تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

المتواترة. ولا بد مما ذكره أبو عبيدة ، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى

قال ابن كثير : وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام. وهو نفي لقولهم إنه كهانة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩)

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي أيّ مسلك تسلكون ، وقد قامت عليكم الحجة؟ لا جرم أنكم تنحون الضلال بعد هذه المزاعم في الوحي ومبلغه. فمن سلك طرقها فقد بعد عن الصواب ، بما لا يضبط ولم يتقرّب إليه بوجه. كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده ، فيقال : أين تذهب.

قال الزمخشريّ : استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادّة اعتسافا أو ذهابا في بنيّات الطريق : أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله ، في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل (إِنْ هُوَ) أي القرآن المتلوّ عليكم (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي تذكرة وعظة لهم.

قال الإمام : موعظة يتذكّرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير. وإنما أنساهم ذكره ما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أمراض الاجتماع. وقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بدل من (العالمين) أي إنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على الطريق الحق ، بصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه. أما من أعرض ونأى. فمن أين تنفعه الذكرى ، وقد زاده الران عمى؟ وقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما تشاءون شيئا من فعالكم ، إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم ، وإقداركم عليها ، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار ، هو الإعلام بالافتقار إلى الله تعالى ، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عزوجل. فهو خاضع لسلطان مشيئته ، مقهور تحت تدبيره وإرادته.

٤٢١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الانفطار

وهي مكية. وآيها تسعة عشر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (٥)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت كما في آية (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت. والانتثار استعارة لإزالة الكواكب ، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها. وهي مصرحة أو مكنية (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فتح بعضها إلى بعض ، لزوال الحاجز بزلزلة الأرض وارتجافها (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي بحثت وأخرج موتاها.

قال الشهابي : يعني أزيل التراب التي ملئت به ، وكان حتى على موتاها فانفتحت وخرج من دفن فيها. وهذا معنى البعثرة. وحقيقتها تبديد التراب أو نحوه. وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا ، كما هنا. وقد يتجوّز به عن البعث والإخراج كما في سورة العاديات. والفارق بينهما أنه أسند هنا للقبور فكان على حقيقته. وثمّ ، لما فيها ، فكانت مجازا عما ذكر. ثم قال : وذهب بعض الأئمة كالزمخشريّ والسهيليّ إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا. ومثله كثير في لغة العرب ويسمى نحتا. وأصله (بعث) و (أثير) أي حرك وأخرج. وله نظائر كبسمل ، وحوقل ، ودمعز. أي قال بسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأدام الله عزه. فعلى هذا يكون معناه النبش والإخراج معا. ولا يرد عليه أن الراء ليست من أحرف الزيادة ، كما توهمه أبو حيان ، فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين ، والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة ، كما فصّله في (المزهر) نقلا عن أئمة اللغة.

٤٢٢

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) أي لذلك اليوم من عمل صالح أو سيّئ (وَأَخَّرَتْ) أي تركت من خير أو شر. أو المعنى : ما قدمت من عمل طيب لم تقصر فيه ، وما أخرت أي قصرت فيه. والمراد بالعلم بالتقديم والتأخير ، وجدان الجزاء عليهما ، وتحقق مصداق الوعد عليهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي : أيّ شيء خدعك وجرّأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر (الْكَرِيمِ) للمبالغة في المنع عن الاغترار. لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته. ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه. لا سيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة ما يزيد في الرهبة ، كما قال : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) أي جعلك سويّا متساوي الأعضاء والقوى. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء. فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به (فَعَدَلَكَ) أي جعلك معتدلا متناسب الخلق ، معتدل القامة. لا كالبهائم. وقرئ بالتخفيف وهو بمعنى المشدّد ، أو بمعنى صرفك عن خلقة غيرك إلى خلقة حسنة ، مزت بها على سائر الحيوان (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي : في أي صورة شاءها ركبك عليها. يعني أنه ركّبك في صورة هي أبدع الصور وأعجبها. ف (أيّ) استفهامية. والمجرور متعلق ب (رَكَّبَكَ) و (ما) زائدة وجملة (شاءَ) صفة (صُورَةٍ). والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسوّاه وعدله بقدرته وتقديره ، حتى أحكم صورته في ذلك التركيب ، لجدير بأن يتّقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.

تنبيه :

قال الإمام ابن القيّم في (الجواب الكافي) في بحث كون القرآن من أوله إلى آخره صريحا في ترتيب الجزاء بالخير والشر ، والأحكام الكونية ، على الأسباب ، ما تتمته : فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب ـ وهذا من أهم الأمور ـ فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرّة له في دنياه وآخرته ، ولا بدّ. ولكن تغالطه نفسه.

ثم ذكر من أنواع المغترين من يغترّ بفهم فاسد ، فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسّنّة فاتكلوا عليه. قال : كاغترار بعض الجهّال بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فيقول : كرمه. وقد يقول بعضهم إنه لقن المغتر حجته. وهذا

٤٢٣

جهل قبيح. وإنما غرّه بربه الغرور ، وهو الشيطان ، ونفسه الأمّارة بالسوء ، وجهله وهواه. وأتى سبحانه بلفظ (الْكَرِيمِ) وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به ولا إهمال لحقه. فوضع هذا المغتر (الغرور) في غير موضعه ، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. انتهى.

وفي مثل هذا الغرور يجب ـ كما قال الغزاليّ ـ على العبد أن يستعمل الخوف. فيخوّف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ، ويقول : إنه ، مع أنه غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب. وإنه ، مع أنه كريم ، خلد الكفار في النار أبد الآباد. مع أنه لم يضرّه كفرهم. بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا. وهو قادر على إزالتها. فمن هذه سنته في عباده ، وقد خوّفني عقابه ، فكيف لا أخافه؟ وكيف أغتر به؟ فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل. فما لا يبعث على العمل فهو تمنّ وغرور.

ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم ، وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور. وقد روي أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك. فقد كان الناس في الإعصار الأول يواظبون على العبادات ، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ، يخافون على أنفسهم ، وهم طول الليل والنهار في طاعة الله ، يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات ، والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين. مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى. زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله ، راجون لعفوه ومغفرته. كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى ، وينال بالهوينا ، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟

ثم قال : والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف. ولا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه ، إن كان مؤمنا بما فيه. وترى الناس يهذّونه هذّا. يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها ، وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب. لا يهمهم الالتفات إلى معانيه ، والعمل بما فيه. وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢)

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) قال الإمام : أي لا شيء يغرك ويخدعك. بل إن سعة

٤٢٤

عطاء ربك وحكمته في كرمه ، تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آخر ، لثواب أو عقاب. وإنما الذي يقع منك ، أيها الإنسان ، هو العناد والتكذيب بالدين. أي الجزاء ، أي الانصراف عمدا وعنادا عما يدعو إليه الشعور الأول ، وعن الدليل الذي تقيمه الرسل ، والحجة التي يأتي بها الأنبياء. مع أن الله تعالى لم يترك عملا من أعمالك إلا حفظه وأحصاه عليك حتى يوفيك جزاءه كما قال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) أي رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم (كِراماً كاتِبِينَ) أي يكتبون ما تقولون.

(يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي من خير أو شر. أي يحصونه عليكم ، فلا يغفلون ولا ينسون.

قال الرازيّ : إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم. لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم. ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج كتاب بشهود ، خوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة. فيخرج لهم كتب منشورة ، ويحضر هناك ملائكة يشهدون عليهم ، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره. فيقولون له : أعطاك الملك كذا وكذا. وفعل بك كذا وكذا ، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا. فكذا ها هنا. والله أعلم بحقيقة ذلك. انتهى.

ولا يخفى أن الحفظة الكرام وعملهم ، من الغيب الذي لا يمكن اكتناهه. فيجب الإيمان به ، كما ورد. مع تفويض كنهه إلى بارئه تعالى. ومن الفضول في العلم التوسع فيما لا يدرك بالنظر وتسويد وجوه الصحف بها. وبالله سبحانه التوفيق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ(١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩)

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) قال ابن جرير : أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله ، واجتناب معاصيه ، لفي نعيم الجنان ينعمون فيها.

والأبرار جمع (برّ) بفتح الباء وهو المتصف بالبرّ (بكسرها) أي الطاعة. قال الأصفهاني : وقد اشتمل عليه قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ

٤٢٥

وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧] ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) أي الذين فجروا عن أمر الله. أي انشقوا عنه وخالفوه. وهم من لم توجد فيهم نعوت الأبرار المذكورة في الآية قبل (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم يدان العباد بالأعمال ، فيجازون بها (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي بخارجين ، لأنهم مخلدون في صليّها. وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه. أي أيّ شيء أعلمك به؟ أي أنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمّ درايته والبحث عنه. والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة. ثم فسّر تعالى بعض شأنه بقوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي من دفع ضرّ أو كشف همّ (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي أمر الملك الظاهر ، ونفوذ القضاء القاهر ، يومئذ لله وحده. لاضمحلال الممالك وذهاب الرياسات.

قال الرازيّ : وهو وعيد عظيم ، من حيث إنه عرّفهم أنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا ، من مال وولد وأعوان وشفعاء.

٤٢٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المطفّفين

قال المهايميّ : سميت به دلالة على أن من أخلّ بأدنى حقوق الخلق ، استحق أعظم ويل من الحق. فكيف من أخل بأعظم حقوق الحق ، من الإيمان به وبآياته ورسله؟ وهي مكية على الأظهر. فإن سياقها يؤيد أنها كأخواتها اللائي نزلن بمكة ، لا سيما خاتمتها ، فإنها صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة. وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد ، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك. وأما ما رواه النسائي وابن ماجة (١) ـ كما في ابن كثير عن ابن عباس ، لما قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل ـ فقد ذكرنا مرارا أن معنى الإنزال ، في إطلاق السلف ، لا يكون مقصورا على أن كذا سبب النزول. بل إن كذا مما نزل فيه ذلك. كأنّ أهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة. وقيل لهم : أنزل الله حظر ما أنتم عليه والوعيد فيه. فأقلعوا. وهذا ظاهر لمن له أنس بعلم الآثار وملكة فيه. ومنه يعلم أن قول بعضهم : نزلت بمكة إلا قصة التطفيف.

وقول آخر : إن كل نوع من المكيّ والمدنيّ منه آيات مستثناة ـ منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتبادر من المأثور في سبب النزول ، وبين ما يدل عليه السياق من خلافه. وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال ويتضح الحال.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : التجارات ، ٣٥ ـ التوقي في الكيل والوزن ، حديث ٢٢٢٣.

٤٢٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي هلاك لهم. قال الأصفهاني : ومن قال : (وَيْلٌ) واد في جهنم ، فإنه لم يرد أن (ويلا) في اللغة هو موضوع لهذا. وإنما أراد : من قال الله تعالى ذلك فيه ، فقد استحق مقرّا من النار.

ثم بيّن تعالى المطففين بقوله : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافيا وزائدا. على إيهام أن بذلك تمام الكيل. وإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقدارا ، ففي الوزن بطريق الأولى. وإيثار (عَلَى) على (من) للإشارة إلى ما فيه عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر. شأن المتغلب المتحامل المتسلط ، الذي لا يستبرئ لدينه وذمته : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم ، ينقصونهم حقهم الواجب لهم ، وهو الوفاء والتمام. ففيهما حذف وإيصال.

قال ابن جرير : من لغة أهل الحجاز أن يقولوا : وزنتك حقك ، وكلتك طعامك ، بمعنى وزنت لك وكلت لك.

تنبيه :

في (الإكليل) : في الآية ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن. أي لأنه من المنكر فهو من المحظورات أشد الحظر ، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ، ولو في القليل. لأن من دنؤت نفسه إلى القليل دل على فساد طويته وخبث ملكته ، وأنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة. قال ابن جرير : وأصل التطفيف من الشيء الطفيف ، وهو القليل النزر. والمطفف : المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن. ومنه قيل للقوم الذين

٤٢٨

يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم سواء كطف الصاع. يعني بذلك كقرب الممتلئ منه ناقص عن الملء. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان. فقال تعالى في عدة آيات : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [الإسراء : ٣٥] ، وقال تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٩] ، وقص تعالى علينا أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال. ثم قال سبحانه متوعدا لهم :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦)

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) أي من قبورهم بعد مماتهم (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع ، من خسر فيه أدخل نارا حامية (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون ، في موقف يغشى المجرم فيه من الهول ، ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأثر الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين. مبالغات في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه. ووجه ذلك ، كما لخصه الشهاب ، أن في ذكر الظن من التجهيل مع اسم الإشارة الدال على التبعيد ، تحقيرا ـ ووصف يوم قيامهم بالعظمة ـ وإبدال (يَوْمَ يَقُومُ) منه ، فإنه يدل على استعظام ما استحقروه. والحكمة اقتضت أن لا تهمل مثقال ذرة من خير وشر.

وعنوان (رب العالمين) للمالكية والتربية الدالة على أنه لا يفوته ظالم قويّ ، ولا يترك حق مظلوم ضعيف ـ وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه ، وأن من لا يهمل مثل هذا ، كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟ وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة. فتأمّل هذا المقام ، ففيه ما تتحيّر فيه الأوهام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (١١)

(كَلَّا) ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف اعتقادهم به (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي ما كتب فيه من عملهم السيء وأحصي عليهم. وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثان ، وهو الفجور ، بخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها الشرع والعقل (لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسطور

٤٢٩

بيّن الكتابة. أو معلّم برقم ينبئ عن قبحه. سمي سجينا ـ فعّيلا من السجن وهو الحبس والتضييق ـ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم. فهو بمعنى (فاعل) في الأصل. أو لأنه مطروح في أسفل مكان مظلم. فهو بمعنى (مفعول) كأنه مسجون لما ذكر. وقيل : هو اسم مكان ، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده. والتقدير : ما كتاب سجين أو محل كتاب مرقوم؟ فحذف المضاف وقيل إنه مشترك بين المكان والكتاب. وقال الأصفهاني : السجين اسم لجهنم بإزاء علّيّين. وزيد لفظه تنبيها على زيادة معناه. وقيل : هو اسم للأرض السابعة.

ثم قال : وقد قيل إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله : (وَما أَدْراكَ) فسّره. وكل ما ذكره بقوله : (وَما يُدْرِيكَ) تركه مبهما. وفي هذا الموضع ذكر (وَما أَدْراكَ) وكذا في قوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ثم فسّر الكتاب ، لا السجين والعليون. وفي هذه الطبقة موضعها الكتب التي يتبع هذا الكتاب ، لا هذا. انتهى.

وقال القاشانيّ : (لَفِي سِجِّينٍ) في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها. وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ولذلك فسّر بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم ، كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي بيوم الحساب والمجازاة. وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف. لأن إصرارهم على التعدي والاجترام يدل على عدم الظن بالبعث. كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٣)

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) أي مجاوز طور الفطرة الإنسانية ، بتجاوزه ، حد العدالة ، إلى الإفراط في أفعاله بالبغي والعدوان (أَثِيمٍ) أي مبالغ في ارتكاب أفانين الإثم وأنواع المعاصي (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما سطروه من الأحاديث والأخبار. يريد أنه ليس بوحي ربّاني ، ولا تنزيل إلهيّ. مع نصوع بيانه وشواهد برهانه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤)

٤٣٠

(كَلَّا) أي ليست هذه الآيات بأساطير الأولين. بل هي الحق المبين ، والشفاء لما في الصدور (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي غطّى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام حتى كدّر جوهرها وصار صدأ عليها بالرسوخ فيها. و (الرين) أصل معناه الصدأ والوسخ القارّ ، شبه به حب المعاصي الراسخ في النفس. وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال ، وصفة للنفس قارّة فيها. فبكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول ، كالصدإ الذي لا يزول بسهولة. قال في (الأساس) : الران ما غطى على القلب وركبه من القسوة للذنب بعد الذنب. من قولهم : (ران عليه الشراب والنعاس) و (ران به) إذا غلب على عقله. و (رين بفلان) ونظيره الغين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥)

(كَلَّا) ردع لهم عن الكسب الرائن على قلوبهم. أو بمعنى حقّا (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال ابن جرير : أي فلا يرونه ولا يرون شيئا من كرامته يصل إليهم ، فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيراه الله تعالى ويرى كرامته. قال الشهاب : لما كان الحجاب هو الساتر من ستارة بزّ وغيرها ، استعير تارة لعدم الرؤية ، لأن المجوب لا يرى ما حجب. وتارة للإهانة ، لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء. ولذا قالت العرب : الناس ما بين مرحوب ومحجوب ، أي معظم ومهان. وهو بمعانيه محال أن يتصف به الله. فلا يصح إطلاقه عليه تعالى ، كما صرحوا به. وإنما يوصف به الخلق ، كما في هذه الآية. فإذا أجري على اسم من أسمائه تعالى ، فهو وصف سببيّ لا حقيقيّ. بل التشبيه للخلق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧)

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي محترقون بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة ، بأن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالصدإ على قلوبهم بالرسوخ فيها ، كدّر جوهرها وغيرها عن طباعها. فعندها تحقق الحجاب وانغلق باب المغفرة ، ولذلك قال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لامتناع قبول قلوبهم

٤٣١

للنور ، وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطريّ. كالماء الكبريتي مثلا ، إذ لو روّق أو صعّد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة ، لاستحالة جوهرها. بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ولهذا استحقوا الخلود في العذاب. وحكم عليهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) انتهى.

قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) في هذه الآية ما مثاله : جمع لهم سبحانه بين العذابين عذاب الحجاب وعذاب النار. فألم الحجاب يفعل في قلوبهم وأرواحهم ، نظير ما تفعله النار في أجسامهم. كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا ، وأخذ بأشد العذاب. فإن أخص عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه ، وهي ممنوعة من الوصول إليه. فكيف إن حصل لها ، مع تواري المحبوب عنها وطول احتجابه ، بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه؟ فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه عنها يوم لقائه من الألم والحسرة ، لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة ، منتهى حسنها إلى ما يعلم ، كيف يضجّون من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره؟ ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة ، كما قال :

وكنت أرى كالموت من بين ليلة

فكيف ببين كان ميعاده الحشر

وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له وما فطرت عليه ، وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه.

فاعلم أن الله سبحانه خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة ، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له ، فخلق العين للإبصار والأذن للسمع والأنف للشم واللسان للنطق واليد للبطش والرجل للمشي والروح لمعرفته ومحبته والابتهاج بقربه والتنعم بذكره. وجعل هذا كمالها وغايتها. فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالا من العين والأذن واللسان واليد والرجل ، التي تعطلت عما خلقت له ، وحيل بينها وبينه. بل لا نسبة لألم هذه لروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة البتة. بل ألمها أشد الألم. وهو من جنس ألمها إذ فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها ، وحيل بينها وبينه ، وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها ، الذي لا تقرّ عينها إلا بقربه والأنس به والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه. فهذا غاية

٤٣٢

كمالها وأعظم نعيمها وجنّتها العاجلة في الدنيا. فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه. وفي حديث الرؤية (١) : فو الله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه.

ثم قال : وكما جمع سبحانه لأعدائه بين هذين العذابين ، وهما ألم الحجاب وألم العذاب ، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم نعيم القرب والنظر ، ونعيم الأكل والشرب والنكاح والتمتع بما في الجنة ، في قوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١] الآيات.

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي في الدنيا. قال الإمام : تبكيتا لهم وزيادة في التنكيل بهم. فإن أشد شيء على الإنسان ، إذا أصابه مكروه ، أن يذكر وهو يتألم له ، بأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها. وأسباب التفصي عنه كانت في مكنته فأغفلها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١)

(كَلَّا) ردع عن التكذيب ، أو بمعنى حقّا (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) قال القاشانيّ : أي ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة ، في عليين. وهو مقابل للسجين ، في علوه وارتفاع درجته ، وكونه ديوان أعمال أهل الخير. كما قال : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي محل شريف رقم بصور أعمالهم : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال ، كما في آية (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

والمقربون هم الأبرار : أعاد ذكرهم ، بوصف ثان ، تنويها بهم وتعديدا لصفاتهم. أو هم الملائكة إجلالا لهم وتعظيما لشأنهم.

ولما عظم تعالى كتابهم ، تأثره بتعظيم منزلتهم ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦)

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : الجنة ، ١٦ ـ باب ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى.

٤٣٣

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي عظيم دائم ، وذلك نعيمهم في الجنان (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة والمتكآت ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بهجته ورونقه ، كما يرى على وجوه المترفهين ماؤه وحسنه (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) أي خمر ، إلا أنه خص بالخالص الذي لا غش فيه ، كما قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفّق بالرحيق السّلسل

ومنه قولهم. مسك رحيق لا غش فيه ، وحسب رحيق لا شوب فيه.

وقوله تعالى : (مَخْتُومٍ) أي ختم على أوانيه تكريما له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال القفال : أي الذي يختم به رأس قارورة ذلك الرحيق ، هو المسك ، كالطين الذي يختم به رؤوس القوارير فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم.

وعن بعض السلف واللغويين المختوم الذي له ختام أي عاقبة ، وقد فسرت بالمسك. أي من شربه كان ختم شربه على ريح المسك. والقصد لذة المقطع بذكاء الرائحة وأرجها ، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة (وَفِي ذلِكَ) أي النعيم المنوه به وما تلاه (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي فليرغب الراغبون بالاستباق إلى طاعة الله تعالى :

قال ابن جرير : التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له ، ويتمنى أن يكون له دونه. وهو مأخوذ من الشيء النفيس ، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتشتهيه. وكأن معناه في ذلك : فليجدّ الناس فيه وإليه ، فليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم. وقال الرازيّ : إن مبالغته تعالى في الترغيب فيه تدل على علوّ شأنه. وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا في النعيم الذي هو مكدر سريع الفناء. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨)

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) عطف على (ختامه) صفة أخرى (لرحيق) وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته. أي ما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. والتسنيم في الأصل مصدر سنمه بمعنى رفعه ، ومنه السنام. سمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علوّ. وقد بينه بقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي يشربون بها الرحيق ، والكلام

٤٣٤

في الباء ، كما في آية (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، من كونها زائدة ، أو بمعنى (من) أو صلة الامتزاج أو الالتذاذ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١)

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) يعني كفار قريش (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي استهزاء بهم لإيمانهم بالله وحده وبما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه ، ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم.

قال الإمام : الذين أجرموا هم المعتدون الأئمة الذين شريت نفوسهم في الشر ، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق. هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا. ذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة. وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه‌السلام ، ثم يهمس بها بعض من يليه. ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم فيسرّ بها إلى من يرجوه ، ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه. ومن شأن القويّ المستعز بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرفه ، وهو أضعف منه قوة وأقل عددا. كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وأشياعهم. وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان متى عمت البدع ، وتفرقت الشيع وخفي طريق الحق بين طرق الباطل ، وجهل معنى الدين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن ، وحركات أركان لا تشايعها السرائر. وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل ، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياش والمناصب والألقاب. وتشبثت الهمم بالمجد الكاذب. وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل. وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل. واستوى في ذلك الكبير والصغير ، والأمير والمأمور ، والجاهل والملقب بلقب العالم. إذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعف صوت الحق وازدرى السامعون منهم بالداعي إليه. وانطبق عليهم نص الآية الكريمة. انتهى.

(وَإِذا مَرُّوا) أي الذين آمنوا (بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي يغمز بعضهم بعضا استهزاء وسخرية. والغمز : الإشارة بالجفن والحاجب.

٤٣٥

قال السيوطيّ : وفي هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين ، والضحك منهم ، والتغامز عليهم (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي هؤلاء المجرمون من مجالسهم (إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان. أو بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم بالدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)

(وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي رأوا المؤمنين (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي لتركهم ما عليه العامة ، والاعتصام بغيره. وقوله تعالى : (وَما أُرْسِلُوا) أي هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر (عَلَيْهِمْ) أي على المسلمين (حافِظِينَ) أي لأعمالهم. جملة حالية من (واو قالوا) أي قالوا ذلك ، والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم ، يحفظون عليهم أحوالهم ، ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم. وهذا تهكم بهم وإشعار بأن ما اجترءوا عليه من القول ، من وظائف من أرسل من جهته تعالى.

وقد جوّز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين. كأنهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين. إنكارا لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام ، وإنما قيل (عَلَيْهِمْ) نقلا له بالمعنى كما في قولك : (حلف ليفعلنّ) لا بالعبارة ، كما في قولك : (حلف لأفعلنّ) أفاده أبو السعود (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) تفريع على ما قبله ، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم في الدنيا و (اليوم) يوم الدين والجزاء. وضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوّه من الهوان والصغار ، بعد العزة والكبر. (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما أوتوا من النعيم ، وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا.

والجملة متعلقة ب (ينظرون) في محل نصب بعد إسقاط الجار. أو مستأنفة. والاستفهام للتقرير كأنه خطاب للمؤمنين ، تعظيما لهم وتكريما وزيادة في مسرتهم. أي هل رأيتم كيف جازى الله الكافرين بأعمالهم ، أي أنه فعل. و (ما) مصدرية أو موصولة.

٤٣٦

وثوّبه وأثابه بمعنى جازاه. وهو من (ثاب) بمعنى رجع. فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله. ويستعمل في الخير والشر.

ونظير هذه الآيات قوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) [المؤمنون : ١٠٨ ـ ١١١].

٤٣٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الانشقاق

وتسمى سورة إذا السماء انشقت. وهي مكية. وهي خمس وعشرون آية. قيل ترتيب هذه السور الثلاث ظاهر. لأن في (انفطرت) تعريف الحفظة الكاتبين وفي (المطففين) مقرّ كتبهم. وفي هذه عرضها للقيامة. روى الإمام مالك (١) عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم : إذا السماء انشقت. فسجد فيها. فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها. ورواه مسلم (٢) والنسائي (٣) وأخرج البخاري (٤) عن أبي رافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة. فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد. فقلت : ما هذه؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وفي رواية للنسائي (٥) عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).

__________________

(١) أخرجه في الموطأ في : الأمر بالوضوء لمن مس القرآن ، حديث رقم ١٢.

(٢) أخرجه في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ١٠٧.

(٣) أخرجه في : الافتتاح ، ٥١ ـ باب السجود في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).

(٤) أخرجه في : سجود القرآن ، ١١ ـ باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها. حديث رقم ٤٦٦.

(٥) أخرجه في : الافتتاح ، ٥١ ـ باب السجود في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ).

٤٣٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٥)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي انصدعت وتقطعت كما تقدم في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي سمعت له في تصدعها وتشققها. وهو مجاز عن الانقياد والطاعة. والمعنى أنها انقادت لتأثير قدرته ، حين أراد انشقاقها ، انقياد المطواع الذي يستمع للآمر ويذعن له. قال ابن جرير : العرب تقول (أذن لك في هذا إذنا) بمعنى استمع لك. ومنه الخبر الذي روي (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ يتغنى بالقرآن. يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيّ يتغنى بالقرآن. ومنه قول الشاعر :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

ومعنى قوله تعالى : (وَحُقَّتْ) أي : حق لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر ولا تمتنع. وهي حقيقة بالانقياد لأنها مخلوقة له في قبضة تصرفه. قال المعرب : الأصل حق الله طاعتها. ولما كان الإسناد في الآية إلى السماء نفسها ، والتقدير : وحقت هي ، كان أصل الكلام على تقدير مضاف في الضمير المستكنّ في الفعل. أي وحق سماعها وطاعتها. فحذف المضاف ، ثم أسند الفعل إلى ضميره ، ثم استتر فيه (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي بسطت وجعلت مستوية وذلك بنسف جبالها وآكامها كما قال : (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ـ ١٠٧] ، ولذا قال ابن عباس : مدت مد الأديم العكاظيّ. لأن الأديم إذا مدّ ، زال كل انثناء فيه واستوى (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي ما في جوفها من الكنوز والأموات (وَتَخَلَّتْ) أي : وخلت غاية الخلوّ ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التوحيد ، ٣٢ ـ باب قول الله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، حديث رقم ٢٠٨٨ ، عن أبي هريرة.

٤٣٩

حتى لم يبق شيء في باطنها ، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلوّ (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي انقادت له في التخلية ، وحق لها ذلك ، وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته. وجواب (إذا) محذوف للتهويل بالإبهام. أي : كان ما كان مما لا يفي به البيان. أو لاقى الإنسان كدحه ، كما قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ(٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) (٩)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) قال ابن جرير : أي إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به ، خيرا كان أو شرّا. المعنى : فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ، ويوجب لك رضاه ، ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك. وقال القاشانيّ : أي إنك ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت. أي تسير مع أنفاسك سريعا. كما قيل : أنفاسك خطاك إلى أجلك ؛ أو مجتهد مجد في العمل ، خيرا أو شرّا ، ذاهب إلى ربك فملاقيه ضرورة. قال : والضمير إما للرب وإما للكدح. وأصل الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه ، حتى يؤثر فيها. من (كدح جلده) إذا خدشه. فاستعير للجد في العمل وللتعب ، بجامع التأثير في ظاهر البشرة (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهم من آمن وعمل صالحا واتصف بما وصف به الأبرار ، في غير ما آية (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) قال ابن جرير : بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها ويجازى على حسنها. وقال القاشاني : بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة ، لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) أي : زوجته وأقاربه. أو قومه من يجانسه ويقارنه من أصحاب اليمين (مَسْرُوراً) أي بنجاته من العذاب ، أو بصحبتهم ومرافقتهم ، وبما أوتي من حظوظه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥)

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره ، وهو على هيئة المغضوب عليه ، أمام الملك المنصرف به عن ذاك المقام إلى دار

٤٤٠