تفسير القاسمي - ج ٢

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٢

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْق صاصُ فِي الْقَتْلى) هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدميّ معيّن ، وهي النفوس. و (كُتِبَ) بمعنى فرض وأوجب.

قال الراغب : الكتابة يعبر بها عن الإيجاب. وأصل ذلك أنّ الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب. فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ ، بالكتابة التي هي المنتهى.

(الْحُرُّ) يقتل (بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) من القاتلين (مِنْ أَخِيهِ) أي دم أخيه المقتول (شَيْءٌ) بأن ترك وليّه القود منه ، ونزل عن طلب الدم إلى الدية. وفي ذكر الأخوة : تعطف داع إلى العفو ، وإيذان بأنّ القتل لا يقطع أخوة الإيمان (فَاتِّباعٌ) أي : فعلى العافي اتباع للقاتل (بِالْمَعْرُوفِ) بأن يطالبه بالدية بلا عنف (وَ) على القاتل (أَداءٌ) للدّية (إِلَيْهِ) أي : العافي وهو الوارث (بِإِحْسانٍ) بلا مطل ولا بخس (ذلِكَ) أي : ما ذكر من الحكم وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تَخْفِيفٌ) تسهيل (مِنْ رَبِّكُمْ) عليكم (وَرَحْمَةٌ) بكم حيث وسّع في ذلك ولم يحتم واحدا منهما (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية (فَلَهُ) باعتدائه (عَذابٌ أَلِيمٌ) أمّا في الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حقّ ، وأمّا في الآخرة فبالنار.

تنبيهات :

الأول : قال الراغب : إن قيل : على من يتوجه هذا الوجوب في قوله تعالى : كتب عليكم؟ أجيب : على الناس كافة. فمنهم من يلزمه استقادته ـ وهو الإمام ـ إذا طلبه الوليّ. ومنهم من يلزمه تسليم النفس وهو القاتل. ومنهم من يلزمه المعاونة

٣

والرضا به. ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى بل يقتص أو يأخذ الدية. والقصد بالآية : منع التعدّي الجاهليّ.

الثاني : القصاص مصدر قاصّه ، المزيد. وأصل القصّ : قطع الشيء على سبيل الاجتذاذ ، ومنه : قصّ شعره ؛ وقصّ الحديث : اقتطع كلاما حادثا جدا وغيره ، والقصة اسم منه. وحقيقة القصاص : أن يفعل بالقاتل والجارح مثل ما فعلا. أفاده الراغب.

الثالث : ذكر تقيّ الدين ابن تيمية في (السياسة الشرعية) جملة من أحكام القتل نأثرها عنه. قال رحمه‌الله :

القتل ثلاثة أنواع :

أحدها العمد المحض : وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا. سواء كان يقتل بحدّه كالسيف ونحوه. أو بثقله ، كالسندان وكودس القصار. أو بغير ذلك : كالتحريق ، والتغريق ، وإلقاء من مكان شاهق ، والخنق ، وإمساك الخصيتين حتى يخرج الروح ، وغم الوجه حتى يموت ، وسقي السموم ... ونحو ذلك من الأفعال. فهذا إذا فعله وجب فيه القود. وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل. فإن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عفوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ؛ وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله. قال الله تعالى : ... (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣٣]. وقيل في التفسير : لا يقتل غير قاتله. وعن أبي شريح الخزاعيّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : من أصيب بدم أو خبل ـ والخبل الجرح ـ فهو بالخيار بين إحدى ثلاث. فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه : أن يقتل ، أو يعفو ، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئا من ذلك فعاد ، فإن له نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا. فمن قتل بعد العفو وأخذ الدية فهو أعظم جرما ممّن قتل ابتداء. حتى قال بعض العلماء : إنه يجب قتله حدّا ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول. فإنّ الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ : فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). قال العلماء : إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ ، حتى يؤثروا أن يقتلوا

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : الديات ، ٣ ـ باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، حديث ٢٦٢٣.

٤

القاتل وأولياءه. وربما لم يرضوا بقتل القاتل ، بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل. ـ كسيّد القبيلة ومقدّم الطائفة ـ. فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء ، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء. كما كان يفعله أهل الجاهلية ، وكما يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما ، أشرف من المقتول. فيفضي ذلك إلى أنّ أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل. وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم. وهؤلاء ، قوما. فيفضي إلى الفتن والعداوة العظيمة. وسبب ذلك : خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى. فكتب الله علينا (القصاص) وهو المساواة والمعادلة في القتل. وأخبر أنّ فيه (حياة) فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضا إذا علم من يريد القتل : أنه يقتل ، كفّ عن القتل ...!

وقد روي عن عليّ بن أبي طالب (١) وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم. ألا لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ..! رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن. فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم ـ أي تتساوى أو تتعادل ـ فلا يفضل عربي على عجميّ ولا قرشيّ أو هاشميّ على غيره من المسلمين. ولا حرّ أصليّ على مولى عتيق. ولا عالم أو أمير على أميّ أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين. بخلاف ما عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود. فإنه كان يقرب مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنفان من اليهود : قريظة والنضير. وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء. فتحاكموا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك وفي حدّ الزاني. فإنهم كانوا قد غيّروه من الرجم إلى التحميم (٢) ، وقالوا : إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجّة

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الديات ، ١١ ـ باب إيقاد المسلم بالكافر؟ ، حديث ٤٥٣٠ ونصه : عن قيس ابن عباد قال : انطلقت أنا والأشتر إلى عليّ عليه‌السلام. فقلنا : هل عهد إليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال : لا. إلا ما في كتابي هذا. قال فأخرج كتابا من جراب سيفه ، فإذا فيه «المؤمنون تكافؤ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم. ألا ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده. من أحدث حدثا فعلى نفسه. ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

(٢) أخرجه مسلم في : الحدود ، حديث ٢٨ ونصه : عن البراء بن عازب قال : مرّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهوديّ محمّما مجلودا. فدعاهم فقال : «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قالوا : نعم. ـ

٥

وإلّا أنتم فقد تركتم حكم التوراة. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ...) ـ إلى قوله ـ ... (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ...) [المائدة : ٤١ ـ ٤٢]. ـ إلى قوله ـ ... (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٤ ـ ٤٥] ...

فبين سبحانه أنّه سوى بين نفوسهم ، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى ، كما كانوا يفعلونه إلى قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ...) ـ إلى قوله ـ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة : ٤٨ ـ ٥٠].

فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء. خلاف ما عليه أهل الجاهلية. وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس ـ في البوادي والحواضر ـ إنما هي البغي وترك العدل. فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دما من الأخرى. أو مالا. أو يعلو عليها بالباطل ، فلا ينصفها. ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء ، والأموال ، وغيرها ... بالقسط الذي أمر الله به ، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية ..! وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل ، كما قال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ ، فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ، وَأَقْسِطُوا ، إِنَّ اللهَ يُحِبُ

__________________

ـ فدعا رجلا من علمائهم فقال «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟» قال : لا. ولو لا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. قلنا : إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع. فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرجم. فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ). إلى قوله : (إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ) [المائدة : ٤١]. يقول : ائتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥].

٦

الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات : ٩ ـ ١٠]. وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول ، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥]. قال أنس (١) : ما رأيت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلّا أمر فيه بالعفو ..! رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم في صحيحه (٢) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله. وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ ، هو في المسلم الحرّ مع المسلم الحرّ ، فأما الذّميّ ، فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم. كما أنّ المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار ـ رسولا أو تاجرا أو نحو ذلك ـ ليس بكفء له ، وفاقا. ومنهم من يقول : بل هو كفء له. وكذلك النزاع في قتل الحرّ بالعبد.

النوع الثاني : الخطأ الذي يشبه العمد : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : ألا إنّ قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلّظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها. سمّاه شبه العمد لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة ، لكنّه بفعل لا يقتل غالبا ، فقد تعمّد العدوان ولم يتعمد ما يقتل.

الثالث : الخطأ المحض وما يجري مجراه : مثل أن يكون يرمي صيدا أو هدفا فيصيب إنسانا بغير علمه ولا قصده ، فهذا ليس فيه قود ، وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم.

التنبيه الرابع : قال الراغب : إن قيل : لم قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل : فمن عفا له أخوه شيئا ..؟ قيل : العدول إلى ذلك للطيفة. وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة ، فعفا أحدهم. إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية ، فقال : فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى ، و (الهاء) في قوله : أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليّه. وجعله أخا لوليّ الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية ، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية.

الخامس : هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة وهي قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥]. كما أنها مقيدة وتلك مطلقة ، والمطلق يحمل على

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الديات ، ٣ ـ باب الإمام يأمر بالعفو في الدم ؛ حديث ٤٤٩٧.

(٢) أخرجه مسلم في : البر والصلة والآداب ، حديث ٦٩.

(٣) أخرجه النسائيّ في : القسامة ، حديث ٣٣ و ٣٤ ـ باب كم دية شبه العمد.

٧

المقيّد ، وكذا ما ورد في السنة وصحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الباب فإنه يبيّن ما يراد في هذه الآية وآية المائدة. وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه : لا يقتل حرّ بعبد. كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى. فالتعويل على ذلك. وبالجملة : فقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) ... إلخ لا يفيد الحصر البتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام. هذا ما اعتمدوه ، والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩)

وقوله تعالى :

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة ، حيث جعل الشيء محل ضدّه ، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة. وقد جعل مكانا وظرفا للحياة ، وعرّف القصاص ونكر الحياة ، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم ـ الذي هو القصاص ـ حياة عظيمة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل! وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ، ويقع بينهم التناحر ..! فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة ..! أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا همّ بالقتل ، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ، سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود. فكان القصاص سبب حياة نفسين ..! هذا ما يستفاد من (الكشاف).

لطيفة :

اتفق علماء البيان على أنّ هذه الآية ـ في الإيجاز مع جمع المعاني ـ بالغة إلى أعلى الدرجات ..! وذلك لأنّ العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقلّ القتل. وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم القتل أنفى للقتل ؛ وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها ..! ومن المعلوم لكلّ ذي لبّ أنّ بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته ..!

قال في (الإتقان) وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في

٨

هذا المعنى وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق ..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك ..!

الأول : أنّ ما يناظره من كلامهم وهو (الْقِصاصِ حَياةٌ) أقلّ حروفا ، فإنّ حروفه عشرة وحروف (القتل أنفى للقتل) أربعة عشر ..!

الثاني : أنّ نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه!

الثالث : أنّ تنكير (حَياةٌ) يفيد تعظيما ، فيدلّ على أن في القصاص حياة متطاولة ، كقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦]. ولا كذلك المثل ، فإنّ اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء!

الرابع : أنّ الآية فيه مطّردة ، بخلاف المثل ، فإنه ليس كلّ قتل أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى له ، وهو القتل ظلما.! وإنما ينفيه قتل خاصّ ، وهو القصاص ، ففيه حياة أبدا ..!

الخامس : أنّ الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل. والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة ..!

السادس : أنّ الآية مستغنية عن تقدير محذوف. بخلاف قولهم. فإنّ فيه حذف (من) التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها ، وحذف (قصاصا) مع القتل الأول ، (وظلما) مع القتل الثاني ، والتقدير : القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه.

السابع : أنّ في الآية طباقا ، لأنّ القصاص يشعر بضدّ الحياة بخلاف المثل ..!

الثامن : أن الآية اشتملت على فنّ بديع ، وهو جعل أحد الضدّين ـ الذي هو الفناء والموت ـ محلّا ومكانا لضدّه ـ الذي هو الحياة. واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ..! ذكره في (الكشاف) ، وعبّر عنه صاحب (الإيضاح) بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال «في» عليه.

التاسع : أنّ في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة ـ وهو السكون بعد الحركة ـ وذلك مستكره. فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته! بخلاف ما إذا تعقّب كلّ حركة سكون ، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره : إذا تحركت الدابة أدنى حركة ، فحبست ، ثم تحرّكت فحبست ،

٩

لا تطيق إطلاقها ، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره ، فهي كالمقيدة!

العاشر : أنّ المثل كالتناقض من حيث الظاهر. لأن الشيء لا ينفي نفسه!

الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدّة ، وبعدها عن غنة النون.

الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة ، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد. ـ إذ القاف من حروف الاستعلاء ، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء ـ التي هي من حرف منخفض ـ فهو غير ملائم للقاف. وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق.

الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، ولا كذلك تكرير القاف والتاء.

الرابع عشر : سلامتها من لفظ (القتل) المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ (الحياة) فإن الطباع أقبل له من لفظ (القتل).

الخامس عشر : أنّ لفظ القصاص مشعر بالمساواة ، فهو منبئ عن العدل ، بخلاف مطلق القتل.

السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي ، والإثبات أشرف لأنه أول ، والنفي ثان عنه.

السابع عشر : أنّ المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أنّ القصاص هو الحياة. وقوله (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) مفهوم من أول وهلة ..!

الثامن عشر : أنّ في المثل بناء (أفعل التفضيل) من فعل متعدّ ، والآية سالمة منه ..!

التاسع عشر : أنّ (أفعل) في الغالب يقتضي الاشتراك ، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل ، ولكنّ القصاص أكثر نفيا ..! وليس الأمر كذلك ، والآية سالمة من ذلك.

العشرون : أنّ الآية رادعة عن القتل والجرح معا ، لشمول القصاص لهما. والحياة أيضا في قصاص الأعضاء. لأنّ قطع العضو ينقص أو ينغّص مصلحة الحياة ، وقد يسري النفس فيزيلها ، ولا كذلك المثل ..!

١٠

في أول الآية (وَلَكُمْ) وفيها لطيفة : وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص ، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم ، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم ..! انتهى.

وقوله تعالى (يا أُولِي الْأَلْبابِ) المراد به : العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف. فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود ، صار ذلك رادعا لهم. لأنّ العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه. فإذا خاف ذلك كان خوفه سببا للكفّ والامتناع ..! إلا أنّ هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه ، ممّن له عقل يهديه إلى هذا الفكر. فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر ، لا يحصل له هذا الخوف ..! فلهذا السبب خصّ الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب ، ثمّ علّل ذلك بقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : الله تعالى بالانقياد لما شرع ، فتتحامون القتل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي : فرض ، كما استفاض في الشرع (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي أمارته وهو المرض المخوف (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ينبغي أن يوصي فيه ، وقد أطلق في القرآن الخير وأريد به المال في آيات كثيرة : منها هذه ، ومنها قوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْر) [البقرة : ٢٧٢] ، ومنها : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ، ومنها : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤]. إلى غيرها. وإنما سمّى المال خيرا تنبيها على معنى لطيف : وهو أنّ المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعا من وجه محمود ..! كما أنّ في التسمية إشارة إلى كثرته ، كما قال بعضهم : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيّب ..! وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه : أنّ عليّا رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده ، فقال له : أوصي؟ فقال له عليّ : إنما قال الله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ). إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك.! وروى الحاكم عن ابن عباس : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا! وقال طاوس : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة : كان يقال : ألفا فما فوقها.

١١

ومنه يعلم أن لا تحديد للكثرة المفهومة ، وأنّ مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.

ثم ذكر نائب فاعل (كتب) بعد أن اشتد التشوّف إليه ، فقال (الْوَصِيَّةُ) وتذكير الفعل الرافع لها : إمّا لأنه أريد بالوصية الإيصاء ، ولذلك ذكّر الضمير في قوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وإمّا للفصل بين الفعل ونائبه ، لأنّ الكلام لما طال ، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله (لِلْوالِدَيْنِ) بدأ بهما لشرفهما وعظم حقّهما (وَالْأَقْرَبِينَ) من عداهما من جميع القرابات (بِالْمَعْرُوفِ) وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّها.

وفي الصحيحين (١) : أنّ سعدا قال : يا رسول الله ، إنّ لي مالا ولا يرثني إلّا ابنة لي. أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : لا ..! قال : فبالشطر؟ قال لا ..! قال : فالثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير ، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس!

وفي صحيح البخاري (٢) أن ابن عباس قال : لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الثلث والثلث كثير ..!

وروى الإمام أحمد (٣) عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة : سمعت حنظلة بن جذيم بن حنيفة أنّ جدّه أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل ، فشقّ ذلك على بنيه ، فارتفعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال حنيفة : إنّي أوصيت

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الجنائز ، ٣٦ ـ باب رثي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن خولة ونصه : عن عامر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي. فقلت : إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة. أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال «لا» فقلت : بالشطر؟ فقال «لا» ثم قال «الثلث ، والثلث كبير (أو كثير) إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى ما تجعل في في امرأتك» فقلت : يا رسول الله! أخلّف بعد أصحابي؟ قال : «إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا إلا ازددت به درجة ورفعة. ثم لعلك أن تخلّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم». لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن مات بمكة.

وأخرجه مسلم في : الوصية ، حديث ٥.

(٢) أخرجه البخاريّ في : الوصايا ، ٣ ـ باب الوصية بالثلث. ومسلم في : الوصية ، حديث ١٠.

(٣) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده بالجزء الخامس صفحة ٦٧ : وهاكم الحديث بطوله بنصه : عن ذيال بن عتبة بن حنظلة قال : سمعت حنظلة بن جذيم ، جدي ، أن جده حنيفة قال لجذيم : اجمع لي بنيّ فإني أريد أن أوصي. فجمعهم فقال : إن أول ما أوصي أن ليتمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل ، التي كما نسميها في الجاهلية المطيبة. فقال جذيم : يا أبت! إني ـ

١٢

ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطيبة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا لا لا ..! الصدقة خمس ، وإلّا فعشر ، وإلّا فخمس عشرة ، وإلّا فعشرون ، وإلّا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلّا فخمس وثلاثون ، فإن كثرت فأربعون! وذكر الحديث بطوله.

ثمّ أكد تعالى الوجوب بقوله (حَقًّا) ـ وكذا قوله ـ (عَلَى الْمُتَّقِينَ) فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٨١)

(فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي : فمن غيّر الإيصاء عن وجهه ، إن كان موافقا للشرع ، من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي بعد ما وصل إليه وتحقق لديه (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي التبديل ـ (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ، فلا يلحق الموصي منه شيء وقد وقع أجره على الله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد شديد للمبدّلين.

هذا ، وما ذكرناه من أنّ المنهيّ عن التبديل إمّا الأوصياء أو الشهود هو المشهور. وهناك وجه آخر ـ أراه أقرب ـ وهو أن يكون المنهيّ عن التغيير هو الموصي نهي عن تغيير الوصية عن المواضع التي بيّن تعالى الوصية إليها. وذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأبعدين الأجانب ، طلبا للفخر والشرف. ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة والضرّ ، فأوجب الله تعالى الوصية لهؤلاء منعا للقوم عمّا اعتادوه ـ كذا قاله الأصم.

__________________

ـ سمعت بنيك يقولون : إنما نقرّ بهذا عند أبينا. فإذا مات رجعنا فيه. قال : فبيني وبينكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال جذيم : رضينا. فارتفع جذيم وحنيفة ، وحنظلة معهم غلام وهو رديف لجذيم. فلما أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلموا عليه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وما رفعك؟ يا أبا جذيم!» قال : هذا. وضرب بيده على فخذ جذيم. فقال : إني خشيت أن يفجأني الكبر أو الموت ، فأردت أن أوصي. وإني قلت : إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا ، الذي في حجري ، مائة من الإبل ، كنا نسميها في الجاهلية المطيبة. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأينا الغضب في وجهه. وكان قاعدا فجثا على ركبتيه. وقال «لا. لا. لا. الصدقة خمس ، وإلا فعشر ، وإلا فخمس عشرة ، وإلا فعشرون ، وإلا فخمس وعشرون ، وإلا فثلاثون ، وإلا فخمس وثلاثون. فإن كثرت فأربعون». قال فودعوه ، ومع اليتم عصا وهو يضرب جملا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عظمت هذه هراوة يتيم». قال حنظلة : فدنا بي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لي بنين ذوى لحى ودون ذلك ، وإن ذا أصغرهم فادع الله له. فمسح رأسه وقال «بارك الله فيك ، أو بورك فيه». قال ذيال : فقد رأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم وجهه ، أو البهيمة الوارمة الضرع فيتفل على يديه ويقول : بسم الله. ويضع يده على رأسه ويقول : على موضع كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيمسحه عليه. وقال ذيال : فيذهب الورم.

١٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢)

(فَمَنْ خافَ) أي توقّع وعلم ، وهذا في كلامهم شائع ، ويقولون : أخاف أن ترسل السماء ، يريدون التوقع والظّن الغالب ، الجاري مجرى العلم (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ميلا عن الحقّ ، بالخطإ في الوصية ، والتصرف فيما ليس له (أَوْ إِثْماً) أي : ميلا فيها عمدا (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي : بينه وبين الموصى لهم ـ وهم الوالدان والأقربون ـ بإجرائهم على طريق الشرع.

قال ابن جرير : بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وأن ينهاهم عن منعه فيما أذن له فيه وأبيح له. (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : بهذا التبديل ، لأن تبديله تبديل باطل إلى حقّ! ـ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير : أي غفور للموصي ـ فيما كان حدّث به نفسه من الجنف والإثم إذا ترك أن يأثم ويجنف في وصيته ـ فتجاوز له عما كان حدّث به نفسه من الجور إذ لم يمض ذلك ، (رَحِيمٌ) بالمصلح بين الوصيّ وبين من أراد أن يحيف عليه لغيره أو يأثم فيه له ..!

تنبيه :

(ما أفادته الآية من فرضية الوصية للوالدين والأقربين)

ذكر بعضهم : أنه كان واجبا قبل نزول آية المواريث. فلمّا نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدّرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير وصية ولا تحمّل منّة الموصي. ولهذا جاء في الحديث (١) ـ الذي في السنن وغيرها ـ عن عمرو بن خارجة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب وهو يقول : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقه ، فلا وصيّة لوارث ..!».

ونصّ الإمام الشافعي على أنّ هذا المتن متواتر ، فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عام الفتح : «لا وصية لوارث». ويأثرونه عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم ، فكان نقل كافة عن كافة. فهو أقوى من نقل واحد.

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : الوصايا ، ٥ ـ باب ما جاء لا وصية لوارث.

١٤

قال الإمام مالك في «الموطأ» : السنّة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنّه : لا تجوز وصيّة لوارث إلّا أن يجيز له ذلك ورثة الميّت.

وذهبت طائفة إلى أنّ الآية محكمة لا تخالف آية المواريث. والمعنى : كتب عليكم ما أوصاكم به من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أو كتب على المحتضر : أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ، وأن لا ينقص من أنصبائهم! فلا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء ، مع ثبوت الوصية بالميراث عطيّة من الله تعالى ، والوصية عطيّة ممن حضره الموت. فالوارث جمع له بين الوصيّة والميراث بحكم الآيتين. ولو فرض المنافاة ، لأمكن جعل آية الميراث مخصّصة لهذه الآية. بإبقاء القريب الذي لا يكون وارثا لأجل صلة الرحم. فقد أكد تعالى الإحسان إلى الأرحام وذوي القربى في غير ما آية ، فتكون الوصية للأقارب الذين لا يرثون عصبة ، أو ذوي رحم مفروضة ..! قالوا : ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين الوارثين لا يستلزم نسخ وجوبها في غيرهم ..!.

ومما استدلّ به على وجوب الوصيّة ، من السنّة : خبر الصحيحين (١) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده. قال ابن عمر : ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك إلّا وعندي وصيّتي ..! والآيات والأحاديث ـ بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم ـ كثيرة جدّا ..!.

ظهر لي في آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ...) إلخ ـ وكان درسنا صباحا من البخاريّ في كتاب (الوصايا) ـ أنّ هذه الآية ليست منسوخة ـ كما قيل ـ بل هي محكمة بطريقة لا أدري هل أحد سبقني بها أم لا؟ فإني ـ في تفسيري المسمّى بمحاسن التأويل ـ نقلت هناك مذاهب العلماء ، ولا يحضرني الآن أن ما سأذكره مأثور أم لا؟ وهو أنّ هذه الآية مع آية : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) ، متلاقيتان في المعنى ، من حيث إنّ المراد بالوصيّة : وصية الله في إيتاء ذوي الحقوق حقوقهم ، وعدم الغض منها ، والحذر من تبديلها ، لما يلحق المبدّل من الوعيد الشديد ..! وخلاصة المعنى على ما ظهر :

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الوصايا ، باب الوصايا وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وصية الرجل مكتوبة عنده».

وأخرجه مسلم في : الوصية ، حديث رقم ١.

(٢) أخرجه مسلم في : الوصية ، حديث رقم ٤.

١٥

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي : فرض عليكم فرضا مؤكّدا بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي : قرب نزوله به بأن قرب مفارقته الحياة (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي : مالا يورث (الْوَصِيَّةُ) أي : المعهودة ، وهي وصيّة الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حقّ حقّه ، على ما بينته تلك الآية (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي : في إبلاغهم فرضهم المبين في آية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فإنه أجمع آية (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي : هذا المكتوب الحقّ (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي : فعلم الحق المفروض فيه (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدّل ، وقوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) أي : ميلا عمّا فرضه تعالى (أَوْ إِثْماً) أي : بقطع من يستحقّ عن حقّه ، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي : بأمر رضي به الكل (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : لأنّ الصلح جائز إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، والله أعلم. المنقول من الدفتر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) ـ فرض ـ (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

واعلم أنّ مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم ، وإحسانا إليهم ، وحميّة ، وجنّة ..! فإن المقصود من الصيام : حبس النفس عن الشهوات ، وفطمها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به ممّا فيه حياتها الأبدية ..! ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ..! وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كلّ عضو منها وكلّ قوّة عن جماحها ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنّة المجاهدين ، ورياضة الأبرار والمقرّبين ..! وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإنّ الصائم لا يفعل شيئا ، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل

١٦

معبوده. فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارا لمحبة الله ومرضاته. وهو سرّ بين العبد وربّه ، ولا يطلع عليه سواه ..!.

والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم ..! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة ، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ الموادّ الردية المانعة له من صحتها. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال تعالى في تتمة الآية : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : الصوم جنّة. وأمر (٢) من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه ، بالصيام. وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه أكمل الهدى ، وأعظم تحصيلا للمقصود ، وأسهله على النفوس ..! ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها ، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة. لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة. وألفت أوامر القرآن. فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أوّلا على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كلّ يوم مسكينا. ثمّ نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة ـ إذا لم يطيقا الصيام ـ فإنهما يفطران ويطعمان عن كلّ يوم مسكينا ـ كما سيأتي بيانه ـ وكان للصوم رتب ثلاث : أحدها : إيجابه بوصف التخيير. والثانية : تحتمه ، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة ، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة : وهي التي استقرّ عليها الشرع إلى يوم القيامة ..! كذا أفاده ابن القيم في زاد المعاد.

__________________

(١) أخرجه البخاريّ في : الصوم ، باب فضل الصوم ، حديث ٩٦١ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصيام جنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم (مرتين) والذي نفسي بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي وأنا أجزي به. والحسنة بعشر أمثالها ..

(٢) أخرجه البخاريّ في : النكاح ، ٣ ـ باب من لم يستطع الباءة فليصم حديث ٩٦٧ ونصه : قال عبد الله (بن مسعود) كنا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبابا لا نجد شيئا فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج. فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».

١٧

وقوله تعالى : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تأكيد للحكم ، وترغيب فيه ، وتطييب لأنفس المخاطبين به ؛ فإنّ الشاقّ إذا عمّ سهل عمله! والمماثلة إنّما هي في أصل الوجوب لا في الوقت والمقدار ، وفيه دليل على أنّ الصوم عبادة قديمة.

وفي التوراة ، سفر عزرا ، الأصحاح الثاني ، ص ٧٥٠ :

(٢١) «وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة لنا ولأطفالنا ولكل مالنا».

وفي سفر إشعياء ، الأصحاح الثامن والخمسون ص ١٠٦٢ :

(٣) «يقولون لما ذا صمنا ولم ننظر. ذلّلنا أنفسنا ولم نلاحظ. ها إنكم في يوم صومكم توجدون مسرّة وبكل أشغالكم تسخّرون».

(٤) ها إنكم للخصومة والنزاع تصومون ولتضربوا بلكمة الشرّ. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء.

(٥) أمثل هذا يكون صوم أختاره. يوما يذلّل الإنسان فيه نفسه يحنى كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحا ورمادا. هل تسمي هذا صوما ويوما مقبولا للرب؟ ... إلخ.

وفي سفر يوئيل ، الأصحاح الأول ، ص ١٢٩٩ :

(١٤) قدّسوا صوما.

وفي الأصحاح الثاني ، ص ١٣٠٠ :

(١٢) ولكن الآن يقول الرب : ارجعوا إليّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح.

(١٣) ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفة ..

(١٥) ... قدّسوا صوما نادوا باعتكاف.

(١٦) اجمعوا الشعب قدسوا الجماعة.

وفي سفر زكريا ، الأصحاح الثامن ، ص ١٣٤٧ :

(١٩) هكذا قال رب الجنود. إن صوم الشهر الرابع وصوم الخامس وصوم السابع وصوم العاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجا وفرحا وأعيادا طيبة. فأحبوا الحق والسلام.

١٨

وفي إنجيل متّى ، الأصحاح السادس ص ١١ :

(١٧) وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك.

(١٨) لكي لا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.

الأصحاح السابع عشر ص ٣٢ :

لما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام فتى وأخرج منه الشيطان قال لأصحابه.

(٢١) وأما هذا الجنس فلا ـ يخرج إلا بالصلاة والصوم.

وفي الأصحاح الرابع ص ٦ :

(٢) فبعد ما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا (أي المسيح عليه‌السلام).

وفي رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ، الأصحاح السادس ص ٢٩٥ :

(٤) بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدّام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات.

(٥) في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام.

وفي الأصحاح الحادي عشر ص ٣٠١ :

(٢٧) في تعب وكدّ. في أسهار مرارا كثيرة. في جوع وعطش. في أصوام مرارا كثيرة. في برد وعري.

هذا ، ومتى أطلق الصوم في كل شريعة ، فلا يقصد به الّا الامتناع عن الأكل كلّ النهار إلى المساء ، لا مجرّد إبدال طعام بطعام.

وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : تجعلون بينكم وبين سخطه تعالى وقاية بالمسارعة إليه ، والمواظبة عليه ، رجاء لرضاه تعالى ؛ فإنّ الصوم يكسر الشهوة ، فيقمع الهوى ، فيردع عن مواقعة السوء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤)

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) نصب على الظرف ، أي : كتب عليكم الصيام في أيام

١٩

معدودات وهي أيام شهر رمضان ، كما بينها تعالى فيما بعد بقوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) أي : مرضا يضرّه الصوم ، أو يعسر معه.

والمرض : السقم وهو نقيض الصحة واضطراب الطبيعة بعد صفائها واعتدالها (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي : فأفطر (فَعِدَّةٌ) أي : فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) غير المعدودات المذكورة ، وإنما رخّص الفطر في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة. وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان في أعظم الغزوات وأجلها : في غزوة بدر وغزوة الفتح. قال عمر بن الخطاب (١) : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان غزوتين : يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما.

تنبيهات

الأول : ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صام في السفر وأفطر ، كما خيّر بعض الصحابة بين الصوم والفطر. ففي الصحيحين (٢) : عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره في يوم حارّ ، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ ، وما فينا صائم إلّا ما كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن رواحة. وقوله (في بعض أسفاره) وقع في إحدى روايتي مسلم ، بدله (في شهر رمضان). وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال (٣) : سرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صائم. وفي رواية : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فلما غابت الشمس قال لرجل : انزل فاجدح لنا ..! فقال : يا رسول الله! لو أمسيت. قال : أنزل فاجدح لنا قال : إن عليك نهارا. فنزل ، فجدح له ، فشرب ، ثمّ قال : إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا ـ وأشار بيده نحو المشرق ـ فقد أفطر الصائم. رواه الشيخان. واللفظ لمسلم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (٤) : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى

__________________

(١) أخرجه الترمذيّ في : الصوم ، ٢٠ ـ باب ما جاء في الرخصة للمحارب في الإفطار.

(٢) أخرجه البخاريّ في : ٣٠ ـ الصوم ، ٣٥ ـ باب حدثنا عبد الله بن يوسف ، حديث ٩٨٩.

ومسلم في : ١٣ ـ الصيام ، حديث ١٠٨ ـ ١٠٩.

(٣) أخرجه البخاريّ في : الصوم ، ٣٣ ـ باب الصوم في السفر والإفطار ، حديث ٩٨٦.

ومسلم في : الصيام ، حديث ٥٢ ، ٥٣.

(٤) أخرجه البخاريّ في : الصوم ، ٣٨ ـ باب من أفطر في السفر ليراه الناس ، حديث ٩٨٨.

ومسلم في : الصيام ، حديث ٨٨.

٢٠