تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وفي هذه الأقسام كلها ـ كما قاله الإمام ـ إشارة إلى تعظيم أمر الضياء وإعظام قدر النعمة فيه ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى ونعمه العظمى وفي قوله : (إِذا جَلَّاها) بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الحكمة الباهرة والآية الظاهرة. وهي حالة الصحو. أما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس ، فحاله أشبه بحال الليل الذي يقسم به في قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يغشى الشمس ويعرض دون ضوئها فيحجبه عن الأبصار. وذلك في ليالي الظلمة الحالكة المشار إليها بقوله في الآية المتقدمة : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر : ٢] ، على القول الأخير. قال الإمام : ولقلة أوقات الظلمة ، عبر في جانبها بالمضارع لا مفيد للحاق الشيء وعروضه متأخرا عما هو أصل في نفسه. أما النهار فإنه يجلي الشمس دائما من أوله إلى آخره. وذلك شأن له في ذاته. ولا ينفك عنه إلا لعارض كالغيم أو الكسوف قليل العروض .. ولهذا عبر في جانبه بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله ، بدون إفادة أنه مما ينفك عنه.

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي ومن رفعها ، وصيّرها بما فيها من الكواكب ، كالسقف أو القبة المحكمة الزينة المحيطة بنا. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية. أي والقادر الذي أبدع خلقها.

قالوا : وذكر (ما بَناها) مع أن في ذكر (السَّماءِ) غنية عنه ، للدلالة على إيجادها وموجدها صراحة (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي بسطها. من كل جانب ، لافتراشها وازدراعها والضرب في أكنافها.

قال الإمام : وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية ، كما يزعم بعض الجاهلين. أي بتحريفه الكلم عن معناه المراد منه (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي خلقها فعدل خلقها ومزاجها ، وأعدها لقبول الكمال : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي أفهمها إياهما ، وأشعرها بهما ، بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما ، وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.

لطيفة :

جوز في (ما) كونها مصدرية في الكل ، ولا يضره خلو الأفعال من فاعل ظاهر ومضمر إذا لا مرجع له. وعطف الفعل على الاسم لأنه يكفي لصحة الإضمار دلالة السياق. وهي موجودة هنا. وأن العطف على صلة (ما) لا عليها مع صلتها. فكأنه قيل : ونفس وتسويتها ، فإلهامها إلخ. وعطف الفعل على الاسم ليس بفاسد. نعم في الوجه الأول توافق القرائن وهو أسدّ. وأما الثاني فوجه يتسع النظم الكريم له. وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم.

٤٨١

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) (١٢)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام. أو نمّاها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي أخملها ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. هذا ما قاله ابن جرير : وقال غيره : أي نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خلقت عليها بالجهالة والفسوق. وهو مأخوذ من (دس الشيء في التراب) أي أدخله فيه وأخفاه. وأصل (دسّى) دسّس. كتقضّى البازي. وجملة (قَدْ أَفْلَحَ) إلخ جواب القسم وحذف اللام للطول.

قال القاضي : وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه ، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم الإله ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية.

وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره : ليدمدمنّ الله عليهم. أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود ، لأنهم كذبوا صالحا عليه‌السلام. وقد دل عليه قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي بسبب طغيانها ومجاوزتها الحدّ في الفجور. ف (الطغوى) مصدر. وجوز أن يراد به العذاب نفسه ، على حذف مضاف أو بدونه مبالغة كما يوصف بغيره من المصادر. أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى ، كقوله : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) فالطغوى على هذا من التجاوز عن الحدّ والزيادة من العذاب. والباء صلة (كذبت) وقوله تعالى : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) ظرف ل (كذبت) أو (طغوى) أي حين قام أشقى ثمود لعقر ناقة صالح عليه‌السلام. وكانوا نهوا عن مسّها بسوء ، وأنذروا عاقبة المخالفة ، كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها) (١٥)

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا عليه‌السلام لقومه ـ (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها)

٤٨٢

أي احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينة وشربها ، الذي اختصه الله به في يومها. وكان عليه‌السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر ، غير يوم الناقة. كما بينته آية الشعراء قال : (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٥٥ ـ ١٥٦] ، أي لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها (فَكَذَّبُوهُ) أي فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا (فَعَقَرُوها) أي قتلوها.

قال في النهاية : أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. ثم اتسع حتى استعمل في القتل والهلاك. وذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب ورضوا بقتلها. وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها وعقرها من عقرها. ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي أهلكهم وأزعجهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته ، استهانة به واستخفافا بما بعث به. وقيل : دمدم أطبق عليهم العذاب. وقيل : الدمدمة حكاية صوت الهدة (فَسَوَّاها) أي فسوى الدمدمة عليهم جميعا ، فلم يفلت منهم أحد. بمعنى جعلها سواء بينهم أو الضمير لثمود. أي جعلها عليهم سواء (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب.

قال الشهاب : أي لا يخاف عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما تفعله. فهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله. فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر. ويجوز عوده للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وهو على الحقيقة ، كما إذا قيل : الضمير للأشقى أي أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. والواو الحال أو الاستئناف.

تنبيه :

قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) : المقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلالة والكفر عن علم ويقين. ولهذا ، والله أعلم ، ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة المهتدية وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين : القدر والشرع. فقال : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] ، فهذا قدره وقضاؤه ثم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩] ، فهذا أمره ودينه. وثمود ، هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. فذكر قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى. والتدسية على التزكية. والله أعلم.

٤٨٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الليل

مكية ، وآيها إحدى وعشرون. وقد تقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ (١) : هلّا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي يغشى الشمس أو النهار بظلمته ، فيذهب بذاك الضياء (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي ظهر بزوال الليل أو تبين بطلوع الشمس.

قال الإمام : والتعبير في الغشيان بالمضارع ، لما سبق من عروض الظلمة لأصل النور الذي هو أكمل مظاهر الوجود ، حتى عبر به عن الوجود نفسه. أما تجلي النهار فهو لازم له. لهذا عبر عنه بالماضي كما سبق بيانه (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي والقادر الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. ف (ما) موصولة بمعنى (من) أوثرت لإرادة الوصفية ، كما تقدم.

قال الإمام : وإنما أقسم بذاته بهذا العنوان ، لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة وما فيها ، والإشارة إلى الإبداع في الصنع. إذ لا يعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى ، في الحيوان ، يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، كما يزعم بعض الجاحدين. فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية النسبة إلى كون الذكر أو كون الأنثى. فتكوين الولد من عناصر واحدة تارة ذكرا وتارة أنثى ، دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، محكم فيما يضع ويصنع. انتهى.

__________________

(١) أخرجه النسائي في : الافتتاح ، ٦٣ ـ باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

٤٨٤

وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) جواب القسم. أو هو مقدر ، كما مر تفصيله. أي مختلف في جزائه. ومفرّق في عاقبته. فمنه ما يسعد به الساعي ومنه ما يشقى به ، فشتان ما بينهما ، كما فصله بعد. و (شتى) إما جمع شتيت أو شت ، بمعنى متفرق ، والمصدر المضاف يفيد العموم. فيكون جمعا معنى. ولذا أخبر عنه ب (شتى) وهو جمع. وفيه وجه آخر وهو أنه مفرد مصدر مؤنث. كذكرى وبشرى. فهو بتقدير مضاف ، أو مؤول ، أو بجعله عين الافتراق ، مبالغة.

قال الرازيّ : ويقرب من هذه الآية قوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] ، وقوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] ، وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١]. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١)

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) تفصيل لتلك المساعي الشتى ، وتبيين لمآلها ما تقدم.

قال الرازيّ : وفي (أَعْطى) وجهان :

أحدهما ـ أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب ، وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوّهم. كما كان يفعله أبو بكر ، سواء كان ذلك واجبا أو نفلا وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] ، فإن المراد منه كل ما كان إنفاقا في سبيل الله ، سواء كان واجبا أو نفلا وقد مدح الله قوما فقال : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان : ٨] ، وقال في آخر هذه السورة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل : ١٧ ـ ١٨] الآية.

وثانيهما ـ أن قوله (أَعْطى) يتناول إعطاء حقوق المال ، وإعطاء حقوق الناس في طاعة الله تعالى. يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة. انتهى.

إلا أن الأول هو المناسب للإعطاء. لأن المعروف فيه تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال (وَاتَّقى) أي ربه فاجتنب محارمه (وَصَدَّقَ

٤٨٥

بِالْحُسْنى) أي بالمثوبة الحسنى. قال قتادة : أي صدق بموعود الله الحسن. وهو بمعنى قول مجاهد ، إنها الجنة كما قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) [الشورى : ٢٣] ، فسمى مضاعفة الأجر (حسنى) وقال القاشاني : أي صدق بالفضيلة الحسنى التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلميّ ، إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى ، التي هي السلوك في طريق الحق ، لقوة يقينه.

قال الشهاب : ولما كانت مؤدية إلى اليسر ، وهو الأمر السهل الذي يستريح به الناس وصفت بأنها يسرى ، على أنه استعارة مصرحة أو مجاز مرسل أو تجوّز في الإسناد.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) أي بالنفقة في سبيل الله ، ومنع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها (وَاسْتَغْنى) أي عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل له بطاعته بالزيادة فيما خوّله ، أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة ، وعمه به عن الحق (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي بوجود المثوبة للحسنى ، لمن آمن بالحق ، لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم الآخرة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبديّ.

قال الإمام : الخطة العسرى هي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه ، ويغض من حقها وينزل بها إلى حضيض البهيمية ، ويغمسها في أو حال الخطيئة. وهي أعسر الخطتين على الإنسان ، لأنه لا يجد معينا عليها ؛ لا من فطرته ولا من الناس (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله ، وأفنى عمره في حفظه وبطر الحق لأجله ، إذا هلك ، من قولهم : (تردى من الجبل وفي الهوة) وفي التعبير به إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة ، هو المهلك والموقع لنفسه. وهو الحافر على حتفه بظلفه و (ما) نافية أو استفهام في معنى الإنكار. وقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١)

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) استئناف مقرر لما قبله. أي علينا بموجب قضائنا المبنيّ على الحكم البالغة ، حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض ، أن نبين لهم طريق

٤٨٦

الهدى ليجتنبوا مواقع الردى. وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والتمكين من الاستدلال والاستبصار ، بخلق العقل وهبة الاختيار.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي ملكا وخلقا. فلا يضرنا توليكم عن الهدى. وذلك لغناه تعالى المطلق ، وتفرده بملك ما في الدارين ، وكونه في قبضة تصرفه. لا يحول بينه وبينه أحد ، ولا يحصله أحد ، حتى يضر عدم اهتدائه أو ينفع اهتداؤه. وفيه إشارة إلى تناهي عظمته وتكامل قهره وجبروته. وإن من كان كذلك ، فجدير أن يبادر لطاعته ويحذر من معصيته. ولذا رتب عليه قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي تتلظى وتتوهج. وهي نار الآخرة (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ) أي بالحق الذي جاءه (وَتَوَلَّى) أي عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وبهر نورها ، عنادا وكفرا (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي ينفق ماله في سبيل الخير ، يتزكى عن رجس البخل ودنس الإمساك (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي من يد يكافئه عليها. أي لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي لكن يؤتيه ابتغاء وجه ربه وطلب مرضاته. لا لغرض آخر من مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي حصر (الأتقى) بالمنفق ، على الشريطة المذكورة ، عناية عظيمة به ، وترغيب شديد في اللحاق به ، كيف لا؟ وبالمال قوام الأعمال ، ورفع مباني الرشاد وهدم صروح الفساد. وقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) قال ابن جرير : أي ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عزوجل ، يتزكى بما يثيبه الله في الآخرة عوضا مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. ففيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها ، إذ به يتحقق الرضا. وهذا على ، إن ضمير (يرضى) ل (الأتقى) لا للرب. قال الشهاب : وهو الأنسب بالسياق واتساق الضمائر.

وذهب بعضهم إلى الثاني ، ومنهم الإمام ، قال : أي ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب بصفة رضاه (ثم قال) : والتعبير ب (سوف) لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير ، ولا يكفي القليل من المال ، لأن يبلغ العبد درجة الرضا الإلهيّ.

تنبيه :

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها. فإن اللفظ لفظ العموم وهو قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) ولكنه مقدم

٤٨٧

الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة. فإنه كان صدّيقا تقيّا كريما جوادا بذّالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم. ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها. ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل. ولهذا قال له عروة بن مسعود ، وهو سيد ثقيف ، يوم صلح الحديبية : أما والله! لو لا يد لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك. وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل. فكيف بمن عداهم؟ وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير. فقال أبو بكر : يا رسول الله! ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم. انتهى.

٤٨٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الضّحى

مكية وآيها إحدى عشرة.

لطيفة :

قال ابن كثير : روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد. فلما بلغت (وَالضُّحى) قال لي : كبّر حتى تختم مع خاتمة كل سورة. فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك. وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك. وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب فأمره بذلك ، وأخبره أبيّ أنه قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي ، من ولد القاسم بن أبي بزة. وكان إماما في القراءات. وأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازيّ وقال : لا أحدث عنه. وكذلك أبو جعفر العقيليّ ، قال : هو منكر الحديث. لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (شرح الشاطبية) عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة ، فقال : أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته. فقال بعضهم : يكبر من آخر (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى). وقال آخرون : من آخر (وَالضُّحى) وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول (الله أكبر) ويقتصر ، ومنهم من يقول (الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر) وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى ، أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتر تلك المدة ، ثم جاء الملك فأوحى إليه (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) السورة بتمامها ، كبر فرحا وسرورا ، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف. فالله أعلم.

٤٨٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٥)

(وَالضُّحى) تقدم في سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) تفسير الضحى بالضوء وارتفاع النهار ارتفاعا عاليا (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي اشتد ظلامه. وأصله من التسجية وهي التغطية ، لستره بظلمته. كما في آية (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) [النبأ : ١٠] ، (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) جواب القسم. أي : ما تركك وما قطعك قطع المودّع.

قال الشهاب في (العناية) : فالتوديع مستعار استعارة تبعية للترك هنا. وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى. فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعزّ مفارقته. كما قال المتنبي :

حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا

فلم أدر أيّ الظاعنين أشيّع

وقال في (شرح الشفاء) : الوداع له معنيان في اللغة : الترك وتشييع المسافر. فإن فسر بالثاني هنا على طريق الاستعارة ، يكون فيه إيماء إلى أن الله لم يتركه أصلا. فإنه معه أينما كان. وإنما الترك ، لو تصور في جانبه ، ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع. فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده. وإليه أشار الأرجاني بقوله :

إذا رأيت الوداع فاصبر

ولا يهمنّك البعاد

وانتظر العود عن قريب

فإن قلب الوداع (عادوا)

فقوله (وَما قَلى) مؤكد له. (قال) : وهذا ، لم أر من ذكره مع غاية لطفه. وكلهم فسروه بالمعنى الأول. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه. فيقتضي الانقطاع التام ، قالوا : إن المبالغة في النفي لا في المنفيّ فتركه لحكم عليه ، لا لضرره بهجره. أو لنفي القيد والمقيد. وقرئ (ما وَدَّعَكَ) بالتخفيف. وورد

٤٩٠

في الحديث (١) شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه. وورد في الشعر ، كقوله :

فكان ما قدّموا لأنفسهم

أعظم نفعا من الذي ودعوا

ولهذا قال في (المصباح) بهذا : اعلم أن قولهم ، في علم التصريف ، أماتوا ماضي يدع ويذر خطأ. وجعله استعارة من الوديعة تعسّف. انتهى

وكذا قال في (المستوفى) : أنه كله ورد في كلام العرب ، ولا عبرة بكلام النحاة فيه ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وإن كان نادر. انتهى

وقوله تعالى : (وَما قَلى) أي : وما أبغضك. والقالي : المبغض. يعني ما هجرك عن بغض.

قال الشهاب : وحذف مفعول (قلى) اختصارا للعلم به ، وليجري على نهج الفواصل التي بعده ، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض.

تنبيه :

روى ابن جرير : عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياما ، فعيّر بذلك. فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه. فأنزل الله هذه الآية ، وفي رواية : إن قائل ذلك امرأة أبي لهب ، وفي أخرى أنها خديجة رضي الله عنها. ولا تنافي ، لاحتمال صدوره من الجميع. إلا أن قول المشركين وقول خديجة ـ إن صح ـ توجع وتحزن ـ وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال : فتر الوحي حتى شق ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحزنه. فقال : لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني. فجاء جبريل بسورة والضحى (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) قال ابن جرير : أي وللدار الآخرة ، وما أعد الله لك فيها ، خير لك من الدار الدنيا وما فيها. يقول : فلا تحزن على ما فاتك منها ، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي : أو : لنهاية أمرك خير من بدايته. فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى ، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين ، وظهور الأمر وإعلاء الدين ، بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام ، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من ملوك الإسلام ، وفشوّ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، ولما

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأدب ، ٤٨ ـ باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب ، حديث رقم ٢٣٣٠ ، عن عائشة.

٤٩١

ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وبالجملة ، فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة وشتات الإنعام في الدارين ، حيث أجمله ووكله إلى رضاه وهذا غاية الإحسان والإكرام.

تنبيه :

قال في (المواهب اللدنية) : وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى واحدا من أمته في النار ، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار ، فهو من غرور الشيطان لهم ، ولعبه بهم. فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى ، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة. وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة تغريرا للجهال وتزيينا لموارد الضلال. ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) قال أبو السعود : تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت ، من فنون النعماء العظام ، ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود. فيطمئن قلبه وينشرح صدره ، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه. كأنه قيل : قد وجدك إلخ. والوجود بمعنى العلم.

روي أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر. وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب وعطّفه الله عليه فأحسن تربيته ، وذلك إيواؤه (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان ، فهداك إليه وجعلك إماما له ، كما في آية (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

قال الشهاب : فالضلال مستعار من (ضل في طريقه) إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة ، من طريق الاكتساب (وَوَجَدَكَ عائِلاً) أي فقيرا (فَأَغْنى) أي فأغناك بمال خديجة الذي وهبته إياه. أو بما حصل لك من ربح التجارة (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله فتذهب بحقه ، استعطافا منك له (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) قال ابن جرير : أي وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره ، ولكن أطعمه واقض له حاجته. أي لأن للسائل حقا ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ فِي

٤٩٢

أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [المعارج : ٢٤ ـ ٢٥].

وقد ذهب الحسن ـ فيما نقله الرازيّ ـ إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم. فيكون في مقابلة قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) وهكذا قال ابن كثير : أي وكما كنت ضالا فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. قال الإمام : ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم. فمنهم أهل الكتاب الممارون. ومنهم الأعراب الجفاة. ومنه من كان يسأل عما لا يسأل عنه الأنبياء. فلا غرو أن يأمره الله بالرفق بهم ، وينهاه عن نهرهم ، كما عاتبه على التولّي عن الأعمى السائل ، في سورة عبس. انتهى.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي بشكرها وإظهار آثارها ، فيرغب فيما لديه منها ، ويحرص على أن تصدر المحاويج عنها. وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم. وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها ، حرصا على التفضل والجود والتخلق بالكرم ، وفرارا من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى.

قال الإمام : عن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة في قبض أيديهم عن البذل. فلا تجدهم إلا شاكين من القل. أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه. فلهذا صح أن يجعل التحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين. فهذا هو قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي إنك لما عرفت بنفسك ما يكون فيه الفقير ، فأوسع في البذل على الفقراء. وليس القصد هو مجرد ذكر الثروة ، فإن هذا من الفجفجة التي يتنزه عنها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولم يعرف عنه في امتثال هذا الأمر أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض. ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاويا. وقد يقال : إن المراد من النعمة النبوة. ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً) فتكون النعمة بمعنى الغنى. ولو كانت بمعنى النبوة ، لكانت مقابلة لقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) وقد علمت الحق في مقابله. والله أعلم.

٤٩٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الشرح

مكية. وقيل : مدنية ، وهو الأقوى عندي. فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها ، إنما كان بالمدينة المنورة ، كما لا يخفى. وآيها ثمان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (٤)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي : ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه ، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام ، وتأييده وعصمته ، حتى علم ما لم يعلم وصار مستقرّ الحكمة ووعاء حقائق الأنباء ، والهمزة لإنكار النفي. ونفي النفي إثبات. ولذا عطف المثبت عليه. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه ، مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه ، وما خفي منه. استعمل في القلب الشرح والسعة ، لأنه محل الإدراك لما يسرّ وضده. فجعل إدراكه لما فيه مسرة يزيل ما يحزنه ، شرحا وتوسيعا. وذلك لأنه بالإلهام ونحوه ، مما ينفس كربه ويزيل همه ، بظهور ما كان غائبا عنه وخفيّا عليه ، مما فيه مسرته. كما يقال (شرح الكتاب) إذا وضحه. ثم استعمل في الصدر الذي هو محل القلب مبالغة فيه. لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه. ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطا. ثم سموا ضده ضيقا وقبضا. وهو من المجاز المتفرع على الكناية بوسائط ، وبعد الشيوع زال الخفاء وارتفعت الوسائط ـ هذا ما حققه الشهاب. (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) قال الشهاب : الوزر الحمل الثقيل. ووضعه : إزالته عنه. لأنه إذا تعدى ب (على) كان بمعنى التحميل. وإذا تعدى ب (من) كان بمعنى الإزالة. والإنقاض : حصول النقيض وهو صوت فقرات الظهر. وقيل : صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه. فالإنقاض ، التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض ، أي صوت ، كما قاله الأزهريّ.

٤٩٤

وقال ابن عرفة : هو إثقال يجعل ما حمل عليه نقضا. أي مهزولا ضعيفا. وقد مثل بذلك حاله صلوات الله عليه ، مما كان يثقل عليه ويغمه من قلة المستجيبين لدعوته ، وضعف من سبق إلى الإيمان به ، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب ، وقوة أهلها. ووضعه عنه هو كثرة من آمن بعد ، ودخولهم في دين الله أفواجا ، وقوة أتباعه وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة ، وذل أهلها بعد العز ، وانقيادهم بعد شدة الإباء. وقيل : الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢].

والوجه الأول أقوى ، وفي الآية ، على كلّ ، استعارة تمثيلية. والوضع ترشيح لها (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي بالنبوة وفرض الاعتراف برسالته وجعله شرطا في قبول الإيمان وصحته. وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة. فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله.

وعن مجاهد : أي لا أذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب وهذا ـ أي المأثور عن مجاهد ـ إن أخذ كلية خالف الواقع. فإنه كم ذكر الله وحده! وكم ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده! وإن عين موضعا فهو ترجيح بلا مرجح. وإن جعلت القضية مهملة ، فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة.

قال : وقد أمعنت فيه النظر فلم أر ما يثلج الصدر ، ويردّ السائل غير صفر ، حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال : الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها. فإن ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقرون بذكره فيها في الواقع في الصلوات والخطب. فلا ترى مشهدا من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك. فلا ينفك ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام ، ولا ليلة من الليالي بل ولا في وقت من الأوقات المعتدّ بها ، فتتجه الكلية. فإن قلت : من أين لك هذا التقييد ، فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت : المقام ناطق بهذا القيد. فإن المراد التنويه بذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشاعة قدره ، الدال على قربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه ، كقرب اسمه من اسمه ، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد. وأي إشاعة أقوى من الآذان؟ لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر.

ثم قال : واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعيّ في أول (رسالته الجديدة) وبينه السبكيّ في تعليقة على الرسالة فقال رحمه‌الله تعالى :

قال الإمام رضي الله تعالى عنه عن مجاهد في تفسير الآية : لا أذكر إلا ذكرت معي : أشهد أن لا إله إلا الله. وأشهد أن محمدا رسول الله. قال الشافعيّ : يعني

٤٩٥

ذكره عند الإيمان بالله والأذان ، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية.

قال السبكيّ : هذا الاحتمال من الشافعيّ جيد جدّا. وهو مبني على أن المراد بالذكر ، الذكر بالقلب ، وهو صحيح. فعلى هذا يعم. لأن الفاعل للطاعة أو الكافّ عن المعصية امتثالا لأمر الله تعالى به ، ذاكرا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلبه ، لأنه المبلغ لها ، عن الله. وهذا أعم من الذكر باللسان ، فإنه مقصور على الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحوها. قال الشافعيّ : فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت ، نلنا بها حظا في دين أو دنيا. أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما ، إلا ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره ، حمل الذكر على الذكر القلبيّ فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة ، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله ، تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته ، وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قيل :

فأنت باب الله أيّ امرئ

أتاه من غيرك لا يدخل؟

ولك أن تقول : المراد برفع ذكره تشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمقارنته لذكره في شعائر الدين الظاهرة ، وأولها كلمتا الشهادة ، وهما أساس الدين ثم الأذان والصلاة والخطب. فالحصر إضافيّ. انتهى كلام الشهاب. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إشارة إلى أن الذي منحه ، صلوات الله عليه ، من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر ، بعد ضيق الأمر واستحكام حلقات الكرب في أول السير ، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة. وهو أن مع العسر يسرا. ولهذا وصل العبارة بالفاء التي لبيان السبب. (وأل) في (العسر) للاستغراق ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده أو أنواعه. فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف وجهل الصديق وقوة العدوّ ، وقلة الوسائل إلى المطلوب. ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت ، وكانت النفس حريصة على الخروج منها طالبة لكشف شدتها ، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعدّ لذلك في معروف العقل ، واعتصمت بعد ذلك بالتوكل على الله حتى لا تضعفها الخيبة لأول مرة ، ولا يفسخ عزيمتها ما تلاقيه عند الصدمة الأولى ، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة. وقد كان هذا حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك ، وهو

٤٩٦

الوحي والنبوة. ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئا من عزمه. بل ما زال يلتمس الغنى في الفقر ، والقوة في الضعف ، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصارا طوالا. أفاده الإمام رحمه‌الله.

لطيفة :

تنكير (يسرا) للتعظيم. والمراد يسر عظيم وهو يسر الدارين. وفي كلمة (مع) إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر ، كأنه مقارن للعسر. فهو استعارة ، شبه التقارب بالتقارن ، فاستعير لفظ (مع) لمعنى (بعد) وقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تكرير للتأكيد ، أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة. وعليه أثر : (١) (لن يغلب عسر يسرين) فإن المعرّف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول ، سواء كان معهودا أو جنسا. وأما المنكّر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول (فَإِذا فَرَغْتَ) أي من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك (فَانْصَبْ) أي خذ في عمل آخر واتعب فيه. فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل ، قاله الإمام (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي في الدعوة إليه. أي لا ترغب إلا إلى ذاته ، دون ثواب أو غرض آخر ، لتكون دعوتك وهدايتك إليه ، قال القاشانيّ.

وقال ابن جرير : اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه. إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الآلهة والأنداد ، والأظهر عندي ، اعتمادا على ما صححناه من أن الآية مدنية وأنها من أواخر ما نزل ـ أن يكون معنى قوله تعالى (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فرغت من مقارعة المشركين ، وظفرت بأمنيتك منهم ، بمجيء نصر الله والفتح ، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار ، شكرا لله على ما أنعم ، وأرغب إليه خاصة ابتغاء لمرضاته. فتكون الآيتان بمعنى سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ثم رأيت ابن جرير نقل مثله عن ابن زيد عن أبيه قال : فإذا فرغت من الجهاد ، جهاد العرب وانقطع جهادهم ، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب. وهو ظاهر. نعم لفظ الآية عام فيما أثرناه جميعه. إلا أن السياق والنظائر ـ وهو أهم ما يرجع إليه ـ يؤيد ما قاله ابن زيد واعتمدناه. والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في : الجهاد ، حديث ٦ ، ونصه : عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم. فكتب إليه عمر بن الخطاب : أما بعد فإنه مهما ينزل بعيد مؤمن من منزل شدة ، يجعل الله بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ... إلخ.

٤٩٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة التّين

مكية ، ويقال : مدنية. وأيد الأول بقوله : (وَهذَا الْبَلَدِ) وآيها ثمان. روي عن البراء بن عازب (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون. فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه. أخرجه الجماعة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (٣)

اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين مكة المشرفة ، الآمن أهلها أن يحاربوا كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ، وأما المقسمات بها قبل ، ففيها أقوال للسلف لاحتمال موادها لكل منها. فعن مجاهد والحسن وغيرهما أن (التِّينِ) الذي يؤكل و (الزَّيْتُونِ) الذي يعصر. قالوا : وخصهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة (التين) الجبل الذي عليه دمشق و (الزيتون) الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد : (التين) مسجد دمشق و (الزيتون) بيت المقدس. فطهر أنهما الشجران المعلومان أو جبلان أو مسجدان. وصوب ابن جرير الأول منها ، وعبارته : والصواب من القول في ذلك عندنا ، قول من قال (التِّينِ) هو التين الذي يؤكل و (الزَّيْتُونِ) هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت. لأن ذلك هو المعروف عند العرب. ولا يعرف جبل يسمى تينا ولا جبل يقال له زيتون ، إلا أن يقول قائل : أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون ، والمراد من الكلام ، القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون ، فيكون ذلك مذهبا وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك ، دلالة في ظاهر التنزيل

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التوحيد ، ٥٢ ـ باب قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة ، وزينوا القرآن بأصواتكم» ، حديث رقم ٤٦٧.

٤٩٨

ولا من قول من لا يجوّز خلافه ، لأن دمشق بها منابت التين ، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه. وفيه نظر ، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. كيف وجبل الزيتون هو من جبال فلسطين ، معروف ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين في تقويم البلاد.

قال صاحب (الذخيرة) في تعداد جبال فلسطين : ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون. قال : وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه ، وهو قريب المسافة من أورشليم ، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء. انتهى.

ويسمى أيضا طور زيتا إلى الآن. على أن فيما صوبه ابن جرير ، تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد ـ غير مفهومة. كما قاله الإمام. فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معظم ، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.

قال ابن كثير : وقال بعض الأئمة : هذه محال ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيّا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول محل التين والزيتون وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما‌السلام.

والثاني : طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.

والثالث : مكة وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا ، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء : يعني الذي كلم الله عليه موسى. وأشرق من ساعير : يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله عنه عيسى. واستعلن من جبال فاران : يعني جبل مكة التي أرسل الله منها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجوديّ بحسب ترتيبهم في الزمان. ولهذا أقسم بالأشرف ، ثم الأشرف منه ، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير.

ومراده ببعض الأئمة ، شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان. فإنه ذكر ذلك في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) ونحن ننقلها زيادة في إيضاح المقام ، واهتماما بتحقيقه. قال رحمه‌الله (فصل شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية : جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول في الترجمة : تجلى الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء (واللفظ لأبي محمد بن قتيبة) : ليس بهذا خفاء على من تدبره. ولا غموض. لأن مجيء الله من طور سيناء ، إنزاله التوراة

٤٩٩

على موسى بطور سيناء. كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا. وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير ، إنزاله على المسيح الإنجيل. وكان المسيح من ساعير أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جبال فاران. وهي جبال مكة.

قال : وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. فإن ادعوا أنها غير مكة ـ وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم ـ قلنا أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران ، والنبيّ الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح. أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد وهما : ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوّه؟؟.

وقال أبو هاشم بن طفر : ساعير جبل بالشام ، منه ظهرت نبوة المسيح عليه‌السلام. قلت : وبجانب بيت لحم ـ القرية التي ولد فيها المسيح ـ قرية تسمى إلى اليوم ساعير. ولها جبال تسمى جبال ساعير ، وعلى هذا فيكون ذكر الثلاثة الجبال : جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه ، وفيه كان أول نزول الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحوله من الجبال جبال كثيرة. وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم. وفيه كان ابتداء نزول القرآن. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران. ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح ، نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ، ولا بعث نبيّ. فعلم أن ليس المراد باستعلانه من جبال فاران ، إلا إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزمانيّ فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن. وهذه الكتب نور الله وهداه.

وقال في الأول : جاء أو ظهر. وفي الثاني : أشرق. وفي الثالث : استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك. ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى. وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء. ولهذا قال : واستعلن من جبال فاران. فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر به نور الله وهداه في شرق الأرض وغربها ، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين ، كما يظهر نور الشمس إذا استعلنت في مشارق الأرض ومغاربها. ولهذا سماه الله سراجا منيرا. وسمى الشمس سراجا وهاجا. والخلق محتاجون إلى السراج المنير ، أعظم من حاجتهم إلى السراج

٥٠٠