تيمية رضي الله عنه : واعلم أن من المتأخرين من يقول إن مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به ، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهذا لفظ مجمل. فإن قوله (ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين. مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلّي ، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه ، و (إن الله معنا) ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك. فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال إن مذهب السلف أن هذا غير مراد ، فقد أصاب في المعنى ، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث. فإن هذا المجال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع. اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار ، معذورا في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو من الأمور النسبية. انتهى.

وقد بسط رحمه‌الله الكلام على ذلك في (الرسالة المدنية) وأوضح أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.

وقال رحمه‌الله في بعض فتاويه : نحن نقول بالمجاز الذي قام دليله. وبالتأويل الجاري على نهج السبيل. ولم يوجد في شيء من كلامنا وكلام أحد منا ، أنا لا نقول

٤٧٢

بالمجاز والتأويل. والله عند لسان كل قائل. ولكن ننكر من ذلك ما خالف الحق والصواب ، وما فتح به الباب ، إلى هدم السنة والكتاب واللحاق بمحرّفة أهل الكتاب. والمنصوص عن الإمام أحمد وجمهور أصحابه ؛ أن القرآن مشتمل على المجاز. ولم يعرف عن غيره من الأئمة نص في هذه المسألة. وقد ذهب طائفة من العلماء من أصحابه وغيرهم ، كأبي بكر بن أبي داود ، وأبي الحسن الخرزيّ ، وأبي الفضل التميميّ ، وابن حامد ، فيما أظن ، وغيرهم ، إلى إنكار أن يكون في القرآن مجاز. وإنما دعاهم إلى ذلك ما رأوه من تحريف المحرفين للقرآن بدعوى المجاز. فقابلوا الضلال والفساد ، بحسم الموادّ. وخيار الأمور التوسط والاقتصاد. انتهى.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي أظهرت حتى رآها الخلق وعلم الكافر أن مصيره إليها. فمجيئها متجوز به عن إظهارها. كما صرح به آية (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات : ٣٩] ، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) تفريطه في الدنيا في طاعة الله وفيما يقرب إليه من صالح الأعمال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي منفعتها. فالمراد بتذكره ندامته على تفريطه في الصالحات من الأعمال التي تورثه نعيم الأبد ، كما فسره بقوله تعالى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي أسلفت من الأعمال الصالحة لحياتي هذه. فاللام للتعليل. أو : قدمت وقت حياتي. فاللام بمعنى وقت. والحياة هي التي في الدنيا (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب كعذاب الله ، أحد في الدنيا (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي لا يوثق كوثاقه يومئذ أحد في الدنيا. وقرئ (يعذب ويوثق) على بناء المجهول.

قال السمين : وعذاب ووثاق في الآية ، واقعان موقع تعذيب وإيثاق. والمعنى لا يعذب أحد تعذيبا مثل تعذيب الله هذا الكافر. ولا يوثق أحد إيثاقا مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال. فالوثاق في الآية بمعنى الإيثاق. كالعطاء بمعنى الإعطاء.

ثم أشار إلى ما يقال لمن آمن وعمل صالحا ، في مقابلة من تقدم ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن. وهي التي كان قلبها اطمأن بذكر الله وطاعته وخشيته من الاضطراب (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)

٤٧٣

أي وعده وثوابه (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) أي راضية بما أوتيت ، مرضية عند ربها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في زمرتهم ، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (وَادْخُلِي جَنَّتِي) أي معهم. وهذا القول إما عند الموت أو البعث أو دخول الجنة.

ومن غرائب المأثور هنا ، تأويل النفس بالروح ، والرب بصاحبها. أي ارجعي إلى جسد صاحبك إيذانا بأن الأرواح المطمئنة تردّ يوم القيامة في الأجساد ، وأن لها مقرّا قبل تعلقها بالبدن في عالم الملكوت. والمسألة من الغوامض بل من الغيوب. وبمعرفة نظائر التنزيل ، يظهر بعد هذا التأويل.

٤٧٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البلد

مكية وهي عشرون آية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدم في مواضع متعددة من التنزيل الكريم تفسير (لا أُقْسِمُ) و (الْبَلَدِ) هو مكة. وقيد القسم بقوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) عناية بالنبيّ صلوات الله عليه. فكأنه إقسام به لأجله ، مع تعريض بعدم شرف أهل مكة ، وأنهم جهلوا جهلا عظيما ، لهمهم بإخراج من هو حقيق به ، وبه يتم شرفه.

قال الشهاب : و (الحل) صفة أو مصدر بمعنى الحالّ على هذا الوجه. ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. وقيل معناه وأنت يستحل فيه حرمتك ، وتعرض لأذيتك. ففيه تعجيب من حالهم في عداوته ، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم بأنه لا يستحل فيه الحمام ، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام ، عليه الصلاة والسلام؟؟.

وقيل : معناه وأنت حل به في المستقبل. تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له ساعة من نهار ، يقتل ويأسر. مع أنها ما فتحت على أحد قبله ، ولا أحلت له. ففيه تسلية له ، ووعد بنصره ، وإهلاك عدوه. و (الحل) على هذين الوجهين ضد (الحرمة) وفيهما ـ كما قالوا ـ بعد. لا سيما إرادة الاستقبال في الوجه الأخير ، فإنه غير متبادر منه. وإنما كان الأول أولى لتشريفه عليه‌السلام ، بجعل حلوله به مناطا لإعظامه ، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب ، بذكر بعض موادّ المكايدة ، على نهج براعة الاستهلال ، وإنه كابد المشاق ، ولاقى من الشدائد ، في سبيل الدعوة إلى الله ، ما لم يكابده داع قبله ، صلوات الله عليه وسلامه.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) عطف على (هذا البلد) داخل في المقسم به. قيل : عني

٤٧٥

بذلك آدم وولده وقيل : إبراهيم وولده. والصواب ـ كما قال ابن جرير ـ أن المعني به كل والد وما ولد. قال : وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولا خبر بخصوص ذلك ولا برهان ، يجب التسليم له بخصوصه. فهو على عمومه كما عمه.

وإيثار (ما) على (من) لإرادة الوصف. فيفيد التعظيم في مقام المدح. وإنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها. ولذا أفادت التعجب أو التعجيب ، وإن لم يكن استفهاما كما في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] أي أيّ مولود عظيم الشأن وضعته. وهذا على كون المراد إبراهيم والنبيّ عليهما الصلاة والسلام ، ظاهر. أما على أن المراد به آدم وذريته ، فالتعجب من كثرتهم ، أو مما خص به الإنسان من خواص البشر. كالنطق والعقل وحسن الصورة. حكاه الشهاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) (٧)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي في شدة ، يكابد الأمور يعالجها في أطواره كلها ، من حمله إلى أن يستقر به القرار. إما في الجنة وإما في النار.

قال الزمخشري : (الكبد) أصله من قولك (كبد الرجل كبدا) فهو أكبد ، إذا وجعت كبده وانتفخت. فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة. كما قيل : (كبته) بمعنى أهلكه. وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد :

يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد

أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. انتهى.

وفيه تسلية للنبيّ صلوات الله عليه ، مما كان يكابده من قريش ، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا. وأن كل من كان أعظم فهو أشد نصبا. هذا خلاصة ما قالوه.

وقال القاشاني : (في كبد) أي مكابدة ومشقة من نفسه وهواه. أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب. إذ (الكبد) في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة. فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

(أَيَحْسَبُ) أي لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ

٤٧٦

أَحَدٌ) أي أن لن تقوم قيامة ، ولن يقدر على مجازاته وقهره وغلبته. مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا. من (تلبد الشيء) إذا اجتمع. والمراد ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء. كقولهم (خسرت عليه كذا وكذا) إذا أنفق عليه. يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف ، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله. ولهذا قال : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي : أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته ، حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله ، وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦)

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) قال القاشانيّ : أي ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال ، ليبصر ما يعتبر به ، ويسأل عما لا يعلم ، ويتكلم فيه؟

وقال السيد المرتضى : هذا تذكير ينعم الله عليهم ، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم ، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم ، ويدفعون بها المضار عنهم. لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة. فالحاجة إلى العينين للرؤية ، واللسان للنطق ، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم ، والنطق أيضا. وقوله تعالى :

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي طريقي الخير والشر ، قال الإمام : النجد مشهور في الطريق المرتفعة والمراد بهما طريقا الخير والشر. وإنما سماهما نجدين ، ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة مسلك فليس الشر بأهون من الخير كما يظن ، وإلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. أي أودعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر. وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاما تدله عليهما. ثم وهبناه الاختيار. فإليه أن يختار أي الطريقين شاء. فالذي وهب الإنسان هذه الآلات. وأودع باطنه تلك القوى ، لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته ، ولا يجوز أن يخفى عليه

٤٧٧

شيء من سريرته. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلم يشكر تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة. و (الاقتحام) الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. و (العقبة) الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها. استعارها لما يأتي ، لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند الله تعالى بمكانة رفيعة (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتقها. أو المعاونة عليه وتخليصها من الرق وأسر العبودية ، رجوعا به إلى ما فطرت عليه من الحرية (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي قرابة. قال السيد المرتضى : وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين ، على الأجانب في الإفضال.

قال : وقد يمكن في (مَقْرَبَةٍ) أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ، بل من (القرب) الذي هو من الخاصرة ، فكأن المعنى أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضرّ وهذا أشبه بقوله تعالى : (ذا مَتْرَبَةٍ) لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضر. وليس من المبالغة في الوصف بالضر أن يكون قريب النسب. انتهى. وقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي فقر شديد لا يواريه إلا التراب. يقال : (ترب) كأنه لصق بالتراب. ويقال : (فقر مدقع) و (فقير مدقع) بمعنى لاصق بالدقعاء ، وهي التراب.

لطيفة :

ذهب الأكثرون إلى أن (لا) من قوله (فلا) نافية. وإنما لم تكرر ، مع أن العرب لا تكاد تفردها ، كما جاء في آية (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] ، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكرارها. لأن (لا اقتحم) لما فسر بما بعده كان في قوة (لا فك رقبة ولا أطعم مسكينا) وفي الآية أجوبة أخرى. منها أنه لما عطف عليه ، كان وهو منفي أيضا. فكأنها كررت. وقيل (لا) للدعاء. كقولهم (لا نجا ولا سلم) وقيل مخففة من (ألا) التي للتحضيض. وقيل : إنها للنفي فيما يستقبل. وقال الإمام : أما ما قيل من أن (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها ، ولم تكرر في الآية ، فذلك لا يلتفت إليه. لأن الكتاب نفسه حجة في الفصاحة. وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨)

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالحق الذي جاءهم. عطف على المنفي بـ (لا)

٤٧٨

وهو (اقتحم) أو على (فك) (وَتَواصَوْا) أي أوصى بعضهم بعضا (بِالصَّبْرِ) أي على ما نابهم في سبيل الدعوة إلى الحق (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي بالرحمة على بعضهم. كقوله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، أو بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به وعمل الصالحات (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي اليمين ، أو جهة اليمين التي فيها السعداء.

تنبيه :

قال القاشاني : يشير قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الآيات ، إلى قهر النفس بتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها ، حتى يصير التطبع طبعا. ثم قال : فإن الإطعام ، خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق ، الذي هو وضع في موضعه ، من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها ـ والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها ، وهو الإيمان العلمي اليقيني ـ والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة ـ وأخّره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين. و (المرحمة) أي التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة. فانظر كيف عدّد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل. وعبر عنها بمعظم أنواعها. وأخص خصالها الذي هو السخاء. ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس. وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ. وعبر عن الحكمة به لكونه أمّ سائر مراتبها وأنواعها.

ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين. وأخر العدالة التي هي نهايتها. واستغنى بذكر المرحمة ، التي هي صفة الرحمن ، عن سائر أنواعها. كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي بأدلتنا وأعلامنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق ، التي بكل يرتقي إلى معرفة الصراط التي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي الشؤم على أنفسهم ، أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء. وقال الإمام : أهل اليمين ، في لسان الدين الإسلامى ، عنوان السعداء. وأهل الشمال عنوان الأشقياء (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة أبوابها ، كناية عن حبسهم المخلد فيها ، وسد سبل الخلاص منها ، أجارنا الله بفضله وكرمه منها.

٤٧٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشمس

مكية ، وآيها خمس عشرة.

وقد تقدم حديث جابر الذي في الصحيح (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أي ضوئها إذا أشرقت. قال الراغب : (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار ، وبه سمي الوقت. وحقيقته ـ كما قال الشهاب ـ تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين ، ثم صار حقيقة في وقته. وقال الإمام : يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم. ويقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة ومجلى الهداية في عالمها الفخيم. وهل كنت ترى حيا أو تبصر ناميا ، أو هل كنت تجد نفسك ، لو لا ضياء الشمس ، جلّ مبدعه؟.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي تبع الشمس ، قال الإمام : وذلك في الليالي البيض ، من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة. وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الامتلاء. إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر. وهو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره. وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أظهر الشمس. وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه ، لأن

__________________

(١) أخرجه النسائي في : الافتتاح ، ٦٣ ـ باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

٤٨٠