تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

(إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي مثل نطقكم. والضمير في (إنه) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق ، أو أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى (ما تُوعَدُونَ) ويؤيد الأخير ما تأثره من أنباء وعيد المكذبين ، وبدأ منها بنبإ قوم لوط ، لأن قراهم واقعة في ممرهم إلى فلسطين للاتجار ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) يعني : الملائكة الذي دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشريّ : فيه تفخيم للحديث ، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما عرفه بالوحي. وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، وعجل لهم القرى ، أو أنهم في أنفسهم مكرمون.

(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) أي سلام عليكم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي أنتم قوم لا أعرفكم. وهو كالسؤال منه عن أحوالهم ، ليعرفهم. فإن قولك لمن لقيته : أنا لا أعرفك! في قوة قولك : عرف لي نفسك وصفها.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي ذهب إليهم في خفية من ضيوفه. ومن أدب المضيف أن يخفي أمره ، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف ، حذرا من أن يكفّه ويعذره ـ قاله الزمخشريّ ـ وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد : أنه لا يقال راغ ، إلا إذا ذهب على خفية وأنه يقال روّغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمنا. قال الناصر : وهو من هذا المعنى ، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى. ومن مقلوباته (غور الأرض) والجرح. وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى. انتهى.

(فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي قد أنضجه شيا (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي بأن وضعه بين أيديهم (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) أي منه. قال القاضي : وهو مشعر بكونه حنيذا. والهمزة فيه للعرض ، والحث على الأكل على طريقة الأدب ، إن قاله أول ما وضعه. وللإنكار ، إن قاله حينما رأى إعراضهم.

٤١

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي أضمرها ، لظنه أنهم أرادوا به سوءا (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي يبلغ ويكمل علمه (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي صيحة (فَصَكَّتْ) أي لطمت (وَجْهَها) أي تعجبا ، على عادة النساء في كل غريب عندهن (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي عاقر ليس لي ولد (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي مثل الذي قلنا وأخبرنا به ، قال ربك ، فإنما نخبرك عن الله. فأقبلي قوله ، ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة ، ولا الجهل ، بعدم قبولك للولادة. (إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

(قالَ) أي إبراهيم لضيفه (فَما خَطْبُكُمْ) أي أمركم وشأنكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي مؤاخذتهم (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أي رجما لهم على فعلهم الفاحشة (مُسَوَّمَةً) أي مرسلة ، أو معلّمة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي المتعدّين حدود الله. الكافرين به (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في تلك القرية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة ، وهم لوط وابنتاه عليهم‌السلام. (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعني بيت لوط عليه‌السلام (وَتَرَكْنا فِيها) أي في تلك القرية (آيَةً) أي علامة تدل على إهلاكهم الدنيويّ الدال على الأخرويّ (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي في الآخرة وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠)

(وَفِي مُوسى) عطف على (فيها) بإعادة الجار ، لأن المعطوف عليه ضمير مجرور. أي وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه ، آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه.

(إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ببرهان ظاهر (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي

٤٢

فأعرض عن الإيمان. والركن : جانب الشيء. ف (ركنه) جانب بدنه ، فالتولي به كناية عن الإعراض. والباء للتعدية ، لأن معناه ثنى عطفه. أو للملابسة. أو الركن فيه بمعنى الجيش ، لأنه يركن إليه ، ويتقوى به ، والباء للمصاحبة أو للملابسة. (وَقالَ ساحِرٌ) أي هو ساحر (أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي فأغرقناهم في البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢)

(وَفِي عادٍ) أي وتركنا في عاد ، قوم هود عليه‌السلام آية (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) أي التي لا خير فيها من إنشاء مطر ، أو إلقاح شجر. وهي ريح الهلاك. (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي الشيء الهالك. وأصل الرميم : البالي المفتت ، من عظم أو نبات أو غير ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥)

(وَفِي ثَمُودَ) أي وتركنا في ثمود ، قوم صالح عليه‌السلام (إِذْ قِيلَ لَهُمْ) أي بعد عقرهم الناقة (تَمَتَّعُوا) أي في داركم (حَتَّى حِينٍ) يعني : ثلاثة أيام ، كما بينته الآية الأخرى.

(فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي فاستكبروا عن امتثاله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) يعني العذاب الحالّ بهم ، المعهود (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي إليها. فإنها نزلت بهم نهارا.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي نهوض ، فضلا عن دفاع عذاب الله (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي ممتنعين من العذاب. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

(وَقَوْمَ نُوحٍ) قرئ بالجر عطفا على (وَفِي ثَمُودَ) أو المجرورات قبل.

٤٣

وبالنصب مفعولا لمضمر دل عليه السياق والسباق. أي وأهلكنا قوم نوح. أو عطفا على مفعول (فَأَخَذْناهُ) أو على محل (وَفِي مُوسى) (مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي : مخالفين أمر الله ، خارجين عن طاعته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨)

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي رفعناها بقوة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي لقادرون على الإيساع ، كما أوسعنا بناءها. (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي مهدناها ليتمتعوا بها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي لهم. وفي إيثار صيغة فاعل من (مهد على فرش) إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلا واسما ، فيكون في أحدهما أرق وألطف وأفصح ، فيؤثر على غيره في ظرف ، ويؤثر عليه غيره في آخر. والمرجع الذوق ـ كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩)

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي ذكرا وأنثى ، أو نوعين متقابلين.

قال ابن كثير : جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض. وليل ونهار. وشمس وقمر. وبر وبحر. وضياء وظلام. وإيمان وكفر. وموت وحياة. وشقاء وسعادة. وجنة ونار. حتى الحيوانات والنباتات. انتهى. وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد ، وعبارة ابن جرير :

وأولى القولين في ذلك قول مجاهد : وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له ، مخالفا في معناه. فكل واحد منهما زوج للآخر ، ولذلك قيل (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله : خلقه على قدرته على خلق ما يشاء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه ، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه ، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال ، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة. انتهى.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال ابن جرير : أي لتذكّروا وتعتبروا بذلك ، فتعلموا أيها

٤٤

المشركون بالله ، أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة ، هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كل شيء ، لا ما لا يقدر على ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠)

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي فرّوا من عقابه إلى رحمته ، بالإيمان به ، واتباع أمره ، والعمل بطاعته. قال الشهاب : الأمر بالفرار من العقاب ، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة ، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة ، كأنه فر لمأمنه. فهو استعارة تمثيلية. (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أنذركم عقابه ، وأخوّفكم عذابه الذي أحلّه بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم ، والذي هو مذيقهم في الآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قد أبان النذارة قال أبو السعود : وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى ، لكن لا بطريق التكرير ـ كما قيل ـ بل بالنهي عن سببه ، وإيجاب الفرار منه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤)

(كَذلِكَ) أي كما ذكر من تكذيبهم الرسول ، وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) يعني تقليدا لآبائهم ، واقتداء لآثارهم ، فمورد جهالتهم مؤتلف ، ومشرع تعنتهم متحد. وقوله تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ) إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء ، فضلا عن التفوّه بها. أي أأوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه. وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك ، وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصي وأشنع منه ، من الطغيان الشامل للكل ، الدالّ على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم ، بمقتضى جبلته الخبيثة ، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك ـ أفاده أبو السعود ـ.

٤٥

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عن مقابلتهم بالأسوإ كقوله تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ) [الأحزاب : ٤٨] ،. وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ، (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي في إعراضهم ، إذ لست عليهم بجبار ولا مسيطر ، وما عليك من حسابهم من شيء.

تنبيه :

قول بعض المفسرين هنا ـ (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عن مجادلتهم ، بعد ما كررت عليهم الدعوة ـ بعيد عن المعنى بمراحل ، لأن مجادلتهم مما كان مأمورا بها على المدى ، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق ، كما قال تعالى : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢].

وكذا قول البعض في قوله تعالى : (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي في إعراضك بعد ما بلغت فإنه مناف للأمر بالذكرى بعد. فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية ، لأنه المحاكي لنظائرها. وأقعد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر ـ كما قيل ـ : وخير ما فسرته بالوارد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

(وَذَكِّرْ) أي عظهم (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي من قدّر الله إيمانه ، أو الذين آمنوا ، فإنهم المقصودون من الخلق ، لا من سواهم ، إذ هم العابدون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (٥٦)

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي لهذه الحكمة ، وهي عبادته تعالى : بما أمر على لسان رسوله ، إذ لا يتم صلاح ، ولا تنال سعادة في الدارين ، إلا بها. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨)

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) بيان

٤٦

لعظمته عزوجل ، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم ، فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة ، وبواسطة كاسب عبيدهم ، قدّر أرزاقهم والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما ، بل هو الذي يرزقهم. وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩)

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد ، (ذَنُوباً) أي نصيبا وافرا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية. وأصل (الذنوب) الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، أو القريبة من الامتلاء. وهي تذكّر وتؤنّث ، فاستعيرت للنصيب مطلقا ، شرا كالنصيب من العذاب في الآية ، أو خيرا كما في العطاء في قول عمرو بن شاس :

وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة

فحقّ لشأس من نداك ذنوب

وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، فيعطى لهذا ذنوب ، ولآخر مثله.

(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل لأجله ، فإنه لا بد آتيهم ، ولكن في حينه ، المؤخر لحكمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي أوعدوا فيه نزول العذاب بهم ، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد. و (اليوم) إما يوم القيامة ، أو يوم بدر.

قال أبو السعود : والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية. والثاني هو الأوفق لما قبله ، من حيث إنهما من العذاب الدنيوي ـ والله أعلم ـ.

٤٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطور

قال المهايميّ : سميت به لأنه لما تضمن تعظيم مهبط الوحي ، فالوحي أولى بالتعظيم ، فيعظم الاهتمام بالعمل ، لا سيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته. وهذا من أعظم مقاصد القرآن وهي مكية ، وآيها تسع وأربعون.

روي الشيخان (١) ومالك عن جبير بن مطعم قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.

وروي البخاري (٢) : عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني اشتكي! فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة. فطفت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى جنب البيت ، يقرأ بالطور وكتاب مسطور.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٥٢ ـ سورة الطور ، ١ ـ حدثنا عبد الله بن يوسف ، حديث رقم ٤٦٥.

وأخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث رقم ١٧٤.

(٢) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٥٢ ـ سورة الطور ، ١ ـ حدثنا عبد الله بن يوسف ، حديث رقم ٣٠٩.

٤٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)

وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦)

(وَالطُّورِ) أي طور سينين ، جبل بمدين ، سمع فيه موسى ، صلوات الله عليه. كلام الله تعالى ، واندك بنور تجليه تعالى.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي مكتوب. والمراد به القرآن ، أو ما يعمّ الكتب المنزلة.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) متعلق ب (مَسْطُورٍ). أي وكتاب سطّر في ورق منشور يقرأ على الناس جهارا. و (الرق) الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي الذي يعمر بكثرة غاشيته ، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمّار والطائفين والعاكفين والمجاورين. وروي أنه بيت في السماء بحيال الكعبة من الأرض. يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. والأول أظهر ، لأنه يناسب ما جاء في سورة (التين) من عطف (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) على (طُورِ سِينِينَ) والقرآن يفسر بعضه بعضا ، لتشابه آياته ، وتماثلها كثيرا ، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب.

قال المهايميّ : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي ، لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه ، ولأنه مظهر الوحي ، ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين ، ولأنه أجلّ الآيات وأكبرها. كما دل عليه آية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] وآيات أخر.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء. وجعلها سقفا لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي المملوء ، أو الذي يوقد ، أي يصير نارا ، كقوله (وَإِذَا

٤٩

الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] ، قال ابن جرير : والأول أولى. أعني : أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض ، لأن الأغلب معاني (السّجر) الإيقاد أو الامتلاء. فإذا كان البحر غير موقد اليوم ، ثبتت له الصفة الثانية وهو الامتلاء ، لأنه كل وقت ممتلئ. ولا تنس ما قدمنا في أوائل (الذّاريات) من أن هذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي يدفعه عن المكذبين فينقذهم منه إذا وقع. (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي تضطرب (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء منثورا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بالحق الجاحدين له (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) أي من الاعتساف والاستهزاء (يَلْعَبُونَ) أي بآيات الله ودلائله (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يدفعون إليها بعنف. يقال : دععت في قفاه ، إذا دفعته فيه بإزعاج (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك (أَفَسِحْرٌ هذا) أي الذي وردتموه الآن. والفاء للسببية ، لتسبب هذا عما قالوه في الوحي (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) أي كما كنتم لا تبصرون في الدنيا. قال الزمخشريّ : يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه ، كما كنتم عميا عن الخبر. وهذا تقريع وتهكم. (اصْلَوْها) أي : ذوقوا حرّ هذه النار (فَاصْبِرُوا) أي على ألمها (أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي الأمران. الصبر وعدمه سواء عليكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم ، وكفركم به.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ) إلخ؟ قلت لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع.

٥٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) جمع (عيناء) وهي الواسعة العين ، في حسن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) أي اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي في الجنات والنعيم. والخطاب ، لما كان مع الصحابة رضي الله عنهم ، وهم واثقون بوعد الله ، تمم لهم البشارة بالموعود به ، بأنه ينال ذريتهم أيضا ، إن اتبعوا آباءهم بإحسان ، هذا هو المراد من الآية. وأما من قال في معناها : إن المؤمن ترفع له ذريته فيلحقون به ، إن كانوا دونه في العمل ، فلا تقتضيه الآية تصريحا ولا تلويحا (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئا (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي بما عمل من خير أو شر مرتهن به ، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، وإنما يعاقب بذنب نفسه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) (٢٤)

(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي زدناهم وقتا بعد وقت ، ما ذكر. (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث وباطله ، ولا يفعلون ما يؤثم

٥١

به فاعله ، كما كان في الدنيا. (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي مصون في كنّ ، فهو أنقى له ، وأصفى لبياضه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم ، والتحدث بالنعمة ، وذلك في مساءلة بعضهم بعضا عما مضى لهم في الدنيا. (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي خائفين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) يعني : عذاب النار. وأصل (السّموم) الريح الحارة التي تدخل المسامّ ، فسميت بها نار جهنم ، لمشابهتها لها ، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى ، لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا ، أعرف. (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نعبده مخلصين له الدين (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) أي المحسن بمن دعاه (الرَّحِيمُ) أي لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩)

(فَذَكِّرْ) أي من أرسلت إليهم وعظهم (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ) أي تتكهن فيما تدعو إليه (وَلا مَجْنُونٍ) أي له رئيّ من الجن يخبر عنه قومه ما أخبر عنه ، كما يعتقده العرب في بعضهم ، ولكنك رسول الله حقّا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١)

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي حوادث الدهر أو الموت ، لأن (المنون) قد يراد به الدهر ، وريبه صروفه. وقد يراد به الموت ، وريبه نزوله. (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي : حتى يأتي أمر الله فيكم. والأمر للتهكم بهم والتهديد.

٥٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ(٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤)

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي عقولهم بهذا التناقض في القول ، (أَمْ) أي بل (هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي مجاوزن الحد في العناد ، مع ظهور الحق (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلق هذا القرآن من عند نفسه ، (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يريدون أن يؤمنوا حسدا وتقليدا ، فلذلك يرمونه بتلك القرى. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي في الهداية بذاك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة. كقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) [القصص : ٤٩] ، (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي في زعمهم ، فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه ، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض ، في ميدان التساجل والتراسل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣)

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال ابن جرير : أي أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات ، فهم كالجماد لا يعقلون ، ولا يفهمون لله حجة ، ولا يعتبرون له بعبرة ، ولا يتعظون بموعظة. وقد قيل : إن معنى ذلك أم خلقوا لغير شيء ، كقول القائل : فعلت كذا وكذا من غير شيء ، بمعنى : لغير شيء (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أنفسهم ، أو هذا الخلق ، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ، ولا ينتهون عما نهاهم عنه ، لأن للخالق الأمر والنهي (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي بوعيد الله ، وما أعدّ لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا. (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي خزائن رزقه ، فهم لاستغنائهم معرضون (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي الجبابرة المتسلطون (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) أي مرتقي إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي

٥٣

الوحي ، فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله أن الذي هم عليه حق. (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة تصدق دعواه (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي حيث جعلوا ، لسفاهة رأيهم ، الملائكة إناثا ، وأنها بناته تعالى ، مع أنه (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل : ٥٨] ، (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى ، (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) أي من التزام غرامة (مُثْقَلُونَ) أي منه ما شاءوا ، وينبئون الناس عنه بما أرادوا (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي بالرسول وما جاء به ، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي الممكور بهم دونك ، فثق بالله ، وامض لما أمرك به (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي له العبادة على جميع خلقه (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزيها له عن شركهم ، وعبادتهم معه غيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤)

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) هذا جواب لمشركي قريش الذين كانوا يستعجلون العذاب ، ويقترحون الآيات كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ، إلى قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢].

قال الزمخشريّ : يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم ، لو أسقطناه عليهم لقالوا : هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض ، يمطرنا ، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦)

(فَذَرْهُمْ) أي يخوضوا ويلعبوا ، ويلههم الأمل ، (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي يموتون (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله ، شيئا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧)

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي دون يوم القيامة ، وهو إما عذاب القبر،

٥٤

أو القحط ، أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم ـ أقوال للسلف ـ واللفظ صادق بالجميع (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي سنة الله في أمثالهم من الفجرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨)

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي الذي حكم به عليك ، وامض لأمره ونهيه ، وبلغ رسالاته. (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) قال ابن جرير : أي بمرأى منا ، نراك ونرى عملك ، ونحن نحوطك ونحفظك ، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.

وقال الشهاب : يعني أن العين ، لما كان بها الحفظ والحراسة ، استعيرت لذلك ، وللحافظ نفسه ، كما تسمى (الربيئة) عينا ، وهو استعمال فصيح مشهور. ونكتة جمع (العين) هنا وإفرادها في قصة الكليم ، عدا عن أنه جمع هنا لما أضيف لضمير الجمع ، ووحد ثمة لإضافته الواحد ، هو المبالغة في الحفظ ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم ، لأن المقصود تصبير حبيبه على المكايد ومشاقّ التكاليف والطاعة. فناسب الجمع ، لأنها أفعال كثيرة ، يحتاج كل منها إلى حارس بل حراس. بخلاف ما ذكر هناك من كلاءة موسى عليه‌السلام (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي من منامك.

روى الإمام أحمد (١) عن عبادة بن الصامت ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعارّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال : رب اغفر لي (أو قال : ثم دعا) استجيب له. فإن عزم فتوضأ ثم صلى ، قبلت صلاته». وأخرجه البخاريّ (٢) في صحيحه وأهل السنن.

وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم قول : سبحان الله وبحمده ، سبحان القدوس. و : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم أستغفر لذنبي ، وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علما. ولا تزغ قلبي بعد إذا هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

وقيل : حين تقوم إلى الصلاة ـ روى مسلم (٣) في صحيحه عن عمر ، أنه كان

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ٣١٣.

(٢) أخرجه في : التهجد ، ٢١ ـ باب حدثنا علي بن عبد الله ، حديث رقم ٦٣٤.

(٣) أخرجه في : الصلاة ، حديث رقم ٥٢.

٥٥

يقول في : ابتداء الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يقول ذلك. وعن مجاهد : حين تقوم من كل مجلس. وكذا قال عطاء وأبو الأحوص.

روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أستغفرك وأتوب إليك ـ إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك ـ رواه الترمذيّ وصححه ، وكذا الحاكم.

وأخرجه أبو داود والنسائيّ والحاكم عن أبي برزة الأسلميّ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بأخرة ، إذا أراد أن يقوم من المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل : يا رسول الله! إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟! قال : كفارة لما يكون في المجلس!

وقد أفرد الحافظ ابن كثير لهذا الحديث جزءا على حدة ، ذكر فيه طرقه وألفاظه ، وعلّله ، فرحمه‌الله.

ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق بالمواضع المذكورة كلها ، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها ، فإن السنة بيان للكتاب الكريم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل ، كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩].

وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث. وقد جمعت ذلك معرّى عن أسانيدها في كتابي (الأوراد المأثورة).

(وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي : وسبحه وقت إدبارها ، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق ، بانتشار ضوء الصبح ، وقد عنى ذلك إما فريضة الفجر أو نافلته ، أو ما يشملها. قال قتادة : كنا نحدّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر. وقد ثبت في الصحيحين (١)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التهجد ، ٢٧ ـ باب تعاهد ركعتي الفجر ، حديث ٦٣٨.

وأخرجه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ٩٤ و ٩٥.

٥٦

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء من النوافل ، أشدّ تعاهدا منه على ركعتي الفجر. وفي لفظ لمسلم (١) : ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها.

قال الزمخشريّ : وقرئ (وَإِدْبارَ) بالفتح ، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.

تنبيه :

قال في (الإكليل) عن الكرمانيّ : إن بعض الفقهاء استدل به على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل لأن النجوم لا إدبار لها ، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون. انتهى. وهو استدلال متين.

__________________

(١) أخرجه في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ٩٦.

٥٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم

مكية. وآيها ثنتان وستون آية.

روى البخاريّ (١) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة (وَالنَّجْمِ). قال : فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب ، فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف. ووقع في رواية غيره ، تسمية غير أمية ـ كما بسطه ابن حجر في (الفتح) ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢)

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أي إذا غرب وغاب عن الأبصار ، أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والخطاب لقريش. أي ما حاد عن الحق ، ولا زال عنه. (وَما غَوى) أي ما صار غويّا ، ولكنه على استقامة وسداد ورشد وهدى. وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغيّ. وذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان (صاحبهم) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم بمحاسن شؤونه المنيفة. فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرح باسمه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه. وفيه تعريض بهم أيضا (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه. وجملة (يوحى) صفة مؤكدة ل (وحي) رافعة لاحتمال المجاز ، مفيدة للاستمرار

__________________

(١) أخرجه البخاري ، في : التفسير ، سورة النجم ، ٤ ـ باب (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ، حديث ٥٨٨.

٥٨

التجددي. والضمير للقرآن ، لفهمه من السياق ، ولأن كلام المنكرين كان في شأنه. وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به مطلقا. واستدل على أن السنن القولية من الوحي ، وقوّاه بما في (مراسيل) أبي داود عن حسان بن عطية قال : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسنة ، كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها ، كما يعلمه القرآن ، واستدل أيضا على منع الاجتهاد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والصواب هو الأول. أعني : كون مرجع الضمير للقرآن ، لما ذكرنا ، فإنه ردّ لقولهم (افتراه) والقرينة من أكبر المخصصات. وجلىّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يقول بالرأى في أمور الحرب ، وأمور أخرى. فلا بد من التخصيص قطعا ، وبأنه لا قوة في المراسيل ، لما تقرر في الأصول. وبأن الآية لا تدل على منع الاجتهاد المذكور ، ولو أعيد الضمير لما ينطق مطلقا. لأن الله تعالى إذا سوغ له الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا ، لا نطقا عن الهوى. لأنه بمنزلة أن يقول الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (متى ما ظننت كذا فهو حكمي) أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي ، فيكون وحيا حقيقة ، لاندراجه تحت الإذن المذكور ، لأنه من أفراده. فما قيل عليه من أن الوحي الكلام الخفيّ المدرك بسرعة ، فلا يندرج فيه الحكم الاجتهاديّ إلا بعموم المجاز. مع أنه يأباه قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] ، غير وارد عليه ، بعد ما عرفت من تقريره ـ نقله في (العناية) عن (الكشف) ـ وتفصيل المسألة في مطولات الأصول.

القول في تأويل قوله تعالى :

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥)

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أي علم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملك شديد قواه ، يعني جبريل عليه‌السلام. كما قال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢٠] ، و (الْقُوى) جمع قوة ، بضم القاف. ومن العرب من يكسرها كالرّشا بكسر الراء في جمع رشوة بضمها والحبا في جمع حبوة ـ نقله ابن جرير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧)

(ذُو مِرَّةٍ) بكسر الميم. أي متابة وإحكام في علمه ، لا يمكن تغيّره ونسيانه. والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي (ذُو مِرَّةٍ) من (أمررت الحبل) إذا أحكمت فتله (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) قال الزمخشريّ : فاستقام على صورة نفسه الحقيقة ، دون الصورة التي كان يتمثل بها ، كلما هبط بالوحي. وكان ينزل في صورة دحية.

٥٩

فالفاء ـ كما قال شراحه ـ سببية ، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق. أو عاطفة على (عَلَّمَهُ) أي علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية.

وقيل : (استوى) بمعنى (استولى) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور ـ حكاه القاضي ـ.

قال الشهاب : الأفق الناحية ، وجمعه آفاق. والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، لا مصطلح أهل الهيئة. انتهى.

وقال ابن كثير : وقوله تعالى : (فَاسْتَوى) يعني جبريل عليه‌السلام ـ قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد.

ثم قال ابن كثير : وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد. وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بالأفق الأعلى ، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى ، وذلك ليلة الإسراء ـ كذا قال ـ ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال : وهو كقوله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) [النمل : ٦٧] ، فعطف بالآباء على المكنيّ في (كُنَّا) من غير إظهار (نحن) فكذلك قوله : (فَاسْتَوى وَهُوَ). قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :

ألم تر أن النّبع يصلب عوده

ولا يستوي والخروع المتقصّف

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه‌السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح. ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ، بعد ما جاءه جبريل عليه‌السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقرأ) ثم فترة الوحي فترة ذهب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما همّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : يا محمد! أنت رسول الله حقّا ، وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه. وكلما طال عليه الأمر ، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، قد سدّ عظم خلقه الأفق ، فاقترب

٦٠