تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

فيه أشهى إلى النفوس وأمتع. تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين ، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معا (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي مستقيمة لا عوج فيها. واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه ، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما ، مما حكاه الله في كتابه عنهم. فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم. وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته عليه‌السلام من أهل الكتاب سبيلا إلى إنكار الحق. وإنما فضلوا عليه سواه. أن هي سور القرآن. فإن كل سورة من سوره ، كتاب قويم. فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة. ولما كان لسائل أو يسأل : إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق ، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟ أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه ، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم. وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه. فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب. ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل. لكن هذه البينة لم تفدهم شيئا فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغيا منهم ، واستمرارا في المراد ، وإصرارا على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم. بتفرقهم فيها ، وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها. فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا ، فما ظنك بالمشركين ، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قيادا للهوى ،

٥٢١

منهم؟؟ وقول تعالى : (وَما أُمِرُوا) أي والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الإذعان والخضوع ، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء. لا واسطة ولا مال ، ولا كرامة ولا جاه (حُنَفاءَ) أي متبعي إبراهيم عليه‌السلام ، أو على مثاله. وأصله جمع (حنيف) بمعنى المائل المنحرف. سمي به إبراهيم عليه‌السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي الإتيان بها ، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة. فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء ، البتة (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الكتب القيمة. أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية : إن أهل الكتاب قد افترقوا ، ولعنت كل فرقة أختها. وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة ، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم ، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة ، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى. وأن يخشعوا لله في صلاتهم ، وإن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر ، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم ، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويحلّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس ، تسلط الإنصاف عليها ، فسادت فيها الوحدة ، ولم تطرق طرقها الفرقة. هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب. فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا ، في افتراقنا في الدين ، وأن صرنا فيه شيعا ، وملأناه محدثات وبدعا؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) للتبعيض. وأن معنى (لم يكونوا منفكين) :

أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم ، فيقع الزلزال في عقائدهم ، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها ، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من (الَّذِينَ كَفَرُوا) والله أعلم ، أولئك الذين جحدوا شيئا من دين الله تعالى عند ما جاءهم. ولم ينظروا في دليله. أو أعرضوا عنه بعد ما عرفوا دليله سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب. وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منته على من آمن من هؤلاء. فبين أن الذين كفروا ، أي جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب ، لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا ، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر ، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرسال رسوله إليهم!

٥٢٢

وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم. وبذلك أو هذا ظهر معنى (حتى) وبطل جميع ما يهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد ، عن الرأي السديد ، فصعبوا من القرآن سهله ، وحرموا من فهمه أهله. انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته ، ولكونه أحسن ما فسّرت به ، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته ، أحسن ما قيل فيها. فلذلك سميناه (محاسن التأويل) هدانا الله إلى أقوم السبيل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجحدوا نبوّته (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي شر من برأه الله وخلقه. قال الإمام : لأن منكر الحق ، بعد معرفته وقيام الدليل عليه ، منكر في الحقيقة لعقل نفسه ، مهلك لروحه ، جالب الهلاك لغيره.

لطائف :

الأولى ـ دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان (المشركين) لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن ، بل هو خاص بالوثنيين. أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب ، فأهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك. لأنه دخيل لا أصيل. ولذلك ينفرون من وصمة الشرك. وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنيين.

الثانية ـ قال ابن جرير : العرب لا تهمز البرية. وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار ، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم. فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها. وذهب بها إلى قول الله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) وأنها فعلية من ذلك. وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك ، وهو مفعل ، من (ألك) أو (لأك) ومن (يرى) و (ترى) و (نرى) ، وهو (تفعل) من رأيت. والآخر أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعيلة من (البراء) وهو التراب. حكي عن العرب سماعا فقيل (بفيك البراد) يعني به التراب. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

٥٢٣

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله محمد ، صلوات الله عليه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق ، وبذل المال في أعمال البر ، مع القيام بفرائض العبادات ، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات. لأن إذعانهم الصحيح ، ووجدانهم لذة معرفة الحق ، ملّكت الحق قيادهم. فعملوا الأعمل الصالحة ، قاله الإمام (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي أفضل الخليقة ، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه ، قد حققوا لأنفسهم معنى الإنسانية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح ، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الإنسانيّ ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هدوا إليه من الخير والسعادة. فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بساتين إقامة ، لا ظعن فيها ، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ماكثين على الدوام ، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي بما أطاعوه في الدنيا ، وعملوا لخلوصهم من عقابه في ذلك (وَرَضُوا عَنْهُ) لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا. فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نعم الآخرة ، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه ، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.

(ذلِكَ) أي هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي خاف الله في الدنيا. في سره وعلانيته ، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.

قال الإمام : أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس ، بل الخاصة كذلك. وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة ، وتقليد الأبوين ، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام ، وأداء بعض العبادات ، كحركات الصلاة وإمساك الصوم ، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء. وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء ، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء. وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء. بل ولمن دون الأمراء. خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء ـ كلا لا ينالون حسن الجزاء. فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم. ولهذا لم تهذب من نفوسهم. ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.

٥٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّلزلة

قال ابن كثير : مكية. ورجّح السيوطيّ أنها مدنية. وآيها ثمان. روى الترمذي (١) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن. و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن. و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن

. وسيأتي سر ذلك في تفسير سورة الكافرين والإخلاص إن شاء الله تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب. فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص ، بمعنى الزلزال المخصوص بها. وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول. لآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] ، وقرئ بفتح الزاي. وقد قيل هما مصدران. وقيل المفتوح اسم والمكسور مصدر. وهو المشهور (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك. لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها. كقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٣ ـ ٤] ، والأثقال جمع (ثقل) بفتحتين. وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون. وهذا على الاستعارة. ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن ، على التشبيه أيضا. لأن الحمل يسمى ثقلا كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) [الأعراف : ١٨٩] ، قاله الشريف المرتضى في (الدرر).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)

__________________

(١) أخرجه في : ثواب القرآن ، ١٠ ـ باب ما جاء في (إِذا زُلْزِلَتِ).

٥٢٥

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨)

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي قال من يكون من الإنسان شاهدا لهذا الزلزال ، الذي فجأه ودهشه ، ولم يعهد مثله : ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة ، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إذا) أي في ذلك الوقت (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي تبين الأرض بلسان حالها ، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك. وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.

قال أبو مسلم : أي يومئذ يتبين لك أحد جزاء عمله. فكأنها حدثت بذلك. كقولك (الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة) فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة ، تحدث أن الدنيا قد انقضت ، وأن الآخرة قد أقبلت.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) الباء سببية متعلق ب (تحدث) أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه. وهو إحداث ما تدل به على خرابها.

وقال القاشانيّ : أي أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال. يعني الأمر التكويني. وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) أي ينصرفون عن مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم ، متفرقين سعداء وأشقياء (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي ليريهم الله جزاء أعمالهم (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) أي فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير ، يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر. وقيل الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر ، يرى جزاءه ثمة.

تنبيهات :

الأول ـ دل لفظ (من) على شمول الجزاء بقسميه ، للمؤمن وغيره.

قال الإمام : أي من يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره ، فإنه يراه ويجد جزاءه. لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر ، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار ، وأنها لا تنفعهم ، معناها هو ما ذكرنا. أي أن عملا من

٥٢٦

أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر ، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم ، على بقية السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء. كيف لا ، والله جل شأنه يقول : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها ، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ، فقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء. وإن كلّا يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه. وأن أبا لهب يخف عنه لسروره بولادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما ، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة (الإجماع) كثيرا ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدين ، وحجرا يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى ، فبئس ما يصنعون. انتهى.

وقد سبقه الشهاب في (حواشيه) على القاضي ، حيث ناقش صاحب المقاصد في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته : كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية ، وهو مخالف لما صرح به في الآية؟ والذي يلوح للخاطر ، بعد استكشاف سرائر الدفاتر ، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل. ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب ، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهيّ. انتهى

الثاني ـ قال في (الإكليل) : في هاتين الآيتين ، الترغيب في قليل الخير وكثيره. والتحذير من قليل الشر وكثيره. أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال : هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ (أجمع)

وسمّى (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة ، حين سئل عن زكاة الحمير فقال : ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وروى الأمام أحمد (٢) عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق ، أنه أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) إلخ. قال : حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها. ورواه النسائي في تفسيره.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٩٩ ـ (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) ، ١ ـ باب قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ، حديث رقم ١١٨٥ ، عن أبي هريرة.

(٢) أخرجه في مسنده : ٥ / ٥٩.

٥٢٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العاديات

مكية أو مدنية. وآيها إحدى عشرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) إقسام بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدوّ ، فتضبح. و (الضبح) صوت أنفاسها إذا عدت. وليس المراد بالصوت الصهيل. بل قولها (اح. اح) كما قاله ابن عباس. ونصب (ضَبْحاً) إما بفعله المحذوف ، أو بالعاديات لإفادته معناه ، أو بالحالية (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي تورى النار بحوافرها. والقدح هو الضرب لإخراج النار ، والإيراء يترتب عليه. لأنه إخراج النار وإيقادها. فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة. وتسمى نار الحباحب. ولما كان مرتبا على عدوها ، عطفه بالفاء ، وكون المراد به الحرب ـ بعيد. وفي إعرابه الوجوه السابقة.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي تغير على العدوّ في وقته. يقال (أغار على العدوّ) إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يستلب ماله.

قال الإمام : وهو وصف عرض للخيل من الغاية التي أجريت لها. أي أنها تعدو ويشتد عدوها حتى يخرج الشرر من حوافرها ، لتهجم على عدوّ وقت الصباح ، وهو وقت المفاجأة لأخذ العدو على غير أهبة (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي فأهجن ، بذلك الوقت ، غبارا من الإثارة. وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه ليرتفع. وانتفع : الغبار كما ذكرنا ، وورد بمعنى الصياح. فجوّز إرادته هنا بمعنى صياح من هجم عليه ، وأوقع به. لا صياح المغير المحارب ، وإن جاز على بعد فيه. أي هيجن الصياح بالإغارة على العدوّ ، وضمير (به) للوقت والباء ظرفية. وفيه احتمالات أخر. ككونه للعدو أو للإغارة ، لتأويلها بالجري. فالباء سببية أو للملابسة. ويجوز كونها ظرفية أيضا. والضمير للمكان الدال عليه السياق ، للعلم بأن الغبار لا يثار إلا من موضع. وهو الذي اختاره ابن جرير.

٥٢٨

قال الشهاب : وذكر إثارة الغبار ، للإشارة إلى شدة العدو وكثرة الكرّ والفرّ. وتخصيص الصبح ، لأن الغارة كانت معتادة فيه. أي لمباغتة العدوّ. والغبار إنما يظهر نهارا و (أثرن) معطوف على ما قبله.

قال الناصر : وحكمة الإتيان بالفعل معطوفا على الاسم ، الذي هو العاديات أو ما بعده ، لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل. وحكمة مجيء هذا المعطوف فعلا عن اسم فاعل ، تصوير هذه الأفعال في النفس. فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف. وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة. وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي.

وقوله تعالى : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ، ففرقنه وشتتنه. يقال : (وسطت القوم) بالتخفيف و (وسطته) بالتشديد و (توسطته) بمعنى واحد. وفي الضمير الوجوه المتقدمة.

قال الإمام رحمه‌الله : أقسم تعالى بالخيل متصفة بصفاتها التي ذكرها ، آتية بالأعمال التي سردها لينوه بشأنها ويعلي من قدرها في نفوس المؤمنين أهل العمل والجد. ليعنوا بقنيتها وتدريبها على الكر والفر ، وليحملهم أنفسهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل ، والإغارة بها. ليكون كل واحد منهم مستعدا في أي وقت كان ، لأن يكون جزءا من قوة الأمة إذا اضطرت إلى صدّ عدو. أو بعثها باعث على كسر شوكته. وكان في هذه الآيات القارعات ، وفي تخصيص الخيل بالذكر في قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال : ٦٠] ، وفيما ورد من الأحاديث التي لا تكاد تحصر ـ ما يحمل كل فرد من رجال المسلمين على أن يكون في مقدمة فرسان الأرض مهارة في ركوب الخيل. ويبعث القادرين منهم على قنية الخيل على التنافس في عقائلها. وأن يكون فن السباق عندهم يسبق بقية الفنون إتقانا. أفليس أعجب العجب أن ترى أمما ، هذا كتابها ، قد أهملت شأن الخيل والفروسية ، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزؤ والسخرية؟ وأخذت كرام الخيل تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى.

ثم قال : يقسم الله بالخيل صاحبة تلك الصفات التي رفع ذكرها ، ليؤكد الخبر الذي جاء في قوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٨)

٥٢٩

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي لكفور. يكفر نعمه ولا يشكرها. أي لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.

قال المهايميّ : أي لكفور ، فيوجب قتله بهذه الخيول وقهره بهذا الغضب. وعن أبي أمامة : الكنود الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإن الإنسان على كنوده ، لشهيد يشهد على نفسه به ، لظهور أثره عليه. فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفرانه وعصيانه بلسان حاله.

قال القاشانيّ : لشهادة عقله ونور فطرته إنه لا يقوم بحقوق نعم الله ، ويقصر في جنب الله بكفرانه (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها ، لقويّ. ولحب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس وإنه لحب الخير الموصل إلى الحق ، شديد منقبض ، غير هش منبسط. أو اللام للتعليل. أي إنه لأجل حب المال بخيل. فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه ، مشغولا به عن الحق ، معرضا به عن جنابه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١)

(أَفَلا يَعْلَمُ) أي أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل ، ولا يعلم بنور فطرته وقوة عقله (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي بعث وأثير ما في القبور وإخراج موتاها (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي أظهر وأبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونياتهم المكتومة فيها ، من خير أو شر (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم. فيجازيهم على حسبها يومئذ. وتقديم الظرف ، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل ، أو للتخصيص لوقوع علمه تعالى كناية عن مجازاته. وهي إنما تكون يومئذ.

قال الرازيّ : وإنما خص أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح ، لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب. فإنه لو لا البواعث والإرادات في القلوب ، لما حصلت أفعال الجوارح. ولذلك جعلها تعالى الأصل في الذم فقال : (آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ، والأصل في المدح فقال : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] ، و [الحج : ٣٥].

٥٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القارعة

مكية وآيها إحدى عشرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥)

(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) قال أبو السعود : القرع هو الضرب بشدة واعتماد ، بحيث يحصل منه صوت شديد ، وهي القيامة. سميت بها لأنها تفزع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال : السماء بالانشقاق والانفطار ، والشمس والنجوم وبالتكوير والانكدار والانتثار ، والأرض بالزلزال والتبديل والجبال بالدك والنسف. وهي مبتدأ خبره قوله تعالى (مَا الْقارِعَةُ) على أن (ما) الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ ، لا بالعكس. لأن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا. هو كلمة (ما) لا (القارعة) أي أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة؟ وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل. وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تأكيد لهولها وفظاعتها ، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق على معنى أن عظم شأنها ومدى شدتها ، بحيث لا تكاد تناله دراية أحد ، حتى يدريك بها. أي : وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ولما كان هذا منبئا عن الوعد الكريم بإعلامها ، أنجز ذلك بقوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار ، والضعف والذلة والاضطراب ، والتطاير إلى الداعي ، كتطاير الفراش إلى النار. ف (يوم) خبر محذوف بني على الفتح. لإضافته إلى الفعل ، أو هو منصوب. بإضمار (اذكر) كأنه قيل ، بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة

٥٣١

والسلام إلى معرفتها : اذكر يوم يكون الناس (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي كالصوف المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو. ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبتدئ فيه الحياة الآخرة ، وفيها تعرف مقادير الأعمال وما تستحقه من الجزاء ، رتب عليه قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١)

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) قال ابن جرير : أي فأما من ثقلت موازين حسناته ، يعني بالموازين الوزن. والعرب تقول (لك عندي درهم بميزان درهمك) ويقولون (داري بميزان دارك ووزن دارك) يراد حذاء دارك. قال الشاعر :

قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة

عندي لكلّ مخاصم ميزانه

يعني بقوله (ميزانه) كلامه وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول : ليس ميزان إنما هو مثل ضرب. انتهى وعليه ، فالموازين جمع ميزان. وجوز كونه جمع موزون ، وهو العمل الذي له خطر ووزن عند الله تعالى. ومعنى قوله : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي في عيشة قد رضيها في الجنة. ف (راضية) بمعنى مرضية على التجوز في الكلمة نفسها أو في إسنادها. أو استعارة مكنية وتخييلية (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي وزن حسناته (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي فمأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه في جهنم.

قال الشهاب : فسمى المأوى (أمّا) على التشبيه تهكما. لأن أم الولد مأواه ومقره. وفي (التأويلات) : قيل المراد أم رأسه. أي يلقى في النار منكوسا على رأسه. انتهى.

والأول هو الموافق لقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) فإنه تقرير لها بعد إبهامها ، والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتهويل. أصل (ما هِيَهْ) ما هي ، كناية عن الهاوية فأدخل في آخرها هاء السكت وقفا. وتحذف وصلا. وقد أجيز إثباتها مع الوصل.

٥٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التّكاثر

وهي مكية وآيها ثمان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (٨)

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي شغلكم التباهي بالكثرة في المال والولد ونحوهما. فيقول هذا : أنا أكثر منك مالا ، والآخر : أنا أكثر منك ولدا. وهكذا مما يصرف عن الجد في العمل ، ويطفئ نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية. ذهب بكم التفاخر والتباهي بهذه الأمور الفانية ، من كثرة الأموال والأولاد ، وشرف الآباء والأجداد كل مذهب (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى هلكتم ومتم وصرتم من أصحاب القبور ، فأفنيتم عمركم في الأعمال السيئة وما تنبّهتم طول حياتكم إلى ما هو سبب سعادتكم ونجاتكم. وزيارة القبور عبارة عن الموت.

روى الزمخشري شواهد لها. قال الشهاب : وفيها إشارة إلى تحقق البعث. لأن الزائر لا بد من انصرافه عما زاره. ولذا قال بعض الأعراب لما سمعها : بعثوا ، ورب الكعبة! وقال ابن عبد العزيز : لا بد لمن زار ، أن يرجع إلى جنة أو نار. وسمى بعض البلغاء المقبرة ، دهليز الآخرة (كَلَّا) ردع عن الاشتغال بالتكاثر ، وتوهم أن الفوز بالتفاخر. فإن الفوز بالتناصر على الحق والتحلي بالفضائل (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي مغبة ما أنتم عليه ، في الآخرة ، من وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الشهوات السريعة الزوال ، العظيمة الوبال ، لبقاء تبعاتها.

٥٣٣

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرير للتأكيد و (ثم) للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول. أو الأول عند الموت ، والثاني عند النشور (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو تعلمون ما بين أيديكم من الجزاء ، علم الأمر اليقين ، لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز في التكاثر ، والذهول عن الحق به. واليقين بمعنى المتيقن ، صفة لمحذوف ، أو صفة للعلم ، على أنه من إضافة الصفة للموصوف ، وحذف جواب (لو) ليطلبه العقل من الشرط وما سبقه ، ليستحكم فيه فضل استحكام. وقوله تعالى : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب قسم مضمر ، أكد به الوعيد ، وشدد به التهديد ، وأوضح به ما أنذروه تفخيما (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الرؤية التي هي نفس اليقين ، فالعين هنا بمعنى النفس ، كما في (جاء زيد عينه) أي نفسه. وإنما كانت نفس اليقين ، لأن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة ، فوق سائر الانكشافات. فهو أحق بأن يكون عين اليقين. والتكرير للتأكيد.

قال الإمام : وكني برؤية الجحيم ، عن ذوق العذاب فيها. وهي كناية شائعة في الكتاب العزيز. (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي عن النعيم الذي ألهاكم التكاثر به والتفاخر في الدنيا. ماذا عملتم فيه؟ ومن أين وصلتم إليه؟ وفيم أصبتموه؟ وماذا عملتم به؟ ويدخل في ذلك ما أنعم عليهم من السمع والبصر وصحة البدن.

قال ابن عباس : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار. قال : يسأل الله العباد فيم استعملوا وهو أعلم بذلك منهم. وهو قوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، قال ابن جرير : لم يخصص في خبره تعالى نوعا من النعيم دون نوع. بل عمّ. فهو سائلهم عن جميع النعيم. ولذا قال مجاهد : أي عن كل شيء من لذة الدنيا. وقال قتادة : إن الله عزوجل سائل كل عبد عما استودعه من نعمه وحقه.

٥٣٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العصر

مكية ، وقيل مدنية ، وآيها ثلاث.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

(وَالْعَصْرِ) أي الدهر. أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارّة والمارّة. ولذا قيل له (أبو العجب). ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبّه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه ، تعريضا ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل :

يعيبون الزمان وليس فيه

معيب غير أهل للزمان

وجوّز أن يراد بالعصر ، الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.

قال الإمام : كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم. وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضا. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسبّ ، كما اعتاد الناس أن يقولوا (زمان مشؤوم) و (وقت نحس) و (دهر سوء) وما يشبه ذلك. بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات. وهو ظرف لشئوون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته ، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي خسران ، لخسارته رأس ماله؟ الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية ، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر ،

٥٣٥

وإضاعة الباقي في الفاني (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله وبما أنزل من الحق ، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم. كما قال : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال القاشانيّ : أي من الفضائل والخيرات. أي اكتسبوها فربحوا زيادة النّور الكماليّ على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي أوصى بعضهم بعضا بما أنزل الله في كتابه من أمره ، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي على ما يبلو الله به عباده. أو على الحق ، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله ، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.

تنبيهات :

الأول ـ قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) قال الشافعي رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه السورة ، لكفتهم. وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها معرفة الحق. الثانية عمله به. الثالثة تعليمه من لا يحسنه. الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر ، إلا الذين آمنوا. وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة. وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. وتواصوا بالحق ، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة. وتواصوا بالصبر ، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات. فهذه مرتبة رابعة.

وهذا نهاية الكمال. فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه ، مكملا لغيره. وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية. فصلاح القوة العلمية بالإيمان. وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات. وتكميله غيره ، بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة ، على اختصارها ، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيا عن كل ما سواه ، شافيا من كل داء ، هاديا إلى كل خير. انتهى.

الثاني : قال الرازي : هذه السورة فيها وعيد شديد. وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة. وهي : الإيمان. والعمل الصالح. التواصي بالحق. والتواصي بالصبر. فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور. وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه

٥٣٦

في غيره أمور. منها الدعاء إلى الدين. والنصيحة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأن يحب له ما يحب لنفسه ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله ، والثاني الثبات عليه. والأول الأمر بالمعروف ، والثاني النهي عن المنكر. ومنه قوله تعالى : (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) [لقمان : ١٧] ، وقال عمر : رحم الله من أهدى إليّ عيوبي.

الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه. فلذلك قرن التواصي بالصبر.

الرابع : تخصص التواصي بالحق والصبر ، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما.

قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر. لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر. والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة. وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة. فشرط النجاة من الخسران ، أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكّنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضا عليه ، بأن يدعو كلّ صاحبه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة ، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل. وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات ، التي لا قرار للنفوس عليها ، ولا دليل يهدي إليها. ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام. وهذا إطلاق للعقل من كل قيد ، مع اشتراط التدقيق في النظر. لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم. ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين. كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل. والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقّا أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها. واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع. فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك ، حتى تكون بنفسك متحلّيا بها. وإلا دخلت فيمن يقول ، ولا يفعل كما يقول. فلم تكن ممن يعمل الصالحات. انتهى.

٥٣٧

الخامس ـ قال الإمام : إنما قال (وَتَواصَوْا) ولم يقل (وأوصوا) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ، ليوصي صاحبه بطلبه ، يهمه أن يرى الحق فيقبله. فكأن في هذه العبارة الجزلة ، قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية به إذا وجهت إليهم.

السادس ـ قال ابن كثير : ذكر الطبرانيّ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله ابن حصن قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها. ثم يسلم أحدهما على الآخر. قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك. وهو خطأ. وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها. خصوصا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر. حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده.

وقد فسر الإمام رحمه‌الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه.

٥٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الهمزة

مكية ، وآيها تسع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي لكل من يطعن في أعراض الناس ويغتابهم أصله من الهمز بمعنى الكسر ، ومن اللمز بمعنى الطعن ، الحقيقيين. ثم استعيرا لذلك ثم صارا حقيقة عرفية فيه. قال زياد الأعجم :

تدلى بودّ إذا لاقيتني كذبا

وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزة

وبناء (فعلة) يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ، لأنه من صيغ المبالغة والآية عني بها من كان مع المشركين بمكة ، همازا لمازا. كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) [المطففين : ٢٩ ـ ٣٠] ، وقوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم : ١١] الآيات ، فالسبب ، وإن يكن خاصّا ، إلا أن الوعيد عام ، يتناول كل من باشر ذلك القبيح. وسرّ وروده عامّا ، ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه ، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه.

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) أي أحصى عدده ولم ينفقه في وجوه البر.

قال الإمام : أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده. أي عده مرة بعد أخرى ، شغفا به وتلذذا بإحصائه. لأنه لا يرى عزّا ولا شرفا ولا مجدا في سواه. فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه. فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه. ثم لا يخشى أن تصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض. لأن غروره بالمال أنساه الموت وصرف عنه ذكر المآل فهو (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن أن ماله الذي جمعه وأحصاه ، وبخل بإنفاقه ، مخلده في الدنيا ، فمزيل عنه الموت.

٥٣٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩)

(كَلَّا) أي فليرتدع عن هذا الحسبان ، فإن الأمر ليس كما ظن. بل لا بد أن يفارق هذه الحياة إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سيّئ الأعمال ، كما قال : (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ليلقين وليقذفن يوم القيامة في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. أي تكسره ، وكلمة (النبذ) تفيد التحقير والتصغير (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) استفهام عنها لتهويل أمرها. كأنها ليست من الأمور التي تدركها العقول (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي هي النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه ، لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه.

قال أبو السعود : وفي إضافتها إليه سبحانه ، ووصفها بالإيقاد ، من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) قال ابن جرير : أي التي يطلع ألمها ووهجها على القلوب والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى. حكي عن العرب سماعا (متى طلعت أرضنا) و (طلعت أرضي) بلغت.

وقال الزمخشري : يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب. ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى يمسه. فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه!! ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. أو تطالع ، على سبيل المجاز معادن موجبها (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مغلقة مطبقة لا مخلص لهم منها (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) صفة لمؤصدة ، أو حال من الضمير المجرور. وإلى الوجهين أشار الزمخشري بقوله : والمعنى أنه يؤكد يأسهم من الخروج ، وتيقنهم بحبس الأبد ، فتؤصد عليهم الأبواب ، وتمدد على العمد ، استيثاقا في استيثاق. ويجوز أن يكون المعنى أنها عليهم مؤصدة ، موثقين في عمد ممددة ، مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص.

و (المقاطر) جمع (مقطرة) بالفتح ، وهي جذع كبير فيه خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم (وتقطر) أي يجعل كلّ بجنب آخر و (عمد) قرئ بضم العين والميم وفتحهما.

قال ابن جرير : وهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من

٥٤٠