تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبلغ ذلك الكمال. فلذلك أمره به ، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه‌السلام. والله يتقبل منهم (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة ، لأنه ربّ يربي النفوس بالمحن. فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشددها بحسن الوعد. ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال. وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها. وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح ، وتحقق النصر ، وأقبل الناس على الدين الحق ، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن ، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره ، والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس. فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه ، فقال فيما روي عنه : إنه قد نعيت إليه نفسه. هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.

تنبيهات :

الأول ـ قال ابن كثير : المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا. فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة. يقولون إن ظهر على قومه ، فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا. ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة : كنا بماء ممرّ الناس. وكان يمر بنا الركبان فنسألهم : ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون : يزعم أن الله أرسله أوحى إليه (أو أوحى الله بكذا) فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يغرى في صدري. وكانت العرب تلوّم بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه. فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم ... الحديث.

الثاني ـ قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان :

أحدهما ـ أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر. وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما. ولذلك سميت سورة التوديع.

ثانيهما ـ أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه. ونظيره : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] ، وقوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع (إِذا جاءَ) و (إذا وقع) وإذا صح هذا القول صارت

٥٦١

هذه الآية من جملة المعجزات. من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له. والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : ولأبي يعلى ، من حديث ابن عمر : نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق ، في حجة الوداع. فعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الوداع.

ثم قال : وسئلت عن قول الكشاف : إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق ، فكيف صدرت ب (إذا) الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله. وعلى تقدير صحته ، فالشرط لم يتكمل بالفتح. لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل ، فبقية الشرط مستقبل.

وقد أورد الطيبي السؤال ، وأجاب بجوابين :

أحدهما ـ أن (إذا) قد ترد بمعنى (إذ) كما في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ..) [الجمعة : ١١] الآية.

ثانيهما ـ أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى. كلامه.

الثالث ـ قال الشهاب : المراد ب (الناس) العرب. ف (أل) عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ. والمراد عبدة الأصنام منهم. لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعطوا الجزية.

الرابع ـ روى البخاري (١) عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن نزلت عليه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلا ـ يقول فيها : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي. وفيه عنها أيضا (٢) : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن.

قال الحافظ ابن حجر : معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار ، في أشرف الأوقات والأحوال.

وقال ابن القيّم في (الهدى) كأنه أخذه من قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْهُ) لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور. فيقول إذا سلم من الصلاة : أستغفر الله ثلاثا. وإذا خرج من الخلاء قال : غفرانك. وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ ...) [البقرة : ١٩٩] الآية.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، سورة النصر ، ١ ـ حدثنا الحسن بن الربيع ، حديث رقم ٤٨١.

(٢) أخرجه في : التفسير ، سورة النصر ، ٢ ـ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حديث رقم ٤٨١.

٥٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المسد

ويقال سورة أبي لهب ، مكية وآيها خمس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥)

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) أي خسرت يداه ، وخسر هو. واليدان كناية عن الذات والنفس ، لما بينهما من اللزوم في الجملة ، أو مجاز من باب إطلاق الجزء على الكل. وجملة (وَتَبَ) مؤكدة لما قبلها ، أو المراد بالأولى خسرانه فيما كسبه وعمله بيديه ، حيث لم يفده ولم ينفعه. وما بعده عبارة عن خسرانه في نفسه وذاته ؛ لأن سعي المرء لإصلاح نفسه وعمله. فأخبر بأن محروم منهما ، كما تشير له الآيتان بعد : أعني هلاك عمله وهلاك نفسه. وقال ابن جرير : كان بعض أهل العربية يقول قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) دعاء عليه من الله. وأما قوله : (وَتَبَ) فإنه خبر. أي عما سيحقق له في الدنيا والآخرة. وعبر عنه بالماضي لتحققه.

وأبو لهب أحد عمومة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واسمه عبد العزى. وقد اشتهر بكنيته وعرف بها لولد له يقال له لهب. أو لتلهب وجنتيه وإشراقهما. مع الإشارة إلى أنه من أهل النار ، وأن مآله إلى نار ذات لهب. فوافقت حاله كنيته ، فحسن ذكره بها.

قال الرواة : كان أبو لهب من أشد الناس عداوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأذية له وبغضة له وازدراء به وتنقصا له ولدعوته. ومات على كفره بعد وقعة بدر ولم يحضرها. بل أرسل عنه بديلا. فلما بلغه ما جرى لقريش مات غما ـ وقد روى الشيخان عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ، صعد النبيّ

٥٦٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا ونادى : يا بني فهر! يا بني عديّ! (لبطون من قريش) حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولا ، لينظر ما هو. فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا : نعم. ما جربنا عليك إلا صدقا. قال : فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فنزلت هذه السورة.

وروى الإمام أحمد (١) عن ربيعة بن عباد الديلي قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس! قولوا : لا إله إلا الله ، تفلحوا. والناس مجتمعون عليه. ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ، ذو غديرتين ، يقول : إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب. وفي رواية له : يتبعه من خلفه يقول : يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة. فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي أيّ شيء أغنى عنه ماله وما كسبه من سخط الله عليه وخسرانه. فكسبه هو عمله الذي يظن أنه منه على شيء. وقيل : ولده. لقرن الأولاد بالأموال في كثير من الآيات. وكانت العرب تعد أولادها للنائبات كالأموال ، فنفى إغناءهما عنه حين حل به التباب.

قال الشهاب : والذي صححه أهل الأثر أن أولاده ، لعنه الله ، ثلاثة : معتب وعتبة وهما أسلما. وعتيبة (مصغرا) وهذا هو الذي دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاهر بإيذائه وعداوته ، ورد ابنته وطلقها. وقال صلوات الله عليه وسلامه : اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام. وفيه يقول حسان رضي الله عنه :

من يرجع العام إلى أهله

فما أكيل السّبع بالراجع

ثم قال. ولهب هو أحد هؤلاء فيما قيل ، قال الثعالبيّ : ومنه يعلم أن الأسد يطلق عليه كلب. ولما أضيف إلى الله ، كان أعظم أفراده (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي توقّد واشتعال ، وهي نار الآخرة ، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاحدته (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وسيصلاها معه امرأته أيضا : ف (امْرَأَتُهُ) مرفوع عطفا على الضمير في (سَيَصْلى) أو على الابتداء ، و (فِي جِيدِها) الخبر. وقرئ

__________________

(١) أخرجه في المسند ٤ / ٣٤١.

٥٦٤

(حَمَّالَةَ) بالنصب على الشتم والذم ، وبالرفع نعتا أو بدلا أو عطف بيان. إنما قيل لها ذلك لأنها كانت تحطب الكلام وتمشي بالنميمة. كما قاله مجاهد وعكرمة وقتادة.

قال الزمخشري : ويقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس ، يحمل الحطب بينهم ، أي يوقد بينهم ويورث الشر ، قال :

البيض لم تصطد على ظهر لأمة

ولم تمش بين الحيّ بالحطب الرّطب

يمدحها بأنها من البيض الوجوه وأنها بريئة من أن تصطاد على سوء ولؤم فيها. ومن أن تمشي بالسعاية والنميمة بين الناس. وإنما جعل رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة الشر. ويقال : فلان يحطب على فلان ، إذا أغرى به.

قال الشهاب : وهي استعارة مشهورة لطيفة ، كاستعارة حطب جهنم للأوزار.

قال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي أم جميل ، واسمها (أروى) بنت حرب بن أمية. وهي أخت أبي سفيان وعمة معاوية. وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال الإمام رحمه‌الله : أي في عنقها حبل من الليف. أي أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة ، للإفساد بين الناس وتأريث نيران العداوة بينهم ، بمنزلة حامل الحطب الذي في عنقه حبل خشن ، يشدّ به ما حمله إلى عنقه ، حتى يستقل به. وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب ، وفي عنقها حبل من الليف ، تشد به الحطب إلى كاهلها ، حتى تكاد تختنق به.

وقال أيضا : قد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ، ليكون مثلا يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه ، مطاوعة لهواه وإيثارا لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال ، واغترارا بما عنده من الأموال ، وبما له من الصولة أو من المنزلة في قلوب الرجال ، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئا. وسيصلى ما يصلى. نسأل الله العافية.

٥٦٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الإخلاص

مكية ، وآيها أربع.

روى البخاري (١) عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية. وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قل هو الله أحد). فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك. فسألوه. فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبروه أن الله تعالى يحبّه.

وروى الإمام أحمد (٢) عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وأخرجه البخاريّ في قصة. وروى الإمام أحمد (٣) عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! انسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى هذه السورة

__________________

(١) أخرجه في : التوحيد ، ١ ـ باب ما جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ، حديث رقم ٢٥٩٦.

(٢) أخرجه في المسند : ٤ / ١٢٢.

(٣) أخرجه عن أبي سعيد الخدري في : التوحيد ، ١ ـ باب ما جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى ، حديث رقم ٢٠٨١.

٥٦٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤)

(قُلْ هُوَ) أي الخبر الحق المؤيد بالبرهان الذي لا يرتاب فيه ، وهو ما يعبر عنه النحويون بالقصة أو الحديث أو الشأن. قال أبو السعود : ومدار وضعه موضعه ، مع عدم سبق ذكره ، الإيذان بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد ، وإليه يشير كل مشير ، وإليه يعود كل ضمير (اللهُ أَحَدٌ) أي واحد في الألوهية والربوبية. قال الزمخشري : (أَحَدٌ) بمعنى واحد. وقال ابن الأثير : (الأحد) في أسمائه تعالى ، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. والهمزة فيه بدل من الواو. وأصله (وحد) لأنه من الوحدة. وفي (المصباح) : يكون (أحد) مرادفا (لواحد) في موضعين سماعا :

أحدهما ـ وصف اسم البارئ تعالى فقال هو الواحد وهو الأحد ، لاختصاصه بالأحدية. فلا يشركه فيها غيره. ولهذا لا ينعت به غير الله تعالى. فلا يقال (رجل أحد) ولا (درهم أحد) ونحو ذلك.

والموضع الثاني ـ أسماء العدد للغلبة وكثرة الاستعمال. فيقال أحد وعشرون ، وواحد وعشرون. وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال ، بأن (الأحد) لنفي ما يذكر معه ، فلا يستعمل إلا في الجحد ، لما فيه من العموم ، نحو ما قام أحد. أو مضافا نحو (ما قام أحد الثلاثة). و (الواحد) اسم لمفتتح العدد. ويستعمل في الإثبات ، مضافا وغير مضاف. فيقال (جاءني واحد من القوم). انتهى.

وقال الأزهري : الواحد من صفات الله تعالى ، معناه أنه لا ثاني له. ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد. فأما (أَحَدٌ) فلا ينعت به غير الله تعالى ، لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه.

٥٦٧

قال الإمام : ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد ، لا بأنه لا واحد سواه. فإن الوحدة تكون لكل واحد. تقول (لا أحد في الدار) بمعنى لا واحد من الناس فيها. والذي كان يزعمه المخاطبون هو التعدد في ذاته. فأراد نفي ذلك بأنه أحد. وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس ، وما يعتقده القائلون بالثلاثة ، منهم ومن غيرهم. وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير (اللهُ الصَّمَدُ) أي الذي يصمد إليه في الحوائج ، ويقصد إليه في الرغائب. إذ ينتهى إليه منتهى السؤدد ، قاله الغزاليّ في (المقصد الأسنى). وهكذا قال ابن جرير : الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه ، الذي لا أحد فوقه ، وكذلك تسمى أشرافها. ومنه قول الشاعر :

ألا بكر النّاعي بخيري بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد

قال الشهاب : فهو (فعل) بمعنى مفعول. وصمد بمعنى قصد. فيتعدى بنفسه وباللام وإلى. وقال ابن تيمية رحمه‌الله : وفي الصمد للسلف أقوال متعددة ، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك بل كلها صواب. والمشهور منها قولان :

أحدهما ـ أن الصمد هو الذي لا جوف له.

والثاني ـ أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج.

والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة.

والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين.

تم توسع رحمه‌الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه ، إلى أن قال :

وإنما أدخل اللام في (الصَّمَدُ) ولم يدخلها في (أَحَدٌ) لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحدا في الإثبات مفردا غير مضاف. ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده. وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق. وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين ، كما تقدم ، فلم يقل صمد بل قال : (اللهُ الصَّمَدُ) فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه. فإنه المستوجب لغايته على الكمال. والمخلوق ، وإن كان صمدا من بعض الوجوه ، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه. فإنه يقبل التفرق والتجزئة. وهو أيضا محتاج إلى غيره. فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه ، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء ، إلا الله. وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن

٥٦٨

يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض. والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك ، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة ، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه ، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه.

وقال أبو السعود. وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية. وتعرية الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى. بيّن أولا ألوهيته عزوجل المستتبعة لكافة نعوت الكمال ، ثم أحديّته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه ، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها. ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه ، وافتقار جميع المخلوقات إليه ، في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ، تحقيقا للحق ، وإرشادا لهم إلى سننه الواضح. ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم ، بقوله سبحانه (لَمْ يَلِدْ) نصيبا على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح. ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي. أي لم يصدر عنه ولد ، لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا. كما نطق به قوله تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] ، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه ، لاستحالة الحاجة والفناء عليه ، سبحانه. انتهى.

وقال ابن تيمية. وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة ، كل أفرادها. سواء سموها حسية أو عقلية ، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها ، هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة. وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم ، الذين جعلوا له بنين وبنات ، قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠] ، وقال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الصافات : ١٥١ ـ ١٥٢] ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله. كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة ، وهي متولدة عن الله ، فقال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] ، والآيات في هذا كثيرة.

وقوله : (وَلَمْ يُولَدْ) نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات. فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه ، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه. قال الإمام : قوله : (وَلَمْ يُولَدْ) يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابنا لله يكون

٥٦٩

إلها. ويعبد عبادة الإله ، ويقصد فيما يقصد فيه الإله. بل لا يستحي الغالون منهم أن يعبروا عن والدته بأم الإله القادرة ، فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج ، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء ، ودعوى أنه أزلي مع أبيه ، مما لا يمكن تعقله. فهو سبحانه منزه عن ذلك (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ولم يكن أحد يكافئه أي يماثله من صاحبة أو غيرها. وقال الإمام : الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة. وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا. فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الإشراك. وقرر جميع أصول التوحيد والتنزيه. وقال ابن جرير : الكفؤ والكفئ والكفاء ، في كلام العرب ، واحد. وهو المثل والشّبه.

وقرئ (كُفُواً) بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واوا. وقرئ بتسكين الفاء وهمزها ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان. و (له) صلة ل (كُفُواً) قدمت عليه ، مع أن حقها التأخر عنه ، للاهتمام بها ، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى. وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل.

فوائد من هذه السورة :

الأولى ـ قال الشهاب : فإن قلت المأمور : (قُلْ) من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده ، فلم كانت (قُلْ) من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة؟ قلت : المأمور به سواء كان معينا أم لا ، مأمور بالإقرار بالمقول. فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور.

الثانية : قال الإمام ابن تيمية : احتج بقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) من أهل الكلام المحدث من يقول الرب تعالى جسم. كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما. قالوا : هو صمد ، والصمد الذي لا جوف له. وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة ، فإنها لا جوف لها ، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة. ولهذا قيل في تفسيره إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب. ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم. وقالوا : أصل الصمد : الاجتماع. ومنه تصميد المال. وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع. وأما النفاة فقالوا : الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام. وقالوا أيضا : الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام. وقالوا : إذا قلتم هو جسم كان مركبا مؤلفا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة. وما كان مركبا مؤلفا من غيره

٥٧٠

كان مفتقرا إليه ، وهو سبحانه صمد. والصمد الغني عما سواه ، فالمركب لا يكون صمدا. انتهى.

وقال الرازي : قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم ، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي كونه جسما. فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى ، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة. وتعالى الله عن ذلك. فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه. وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك ، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير ، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته. انتهى.

وأقول : التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولا. وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه. وإذا تحقق هذا ، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه.

الثالثة ـ قال ابن تيمية : كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب ، يجب تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات. في شيء من صفات الكمال الثابتة له. وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله. وهذه السورة دلت على النوعين. فقوله : (أَحَدٌ) من قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ينفي المماثلة والمشاركة. وقوله : (صمد) يتضمن جميع صفات الكمال. فالنقائص جنسها منفيّ عن الله تعالى. وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب. ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك. فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني ، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات ، فضلا عن أن يماثله فيه. بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم ، وكلاهما مخلوق. فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق. وقد سمى الله نفسه عليما حليما رؤوفا رحيما سميعا بصيرا عزيزا ملكا جبارا متكبرا ، وسمى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء. مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلا للخالق جل جلاله في شيء من الأشياء.

الرابعة ـ قدمنا ما ورد في الحديث من أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن.

وقد ذكروا في ذلك وجوها ـ منها ما قاله أبو العباس بن سريج : أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام. ثلث منها الأحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات.

٥٧١

وقال الغزالي في (جواهر القرآن) : مهمات القرآن هي معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم. فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة. والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث ، وهي معرفة الله وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع. وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ.

قال : والوصف بالصمد يشعر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم ، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم. فلذلك تعدل ثلث القرآن أي ثلث الأصول من القرآن كما قال (الحج عرفة) أي هو الأصل والباقي تبع.

وقال ابن القيّم في (زاد المعاد): كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون. وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل ، وتوحيد المعرفة والإرادة ، وتوحيد الاعتقاد والقصد. فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة ، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه. والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص بوجه من الوجوه. ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته ونفي الكفؤ المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير : فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له ، ونفي كل نقص عنه ، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه ، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك. ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن. فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء. والإنشاء ثلاثة : أمر ، ونهي ، وإباحة. والخبر نوعان : خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه ، وخبر عن خلقه ـ فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن. وخلصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي. كما خلصت سورة قل يا أيها الكافرون من الشرك العملي الإرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزله منازله ، كانت سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن ، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر. و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن ، وفي الترمذي (١) : من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ، يرفعه : (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن. رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : صحيح الإسناد.

__________________

(١) أخرجه في : ثواب القرآن ، ١٠ ـ باب ما جاء في (إِذا زُلْزِلَتِ).

٥٧٢

ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها ، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه ، لما لها فيه من نيل الأغراض. وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته. لأن هذا يزول بالعلم والحجة ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه ، بخلاف شرك الإرادة والقصد ، فإن صاحبه يرتكب ما يدلّه العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطان الشهوة والغضب على نفسه. فجاء من التأكيد والتكرار في سورة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) المتضمنة لإزالة الشرك العمليّ ما لم يجيء مثله في سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

ولما كان القرآن شطرين : شطرا في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها. وشطرا في الآخرة وما يقع فيها. وكانت سورة (إذا زلزلت) قد أخلصت من أولها وآخرها لهذا الشطر ، فلم يذكر فيها إلا الآخرة ، وما يكون فيها من أحوال الأرض وسكانها ، كانت تعدل نصف القرآن. فأحر بهذا الحديث أن يكون صحيحا. والله أعلم.

الخامسة ـ قال ابن تيمية : سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أكثرهم على أنها مكية. وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة ، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة. ولا منافاة. فإن الله أنزلها بمكة أولا. ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى. وهذا مما ذكر طائفة من العلماء. وقالوا : إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك. فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّا. والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها ، نزل جبريل فقرأها عليه ، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب. وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. انتهى.

وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ، ومواضع أخر منه ، تحقيق البحث في معنى سبب النزول ، بما يدفع المنافاة في أمثال هذا ، فراجعه. ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة. من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية : أحدهما في تفسيرها ، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن ،. فاحتفظ بهما. والله الهادي.

٥٧٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفلق

مكية ، وآيها خمس : روى الإمام مسلم (١) عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة ، لم ير مثلهن قط : قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس. وروى الإمام أحمد (٢) وأبو داود والترمذيّ والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهما في سفر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي ألوذ به وألتجئ إليه. والفلق فعل بمعنى المفعول. كقصص بمعنى مقصوص. قال ابن تيمية : كل ما فلقه الرب فهو فلق. قال الحسن : الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحب والنوى. قال الزجاج : وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر. وقد قال كثير من المفسرين : الفلق الصبح. فإنه يقال : هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.

وقال بعضهم : الفلق الخلق كله. وأما من قال إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم. فهذا أمر لا نعرف صحته. لا بدلالة الاسم عليه ، ولا بنقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة ، بخلاف ما إذا قال : رب الخلق أو رب كل ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار. فإن في تخصيصه هذا بالذكر. ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به. انتهى.

__________________

(١) أخرجه في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ٢٦٤.

(٢) أخرجه بالصفحة رقم ٤ / ١٤٤.

٥٧٤

وقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم. كائنا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار. وقوله سبحانه (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) قال أبو السعود : تخصيص لبعض الشرور بالذكر ، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه ، لكثرة وقوعه. ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتقاد بالاستعاذة ، وأدعى إلى الإعاذة. وقال الإمام ابن تيمية : وإذا قيل الفلق يعم ويخص ، فبعمومه أستعيذ من شر ما خلق ، وبخصوصه للنور النهاريّ أستعيذ من شر غاسق إذا وقب. فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء : ٧٨] ، وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة قالوا : ومعنى (وَقَبَ) دخل في كل شيء. قال الزجاج : الغاسق البارد. وقيل لليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار. وقد روى الترمذي (١) والنسائي عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى القمر فقال : يا عائشة! تعوّذي بالله من شره ، فإنه الغاسق إذا وقب. وروي من حديث أبي هريرة مرفوعا : الغاسق النجم. وقال ابن زيد : هو الثريا. وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها. وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولا آخر ، ثم فسروا وقوبه بسكونه. قال ابن قتيبة : ويقال الغاسق القمر إذا كسف واسودّ. ومعنى وقب دخل في الكسوف. وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعارض بقوله غيره ، وهو لا يقول إلا الحق. وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره. وقد قال الله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] ، فالقمر آية الليل. وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل. فأمره بالاستعاذة من ذلك أمر بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته. والدليل مستلزم للمدلول. فإذا كان شر القمر موجودا ، فشر الليل موجود. وللقمر من التأثير ما ليس لغيره. فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى. ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى (٢) (هو مسجدي) هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعا. وكذلك قوله عن أهل الكساء (٣) (هؤلاء أهل بيتي) مع أن القرآن يتناول نساءه فالتخصيص لكون المخصوص أولى بالوصف. فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة ، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن ، ما لا تنتشر بالنهار. ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك. فالشر دائما مقرون بالظلمة. ولهذا

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ١١٣ و ١١٤ سورة المعوّذتين.

(٢) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ١٤ ـ حدثنا قتيبة ، عن أبي سعيد الخدري.

(٣) أخرجه الترمذي في : المناقب ، ٦٠ ـ باب فضل فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا محمود بن غيلان.

٥٧٥

إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم. لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار. ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته. وأبو معشر البلخيّ له (مصحف القمر) يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. انتهى كلام ابن تيمية رحمه‌الله تعالى.

ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها ، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها. فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) قال ابن جرير : أي ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل. فعن مجاهد : الرقي في عقد الخيط. وعن طاوس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين. ومثله عن قتادة والحسن. وقال الزمخشري : النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين. والنفث النفخ مع ريق. ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثمّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه ولكن الله عزوجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن وإلى نفثهن. والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به.

فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه :

أحدها ـ أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك.

والثاني ـ أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخد عنهم به من باطلهن.

الثالث ـ أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. انتهى.

وفي الآية تأويل آخر. وهو اختيار أبي مسلم رحمه‌الله. قال : النفاثات النساء. والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال. والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلا. فمعنى الآية : إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة. فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن. كقوله : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] ، فكذلك عظم الله كيدهن فقال : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨].

٥٧٦

تنبيه :

قال الشهاب : نقل في (التأويلات) عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلوات الله عليه ، المرويّ هنا ، متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور. وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل الرازيّ عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة. وكيف يمكن القول بصحتها ، والله تعالى يقول : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ، وقال (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩] ، ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوّة. ولأنه ، لو صح ذلك ، لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ، وكل ذلك باطل. ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه ، عليه‌السلام ، ذلك العيب. ومعلوم أن ذلك غير جائز. انتهى. ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرّجا في الصحاح. وذلك لأنه ليس كل مخرّج فيها سالما من النقد ، سندا أو معنى. كما يعرفه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة.

قال الإمام الغزالي في (المستصفى) : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردّ خبر الواحد. كردّ عليّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة (بروع بنت واشق) وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأمثال ذلك مما ذكر. أورد ذلك الغزالي في مباحث (خبر الآحاد في شبه المخالفين فيه) وذكر رحمه‌الله في (مباحث الإجماع) إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد ، لأدلة ظاهرة قامت عندهم.

وقال الإمام ابن تيمية في (المسوّدة) : الصواب أن من ردّ الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا. فإن هذا لا يكفر ولا يفسق. وإن لم يكن اعتقاده مطابقا ، فقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى.

وقال العلامة الفناري في (فصول البدائع) : ولا يضلل جاحد الآحاد. والمسألة

٥٧٧

معروفة في الأصول. وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي من أكبر رد خبر رواه مثل البخاري ، وضلل منكره. فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول ، لا بل بأصول مذهبه. كما رأيت عن الفناري. ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزنا. وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ. فمتى صادقوه حتى يضللوا من ردّ خبرا فيه؟ وقد برهن على مدعاه. وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه.

وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا. وقد أوسع المقال فيه شراح (الصحيح) وابن قتيبة في شرح (تأويل مختلف الحديث) والرازي. والحق لا يخفى على طالبه ، والله أعلم.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) قال الزمخشري : أي إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود. لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره ، فلا ضرر يعود منه على من حسده بل هو الضارّ لنفسه ، لاغتمامه بسرور غيره.

٥٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الناس

مكية ، وهي ست آيات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أي ألجأ إليه وأستعين به ، و (بِرَبِّ النَّاسِ) الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره. وهو رب العالمين كلهم والخالق للجميع (مَلِكِ النَّاسِ) أي الذي ينفذ فيهم أمره وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره (إِلهِ النَّاسِ) أي معبودهم الحق وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر. دون كل شيء سواه. والإله المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) أي الشيطان ذي الوسوسة. وقد زعم الزمخشري ومن تبعه ؛ أن الوسواس مصدر أريد به الموسوس أو بتقدير (ذي). وحقق غير واحد أنه صفة كالثرثار ، وأن فعلالا (مصدر فعلل) بالكسر والمفتوح شاذ ، وقد بسط الكلام في ذلك الإمام ابن القيّم في (بدائع الفوائد) (الْخَنَّاسِ) أي الذي عادته أن يخنس ـ أي يتأخر ـ إذا ذكر الإنسان ربه ، لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة وكلما تنبه العبد فذكر الله ، خنس (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) أي بالإلقاء الخفيّ في النفس. إما بصورة خفيّ لا يسمعه إلا من ألقي إليه ، وإما بغير صوت.

قال ابن تيمية : و (الوسوسة) من جنس (الوشوشة) بالشين المعجمة. يقال

٥٧٩

(فلان يوسوس فلانا) و (قد وشوشه) إذا حدثه سرّا في أذنه. وكذلك الوسوسة. ومنه وسوسة الحليّ. لكن هو بالسين المهملة ، أخص.

وقال الإمام : إنما جعل الوسوسة في الصدور ، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب ، والقلب مما حواه الصدر عندهم ، وكثيرا ما يقال (إن الشك يحوك في صدره) وما الشك إلا في نفسه وعقله. وأفاعيل العقل في المخ ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه.

وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس ، على أنه ضربان : ضرب من الجنّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد في أنفسنا أثرا ينسب إليهم. وضرب من الإنس كالمضلين من أفراد الإنسان ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] ، وإيحاؤهم هو وسوستهم.

قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس ، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس ، فإنه تابع لوسواس الجن. قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ، ونوع من نفوس الإنس. كما قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) [ق : ١٦] ، فالشر من الجهتين جميعا. والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين.

وقال أيضا : الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه ، وشياطين الجن وشياطين الإنس. فليس من شرط الموسوس أن يكون مستترا عن البصر ، بل قد يشاهد.

لطائف :

الأولى ـ قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر ، لأنهم المستعيذون. فيستعيذون بربهم الذي يصونهم ، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحل بينهم وبين عبادته. ويستعيذون أيضا من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجنّة. فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم.

وقال الناصر : في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف ، فإنه معه أتمّ.

٥٨٠