تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

قال الزمخشري : جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله ، أو غشاوة غطى بها عينيه ، فهو لا يبصر شيئا. فإذا كان يوم القيامة تيقظ ، وزالت الغفلة عنه وغطاؤها ، فيبصر ما لم يبصره من الحق.

وقال القاشانيّ في تأويل الآية : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) لاحتجابك بالحس والمحسوسات ، وذهولك عنه ، لاشتغالك بالظاهر عن الباطن (فَكَشَفْنا عَنْكَ) بالموت (غِطاءَكَ) المادّي الجسمانيّ ، الذي احتجبت به (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي إدراكك لما ذهلت عنه ، ولم تصدق بوجوده ، قويّ تعاينه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣)

(وَقالَ قَرِينُهُ) أي قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد ، وهو إما الملك الموكل عليه في الدنيا لكتابة أعماله ، وهو الرقيب المتقدم ، أو الشيطان الذي قيض له مقارنا له يغويه ، وهو الأظهر ـ كما اعتمده الزمخشري ـ لآية (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ، ويشهد له قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) [ق : ٢٧] ، (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي هذا شيء لديّ حاضر معدّ محفوظ. والإشارة على الأول لما في صحفه ، وعلى الثاني للشخص نفسه. أي هذا ما لديّ عتيد لجهنم هيأته بإغوائي لها.

وقال القاشاني : (وَقالَ قَرِينُهُ) أي من شيطان الوهم الذي غرّه بالظواهر ، وحجبه عن البواطن. (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) مهيأ لجهنم. أي ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية ، وأنه ملكه ، واستعبده في طلب اللذات البدنية ، حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤)

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد ، على أنهما ملكان ، لا ملك جامع للوصفين ، أو لملكين من خزنة النار ، أو لواحد ، وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل ، وتكريره على أنه أصله : ألق ، ألق ، ثم حذف الفعل الثاني ، وأبقى ضميره مع الفعل الأول ، فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر. أو الألف

٢١

بدل من نون التأكيد ، لأنها تبدل ألفا في الوقف ، فأجرى الوصل مجراه ـ أوجه ذكروها ـ.

وقال ابن جرير : أخرج الأمر للقرين ، وهو بلفظ واحد ، مخرج خطاب الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويل :

أحدهما ـ أن يكون القرين بمعنى الاثنين ، كالرسول ، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع. فردّ قوله : (أَلْقِيا) إلى المعنى.

والثاني ـ أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول. وهي أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين ، فتقول للرجل : ويلك! ارحلاها ، وازجراها ، كما قال :

فقلت لصاحبي لا تحبسانا

بنزع أصوله واجترّ شيحا

وقال أبو ثروان :

فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر

وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا

وسبب ذلك منهم ، أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه ، اثنان. وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة. فجرى كلام الواحد على صاحبيه. ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلا : يا صاحبيّ ، يا خليليّ. انتهى.

و (الكفّار) المبالغ في جحده وحدانية الله تعالى ، وما جاء به رسوله صلوات الله عليه.

و (العنيد) المعاند للحق ، وسبيل الهدى ، لا يسمع دليلا في مقابلة كفره. وقد زاد على العناد بوصف :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) (٢٥)

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي الكليّ ، وهو الإسلام. أو المال. واستصوب ابن جرير أنه هنا كل حق وجب لله أو لآدميّ في ماله ، لأنه لم يخصص منه شيء ، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه (مُعْتَدٍ) أي متجاوز الحد في الاعتداء على الناس ، بالبذاء والفحش في المنطق ، وبيده بالسطوة والبطش ظلما ، كما قال قتادة : معتد في منطقه وسيرته وأمره.

٢٢

(مُرِيبٍ) أي شاكّ في الحق ، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل.

وقال القاشانيّ : الخطاب في (أَلْقِيا) للسائق والشهيد اللّذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية ، وغيابة جب الطبيعة الظلمانية ، في نيران الحرمان. أو لمالك. والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل ، كأنما قال : ألق ، ألق ، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية. ويقوّي الأول : أنه عدد الرذائل الموبقة ، التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ، ووقوعهم في نيران الجحيم ، وبيّن أنها من باب العلم والعمل. والكفران ومنع الخير ، كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية ، لانهماكها في لذاتها ، واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ، ومن حقها أن تذكره ، وتبعث على شكره ، ومكالبتها عليها ، لفرط ولوعها بها ، فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة ، ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه ، وغلبتهما عليه ، وتعمقه فيهما ، الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة. والعنود والاعتداء ، كلاهما من إفراط القوة الغضبية ، واستيلائها ، لفرط الشيطنة ، والخروج عن حد العدالة. والأربعة من باب فساد العمل. والريب والشرك. كلاهما من نقصان القوة النطقية ، وسقوطها عن الفطرة ، بتفريطها في جنب الله ، وتصورها عن حد القوة العاقلة. وذلك من باب فساد العلم. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (٢٦)

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي : عبد معه معبودا آخر من خلقه (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي عذاب جهنم.

لطيفة :

الموصول إما مبتدأ مضمن معنى الشرط ، وخبره (فَأَلْقِياهُ) أو مفعول لمضمر يفسره (فَأَلْقِياهُ) أو بدل من (كل كفار) فيكون (فألقياه) تكريرا للتوكيد. قيل على الأخير : إنه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف. وأجيب : بأنه من باب (وحقك ثم حقك) نزل التغاير بين المؤكد والمؤكد ، والمفسّر والمفسّر ؛ منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي. ولو جعل (العذاب الشديد) نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله ، على أنه من باب

٢٣

(وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] ، كان حسنا.

قال الشهاب (بعد نقله ما ذكر) : قال ابن مالك في (التسهيل) : فصل الجملتين في التأكيد ب (ثم) إن أمن اللبس ، أجود من وصلهما. وذكر بعض النحاة الفاء. وذكر الزمخشريّ في (الجاثية) الواو أيضا. واتفق النحاة على أنه تأكيد اصطلاحيّ ، وكلام أهل المعاني في إطلاق منعه غير سديد. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧)

(قالَ قَرِينُهُ) أي قرين هذا الإنسان الكفار المناع للخير ، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا ، متبرئا منه (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي بالإرابة ومنع الإسلام ، وجعل إله آخر معك (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في طريق جائر عن سبيل الهدى ، جورا بعيدا بنفسه.

قال القاشاني : وقول الشيطان (ما أَطْغَيْتُهُ ...) إلخ كقوله (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] ، لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد ، بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية ، والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية ، لم يقبل وسوسة الشيطان ، وقبل إلهام الملك. فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب من نور الفطرة ، واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة. انتهى.

وقال ابن جرير : وإنما أخبر تعالى عن قول قرين الكافر له يوم القيامة ، إعلاما منه عباده ، تبرّأ بعضهم من بعض يوم القيامة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) (٢٨)

(قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي لا تختصموا اليوم في دار الجزاء ، وموقف الحساب ، فلا فائدة في اختصامكم ، وقد قدمت إليكم في الدنيا بالوعيد لمن كفر بي وعصاني ، وخالف أمري ونهيي في كتبي ، وعلى ألسن رسلي.

قال القاشاني : النهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاءه ، بل عدم فائدته ،

٢٤

والاستماع إليه. كأنه قال : لا اختصام مسموع عندي. وقد ثبت وصح تقديم الوعيد ، حيث أمكن انتفاعكم به ، لسلامة الآلات ، وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ، ولم ترفعوا لذلك رأسا ، حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ، ورانت على قلوبكم ، وتحقق الحجاب ، وحق القول بالعذاب. انتهى.

وعن ابن عباس : أنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم ، ورد عليهم قولهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩)

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) قال ابن جرير : ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.

(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي فلا أعذب أحدا بذنب غيره ، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه.

وقال القاشاني : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ) حيث وهبت الاستعداد ، وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه ، وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة ، واستبدال ما يفنى بما يبقى.

تنبيهات :

الأول ـ ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته ، إذ لا مانع منها. وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز.

قال القاشانيّ : هذه المقاولات كلها معنوية ، مثلت على سبيل التخييل والتصوير ، لاستحكام المعنى في القلب ، عند ارتسام مثاله في الخيال. فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان. وإنكار الشيطان إياه ، عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه : الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه : كالغضبية والشهوية مثلا. ولهذا قال : (لا تَخْتَصِمُوا) ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية ، كان أصل التخاصم بينهما. وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر ، لتوقع نفع أو لذة ، يتوقفان ما دام مطلوبهما حاصلا ، فإذا حرما أوقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، تدارءا ، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى

٢٥

الآخر ، لاحتجابهما عن التوحيد ، وتبرؤ كل منهما عن ذنبه ، لمحبة نفسه. ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبيّ عليه‌السلام : ورأيت أهل النار يتعاورون. وصوّب عليه‌السلام قوله. انتهى.

الثاني إن قلت : لم طرحت الواو من جملة (قالَ قَرِينُهُ) وذكرت في الأولى؟ قلت : لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون.

فإن قلت : أين المقاولة؟ قلت : لما قال قرينه (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) وتبعه قوله : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) وتلاه (لا تَخْتَصِمُوا) علم أن ثمّ مقاولة من الكافر ، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق كأنه لما قال القرين : هذا ما لديّ عتيد ، قال الكافر : ربّ هو أطغاني ، فلما قال الكافر ذلك ، قال القرين : ما أطغيته ، فلما حكى قول القرين والكافر كأن قائلا يقول : فماذا قال الله تعالى؟ فقيل : قال لا تختصموا لديّ. وذكر الواو في الجملة الأولى لأنها أول المقاولة ، ولا بد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أعني مجيء كل نفس مع الملكين ، وقول قرينه ما قاله له ـ هذا ملخص ما في الكشاف ـ.

الثالث ـ جوز قوله تعالى : (بِالْوَعِيدِ) أن تكون الباء زائدة في المفعول ، وأن يكون حالا من الفاعل أو المفعول ، والباء للملابسة ، أو المعية ، والمعنى : قدمت هذا القول موعدا لكم به ، أو حال كون القول ملتبسا بالوعيد ، أو من (لا تَخْتَصِمُوا) على تأويل تقديم الوعيد بالعلم به. أي : لا تختصموا عالمين به. وذلك لتصح الحالية ، ويكون بينها وبين عاملها مقارنة على اصطلاحهم.

الرابع ـ دل قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى ، كما لا إخلاف في ميعاد الله. وهذا يرد على المرجئة ، حيث قالوا : ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف ، لا يحقق الله شيئا منه ، وقالوا : الكريم إذا وعد أنجز ووفّى ، وإذا أوعد أخلف وعفا ـ أفاده الرازيّ ـ.

ووجه الاستدلال أنه لو صح ما ذكروه للزم تبديل قوله تعالى ، والخلف في أخباره ـ تقدس عن ذلك ـ مع أن طبيعة الذنب تقتضي العقوبة ، إلا أن يتاب منه ، أو يشاء تعالى العفو عنه.

الخامس ـ ذكروا في سر المبالغة في (بِظَلَّامٍ) وجوها :

٢٦

منها ـ أن (فعّالا) قد ورد بمعنى (فاعل) ، فهذا منه.

ومنها اعتبار كثرة الخلق.

ومنها ـ أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم ، إن عظيما فعظيم ، وإن قليلا فقليل. فما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه ، قدس ذاته عما يتوهم مخذول ، والعياذ بالله ، أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠)

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال ابن جرير : فيه لأهل التأويل قولان :

الأول ـ أن معناه : ما من مزيد. فعن مجاهد قال : وعدها الله ليملأنها فقال : هلا وفّيتك؟ قالت : وهل من مسلك؟!.

الثاني ـ معناه : زدني

أي : فالاستفهام على الأول إنكاريّ. معناه النفي ، وأيد بآية (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩] و [السجدة : ١٣] ، والقرآن يفسر بعضه بعضا. وعلى الثاني تقريريّ ، دلالة على سعتها. بحيث يدخلها من يدخلها ، وفيها فراغ وخلوّ. كأنه يطلب الزيادة.

فإن قيل : الوجه الثاني ، وهو كونها فيها فراغ ، مناف لصريح النظم من قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ..) الآية ، قلت لا منافاة بينهما كما توهم ، لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها ، وإن كان فيها فراغ كثير. كما يقال : إن البلدة ممتلئة بأهلها ، ليس فيها دار خالية ، مع ما بينها من الأبنية والأفضية. أو هذا باعتبار حالين. فالفراغ في أول دخول أهلها فيها ، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.

تنبيه :

ذهب جماعة إلى أن المقاولة في الآية مجاز على طريق الاستعارة التمثيلية ، وأن جهنم لشدة توقدها وزفيرها. وتهافت الكفرة والعصاة ، وقذفهم فيها كأنها طالبة للزيادة.

٢٧

وآخرون إلى أن ذلك حقيقة.

قال الناصر في (الانتصاف) : إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة ، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه. وكيف نفرض ، وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك؟ منها هذا ، ومنها لجاج الجنة والنار ، ومنها اشتكاؤها إلى ربها ، فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا ، فظواهر يجب حملها على حقائقها ، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ، ما لم يمنع مانع ، ولا مانع هاهنا ، فإن القدرة صالحة ، والعقل يجوّز ، والظواهر قاضية بوقوع ما جوّزه العقل. وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا ، كتسليم الشجر ، وتسبيح الحصى في كف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يد أصحابه. ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة ، لا تسع الخرق ، وضل كثير من الخلق عن الحق. وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها ، فإن العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق. انتهى.

قال الشهاب : وهو كلام حسن ، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا. انتهى.

ولا تنس ما قلناه مرارا من أن اللغة لا تنحصر في الحقيقة ، وأن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة ، كما أوضحه السيوطي في (المزهر) والجرجاني في (أسرار البلاغة). وفي شواهد العرب الكثيرة ما يؤيد المجاز ، ولا محذور فيه ، عدا عن كونه أبلغ ، كما قرروه. وبالجملة فالنظم الكريم يحتملها ـ والله أعلم ـ.

و (يوم) منصوب ب (ظلّام) أو بمضمر ، نحو : اذكر وأنذر. و (المزيد) إما مصدر كالمحيد ، أو اسم مفعول كالمبيع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١)

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت وأدنيت (لِلْمُتَّقِينَ) أي للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته ، بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي مكانا غير بعيد. فهو صفة للظرف قام مقامه ، أو حال من الجنة. وتذكيره لأنه صفة مذكر. أي : شيئا غير بعيد. أو تأويل الجنة بالبستان. أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فعومل معاملته ، وأجري مجراه. وعلى كل فهو للتأكيد ، ودفع التجوز ، فلا يقال بعد ذكر كونها قربت ، لا يحتاج إلى كونها غير بعيدة.

٢٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٣٢)

(هذا) أي الثواب أو الإزلاف (ما تُوعَدُونَ) أيها المتقون (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي راجع عن معصية الله إلى طاعته ، تائب من ذنوبه (حَفِيظٍ) أي حافظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.

وقال القاشانيّ : أي محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي ، كي لا يتكدر بظلمة النفس و (لكل) بدل من (للمتقين) بإعادة الجار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣٣)

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي خاف الله في سره. وقال القاشانيّ : أي من اتصف بالخشية ، وصارت الخشية مقامه. و (من) بدل بعد بدل ، أو خبر لمحذوف. أي هم من خشي. أو مبتدأ خبره ما بعده بتأويل (يقال لهم ادخلوها .. إلخ) (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه ، راجع مما يكرهه تعالى إلى ما يرضيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥)

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي يقال لهم ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي مما تشتهيه نفوسهم ، وتلذه أعينهم (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي مما لا يخطر على بالهم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦)

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) أي قبل هؤلاء المشركين من قريش (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي قوة ، كعاد وفرعون وثمود (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها. قال امرؤ القيس :

٢٩

لقد نقّبت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

(هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي هل كان لهم ، بتنقيبهم في البلاد ، من معدل عن الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق. والضمير على هذا في (نقبوا) للقرن الذين هم أشد بطشا. وجوز عوده لهؤلاء المشركين. أي ساورا في أسفارهم في بلاد القرون ، فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟.

قال ابن جرير : وقرأت القراء قوله (فَنَقَّبُوا) بالتشديد وفتح القاف ، على وجه الخبر عنهم. وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ (فَنَقَّبُوا) بكسر القاف ، على وجه التهديد والوعيد. أي طوفوا في البلاد وترددوا فيها ، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧)

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في إهلاك القرون التي أهلكت من قبل قريش (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الآمة ، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم ، خوفا من أن يحل بهم مثل الذي حلّ بهم من العذاب.

(أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي أصغى للأخبار ، عن هذه القرون التي أهلكت ، بسمعه.

(وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاضر القلب ، متفهم لما يخبر به عنهم ، غير غافل ولا ساه. على أن (شهيد) من الشهود ، وهو الحضور. والمراد : المتفطن ، لأن غير المتفطن كالغائب ، فهو استعارة أو مجاز مرسل. أو (شهيد) بمعنى شاهد ، وفيه مضاف مقدر. أي : شاهد ذهنه. أو هو من الشهادة ، والمراد : شاهد بصدقه ، أي : مصدق له ، لأنه المؤمن الذي ينتفع به. أو هو كناية عن المؤمن ـ نقله الشهاب ـ.

لطيفة :

قيل : (أو) لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع ، أو إلى فقيه ومتعلم ، أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده ، وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته ، وأزال الموانع بأسرها. وفي تنكير (القلب) وإبهامه ، تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر ، كلا قلب.

٣٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي إعياء.

قال قتادة : أكذب الله اليهود وأهل الفري على الله ، وذلك أنهم قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع ، وذلك عندهم يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠)

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يعني : المشركين من إنكار البعث والتوحيد والنبوة (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي أعقاب الصلوات. والمراد بالتسبيح إما ظاهره ، وهو قرين التحميد ، أو هو الصلاة ، من إطلاق الجزء ، أو اللازم على الكل ، أو الملزوم. فالصلاة قبل الطلوع ، الصبح. وقبل الغروب ، الظهر والعصر. ومن الليل ، العشاآن والتهجد. وأدبار السجود. النوافل بعد المكتوبات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٤٢)

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي استمع ، أي لما أخبرك به من أهوال القيامة. يوم ينادي مناديها من كل مكان قريب ، بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء.

قال القاضي : ولعله في الإعادة نظير (كن) في الإبداء ، أي فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ، وإن لم يكن نداء وصوت.

٣١

وفي ورود الأمر مطلقا ، ثم تبيينه بما بعده ، تهويل وتعظيم للمخبر به ، لما في الإبهام ثم التفسير ، من التهويل والتفخيم لشأن المحدث عنه.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) أي صيحة البعث من القبور ، والحشر للجزاء (بِالْحَقِ) قال ابن جرير : يعني بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب.

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي من القبور.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (٤٣)

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي مصير الجميع يوم القيامة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤٤)

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) أي فيخرجون منها مسرعين (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي ذلك الإخراج لهم جمع في موقف الحساب ، علينا سهل بلا كلفة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) يعني : مشركي مكة ، من فريتهم على الله ورسوله ، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث. وهو تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بمسلط ومسيطر تقهرهم على الإيمان (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي بل إنما بعثت مذكرا ومبلغا ، فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعد به من عصى وطغى ، فإنه ينتفع به.

ومن دعاء قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعدك ، يا بارّ يا رحيم!

٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الذاريات

قال المهايميّ : سميت بها لأنها مبدأ الخيرات ، فأشبهت العناية الإلهية. وهي مكية. وآيها ستون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) يعني : الرياح التي تذرو البخارات ذروا. أي نوعا من الذرو ليعقدها سحبا. أو النساء الولود ، فإنهن يذرين الأولاد ، مجازا شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وهو استعارة أيضا شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم ، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها.

و (الذَّارِياتِ) اسم فاعل (ذرا) المعتل بمعنى فرّق وبدّد ما رفعه عن مكانه. ويقال : أذرى أيضا. وأما (ذرأ) المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) (٢)

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) أي السحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :

وأسلمت نفسي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

أو الرياح الحاملة للسحاب ، أو النساء الحوامل ، أو أسباب ذلك.

و (الوقر) بسكر الواو ، كالحمل وزنا ومعنى. وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول.

٣٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤)

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) أي السفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب التي تجري في منازلها. و (يُسْراً) صفة مصدر محذوف. أو جريا ذا يسر (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي الملائكة التي تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة. أو الرياح يغسمن الأمطار بتصريف السحاب.

تنبيهات :

الأول ـ ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة ، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن عليّ رضي الله عنه : أن الذاريات هي الرياح ، والحاملات هي السحاب ، والجاريات هي السفن ، والمقسمات هي الملائكة. واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى : فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والملائكة فوق الجميع ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.

واستظهر الرازيّ أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح ، وأطال في ذلك.

واللفظ متسع بجوهره للكل ـ والله أعلم ـ.

الثاني ـ فائدة (الفاء) إن قيل إنها صفات الرياح ، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود. فإن الذاريات تنشئ السحاب. فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل إنها أمور أربعة ، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ.

الثالث ـ ذكر الرازيّ في الحكمة في القسم وجوها :

أحدها ـ أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غالبا في إقامة الدليل ، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة ، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله ، وأنه يغلبنا بقوة الجدل ، لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل ، ولم يبق له حجة ، يقول : إنه غلبني لعمله بطريق الجدل ، وعجزي عن ذلك. وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي ، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين ، فيقول : والله! إن الأمر كما أقول ، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر ، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول ، إن

٣٤

ذلك تقرير بقوة علم الجدل ، فلا يبقى إلا السكوت أو التمسك بالأيمان ، وترك إقامة البرهان.

ثانيها ـ أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة ، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع. ثم إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من الأيمان بكل شريف ، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا. وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا ، وإلا لأصابه شؤم الأيمان ، ولناله المكروه في بعض الأزمان.

ثالثها ـ أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها ، كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان. مثاله قول القائل لمنعمه : وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك. فيذكر النعم ، وهي سبب مفيد لدوام الشكر ، ويسلك مسلك القسم. كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة.

فإن قيل : فلم أخرجها مخرج الأيمان؟ نقول : لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف ، يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم ، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر ، فبدأ بالحلف ، وأدرج الدليل في صورة اليمين ، حيث أقبل القوم على سماعه ، فخرج لهم البرهان المبين ، والتبيان المتين ، في صورة اليمين. انتهى. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) (٦)

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) جواب القسم و (ما) موصولة أو مصدرية. والموعود هو قيام الساعة ، وبعث الموتى من قبورهم. و (صادق) بمعنى صدق. فوضع الاسم مكان المصدر ، أو هو من باب (عيشة راضية). (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء على الأعمال. إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشر (لَواقِعٌ) أي لحاصل. قال قتادة : وذلك يوم القيامة ، يوم يدين الله العباد بأعمالهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (٩)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أي الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب.

و (الحبك) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء ، إذا ضربته الريح.

٣٥

وكذلك حبك الشّعر : آثار تثنّيه وتكسّره. و (الحبك) بضمتين جمع حباك ، كمثال ومثل وكتاب وكتب. أو حبيكة كطريقة وطرق. قال زهير يصف غديرا :

مكلل بأصول النّجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك

ويقال : ما أملح حباك هذه الحمامة! وهو الخط الأسود على جناحها.

وعن الحسن : (ذاتِ الْحُبُكِ) أي النجوم قال : حبكت بالخلق الحسن ، حبكت بالنجوم. وذلك لأنها تزين السماء ، كما يزين الثوب الموشّى تحبيكه ، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازا بالاستعارة.

وقال بعض علماء الفلك : الحبك جمع حبيكة ، بمعنى محبوكة ، أي : مربوطة. فمعنى (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية ، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة. فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الأفرنج أنهم مكتشفوها. وعليه ، في إحدى معجزات القرآن العلمية. انتهى.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي متخالف متناقض. قال ابن زيد : يتخرصون يقولون : هذا سحر ويقولون : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (يُؤْفَكُ) أي يصرف (عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي صرف عن الحق الصريح الصرف التام ، إذ لا صرف أشد منه.

وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه ، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها ، وتنافي أغراضها ، بالطرائق للسموات في تباعدها ، واختلاف غاياتها.

ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل ، بل لأخذهم بالخرص والتخمين ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣)

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي لعن الآخذون بالتخمين ، مع ترك دلائل اليقين (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة ، وترك الشبهات الواهية (ساهُونَ) أي غافلون عما أتاهم ، وعما نزل إليهم ، بالانهماك في اللذات البدنية ، واستئثار الحظوظ العاجلة (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي متى يوم الجزاء ، ويوم

٣٦

يدين الله العباد بأعمالهم (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يحرقون. وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه. ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه.

قال القاضي : جواب للسؤال. أي يقع يوم هم على النار يفتنون ، أو هو يوم هم .. إلخ ، وفتح (يوم) لإضافته إلى غير متمكن ، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي مقولا لهم : ذوقوا عذابكم الذي طلبتموه ، بل الذي استعجلتموه قبل وقته ، كما قال : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي حصوله في الدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا الله بطاعته ، واجتناب معاصيه في الدنيا ، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال ابن جرير : أي عاملين ما أمرهم به ربهم ، مؤدين فرائضه. وقال غيره : أي قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ ، راضين به.

وهذا هو الوجه. ولذا قال ابن كثير : والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ، لأن قوله تبارك وتعالى (آخِذِينَ) حال من قوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون ، آخذين ما آتاهم ربهم. أي من النعيم والسرور والغبطة.

ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) يعني : في الدنيا (مُحْسِنِينَ) أي قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم ، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم ، كما بينه بقوله سبحانه (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى ، بنشاط.

روى ابن جرير عن أنس في الآية ؛ أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين ، ما بين المغرب والعشاء.

٣٧

وعن محمد بن عليّ : كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة.

وعن مطرّف : قلّ ليلة أتت عليهم ، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.

وعن الحسن قال : لا ينامون من الليل إلا أقله ، كابدوا قيام الليل.

وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال : لست من أهل هذه الآية.

وعن الضحاك : أن الوقف على قوله تعالى (كانُوا قَلِيلاً) أي أن المحسنين كانوا قليلا ثم ابتدئ فقيل (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) و (ما) نافية. أي لا يهجعون.

قال ابن كثير : هذا القول فيه بعد وتعسف.

لطيفة :

في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم ، وترك الاستراحة. وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم ، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم ، وزيادة (ما) لأنها تدل على القلة. وبالجملة. ففي الآية استحباب قيام الليل ، وذم نومه كله. والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال القاضي : أي أنهم مع قلة هجوعهم ، وكثرة تهجدهم ، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.

قال الرازيّ : في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجّدون ويجتهدون ، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك ، وأخلص منه ، فيستغفرون من التقصير. وهذا سيرة الكريم : يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ، ويعتذر من التقصير. واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ، ويمنّ به. وفيه وجه آخر ألطف منه : وهو أنه تعالى ، لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال (يَسْتَغْفِرُونَ) أي من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبيّنها في جواب سؤال : وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ،. ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد ، لا الهجوع؟ نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو الاستغفار ، في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.

ثم قال : والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم : ربنا اغفر لنا. وطلب المغفرة بالفعل ، أي بالأسحار. يأتون بفعل آخر طلبا للغفران ، وهو الصلاة. والأول أظهر ، والثاني عند المفسرين أشهر. انتهى.

٣٨

ويؤيد الثاني الإشارة إلى الزكاة في الآية بعدها. والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار ، الإشارة إلى أنه ركنها المهم في التهجد ، بل وفي غيره ، فيكون من إطلاق الجزء على الكل. وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها. كالركوع والسجود وبين السجدتين وآخر الصلاة ، كما أخرجه الشيخان وأهل السنن ـ وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.

لطيفة :

قال الزمخشريّ في (أساس البلاغة) إنما سمي (السحر) استعارة ، لأنه وقت إدبار الليل ، وإقبال النهار ، فهو متنفس الصبح. انتهى.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي الفقير المتعفف الذي يظن غنيا ، فيحرم الصدقة.

قال قتادة : هذان فقيرا أهل الإسلام : سائل يسأل في كفه ، وفقير متعفف ولكليهما عليك حق ، يا ابن آدم.

وفي الصحيح (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه.

وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للسائل حق وإن جاء على فرس. ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجهه.

ويدخل في (المحروم) كل من لا مال له ، ومن هلك ماله بآفة ، ومن حرم الرزق واحتاج ، إلا أن أهم أفراده المتعفف. ولذا عوّل عليه الأكثر.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما ، أو يقرون بها ضيفا ، أو يحملون بها كلّا.

ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات ، لكثرة الآيات الواضحة ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٢ ـ سورة البقرة ، ٤٨ ـ باب (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ، حديث رقم ٧٨٨ ، عن أبي هريرة.

٣٩

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي عبر وعظات لأهل اليقين ، وهم الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس ، وينثلج له الصدر ، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النبات والحيوانات ، والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار ، عبرا وآيات عظاما ، وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته ، جل جلاله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١)

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، واختلاف ألسنتها وألوانها ، وما جبلت عليه من القوى والإرادات ، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام ، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها ، في المحل المفتقر إليه ، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ، ولا لسان بليغ.

أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكير والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشيّ :

وإذا نظرت تريد معتبرا

فانظر إليك ، ففيك معتبر

أنت الذي تمسي وتصبح في ال

دّنيا وكلّ أموره عبر

أنت المصرّف كان في صغر

ثم استقلّ بشخصك الكبر

أنت الذي تنعاه خلقته

ينعاه منه الشّعر والبشر

أنت الذي تعطى وتسلب ، لا

ينجيه من أن يسلب الحذر

أنت الذي لا شيء منه له

وأحقّ منه بما له القدر

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (٢٢)

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) يعني ب (السماء) المزن ، وب (الرزق) المطر ، فإنه سبب الأقوات. والمراد ب (ما تُوعَدُونَ) العذاب السماويّ ، لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها. والخطاب لمشركي مكة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر

٤٠