تفسير القاسمي - ج ٧

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٧

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الكهف

ويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايميّ : سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله ، من الأمن الكليّ عن الأعداء ، والإغناء الكليّ عن الأشياء ، والكرامات العجيبة ، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية ، وقيل إلا أولها إلى قوله : (جُرُزاً) [الكهف : ١ ـ ٨] ، وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...) [الكهف : ٢٨] الآية ، و (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) [الكهف : ١٠٧ ـ ١١٠] ، إلى آخر السورة. واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة ، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة ، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) قدّمنا أن كثيرا ما تفتح السور وتختم بالحمد ، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [القصص : ٧٠] ، وتعليما للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه. وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العليّة ، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان العبودية ، تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية ، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه‌السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي الكتاب الكامل الغنيّ عن الوصف بالكمال ، المعروف بذلك من بين الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور ، مع أن حقه التقديم عليه ، ليتصل به قوله سبحانه (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) أي شيئا من العوج ، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج ؛ إذ جعله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَد) (٣)

(قَيِّماً) أي قيّما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم ، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة ،

٤

مهيمنا عليها. أو متناهيا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له ، حسبما تنبئ عنه الصيغة. وانتصابه بمضمر تقديره (جعله) كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.

تنبيه :

ذهب القاشانيّ أن الضمير في (له) وما بعده لقوله : (عَبْدِهِ) قال : أي لم يجعل لعبده زيغا وميلا. وجعله قيّما ، يعني مستقيما ، كما أمر بقوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [هود : ١١٢] ، أو قيّما بأمر العباد وهدايتهم ، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه ، عليه الصلاة والسلام ، لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها ، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم ، صلوات الله عليه ، أمة. وهذه القيّميّة أي القيام بهداية الناس ، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة ، انتهى.

والأظهر الوجه الأول.

وقوله تعالى (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي لينذر من خالفه ولم يؤمن به ، عذابا شديدا عاجلا أو آجلا. و (البأس) : القهر والعذاب ، وخصصه بقوله (مِنْ لَدُنْهُ) إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق ب (أنزل) أو بعامل (قيما) (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي به. وقال القاشاني : أي الموحدين ، لكونهم في مقابلة المشركين ، الذين قالوا اتخذ الله ولدا. وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أي من الخيرات والفضائل (أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم ، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة (أَجْراً حَسَناً) وهو الجنة (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (٤)

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) وهم مشركو العرب في قولهم (الملائكة بنات الله) والنصارى في (دعواهم المسيح ابن الله) وخصهم بالذكر ، وكرر الإنذار متعلقا بهم ، استعظاما لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة ، في الكفر على أقبح الوجوه.

٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) (٥)

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) أي ما لهم بالولد ، أو باتخاذه ، أو بالقول ، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط ، وتوهم كاذب ، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين ، ويقين. ويؤيده قوله : (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي ما أكبرها كلمة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات ، لا يماثله الوجود الممكن. والولد هو المماثل لوالده في النوع ، المكافئ له في القوة. وجملة (تخرج من أفواههم) صفة ل (كلمة) تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب : لأن المعنى : كبر خروجها. أي عظمت بشاعته وقباحته ، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) أي قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي ، والوجدان الذوقي على إحالته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦)

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ) أي مهلك (نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَسَفاً) أي لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسفا عليهم. و (الأسف) فرط الحزن والغضب. وفي (العناية) : لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم ، وقد تولوا ، وهو آسف من عدم هدايتهم ، بحال من فارقته أحبته. فهمّ بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك ـ كما قال القاشاني ـ أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه. ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيب الله ، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، وكلما كانت محبته للحق أقوى ، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله ، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقيّ. فلذلك بالغ في التأسف عليهم ، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى :

٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧)

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) أي من الحيوان والنبات والمعادن (زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها ، وأعصى لهواها أي رضاي ، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) (٨)

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي ترابا مستويا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار ، لا شيء فيه يختلف ، ربي ووهادا. أي نفنيها وما عليها ولا نبالي. وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها ، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩)

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفا بالمصدر مبالغة و (مِنْ آياتِنا) حال منه و (أَمْ) للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي أنهم من بين آياتنا آية عجيبة. وجعلها منقطعة مقدرة ب (بل والهمزة ، والاستفهام للإنكار) ـ أي إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى ـ فيه بعد. لأن سياق النظم الكريم ، أعني سوقها مفصلة منوها بها ، ما هو إلّا لتقرير التعجب منها. و (الْكَهْفِ) الغار الواسع في الجبل. و (الرَّقِيمِ) اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم ، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي ، أقوال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) (١٠)

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) أي خوفا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان

٧

والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم (فَقالُوا رَبَّنا) أي من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار (رَشَداً) وهو توحيدك وعبادتك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (١١)

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير ، ولا دعوة الداعي الخبير ، في الكهف سنين ذوات عدد. أي كثيرة أو معدودة. قال الشهاب : (ضربنا) مستعار استعارة تبعية لمعنى أنمناهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إمّا من (ضربت القفل على الباب) أو (ضربت الخباء على ساكنه) شبّه ، لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه ، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه. وقيل إنه استعارة تمثيلية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢)

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم إيقاظا يشبه بعث الموتى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) أي لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم ، أشد إحصاء ، أي إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب ، وأمنهم من العدوّ ، فيتمّ لهم رشدهم في شكره ، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١٣)

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها. و (الحق) الأمر المطابق للواقع (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) أي بوحدانيته إيمانا يقينيا علميّا على طريق الاستدلال ، مع اتفاق قومهم على الشرك (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير : الفتية ـ وهم الشباب ـ أقبل

٨

للحق وأهدى للسبيل ، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء ، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى ، وبما جاء به عيسى عليه‌السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفرّوا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل : دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم : لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف ، فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى. فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض : كم لبثتم؟ فقالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا : من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.

واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له : انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم ف (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) هذا ما أورده ابن جرير أولا ، وفيه كفاية عن غيره.

وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.

وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها (طرسوس) من أعمال طرابلس الشام. وفيها من الآثار القديمة العهد ، في جبل بها ، ما يزعم أهلها زعما متوارثا ، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم. ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم ، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (١٤)

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على

٩

محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات الحسية والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد ، وإظهار الدين القويم ، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى : (إِذْ قامُوا) أي بين يديه غير مبالين به. و (إذ) ظرف ل (ربطنا). قال الشهاب : (الربط) على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشدّ المعروف. أي استعارة منه. كما يقال ، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله ، كما قال تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] ، فشبه القلب المطمئن لأمر ، بالحيوان المربوط في محلّ. وعدّى (ربط) ب (على) وهو متعدّ بنفسه ، لتنزيله منزلة اللازم (فَقالُوا رَبُّنا) الذي نعبده (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه (لَنْ نَدْعُوَا) أي نعبد (مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) أي ذا بعد عن الحق ، مفرط في الظلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (١٥)

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) عملوا أو نحتوا لهم آلهة ، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي على عبادتهم أو إلهيتهم أو تأثيرهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني : دليل على فساد التقليد ، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله ، وتأثيره ووجوده ، محال. كما قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ٢٣] ، أي أسماء بلا مسميات ، لكونها ليست بشيء (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا مساوي له في الظلم والكفر. إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله ، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦)

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي وإذ اعتزلتم القوم ،

١٠

بترك متابعتهم ، من إفراط ظلمهم ، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله ، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له ، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه ، فلا يؤذونكم ، ولا تخافوا ، من الكون فيه ، فوات الطعام والشراب ، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي ما يغني عن الطعام والشراب ، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) وهو اختيار جانبه على جانبكم (مِرْفَقاً) أي ما تنفعون به. قال المهايمي : يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.

تنبيه :

زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال ، إذا اضطهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة ، الإمام الغزالي حيث قال في (إحيائه) : وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي ولا ريب في مشروعيته فرارا من الفتن.

فقول السيوطي في (الإكليل) : في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان ـ كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب ، فافهم ولا تغل. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧)

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ) أي صعدت عند طلوعها (تَزاوَرُ) أي تميل (عَنْ كَهْفِهِمْ) أي بابه (ذاتَ الْيَمِينِ) أي يمين الكهف. (وَإِذا غَرَبَتْ) أي هبطت للغروب (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) أي تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب

١١

دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب : (تقرضهم) من القرض بمعنى القطع. أي قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم ، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد ـ مردود ، بأنه لم يسمع له ثلاثي.

وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل : تتجاوزهم شيئا. من (القرض) وهو القطع. أي تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء ، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه ، لتبقى أبدانهم ، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين (مَنْ يَهْدِ اللهُ) أي إلى الحق بالتوفيق له (فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا) أي ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال (مُرْشِداً) أي يهديه إلى ما ذكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) (١٨)

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) خطاب لكل أحد. أي تظنهم ، يا مخاطب ، أيقاظا لانفتاح أعينهم ، وهم رقود مستغرقون في النوم ، بحيث لا ينبههم الصوت. قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر :

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم

و (أَيْقاظاً) جمع يقظ ويقظان. و (رُقُودٌ) جمع راقد. وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود ، لأن فاعلا لا يجمع على فعول ـ مردود بما نص عليه النحاة كما صرّح به في (المفصّل) و (التسهيل).

١٢

(وَنُقَلِّبُهُمْ) أي في رقدتهم (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) أي لئلا تتلف الأرض أجسادهم (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، قال ابن كثير : وهذا فائدة صحبة الأخيار. فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل إنه كان كلب صيد لهم ، وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب. ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض ، حفظهم عن الأعداء بكلب ، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي خوفا يملأ صدرك ، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك كما قال ابن كثير. لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (١٩)

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي وكما أنمناهم تلك النومة ، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا ، ادّكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير : وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا ، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى ، ويزدادوا يقينا ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرّموا به. أفاده الزمخشري.

وبه يتبيّن أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة ، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) أي رقدتم. اعترافا بجهل

١٣

نفسه أو طلبا للعلم من غيره ، وإن لم يظهر كونه على اليقين (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال ابن كثير : كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا : أو بعض يوم. وقال المهايميّ : فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية ، ظن أنهم لبثوا يوما ، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية ، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالوليّ يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول ، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري : جواب مبنيّ على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب. وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.

(قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) إنكار عليهم من بعضهم ، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة ، أو بإلهام من الله ، أن المدة متطاولة ، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم. (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) أي المأخوذة للتزود. و (الورق) الفضة (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي التي فررتم عنها (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) أي أطيب. (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) أي في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي ، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٢٠)

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يطلعوا على مكانكم (يَرْجُمُوكُمْ) أي يقتلوكم بالحجارة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشانيّ : ظهور العوامّ ، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين ، وأهل الباطل المطبوعين ، ورجمهم أهل الحق ، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم ـ ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.

لطائف :

الأولى ـ قال الزمخشري : فإن قلت : كيف وصلوا قولهم (فابعثوا) بتذاكر حديث المدة؟ قلت : كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.

ورأى المهايمي أن قولهم (فَابْعَثُوا) من تتمة حديث المدة. قصد به

١٤

تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) قالوا هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر ، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم. بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به ، فيفضي إلى الهلاك.

الثانية ـ قال في (الإكليل) : قوله تعالى (فَابْعَثُوا) الآية ، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك.

قال الكيا : وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة ، وإن تفاوتوا في الأكل.

الثالثة ـ دلّ قوله تعالى عنهم (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن ، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبّا الاعتناء بجودته وتزكيته ، كما فصّل في قوانين الصحة.

الرابعة ـ قال الرازي : (الرجم) بمعنى القتل ، كثير في التنزيل كقوله (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : ٩١] ، وقوله : (أَنْ تَرْجُمُونِ) [الدخان : ٢٠] ، وأصله الرمي ، أي بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها ، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٢١)

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة ، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام ، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم ، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي الموعود فيها بالبعث (لا رَيْبَ فِيها) إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم ، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم ، بقوله سبحانه (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) أي على

١٥

باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات المشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم ، و (إذ) على ما يظهر لي ، ظرف ل (اذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم ، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم. وجعله ظرفا ل (أَعْثَرْنا) أو لغيره مما ذكروا ـ ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.

وقوله تعالى (فَقالُوا) تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة. إما من الله ، ردّا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب ، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيّهم إليه تعالى (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أي من المتنازعين ، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي نصلي فيه ، تبركا بهم وبمكانهم.

تنبيه :

قال ابن كثير : حكي في القائلين ذلك قولان (أحدهما) أنهم المسلمون منهم (والثاني) أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : (لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذّر ما فعلوا. انتهى.

وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين ، مع إيراده الحديث الصحيح بعده ، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبيّ والوليّ مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح : ٢٣] ، قال : هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى ، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة ، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم : يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك ، صرّحوا بأن القصد

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الصلاة ، ٥٥ ـ باب حدثنا أبو اليمان ، حديث ٢٨٥ و ٢٨٦ ، عن عائشة وعبد الله بن عباس.

وأخرجه مسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ١٩ و ٢٢.

١٦

هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا : من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار ، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف ، بواسطة مقابلته.

وهذا المعنى بعينه ، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقّاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج. ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها ، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه ، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.

ثم قال عليه الرحمة : ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به ، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبّحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج ، وأثبت لهم خصائص الربوبية ، ونزههم عن لوازم العبودية ، وادعى أن ذلك تعظيم لهم ـ كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظّم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظّم ويبغضه ، ويمقت فاعله ، فلم يعظمه في الحقيقة ، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان : أحدهما ما يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله ، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله ، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي ، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح. بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند (١) بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا محمد! يا سيدنا! وابن سيدنا!

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ١٥٣.

١٧

وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عليكم بتقواكم ، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله. ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزوجل). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله) وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض. وقال (٢) : (إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. يقومون على ملوكهم) وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال : إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم ، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين ، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢٢)

(سَيَقُولُونَ) أي الخائضون في قصتهم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ) أي بعض آخر منهم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنّا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير : كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب ، وإن أصاب فبلا قصد (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ممن أطلعه الله عليه (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي ، وتفويض العلم إلى الله سبحانه ، من غير تجهيل لهم ، ولا تعنيف بهم ، في الرد عليهم كما قال

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣ / ١٥٣.

(٢) أخرجه البخاري في : الحدود ، ٣١ ـ باب رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت ، حديث رقم ١٢١٤ ، عن عمر بن الخطاب.

وأخرجه مسلم في : الصلاة ، حديث رقم ٨٤.

١٨

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل : المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجّة مطلقا. والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي تردد ، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم. لأن السؤال إما للاسترشاد ، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده ، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى : جاءك الحق الذي لا مرية فيه ، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.

تنبيهات :

الأول ـ ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير ، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم ، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان. ولتخصيصه بالواو في قوله : (وَثامِنُهُمْ) وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس : حين وقعت الواو انقطعت العدّة. وأقول : لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة. ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله ، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا ، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة ، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية ـ بعيد غاية البعد ، وتكلف ظاهر ، وإغراب في القول.

ثم قيل : إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة ، لأن اقترانها بالواو مسوّغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها ، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم ، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام ، ردّ العلم إليه تعالى.

١٩

وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بيّن وبرهان نيّر. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به ، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) فإن فيه (دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه). وهو إما نبيّ ، أو من كان في مدتهم ، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسدّ من جهالة شأنهم.

وبالجملة ، فالنظم الكريم ، بأسلوبه هذا ، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله : أنا من القليل الذي استثنى الله عزوجل. كانوا سبعة ـ فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية ، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازيّ نقل عن القاضي أنه قال : إن كان ـ ابن عباس ـ قد عرفه ببيان الرسول ، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.

وبعد كتابتي لما تقدم بمدة ، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به ، مما قوي عنده من إشارة الآية ، كما ذكره أولئك الأكثرون ، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه‌الله ، حيث قال في (قاعدة له في التفسير) : اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام ـ مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته ، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها ، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو

٢٠