تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

الهوان (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النحل : ٦٠] ، (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي بالهلاك وهو أن يقول : ووا ثبوراه! ووا ويلاه! وهو من قولهم دعا فلان لهفه ، إذا قال والهفاه (وَيَصْلى سَعِيراً) أي يدخل نارا يحترق بها (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي منعما مستريحا من التفكر في الحق والدعاء إليه والصبر عليه. لا يهمه إلا أجوفاه ، بطرا بالنعم ، ناسيا لمولاه (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع إلى ربه ، أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيي ويموت ولا يهلكه إلا الدهر. فلم يك يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا ولا يبالي ما ركب من المآثم ، على خلاف ما قيل المؤمنين (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) [الطور : ٢٦] ، (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] ، (بَلى) أي ليحورن وليرجعن إلى ربه حيّا كما كان قبل مماته (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بما أسلف في أيامه الخالية فيجازيه عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١)

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) وهي الحمرة في الأفق من ناحية مغرب الشمس (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع وضمّ مما سكن وهدأ فيه من ذي روح كان يطير أو يدب نهارا كذا قال ابن جرير والأظهر أن يكون إشارة إلى الأشياء كلها ، لاشتمال الليل عليها. فكأنه تعالى : أقسم بجميع المخلوقات كما قال : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) [الحاقة : ٣٨ ـ ٣٩] ، (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اجتمع وتم نوره وصار كاملا (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي حالا بعد حال. والمعني بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال. وبالثانية الحياة الأولى. وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها. فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحس والإدراك والألم واللذة ، وإن خفي اكتناهها. وجوز أن يكون (طَبَقاً) جمع طبقة وهي المرتبة. أي لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات ، وأطوارا مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور.

قال الشهاب : الطبق معناه ما طابق غيره مطلقا في الأصل ، ثم إنه خص بما ذكر ، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدة المتعاقبة.

و (عَنْ) للمجاوزة أو بمعنى (بعد). والبعدية والمجاوزة متقاربان لكنه ظاهر

٤٤١

في الثاني (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي بهذا الحديث. وقد أقام لهم الحجة على التوحيد والبعث (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي لا يخضعون ولا يستكينون ولا ينقادون.

قال في (الإكليل) : وقد استدل به على مشروعية سجدة التلاوة

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ(٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي بآيات الله وتنزيله ، المبين لما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ، مع تحقيق موجبات تصديقه ، والإضراب عن محذوف تقديره كما قال الإمام ، لا تظن أن قرع القرآن لم يكسر إغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم. بلى ، قد بلغ وأقنع فيما بلغ. ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان ، ويصدهم عن الإذعان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل. وإنما هو تقصير المستدل وإعراضه عن هدايته ، فالإضراب يرمي إلى محذوف من القول يدل عليه السابق واللاحق (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل ، وإن أخفوه عنادا. أو بما يصمرون من البغي والمكر ، فسيجزيهم عليه. ولذا قال : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي جزاء على تكذيبهم وإعراضهم وبغيهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم. والاستثناء منقطع أو متصل ، على أن المراد بمن آمن من أسلم منهم فآمنوا باعتبار ما مضى أو بمعنى (يؤمنون) وكونه منقطعا أظهر لمجيء (لهم أجر) بغير فاء. والله أعلم.

٤٤٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البروج

مكية. وآيها اثنتان وعشرون. روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والسماء والطارق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٩)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي الكواكب والنجوم شبهت بالبروج ، وهي القصور ، لعلوّها. أو البروج منازل عالية في السماء.

قال ابن جرير : وهو اثنا عشر برجا. فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث فذلك ثمانية وعشرون منزلا. ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر. وأصل معنى البروج ـ كما قال الشهاب ـ الأمر الظاهر من التبرج. ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية. لأنها ظاهرة للناظرين. ويقال لما ارتفع من سور المدينة (برج) أيضا. فشبه ـ على هذا ـ الفلك بسور المدينة وأثبت له البروج (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي الذي وعد فيه العباد لفصل القضاء بينهم ، وذلك يوم القيامة (وَشاهِدٍ) وهو كل ما له حس يشهد به (وَمَشْهُودٍ) وهو كل محسّ يشهد بالحس. فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها. وتخصيص بعض المفسرين بعضا مما يتناوله لفظهما ، لعله لأنه الأهم. أو الأولى أو الأعرف والأظهر ، لقرينة عنده. وإلا فاللفظ على عمومه ، حتى يقوم برهان على تخصيصه.

٤٤٣

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم. على أن الجملة خبرية هي جواب القسم. أو دليل جوابه إن كانت دعائية ، والتقدير : لتبلون كما ابتلي من قبلكم ، ولينتقمن ممن فتنكم كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود.

قال الزمخشري : وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان ، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم (قتلت قريش) كما قيل : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) والأخدود : الحفرة في الأرض مستطيلة. وقوله تعالى : (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بدل من (الْأُخْدُودِ) و (الْوَقُودِ) بالفتح الحطب الجزل الموقد به وأما (الوقود) بالضم فهو الإيقاد (إِذْ هُمْ عَلَيْها) أي على حافات أخدودها (قُعُودٌ) أي قاعدون يتشفون من المؤمنين (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية ، وما تفعل بها النيران. ولا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) أي : وما أنكروا منهم ، ولا كان لهم ذنب ، إلا الإيمان بالله وحده.

قال الراغب : نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته ؛ إما باللسان وإما بالعقوبة. ومنه الانتقام (الْعَزِيزِ) أي الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام (الْحَمِيدِ) أي المحمود على إنعامه وإحسانه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة ، أصحاب الأخدود وغيرهم ، شاهد شهودا لا يخفى عليه منه مثقال ذرة ، وهو مجازيهم عليه. وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى ، إشعار بمناط إيمانهم. فإن كونه تعالى قاهرا ومنعما ، له ذلك الملك الباهر. وهو عليم بأفعال عبيده ، مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائر ، وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهو معروف في كتب المعاني.

تنبيه :

روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال : هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدودا في الأرض ، ثم أوقدوا فيها نارا ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء ، فعرضوا عليها. وهكذا قال الضحاك : هم من بني إسرائيل أخذوا رجالا

٤٤٤

ونساء فخدّوا لهم أخدودا ، ثم أوقدوا فيه النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها. فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار.

وقال مجاهد : كان الأخدود شقوقا بنجران. كانوا يعذبون فيها الناس ـ وتفصيل النبأ ـ على ما في كتاب (الكنز الثمين) ـ إن دعوة المسيح عليه‌السلام الأولى العريّة عن شوائب الإلحاد ، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها ، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران. وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرا من قبله نصرانيّا مثله. وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع. ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر ، بغضا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم. فأقاموا رجلا يهوديا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله. فأشهر ذلك ؛ اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ. وجاء لمحاربة مدينة نجران ، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة. ولما دخلها قتل عددا عظيما من سكانها رجالا ونساء. كانت عدتهم ـ فيما يقال ـ ثلاثمائة وأربعين شهيدا. وأتى بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود. وكان هرما لا يقوى على المشي. فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليه‌السلام. فأمر بسفك دمه فقتل. وكذلك بقيه الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب ، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران. ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره. وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى ، والفرح بالشهادة ، ما أضحوا مثالا وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه. سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له. لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين ، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين. وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته. ويؤرخونها بعام (٥٢٤) من التاريخ المسيحي وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها. والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم. قال أبو السعود : والمراد بهم. إما أصحاب الأخدود خاصة ، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود ، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون

٤٤٥

في جملتهم دخولا أوليا (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي عن كفرهم وفتنتهم (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي عذابان منوّعان على الكفر وعلى الفتنة. أوهما واحد. أو من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه. لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما. والأظهر أنهما واحد. وإنه من عطف التفسير والتوضيح.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (١١)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من هؤلاء المفتونين وغيرهم (لَهُمْ) أي في نشأتهم الأخرى (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي التام الذي لا فوز مثله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦)

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) قال أبو السعود : استئناف خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه ، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام. و (البطش) الأخذ بعنف. وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم. وهو بطشه بالجبابرة والظلمة ، وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام. كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢].

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي يبدئ الخلق ثم يعيده. قال الإمام : وهو في كل يوم يبدئ خلقا من نبات وحيوان وغيرهما. ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى. ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي لمن يرجع إليه بالتوبة (الْوَدُودُ) أي المحب لمن أطاعه وأخلص له (ذُو الْعَرْشِ) أي الملك والسلطان أو السماء (الْمَجِيدُ) أي العظيم في ذاته وصفاته. وقرئ بالجر صفة للعرش. ومجده : علوه وعظمته (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله. فلا يحول بينه وبين مراده شيء. فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين ، فعل ، لأن له ملك السماوات والأرض. ولذا تأثره بقوله سبحانه :

٤٤٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي الذين تجندوا على الرسل بأذاهم.

قال ابن جرير : أي قد أتاك ذلك ، وعلمته ، فاصبر لأذى قومك إياك ، لما نالوك به من مكروه ، كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي. ولا يثنينّك عن تبليغهم رسالتي. كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء. فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم ، إلى عطب وهلاك كالذي كان من هؤلاء الجنود ، فالجملة ـ كما قال أبو السعود ـ استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة ، والكفرة العتاة وكونه (فعالا لما يريد) متضمن لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود.

وقوله تعالى : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) بدل من (الجنود) لأن المراد بفرعون هو وقومه ، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي للحق والوحي ، مع وضوح آياته وظهور بيناته ، عنادا وبغيا. والإضراب انتقالي للأشد ، كأنه قيل ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك. فإنهم مع علمهم بما حل بهم ، لم ينزجروا ، وفي جعلهم (فِي تَكْذِيبٍ) إشارة إلى تمكنه من أنفسهم ، وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه ، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله.

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي محص عليهم أعمالهم. لا يخفى عليه منها شيء وهو مجازيهم على جميعها. فاللفظ كناية عما ذكر. أو المراد وصف اقتداره عليهم. وأنهم في قبضته وحوزته ، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ، فسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهربا. ففيه استعارة تمثيلية.

قال الشهاب : وفيه تعريض توبيخي لهم بأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الهوى والشهوات بوجوه انهماكهم ، وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي سام شريف لا يماثل في أسلوبه وهدايته (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قرئ بالرفع صفة (لقرآن) والجر صفة للوح. قال ابن جرير : والمعنى على الأولى محفوظ من التغيير والتبديل في لوح. وعلى الثانية محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه ، عما أثبته الله فيه. و (بَلْ) إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عنه ، إلى وصف القرآن بما ذكر ، للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء. فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين.

٤٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الطارق

وهي مكية وآيها سبع عشرة.

روى الإمام أحمد (١) : عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي حبل العدواني عن أبيه ؛ أنه أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا ، حين أتاهم يبتغي عندهم النصر. فسمعته يقرأ (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها : قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك. ثم قرأتها في الإسلام. قال فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم. فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا. لو كنا نعلم ما يقول حقّا لا تبعناه. وروى النسائي (٢) عن جابر. قال : صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة أو النساء ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفتان أنت يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحو هذا؟

__________________

(١) أخرجه في المسند ٤ / ٣٣٥.

(٢) أخرجه في : الافتتاح ، ٦٣ ـ باب القراءة في المغرب بسبح اسم ربك الأعلى.

٤٤٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه ، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقا لأنه يطرق ليلا أي يبدو فيه.

قال الشهاب : الطارق من (الطرق) وأصل معناه الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت. ومنه المطرقة والطريق ، لأن السابلة تطرقها. ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق ، لتصور أنه يطرقها بقدمه. واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلا (طارقا) لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.

والتعريف في (النَّجْمُ) للجنس. وأصل معنى (الثقب) الخرق. فالثاقب الخارق. ثم صار بمعنى المضيء ، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره ، تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي مهيمن عليها رقيب. وهو الله تعالى ، كما في آية : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥٢] ، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر ، وقد قرئ (لمّا) بالتخفيف ف (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و (كُلُّ نَفْسٍ) مبتدأ و (عَلَيْها حافِظٌ) خبره. و (ما) صلة واللام هي الفارقة. وقرئ (لما) بالتشديد على أنها بمعنى (إلّا) الاستثنائية و (إن) نافية والخبر محذوف. أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال ، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و (كل) على هذا مؤكدة لأن (نَفْسٍ) حينئذ نكرة في سياق النفي ، فتعم.

قال ابن جرير : والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك ، التخفيف. لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام

٤٤٩

العرب. غير أن الفرّاء كان يرى أنها لغة في هذيل. يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة لمّا. فإن كان صحيحا ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة. وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.

وقد صحح غير واحد ثبوتها. وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة. واستشهد ابن هشام لها في (المغني) فراجعه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي :

إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب ، فلينظر إلخ.

قال الإمام : قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها ، زيادة في التأكيد. ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها. ثم إن هذا السائل ينشأ خلقا كاملا كالإنسان ، مملوءا بالحياة والعقل والإدراك ، قادرا على القيام بخلافته في الأرض. فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية ، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن ، ثم منح قوة الإدراك والعقل ، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره ، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى. كأنه يقول : فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب ، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه ، وأن يتفكر في خلقه. وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة ، قادر على أن يعيده. فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق. ويعدل بها عن سبل الشر. فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.

و (دافِقٍ) من الدفق. وهو صبّ فيه دفع. وقد قيل إنه بمعنى مدفوق ، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥].

٤٥٠

والصحيح أنه بمعنى النسبة ك (لابن وتامر) أي ذي دفق ، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد. فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقا. لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضا أي يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل ، كما نقل عن الليث. أقوال.

وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي من بين صلب الرجل ونحر المرأة.

قال الإمام : الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار. ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقا لاسم الجزء على الكل و (الترائب) موضع القلادة من الصدر ، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة. أي أن ذلك الماء الدافق ، إنما يكون مادة لخلق الإنسان ، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه ، وهو رحم المرأة. فقوله (يخرج) إلخ وصف لا بد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه.

وقال بعض علماء الطب : الترائب جمع تريبة وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى. ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى ، ومنها قول امرئ القيس :

ترائبها مصقولة كالسّجنجل

قال : ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم ، يخرج من شيء ممتد بين الصلب ـ أي فقرات الظهر في الرجل ـ والترائب أي عظام صدره. وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريبا. ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة. ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين ، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين ، فيغذيانهما. ومن دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين يسميان شرياني الخصيتين ، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير ، تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ) أي الحافظ سبحانه ، المتقدم في قوله : (لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أو الخالق المفهوم من خلق (عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي رجع الإنسان وإعادته في

٤٥١

النشأة الثانية ، لقادر. كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي تظهر وتعرف خفيات الضمائر.

قال الزمخشري : السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي من قوة يمتنع بها من عذاب الله وأليم نكاله. ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه. يعني أنه فقد ما كان يعهده في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته ، يمتنع منهم ممن أراده بسوء. وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي المطر. يسمى رجعا لأنه تعالى يرجعه وقتا فوقتا إلى العباد ، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي النبات ، لأنه يصدع الأرض أي يشقها. أي الانشقاق بالنبات. فهو علم أو مصدر (إِنَّهُ) أي القرآن الكريم (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) أي حق فرق بين الحق والباطل (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب ، بل هو جدّ الجدّ (إِنَّهُمْ) أي المكذبين به ، الجاحدين لحقه (يَكِيدُونَ كَيْداً) أي يمكرون مكرا لإبطال أمر الله وإطفاء نوره (وَأَكِيدُ كَيْداً) قال ابن جرير : أي وأمكر مكرا. ومكره جل ثناؤه بهم إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية. بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم ، بالكيد وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل عقابهم. وقوله : (أَمْهِلْهُمْ) بمعنى (مهلهم) فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله : (رُوَيْداً) أي قليلا.

قال الإمام : وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب ، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل لكل داع إلى الحق الذي جاء به ، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله ، وأن المناوئين له هم الخاسرون.

٤٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعلى

مكية وآيها تسع عشرة : قال ابن كثير : والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري (١) عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد. ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به. حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جاء. فما جاء حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى ، في سور مثلها.

وعن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) تفرد به الإمام أحمد (٢) وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى ، والشمس وضحاها ، والليل إذا يغشى. وعن النعمان بن بشير (٣) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، وهل أتاك حديث الغاشية. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. رواه مسلم وأهل السنن.

وعن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد والمعوذتين.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، سورة الأعلى ، ١ ـ حدثنا عبدان ، حديث رقم ١٨٣١.

(٢) أخرجه في مسنده ١ / ٩٦.

(٣) أخرجه مسلم في : الجمعة ، حديث رقم ٦٢.

٤٥٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما ، كقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] ، فالاسم صلة. وسرّ إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة ، كثيرا ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه ، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره. كما يقال سلام على المجلس العالي. هذا ما ذكروه. وثمة وجه آخر وهو أن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى ، لاستحالة اكتناه ذاته العلية ، فأقحم تنبيها على ذلك. ومما يؤيده ما ذكر من الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا : سبحان ربي الأعلى ، كما رواه ابن جرير وغيره.

وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه أن يسمى به شيء سواه ، كما كان يفعل المشركون من تسميتهم آلهتهم ، بعضها اللات وبعضها العزى ، حكاه ابن جرير فالإسناد على ظاهره ، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في (الفصل) حيث رد على من استدل بهذه الآية في أن الاسم عين المسمى ، ذهابا إلى أن من الممتنع أن يأمر الله عزوجل بأن يسبح غيره. فقال ابن حزم رحمه‌الله :

وأما قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فهو على ظاهره دون تأويل لأن التسبيح في اللغة التي بها نزل القرآن وبها خاطبنا الله عزوجل ، هو تنزيه الشيء عن السوء. وبلا شك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه ، الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء ، عن كل سوء حيث كان من كتاب أو منطوقا به ، ووجه آخر وهو أن معنى قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ومعنى قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٩٥ ـ ٩٦] ، معنى واحد. وهو أن يسبح

٤٥٤

الله تعالى باسمه. ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا بتوسط اسمه. فكلا الوجهين صحيح. وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص. ولا فرق بين قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وبين قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٨ ـ ٤٩].

والحمد بلا شك هو غير الله. وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ، ولا فرق. فبطل تعلقهم بهذه الآية. انتهى كلامه.

وقد يقال فرق بين الآيتين. فإن الباء في (بِحَمْدِ رَبِّكَ) للملابسة ، ولا كذلك هي في (بِاسْمِ رَبِّكَ) ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها ، فالأظهر هو الأول لما أيده من الأخبار ، ولآية (فَسَبِّحْهُ) وآية (سُبْحانَ رَبِّكَ) والله أعلم.

و (الْأَعْلَى) هو الأرفع من كل شيء ، قدرة وملكا وسلطانا. واستدل السلف بظاهره في إثبات العلوّ بلا تكييف. والمسألة معروفة.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) قال الزمخشري : أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وإنه صنعة حكيم (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات (فَجَعَلَهُ) أي بعد خضرته ونضرته (غُثاءً) أي جافّا يابسا تطير به الريح (أَحْوى) أي أسود ، صفة مؤكدة (لغثاء) لأن النبات إذا يبس تغير إلى (الحوّة) وهي السواد.

قال ابن جرير : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك. وهذا القول وإن كان غير مدفوع ، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره. فأما وله في موضعه وجه صحيح ، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. انتهى. والقول المذكور هو للفراء وأبي عبيدة.

٤٥٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١٣)

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سنجعلك قارئا ، بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه والمعنى نجعلك قارئا للقرآن فلا تنساه.

قال الزمخشري : بشره الله بإعطاء آية بينة ، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي ، وهو أميّ لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه.

تنبيهات :

الأول : قال الرازي : هذه آية تدل على المعجزة من وجهين :

أحدهما ـ إنه كان رجلا أميّا فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتبة ، خارق للعادة ، فيكون معجزا.

وثانيهما ـ إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة. فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل ، وقد وقع ، فكان هذا إخبارا عن الغيب ، فيكون معجزا.

الثاني : ـ قيل (لا تنسى) نهي والألف للإطلاق في الفاصلة وهو جائز مثل (السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] ، والمعنى لا تغفل قراءته وتكريره فتنساه. فالنهي عنه مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية.

قال الرازي : والقول المشهور إن هذا خبر. والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحث لا تنسى وتأمن النسيان. كقولك : (سأكسوك فلا تعرى) أي فتأمن العري ، قال : واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية. منها أن النسيان لا يقدر عليه إلا الله تعالى فلا يصح ورود الأمر والنهي به. فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان. مثل الدراسة وكثرة التذكر. وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ.

ومنها أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة وهو أيضا خلاف الأصل.

ومنها أنا إذا جعلناه خبرا كان معنى الآية بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا

٤٥٦

تنساه. وإذا جعلناه نهيا كان معناه أن الله أمره بأن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة. وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول. ولأنه على خلاف قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة : ١٦] انتهى.

الثالث : قال البرهان الشافعي في كتاب (تفضيل السلف على الخلف).

إن بعضهم ذكر أن هذه الآية ناسخة لآية : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وتحقيق معنى النسخ هنا في غاية الإشكال ، لأن قوله : (وَلا تَعْجَلْ) نهي عن العجلة ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ليس بأمر بها ليكون ناسخا للنهي عنها. بل هو خبر عن بقاء الحفظ بعد إقرائه.

وفحواه مؤكد لمعنى الخطاب الآخر. لأن تأويله إنا نحفّظك تحفيظا لا تخاف معه النسيان. فلا حاجة لك إلى أن تعجل بالقرآن وتحرك به لسانك. ولكنهم سموه نسخا ، لغة لا حقيقة. على معنى تبدل الحال عنه. فإنه ظهر له الأمن عن النسيان بعد خوفه أن ينساه لما كان يحرك به لسانه. انتهى.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ من أعم المفاعيل. أي لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء ، إلا ما شاء الله أن تنساه ، مما تقتضيه الجبلة البشرية أحيانا.

قال الزجاج : إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى. ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسيانا كليّا دائما. وذلك لأن ما بالجبلة لا يتغير. وإلا لكان الإنسان عالما آخر.

وقد روى البخاري (١) عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : رحم الله فلانا. لقد أذكرني كذا وكذا آية ، كنت أسقطتهن. ويروى أنسيتهن.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني. رواه الشيخان (٢) عن ابن مسعود.

وقيل : الاستثناء مجازي بمعنى القلة المراد بها النفي ، وذلك أن المخرج في الاستثناء أقل من الباقي. ولأن (ما شاء الله) في العرف يستعمل للمجهول. فكأنه

__________________

(١) أخرجه في : الشهادات ، ١١ ـ باب شهادة الأعمى ، حديث رقم ١٢٩٢.

(٢) أخرجه البخاري في : الصلاة ، ٣١ ـ باب التوجه نحو القبلة حيث كان ، حديث رقم ٢٦٦ وأخرجه مسلم في : المساجد ومواضع الصلاة ، حديث رقم ٨٩.

٤٥٧

قيل : إلا أمرا نادرا لا يعلم. فإذا دل مثله على القلة عرفا ، والقلة قد يراد بها النفي في نحو (قلّ من يقول كذا مجازا) أريد بالاستثناء هنا ذلك. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله : (أو قال إلا ما شاء الله) والغرض نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه (أنت سهمي فيما أملك إلا فيما شاء الله) ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلة في معنى النفي.

وقال الفراء ـ فيما نقله الرازي ـ : إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، إلا المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيرا ناسيا لقدر عليه ، كما قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ، ثم إنا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك. وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرّفه قدرة ربه حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله وإحسانه ، لا من قوته. انتهى.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي ما يجهر به عباده وما يخفونه من الأقوال والأفعال. وهو تعليل لقوله : (سَنُقْرِئُكَ) مبين لحكمته ، وهو سبق علمه تعالى بحاجة البشر إلى إقرائه الوحي وإخراجهم به من الظلمات إلى النور.

ثم أشار إلى أن هذا المقرأ الموحى به للعمل. ليس فيه حرج وعسر ، بقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نوفقك للطريقة اليسرى ، أي الشريعة السمحة السهلة ، التي هي أيسر الشرائع وأوفقها بحاجة البشر مدى الدهر (فَذَكِّرْ) أي عباد الله عظمته ، وعظهم وحذرهم عقوبته (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي الموعظة و (إن) إما بمعنى (إذ) كقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩] ، أو بمعنى (قد) على ما قاله ابن خالويه. ويؤيده قوله تعالى : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات : ٥٥] ، وقيل : (إن) شرطية. والمعنى ذم المذكّرين واستبعاد تأثير الذكرى فيهم ، تسجيلا بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ : (عظ المكّاسين إن سمعوا منك) قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون (سَيَذَّكَّرُ) أي يقبل التذكرة وينتفع بها (مَنْ يَخْشى) أي يخاف العقاب على الجحود والعناد ، بعد ظهور الدليل (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي العظمى ألما وعذابا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يهلك فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه. قيل : إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوع في شدة شديدة قالوا : (لا هو حي ولا ميت) فجاء على مألوفهم في كلامهم. و (ثم) هنا للتفاوت الرتبيّ ، إشارة إلى أن خلوده أفظع من دخوله النار ، وصليه.

٤٥٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩)

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي ، وعمل بما أمره الله به (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي تذكر جلال ربه وعظمته ، فخشع وأشفق وقام بما له وعليه ، كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] ، وجوز أن يحمل (تَزَكَّى) على إيتاء الزكاة و (صلى) على إقامة الصلاة ، كآية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] ، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات ، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة. لكن قيل عليه ، بأن المعهود في التنزيل الكريم تقديم الصلاة. وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة ، مع أن الجاري تقديمها إذا ذكرت باسمها. أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها ، فلا كقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١]. والأول أظهر ، لأنه أشمل وأعمّ. وهو أكثر فائدة.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) قال أبو السعود : إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام. كأنه قيل ، إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح : لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها. والخطاب إما للكفرة ، فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها ، والإعراض عن الآخرة بالكلية ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) [يونس : ٧] الآية ، أو للكل ، فالمراد بإيثارها ما هو أهم مما ذكر ، وما لا يخلو عنه الإنسان غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة. في السعي وترتيب المبادئ. والالتفات على الأول لشديد التوبيخ. وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة ، وتشديد العتاب في حق المسلمين. وقرئ (يؤثرون) بالياء (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي أفضل ، لخلوصها عما يكدر. وأدوم لعدم انصرام نعيمها. والجملة حال من فاعل (تُؤْثِرُونَ) مؤكدة للتوبيخ والعتاب (إِنَّ هذا) أي ما ذكر في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أو ما في السورة كلها (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي ثابت فيها معناه (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من (الصحف الأولى) وفي إبهامها ووصفها بالقدم ، ثم بيانها وتفسيرها ، من تفخيم شأنها ، ما لا يخفى.

٤٥٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الغاشية

مكية. وآيها ست وعشرون. وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى والغاشية) في صلاة العيد ويوم الجمعة. وروى الإمام مالك (١) أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير : بما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال : هل أتاك حديث الغاشية(رواه مسلم (٢) وأبو داود وغيرهما).

القول في تأويل قوله تعالى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٩)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي خبرها وقصتها ، وهي القيامة. وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه ، مع تقريره (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال القاشاني : أي تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها ، كالهوي في دركات النار ، والارتقاء في عقباتها ، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضربت بها في الدنيا ، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. وجوز أن يكون (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) إشارة إلى عملهم في الدنيا. أي عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون

__________________

(١) أخرجه في الموطأ في : العمل في غسل يوم الجمعة ، حديث رقم ١٩.

(٢) أخرجه مسلم في : الجمعة ، حديث رقم ٦٢.

٤٦٠