تفسير القاسمي - ج ٤

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٤

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة المائدة

سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن. وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف ، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده. أفاده المهايميّ.

وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.

قال الشهاب الخفاجي : السورة مدنية ، إلّا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...) إلخ ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.

أقول : في كلامه نظران :

الأول ـ إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والمدني ما نزل بالمدينة ، وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في (الإتقان) أن المكّي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، أم بسفر من الأسفار.

الثاني ـ بقي عليه ، لو مشي على ذاك الاصطلاح ، آيات آخر.

قال السيوطي في (الإتقان) : في (النوع الثاني معرفة الحضريّ والسفريّ) للسفريّ أمثلة.

منها : أول المائدة. أخرج البيهقيّ في (شعب الإيمان) عن أسماء بنت يزيد ؛ أنها نزلت بمنى. وأخرج في (الدلائل) عن أم عمرو ، عن عمها ؛ أنها نزلت في مسير له ، وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع ، فيما بين مكة والمدينة.

ومنها : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] في الصحيح عن عمر :

٣

أنها نزلت عشية عرفة ، يوم الجمعة ، عام حجة الوداع ، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ ، أنها نزلت يوم غدير خمّ. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة ، وفيه : إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، مرجعه من حجة الوداع ، وكلاهما لا يصح.

ومنها : آية التيمم فيها. في الصحيح (١) عن عائشة ؛ أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة.

ومنها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ...) [المائدة : ١١] الآية. نزلت ببطن نخل.

ومنها : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ...) [المائدة : ٦٧] نزلت في ذات الرقاع. انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات ، عند هذه الآيات.

قال ابن كثير : روى الإمام أحمد (٢) عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام العضباء ـ ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. وروى الإمام أحمد (٣) أيضا عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، لم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها. تفرد به أحمد وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التيمم ، ١ ـ حدثنا عبد الله بن يوسف ، حديث ٢٣٠ ونصه : عن عائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء ، أو بذات الجيش ، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع رأسه على فخذي ، قد نام. فقال : حبست رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء.

قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلّا مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أصبح ، على غير ماء. فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.

فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

قالت : فبعثنا البعير الذي كنا عليه ، فأصبنا العقد تحته.

(٢) أخرجه في المسند ٦ / ٤٥٥.

(٣) أخرجه في المسند ٢ / ١٧٦ والحديث رقم ٦٦٤٣.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) روى ابن أبي حاتم ؛ أن رجلا أتى عبد الله ابن مسعود فقال : اعهد إليّ! فقال : إذا سمعت الله يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه و (الوفاء) ضد الغدر ، كما في (القاموس) وقال غيره : هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال : وفي بالعهد وأوفى به.

قال ناصر الدين في (الانتصاف) : ورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، وورد (أوفى) كثيرا. ومنه : أوفوا بالعقود. وأما (وفى) ثلاثيا ، فلم يرد إلا في قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١١١] ، لأنه بنى أفعل التفضيل من (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ.

و (العقود) جمع عقد وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه ، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. قال عليّ بن طلحة : قال ابن عباس : يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم ، وما فرض ، وما حدّ في القرآن كلّه ، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم : العقود ستة : عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين. قال الزمخشريّ : والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه ، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) البهيمة ما لا عقل له مطلقا ، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.

قال الراغب : خص في المتعارف بما عدا السباع والطير. وإضافتها للأنعام ، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي : أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام.

٥

جمع (نعم) محرّكة وقد تسكن عينه. وهي الإبل والبقر والشاء والمعز (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني : رخصت لكم الأنعام كلها. إلّا ما حرم عليكم في هذه السورة ، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك. وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة. فأخبر الله تعالى أنهما حلالان ، إلّا ما بيّن في هذه السورة ، ثم قال (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني : أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في (العناية) : ولا يرد ما قيل : إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة ، إلّا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره ، لأنه ـ مع عدم اطراد اعتبار المفهوم ـ يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها ، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم ، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك. وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي (الإكليل) : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن «حرما» بمعنى محرمين ، ويقال : أحرم أي : بحجّ وعمرة. وأحرم : دخل في الحرم. انتهى.

قال بعض الزيدية : والمراد بالصيد المحرّم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) [المائدة : ٩٦] ، هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام ، وإن جعل للداخل في الحرم ، استوى تحريم البحريّ والبرّي. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم ، لقوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧]. لأنه يقال لمن دخل الحرم ، أنه محرم. كما يقال : أعرق وأنجد : إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو : المدينة (١) حرم من عير إلى ثور. انتهى.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : فضائل المدينة ، ١ ـ باب حرم المدينة ، حديث ٩٤٣ ونصه : عن أنس رضي الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

ورواه أيضا في : الاعتصام ، ٦ ـ باب إثم من آوى محدثا. ونصه : حدثنا عاصم قال : قلت لأنس : أحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة؟ قال : نعم. ما بين كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها. من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. و (ما بين كذا إلى كذا) معناه : من عير إلى ثور.

٦

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل وتحريم. وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) أي : معالم دينه. وهي المناسك. وإحلالها أن يتهاون بحرمتها ، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها. وقد روى ابن جرير (١) عن عكرمة والسّديّ قالا : نزلت في الحطم ، واسمه شريح بن هند البكريّ. أتى المدينة وحده. وخلّف خيله خارج المدينة. ودخل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إلام تدعو الناس؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة. فقال : حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل بمسلم. فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول :

قد لفّها الليل بسوّاق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر الوضم

باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزّلم

خدلّج السّاقين ممسوح القدم

فتبعوه فلم يدركوه. فلما كان العام القابل ، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر ابن وائل ، من اليمامة. ومعه تجارة عظيمة. وقد قلّد الهدي. فقال المسلمون : يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه قد قلّد الهدي. فقالوا : يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) ابن جرير : الأثر ١٠٩٥٨ عن السدّيّ ، والأثر : ١٠٩٥٩ عن عكرمة.

٧

فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ). قال ابن عباس : هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم. فنهاهم الله عن ذلك. وعن ابن عباس أيضا : لا تحلوا شعائر الله : هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال : شعائر الله ، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإحلالها الإخلال بها. وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم. وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب. أي لا تحلوها بالقتال فيها. وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في (لباب التأويل).

قال ابن كثير : يعني بقوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه ، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٧]. وقال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة : ٣٦]. وفي صحيح البخاريّ (١) عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ، في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم ...» الحديث ، وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف. وقال عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، في قوله تعالى (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) : يعني لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزريّ. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. والمراد أشهر التسيير الأربعة. قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب (الناسخ والمنسوخ) لابن حزم : إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في (تفسيره) عن الحسن أنه

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩ ـ سورة التوبة ، ٨ ـ باب قوله (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ، حديث ٥٩ ونصه : عن أبي بكرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

٨

ليس في هذه السورة منسوخ. وعن أبي ميسرة : فيها ثماني عشرة فريضة. وليس فيها منسوخ. (انتهى).

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء؟ قال : لا.

وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في (فصل سرية الخبط) كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح ، وكانت في رجب ، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في (عيون الأثر).

ثم قال ، في فقه هذه القصة : إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب ، محفوظا. والظاهر ، والله أعلم ، أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ، ولا أغار فيه ، ولا بعث فيه سرية. وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب ، في قصة العلاء بن الحضرميّ ، فقالوا : استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٧]. ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه ، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركون في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر ، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة ، ليس هذا موضعها. انتهى. وقوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ) أي : لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي : ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي (الإكليل) : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.

(وَلَا الْقَلائِدَ) جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر ، ليعلم أنه هدي ، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي. وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه ، لمزيد التوصية بها ، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] ، عطفا على الملائكة. كأنه قيل : والقلائد منه ، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد ، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها. على معنى : لا تحلوا قلائدها

٩

فضلا عن أن تحلوها. كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) [النور : ٣١]. مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. كذا لأبي السعود.

وقال الحافظ ابن كثير : يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام. وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلّده. وأهلّ للحج والعمرة ، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج : ٣٢].

قال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها. قال عليّ بن أبي طالب (١) : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل : ولا القلائد ، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره ، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.

وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد وقوله : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] وبسنده إلى ابن عوف قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء؟ قال : لا. (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) أي : لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم ، لأنه من دخله

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأضاحي ، ٦ ـ باب ما يكره من الضحايا ، حديث ٢٨٠٤ ونصه : عن عليّ رضي الله عنه : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نستشرف العين والأذنين ، ولا نضحّي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مداراة ، ولا خرقاء ، ولا شرقاء.

والترمذيّ في : الأضاحيّ ، ٦ ـ باب ما يكره من الأضاحي.

والنسائي في : الضحايا ، ٩ ـ باب المدابرة وهي ما قطع من مؤخر أذنها.

وابن ماجة في : الأضاحي ، ٨ ـ باب ما يكره أن يضحى به ، حديث ٣١٤٢.

١٠

كان آمنا. وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) حال من المستكن في (ءامّين) أي : قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم. ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة. قال : كما تقدم في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨]. وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكريّ. وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس : كان المؤمنون والمشركون يحجون ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] الآية. وقال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٧]. وقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨]. فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله (وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) قال : منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر ، فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) يعني أن من تقلد قلادة من الحرم ، فأمنوه. قال : ولم تزل العرب تعيّر من أخفر ذلك. قال الشاعر :

ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا كما

يمرّان بالأيدي اللّحاء المضفّرا

أفاده ابن كثير. وهذه الروايات توضح أنه عنى : (الآمين) : المشركين خاصة. إذ هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم. وكذا الرضوان من تشريفهم ، والإشعار بحصول مبتغاهم. فالسرّ فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه. قال الزمخشريّ وأبو السعود : قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم ، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى. فوصفهم الله تعالى بظنهم. وذلك الظن الفاسد ، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى ، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية ، وخلاصهم عن المكاره العاجلة. لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره. ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني ، أن المراد بالآية ، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما زال العهد بسورة براءة ، زال ذلك الخطر ، ولزم المراد بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). انتهى.

١١

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) أي خرجتم من الإحرام ، أو خرجتم من الحرم إلى الحل (فَاصْطادُوا) أي : فلا جناح عليكم في الاصطياد (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : لا يحملنكم على الجريمة ، شدة بغض قوم (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). أي لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة. وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية (أَنْ تَعْتَدُوا) أي : عليهم. قال أبو السعود : وإنما حذف ، تعويلا على ظهوره ، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي ، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين ، محافظة على تعظيم الشعائر. لا منع وقوعه على القوم ، مراعاة لجانبهم ، وهو ثاني مفعولي (يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم ، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام ، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي.

تنبيهات :

الأول ـ قال ابن كثير : أي : لا يحملنكم بغض قوم ، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا حكم الله فيهم ، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨]. أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد ، في كل حال. وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك ، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل ، به قامت السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان ، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية وأصحابه ، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.

الثاني : قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) نهي عن إحلال قوم من الآمين ، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة ، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم ، داعية إليه.

الثالث ـ لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، مع ظهور تعلقه بما قبله ، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام ، كانتهاء حرمة الاصطياد به ، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية.

١٢

وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين ، بالطريق الأولى. أفاده أبو السعود.

الرابع ـ دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». (١). وقوله عليه الصلاة والسلام : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (٢). ذكره بعض الزيدية. وفي (الإكليل) : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.

الخامس ـ (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد ، وإلى اثنين ، يقال : جرم ذنبا ، نحو كسبه. وجرمته ذنبا ، نحو كسبته إياه ، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال : أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ (يَجْرِمَنَّكُمْ) بضم الياء. أفاده أبو السعود.

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون ، أمروا ، إثر ما نهوا عنه ، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم ، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني : أفاده أبو السعود.

قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان : جواز ما حدّ الله في الدين ، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة. منها ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدال على الخير كفاعله». رواه البزار. وعن أبي مسعود البدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : «من دل على خير فله مثل أجر فاعله». رواه مسلم. وعن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : الأحكام ، ١٧ ـ باب من بنى في حقه ما يضر بجاره ، حديث ٢٣٤٠ و ٢٣٤١.

(٢) أخرجه أبو داود في : البيوع ، ٧٩ ـ باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده ، حديث ٣٥٣٥ عن أبي هريرة.

(٣) أخرجه مسلم في : الإمارة ، ٣٨ ـ باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره ، وخلافته في أهله بخير ، حديث ١٣٣.

(٤) أخرجه مسلم في : العلم ، حديث ١٦.

١٣

ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». رواه مسلم. وعن سهل بن سعد (١) ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام ، يوم خيبر : «فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا ، خير لك من حمر النعم» ، متفق عليه. وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل : يا رسول الله هذا! نصرته مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال : تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» (٢). رواه الإمام أحمد والشيخان. وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» ، رواه الإمام أحمد (٣). وروى الطبرانيّ والضياء المقدسيّ عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام» ، وعن النوّاس (٤) ابن سمعان قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم؟ فقال : البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس». رواه مسلم.

تنبيه : في فروع مهمة.

قال بعض الزيدية : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص ، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه ، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي (الإكليل) : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه ، لحمل خمر ونحوه ، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك. انتهى. وهو متّجه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجهاد ، ١٠٢ ـ باب دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام والنبوة ، حديث ١٤٠٥ ونصه : عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يوم خيبر «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه». فقاموا يرجون لذلك أيّهم يعطى. فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى. فقال «أين عليّ»؟ فقيل : يشتكي عينيه. فأمر فدعي له. فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء. فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال «على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم. فو الله! لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم».

(٢) أخرجه البخاري في : المظالم ، ٤ ـ باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما. حديث ١٢٠٣ ونصه : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».

وفي الباب نفسه عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا : يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما؟ قال «تأخذ فوق يديه».

(٣) أخرجه في المسند ٢ / ٤٣ والحديث رقم ٥٠٢٢.

(٤) أخرجه مسلم في صحيحه ، في : البر والصلة والآداب ، حديث ١٥.

١٤

وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) : ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم. فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى ، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة ، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية ، متوهما أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع ، إذ كان كل منهما كف وإمساك.

والثاني ـ تعاون على الإثم والعدوان ، كالإعانة على دم معصوم ، أو أخذ مال معصوم ، وضرب من لا يستحق الضرب ، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله. نعم ، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق ، وتعذر ردها إلى أصحابها ، ككثير من الأموال السلطانية ، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين ، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ، ونحو ذلك ، من الإعانة على البر والتقوى ، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال ، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم ـ أن يصرفها مع التوبة ، إن كان هو الظالم ، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها ، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها ، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦]. المفسر لقوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢]. وعلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». أخرجاه في الصحيحين (١). وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها ، وتبطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت ، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما ـ هو المشروع ، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه ، أو على أداء المظلمة ، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك : وليّ اليتيم والوقف ، إذا طلب ظالم منه مالا ، فاجتهد في دفع

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الاعتصام ، ٢ ـ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقول الله تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ، حديث ٢٥٨٥ ونصه : عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». وأخرجه مسلم في : الفضائل ، حديث ١٣٠.

١٥

ذلك ، بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع ـ فهو محسن ، وما على المحسنين من سبيل. وكذلك ، وكيل المالك من المتأديين والكتّاب وغيرهم ، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم ، لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة ، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان ، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم ، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ، ولا ارتشاء ، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء ـ كان محسنا. لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد ، وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ، ثم يقذفون في النار ، انتهى.

(وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اخشوه فيما أمركم ونهاكم (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) فقال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣)

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر ، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا ، كإسلام الذابح. كذا في (التبصير). وقد خص من (الميتة) السمك بالسّنة : فإنه حلال. مات بتذكية أو غيرها. لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال : هو

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ في الطهارة : حديث ١٢.

وأبو داود في : الطهارة ، ٤١ ـ باب الوضوء بماء البحر ، حديث ٨٣.

١٦

الطهور ماؤه ، الحل ميتته». وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازيّ : تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدّا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد ، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.

أخرج ابن مندة في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر (وَالدَّمُ) أي : المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥]. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال : كلوه. فقالوا : إنه دم. فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيي بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت : إنما نهى عن الدم السافح.

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال». وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدار قطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقيّ : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أسامة ، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير : وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان ابن بلال ، أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه ، قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ : وهو أصح. نقله ابن كثير.

أقول : أقوى مما ذكر في الحجة ، ما في الصحيحين (٢) وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات نأكل الجراد. وفيهما أيضا من حديث (٣) جابر ، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبيّ

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢ / ٩٧.

وابن ماجة في : الصيد ، ٩ ـ باب صيد الحيتان والجراد ، حديث ٣٢١٨.

(٢) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ١٣ ـ باب أكل الجراد ، حديث ٢٢٠٠.

وأخرجه مسلم في : الصيد والذبائح ، حديث ٥٢.

(٣) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٦٥ ـ باب غزوة سيف البحر ، حديث ١٢٢٦.

وأخرجه مسلم في : الصيد والذبائح ، حديث ١٧.

١٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : كلوا رزقا أخرج الله لكم. أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء. وفي البخاري (١) عن عمر في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة : ٩٦]. قال : صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال : طعامه ميتته.

قال ابن كثير : روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صديّ بن عجلان قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا : هلم ، يا صديّ! فكل. قال ، قلت : ويحكم ، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم ، فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...) الآية. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه. وزاد بعد هذا السياق قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي. فقلت : ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش. قال ، وعليّ عباءتي. فقالوا : لا. ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء. ونمت على الرمضاء في حرّ شديد. قال ، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج. لم ير الناس أحسن منه. وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه. فأمكنني منه فشربته. فلما فرغت من شرابي استيقظت ، فلا ، والله! ما عطشت ولا عربت (عرب كفرح فسدت معدته. قاموس) بعد تيك الشربة.

ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد ، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله (بعد تيك الشربة) : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني ، فأسلموا عن آخرهم. انتهى.

قال الزمخشري : كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد ، وهو الدم في المباعر ، يشوونها ويقولون : لم يحرم من فزد له. وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ..) [البقرة : ١٧٣] الآية.

قال المهايميّ : حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ١٢ ـ باب قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ).

١٨

لا يؤثر فيه المطهر. (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي ، وإن زالت بالموت ، فهو منجّس ولم يقبل التطهير. لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت ، أشبه النجس بالذات ، فكأنه زيد تنجيسه بالموت. وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه ، وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه ، كان متنجسا بنجاسة روحه ، ثم بزوال الروح. انتهى.

قال ابن كثير : وقوله تعالى : (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) يعني إنسيّه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطّرد. وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال (١) : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه» ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره. وفي الصحيحين (٢) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام : فقيل : يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال : لا هو حرام» (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : نودي عليه بغير اسم الله ، كما في (الصحاح) وأصل الإهلال رفع الصوت ، وكان العرب في الجاهلية ، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح ، فحرم الله ذلك بهذه الآية. وبقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١].

قال ابن كثير في الآية : أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام. لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية ، إما عمدا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الشعر ، حديث ١٠.

(٢) أخرجه البخاري في : البيوع ، ١١٢ ـ باب بيع الميتة والأصنام ، حديث ١١٢١ ونصه : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، عام الفتح ، وهو بمكة «إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل : يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة ، فإنها يطلى بها السفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس. فقال «لا. هو حرام» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك «قاتل الله اليهود. إن الله لما حرّم شحومها ، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه».

١٩

وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال : كان رجل من بني رياح يقال له : ابن نائل. وكان شاعرا. نافر غالبا ، جدّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة. على أن يعقر هذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء. فلما وردت الماء. قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها. قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم. وعليّ بالكوفة. قال : فخرج عليّ. على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب. يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس (١) قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن معاقرة الأعراب». ثم أسند عن عكرمة (٢) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل. أفاده ابن كثير.

وفي (القاموس وشرحه) : وعاقره : فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال : تعاقرا إذا عقرا إبلهما ، يتباريان بذلك ، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.

وفي حديث ابن عباس : لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.

قال ابن الأثير : هو عقرهم الإبل ، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء. فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا. ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.

وروى الإمام مسلم عن عليّ (٣) رضي الله عنه قال : «حدثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات : لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض».

وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا : وكيف ذلك؟ يا رسول الله! قال : مر رّجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما : قرب قال : ليس عندي شيء أقرب. قالوا له : قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا ، فخلوا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الأضاحي ، ١٤ ـ باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب ، حديث ٢٨٢٠.

(٢) أخرجه أبو داود في : الأطعمة ، ٧ ـ باب في طعام المتباريين ، حديث ٣٧٥٤.

(٣) أخرجه مسلم في : الأضاحي ، حديث ٤٣.

٢٠