تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

الوهاج. فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت. بل قد يتضررون به بعض الأوقات. وأما السراج المنير فيحتاجون إليه في ك ل وقت ، وكل مكان ، ليلا ونهارا ، سرّا وعلانية. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها. وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. وهذه الأماكن الثلاثة ، أقسم الله بها في القرآن في قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) فأقسم بالتين والزيتون ، وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل. وأقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي كلم الله موسى وناداه فيه ، من واديه الأيمن ، في البقعة المباركة من الشجرة ـ وأقسم بهذا البلد الأمين وهو مكة الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل ، وأمه هاجر فيه. وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حوله. وجعله آمنا خلقا وأمرا ، قدرا وشرعا.

ثم قال (ابن تيمية) : فقوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداه ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة : التوراة والإنجيل والقرآن. كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران.

ولما كان ما في التوراة خبرا عنها ، أخبر بها على ترتيبها الزماني ، فقدم الأسبق فالأسبق وأما في القرآن ، فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها. وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وآياته وكتبه ورسله. فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة. فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولا بالتين والزيتون. ثم بطور سينين ، ثم بمكة. لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ثم التوراة ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء. فأقسم بها على وجه التدريج كما في قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ١ ـ ٤] ، فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة. فأقسم بالرياح الذاريات ثم بالسحاب الحاملات للمطر فإنها فوق الرياح ، ثم بالجاريات يسرا ، وقد قيل إنها السفن ، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير : ١٥ ـ ١٦] ، فسماها جواري كما سمى الفلك جواري في قوله : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الشورى : ٣٢] ، والكواكب فوق السحاب ثم قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ٤] ، وهي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم ١٩. عن ثوبان.

٥٠١

واستظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى : (وَالتِّينِ) يعني به شجرة (بوذا) مؤسس الديانة البوذية ، التي تحرفت كثيرا عن أصلها الحقيقي. لأن تعاليم بوذا لم تكتب في زمنه. وإنما رويت كالأحاديث بالروايات الشفهية. ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعها.

ثم قال : والراجح عندنا ، بل المحقق إذا صح تفسيرنا لهذه الآية ، أنه كان نبيّا صادقا ويسمى (سكياموتي) أو (جوناما) وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة وتحتها نزل عليه الوحي. وأرسله الله رسولا. فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه. ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين ، وتسمى عندهم (التينة المقدسة) وبلغتهم (أجابالا).

قال : ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم. فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) إلى آخر السورة.

قال : ولا يزال أهل الأديان الأربعة هم أعظم أمم الأرض وأكثرهم عددا وأرقاهم. والترتيب في ذكرها في الآية ، هو باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى. فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفا عن أصلها. كما يبدأ الإنسان بالقسم بالشيء الصغير ، ثم يرتقي للتأكيد إلى ما هو أعلى. ثم النصرانية وهي أقل من البوذية تحريفا. ثم اليهودية وهو أصح من النصرانية ، ثم الإسلامية وهو أصحها جميعا وأبعدها عن التحريف والتبديل. بل إن أصولها ، الكتاب والسنة العملية المتواترة ، لم يقع فيها تحريف مطلقا. ومن محاسن هذه الآية الشريفة غير ذلك ، ذكر ديني الفضل (البوذية والمسيحية) أولا ثم ديني العدل (اليهودية والإسلامية) ثانيا للإشارة إلى الحكمة بتربية الفضل والمسامحة مع الناس أولا. ثم تربية الشدة والعدل. وكذلك بدأ الإسلام باللين والعفو ثم بالشدة والعقاب. ولا يخفى على الباحثين التشابه العظيم بين بوذا وعيسى ودينيهما. وكذلك التشابه بين موسى ومحمد ودينيهما. فلذا جمع الأولان معا والآخران كذلك. وقدم البوذية على المسيحية لقدم الأولى. كما قدم الموسوية على المحمدية لهذا السبب بعينه. ومن محاسن الآية أيضا الرمز والإشارة إلى ديني الرحمة بالفاكهة والثمرة ، وإلى ديني العدل بالجبل والبلدة الجبلية (مكة) وهي البلد الأمين. ومن التناسب البديع بين ألفاظ الآية أن التين والزيتون ينبتان كثيرا في أودية الجبال ، كما في جبل الزيتون

٥٠٢

بالشام وطور سيناء ، وهما مشهوران بها. فهذه الآية قسم بأول مهابط الوحي ، وأكرم أماكن التجلي الإلهي على أنبيائه الأربعة ، الذين بقيت شرائعهم للآن. وأرسلهم الله لهداية الناس الذين خلقهم في أحسن تقويم. انتهى بحروفه. والله أعلم.

لطيفة :

لم ينصرف (سينين) كما لا ينصرف (سيناء) لأنه جعل اسما للبقعة أو الأرض. فهو علم أعجميّ. ولو جعل اسما للمكان أو المنزل أو اسما لمذكر لانصرف ، لأنك سميت به مذكرا. وقرأ العامة (سينين) بكسر السين. وقرأ بعض السلف بفتحها. وآخرون (سيناء) بالكسر والفتح ممدودا. قال السمين : وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السريانيّ ، على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي في أحسن تعديل خلقا ، وشكلا ، صورة ومعنى قال الشهاب : الظرف في موضع الحال من الإنسان. والتقويم فعل الله ، فهو بمعنى القوام أو المقوم ، أو فيه مضاف مقدر ، أي قوام أحسن تقويم ، أو (في) زائدة والتقدير : قومناه أحسن تقويم.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي جعلناه أسفل من سفل ، وهم أصحاب النار لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين ، ف (رد) بمعنى جعل التي تنصب مفعولين. قال الشهاب : و (السافلين) العصاة وغيرهم ، وأسفل سافل للمتعدد المتفاوت. و (ثم) للتراخي الزماني أو هو رتبي ، وجوز نصب (أَسْفَلَ) بنزع الخافض صفة لمحذوف. أي إلى مكان أسفل سافلين. أي محل النار. أو النار بمعنى جهنم. وهذا ما قاله مجاهد حيث قال : (في النار) وفي رواية (إلى النار) والسافلين ، على هذا ، الأمكنة السافلة وهي دركاتها. وجمعها للعقلاء للفاصلة ، أو للتنزيل منزلة العقلاء. كذا قالوا. ولو أريد بهم أهل النار والدركات ، لأنهم أسفل السفل كالأول ، لكان أولى.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع أو غير

٥٠٣

منقوص أو غير محسوب أو غير ممنون به عليهم. والاستثناء متصل من ضمير (رددناه) فإنه في معنى الجمع ؛ لأن المكنيّ عنه وهو الإنسان ، في معنى الجنس.

هذا ، وقد اعتمد ابن جرير في تأويل الآية ، ما روي عن ابن عباس من أن المعنى (ثم رددناه إلى أرذل العمر. وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها ، ثم كبر حتى ذهب عقله ، كتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمل في شبيبته ، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله ، من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته).

وعبارة ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه أي إلى أرذل العمر إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو في أسفل من سفل في إدبار العمر ، وذهاب العقل. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في حال صحتهم وشبابهم (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) بعد هرمهم ، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم ، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل.

قال : وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال ، احتجاجا بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت. ألا نرى أنه يقول : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) يعني بعد هذه الحجج. ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين. وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه ، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين. وإذ كان ذلك كذلك ، وكان القوم ، للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين ، وكانوا أهل الهرم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين ، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن ، والشباب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف. انتهى كلامه.

وعليه فيكون الاستثناء منقطعا ، استدراكا للدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره ، ويكون (الدين) حينئذ مبتدأ ، والفاء داخلة في خبره. وأما على الوجه الأول ، فالفاء للتفريع ، ومدخولها جملة مترتبة عليه ، ومؤكدة له. وقوله تعالى : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) خطاب للإنسان على طريق الالتفات ، لتشديد التوبيخ والتبكيت ، أي فما يحملك على التكذيب بالدين ، أي

٥٠٤

الجزاء بعد البعث ، وإنكاره بعد هذه الدلائل. والمعنى : إن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا ، وتحويله من حال إلى حال ، كمالا ونقصانا ، من أوضح الدلائل على قدرة الله عزوجل على البعث ، والجزاء فأي شيء تضطرك إلى التكذيب به؟ وجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى (يُكَذِّبُكَ) إما ينسبك إلى الكذب (كفسقته إذا قلت له إنه فاسق) والباء في (بِالدِّينِ) بمعنى (في) أي يكذبك في إخبارك به. أو سببية أي بسبب إخبارك به وإثباته. أو المعنى ما يجعلك مكذبا بالدين. على أن الباء صلته. وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين ، والمعنى إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين. لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأسا. والاستفهام للإنكار والتعجب.

واستصوب ابن جرير : قول من قال (ما) بمعنى (من) أي فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين.

قال الشهاب : (فما) استفهام عمن يعقل ، وفيه نظر ، لأنه خلاف المعروف ، فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها ، كما بيناه لك. والداعي لارتكاب هذا ، أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه إنكار توبيخيّ للمكذبين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي بأحكم من حكم في أحكامه. قال أبو السعود : أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا ، حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء ، وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين ، تعين الإعادة والجزاء. فالجملة تقريرا لما قبلها. وقيل : الحكم بمعنى القضاء ، فهي وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما يستحقونه من العذاب و (أحكم) من الحكم أو الحكمة. قيل : والثاني أظهر. وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأها قال : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين. أرسله قتادة ، ورفعه أبو هريرة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٠٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العلق

سورة العلق. وهي مكية بالإجماع. وصدرها أول آية نزلت من القرآن ، كما صحت بذلك الأخبار. وأما أول سورة نزلت كاملة فهي الفاتحة. ويروى في الأوائل غيرها ، ولا منافاة. لأن الأولية حقيقية ونسبية. روى الشيخان (١) وغيرهما عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء. فكان يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد. ويتزوّد لذلك. ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزوّد لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال (اقْرَأْ) قال : ما أنا بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال (اقْرَأْ) فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال (اقْرَأْ) فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : بدء الوحي ، ٣ ـ باب حدثنا يحيى بن بكير ، حديث رقم ٣.

وأخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ٢٥٢.

٥٠٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي اقرأ ما يوحى إليك من القرآن ملتبسا باسمه تعالى. أي مبتدئا به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء. قال أبو السعود : والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية ، والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه‌السلام ، للإشعار بتبليغه عليه‌السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية ، بإنزال الوحي المتواتر. ووصف الرب بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ) لتذكير أول النعماء الفائضة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه تعالى. والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة ، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية ، من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات ، قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم ـ أي الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء.

وقال الإمام : ترى من سياق الرواية التي قدمناها أن المتبادر من معنى الآية الأولى : كن قارئا باسم الله من قبيل الأمر التكويني. فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا. ولذلك كرر القول مرارا : ما أنا بقارئ. وبعد ذلك جاء الأمر الإلهي بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا. فإنه سينزل عليه كتاب يقرؤه. وإن كان لا يكتبه. ولذلك وصف الرب بالذي خلق ، أي الذي أوجد الكائنات التي لا يحيط بها الوصف ، قادر أن يوجد فيك القراءة وإن لم يسبق لك تعلمها. لأنك لم تكن تدري ما الكتاب. فكأنّ الله يقول : كن قارئا بقدرتي وبإرادتي. وإنما عبر بالاسم ، لأنه كما سبق في (سورة سبح) دال على ما تعرف به الذات ، وخلق القراءة يلفتك إلى الذات وصفاتها جميعا. لأن القراءة علم في نفس حية. فهي تخط ببالك من الله وجوده وعلمه وقدرته وإرادته. أما إذا حملنا الأمر على التكليف وقلنا : إن المعنى أنك مأمور إذا قرأت أن تقرأ باسم الله. وهو خلاف المتبادر ، فيكون معنى ذلك : إذا قرأت فاقرأ

٥٠٧

دائما على أن تكون قراءتك عملا تنفذه لله لا لغيره فلو فرض أنه قرأ وجعل قراءته لله لا لأحد سواه ولم يذكر الاسم ، فهو قارئ باسم الله. وإنما طلبت التسمية باللسان لتكون منبهة للضمير في بداية كل عمل ، إلى أن يرجع إلى الله في ذلك العمل. ويلاحظ أنه يعمل لاسمه لا لاسم غيره سبحانه. انتهى. وهو جيد (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) أي دم جامد. وهي حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه ، وتخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات ، لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وتفخيما لشأنه. إذ هو أشرفها وإليه التنزيل. وهو المأمور بالقراءة وإنما قال (عَلَقٍ) دون (علقة) كما في الآية الأخرى ، لرعاية الفواصل ، ولأن (الْإِنْسانَ) مراد به الجنس. فهو في معنى الجمع. فلذا جمع ما خلق منه ليطابقه. وخص العلق دون غيره من التارات ، لأنه أدل على كمال القدر ، من المضغة. مع استلزامه لما تقدمه. ومع رعاية الفواصل.

قال الإمام : أي ومن كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا ، وهو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية ، ويسخرها لخدمته ؛ يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارئا. وإن لم يسبق له تعلم القراءة. وجاء بهذه الآية بعد سابقتها ، ليزيد المعنى تأكيدا. كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات ، وما القراءة إلا واحدة منها. والذي أنشأ الإنسان خلقا كاملا من دم جامد لا شكل فيه ولا صورة. وإنما القراءة صفة عارضة على ذلك الإنسان الكامل. فهي أولى بسهولة الإيجاد ، ولما كانت القراءة من الملكات التي لا تكسبها النفس إلا بالتكرار ، والتعوّد على ما جرت به العادة في الناس ، ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء ، في تصييرها ملكة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلهذا كرر الأمر بقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) وجملة (وَرَبُّكَ) إلخ استئنافية لبيان أن الله أكرم من كل من يرتجي منه الإعطاء. فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة ، نعمة القراءة ، من بحر كرمه. ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة ، فوصف مانحها بأنه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها ، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام. فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ، ألا يجعل منك قارئا مبيّنا وتاليا معلما وأنت إنسان كامل؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه ، ويبعد عنه استغراب أن يقرأ ولم يكن قارئا ، فقال : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا ، وأوجد فيك ملكة القراءة والتلاوة ، وسيبلغك فيها

٥٠٨

مبلغا لم يبلغه سواك ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وكان في بدء خلقه لا يعلم شيئا ، فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان ولم يكن سبق له علم بالمرة ، أن يعلمك القراءة وعندك كثير من العلوم سواها ونفسك مستعدة بها لقبول غيرها؟؟ انتهى.

تنبيهات :

الأول : قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة) في مباحث عجائب الإنسان وما في خلقه من الحكم : ثم تأمل نعمة الله على الإنسان بالبيانين. البيان النطقي والبيان الخطي وقد اعتد بهما سبحانه في جملة ما اعتد به من نعمة على العبد. فقال في أول سورة أنزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فتأمل كيف جمع في هذه الكلمات مراتب الخلق كلها ، وكيف تضمنت مراتب الوجودات الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأحسنه. فذكر أولا عموم الخلق وهو إعطاء الوجود الخارجي. ثم ذكر ثانيا خصوص خلق الإنسان لأنه موضع العبرة. والآية فيه عظيمة. ومن شهوده عما فيه محض تعدد النعم. وذكر مادة خلقه هاهنا من العلقة. وفي سائر المواضع يذكر ما هو سابق عليها. أما مادة الأصل وهو التراب والطين أو الصلصال الذي كالفخار ، أو مادة الفرع وهو الماء المهين. وذكر في هذا الموضع أول مبادئ تعلق التخليق وهو العلقة. فإنه كان قبلها نطفة فأول انتقالها إنما هو إلى العلقة. ثم ذكر ثالثا التعليم بالقلم الذي هو من أعظم نعمه على عباده. إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق وتعلم الوصايا وتحفظ الشهادات ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس ، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين. ولو لا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، ودرست السنن وتخبطت الأحكام ، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم ، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحور صور العلم من قلوبهم. فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان. فنعمة الله عزوجل بتعليم القلم بعد القرآن ، من أجلّ النعم. والتعليم به ، وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة ، فإن الذي بلغ به ذلك وأوصله إليه عطية وهبها الله منه ، وفضل أعطاه الله إياه ، وزيادة في خلقه وفضله. فهو الذي علمه الكتابة ، وإن كان هو المتعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم. فإنه علمه فتعلّم. كما أنه علمه الكلام فتكلم. هذا ، ومن أعطاه الذهن الذي يعي به ، واللسان الذي يترجم

٥٠٩

به ، والبنان الذي يخطّ به ، ومن هيأ ذهنه لقبول هذا التعلم دون سائر الحيوانات ، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه ، ومن الذي دعم البنان بالكف ، ودعم الكف بالساعد. فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم. فقف وقفة في حال الكتابة وتأمل حالك وقد أمسكت القلم وهو جماد ، ووضعته على القرطاس وهو جماد ، فتولد من بينهما أنواع الحكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر ، وجوابات المسائل. فمن الذي أجرى فلك المعاني على قلبك ، ورسمها في ذهنك ، ثم أجرى العبارات الدالة عليها على لسانك ، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا ، معناه أعجب من صورته ، فتقضي به مآربك وتبلغ به حاجة في صدرك ، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة ، فيقوم مقامك ، ويترجم عنك. ويتكلم على لسانك ويقوم مقام رسولك ، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله ، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؟ والتعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاثة : مرتبة الوجود الذهني والوجود اللفظي والوجود الرسمي. فقد دل التعليم بالقلم على أنه سبحانه هو المعطي لهذه المراتب. ودل قوله : (خَلَقَ) على أنه يعطي الوجود العيني. فدلّت هذه الآيات ، مع اختصارها ووجازتها وفصاحتها ، على أن مراتب الوجود بأسرها مسندة إليه تعالى خلقا وتعليما. وذكر خلقين وتعليمين خلقا عاما وخلقا خاصا ، وتعليما خاصّا وتعليما عاما. وذكر من صفاته هاهنا اسم (الأكرم) الذي هو فيه كل خير وكل كمال. فله كل كمالا وصفا ، ومنه كل خير فعلا. فهو (الأكرم) في ذاته وأوصافه وأفعاله. وهذا الخلق والتعليم إنما نشأ من كرمه وبره وإحسانه ، لا من حاجة دعته إلى ذلك ، وهو الغني الحميد.

الثاني : قال الإمام : لا يوجد بيان أبرع ولا دليل أقطع على فضل القراءة والكتابة والعلم بجميع أنواعه. من افتتاح الله كتابه وابتدائه الوحي بهذه الآيات الباهرات. فإن لم يهتد المسلمون بهذا الهدى ، ولم ينبهم النظر فيه إلى النهوض إلى تمزيق تلك الحجب التي حجبت عن أبصارهم نور العلم ، وكسر تلك الأبواب التي غلقها عليهم رؤساؤهم وحبسوهم بها في ظلمات من الجهل وإن لم يسترشدوا بفاتحة هذا الكتاب المبين ، ولم يستضيئوا بهذا الضياء الساطع ، فلا أرشدهم الله أبدا.

الثالث : قال الرازي : في قوله : (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة. وفي قوله : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع. فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية. والثاني إلى النبوّة. وقدم الأول على

٥١٠

الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة ، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (٨)

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حده ويستكبر على ربه ، أن رأى نفسه استغنت. ف (كلا) بمعنى (حقا) لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهرا ، لتأخر نزول هذا عما قبله ـ على ما تقدم في المأثور ـ أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر ، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل : (كَلَّا) يكون ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران والطغيان. أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان. ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ، وإنعامه بما لا كفء له ، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.

قال الكرخي ، ومذهب أبي حيان أن (كلا) بمعنى (ألا) الاستفتاحية ، وصوبه ابن هشام بكسر همزة (إن) بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي (الكواشي) : يجوز في (كلا) أن تكون تنبيها ، فيقف على ما قبلها. وردعا ، فيقف عليها.

تنبيه :

دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود ، قررها الحكماء المصلحون. وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. قالوا : لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان ، كما نطقت به الآية الكريمة.

قال بعض الحكماء : التحول لأجل الحاجات وبقدرها ، محمود بثلاثة شروط. وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال.

الشرط الأول : أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال. أي إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.

والشرط الثاني : أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير ، كاحتكار الضروريات ، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء ، أو التغلب على المباحات. مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.

٥١١

الشرط الثالث لجواز التمول : هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير ، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها ، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا. وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية. لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ ، ففيه معنى الغصب. وبدون عمل ، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق. وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات ، فيختل التساوي بين الناس ، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.

وقوله تعالى : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي المرجع في الآخرة. قال أبو السعود : تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد ، و (الرجعى) مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه. أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث ، لا إلى غيره ، استقلالا ولا اشتراكا. فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه ، والتهديد والتحذير بحاله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١٤)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) أي يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي ، إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك. قال ابن عطية : لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما روي في الصحيحين. ولفظ البخاريّ (١) عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه. فبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لو فعله لأخذته الملائكة. وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر ، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ (العبد) وتنكيره ، لتفخيمه عليه‌السلام ، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه. وقيل : إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف ، إذ قال (ينهى) ولم يقل (يؤذي) و (عبدا) دون (نبيّا) والرؤية هاهنا بصرية ، وفيما بعدها قلبية. معناه : أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق ، حديث رقم ٢٠٧٢.

٥١٢

المرئي ، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. قاله أبو السعود.

وقال الإمام : كلمة (أرأيت) صارت تستعمل في معنى (أخبرني) على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقي ، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها. فكأنه يقول : ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته ، خصوصا وهو في حالة أدائها. وقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله ، أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان ، كما يعتقد؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده. أي ألم يعلم بأن الله يرى. وعليه ، فالضمائر كلها ل (الذي ينهى) وجوز عود الضمير المستتر في (كان) للعبد المصلي. وكذا في (أمر) أي أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي؟ والمنهيّ على الهدي آمر بالتقوى. والنهي مكذب متول ، فما أعجب من هذا! وذهب الإمام رحمه‌الله ، في تأويل الآية إلى معنى آخر. وعبارته : أما قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق ، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة ، أفما كان ذلك خيرا له وأفضل؟ وقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون. وتولى أي أعرض عن العمل الطيب ، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتمال؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود ، بعد ما دل على المحذوف بقوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي أجهل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقيّا على الهدى أحسن جزاءه ، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته. ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل (أرأيت) الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة. فهو مما لا معنى له؟ ؛ لأن القرآن قدوة في التعبير ، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلا بمعنى (أخبرني). والجملة المستخبر عن مضمونها ، تسد مسد المفاعيل. انتهى كلامه رحمه‌الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

(كَلَّا) ردع عن النهي عن الصلاة (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي عن هذا الطغيان ، وعن النهي عن الصلاة ، وعن التكذيب والتولي (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنأخذن بناصيته ،

٥١٣

ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة. والأخذ بالناصية هنا ، مثل في القهر والإذلال والتعذيب والنكال. وقوله تعالى : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) بدل من (الناصية) ولم يقتصر على إحدى الجملتين ، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك. ووصفها بالكذب والخطأ ، وهما لصاحبها ، على الإسناد المجازي ، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى ، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب. وكذا حال الخطأ ، وهو كقوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) [النحل : ٦٢] ، و (وجهها يصف الجمال) ـ والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء ، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله (بنو فلان قتلوا قتيلا) والقاتل أحدهم.

لطيفة :

قال في (البحر) : كتبت نون (لنسفعا) بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفا. وقال السمين : الوقف على هذه النون بالألف تشبيها لها بالتنوين. وتكتب هنا ألفا اتباعا للوقف لأن قاعدة الرسم مبنية على حال الوقف والابتداء (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي أهل مجلسه ، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين ، اتكالا على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والجملة إما بتقدير مضاف ، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم ، أي يجتمعون (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا ، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر ، ولم يرسم (سندع) بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ ، أو لمشاكلة قوله : (فليدع) وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر (كَلَّا) ردع للناهي بعد ردع ، وزجر إثر زجر (لا تُطِعْهُ) أي لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك. قال الزمخشريّ : أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] ، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا من الدعاء.

تنبيهات :

الأول : قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل ، على ما صح في الأخبار ، قال الإمام : ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه ، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى. والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله أعلم.

٥١٤

الثاني : قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : إنما شدد الأمر ـ أمر الوعيد ـ في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط ، حيث طرح سلى الجزور على ظهره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ـ لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته ، وبوطء العنق الشريف. وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له ، لو فعل ذلك. وقد عوقب عقبة بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى من شاركه في فعله ، فقتلوا يوم بدر ، كأبي جهل.

الثالث : قال الإمام : ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة. فقد كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة.

الرابع : قال في (اللباب) : سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ. فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال : سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) : أخرجه مسلم في صحيحه.

٥١٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القدر

قال السيوطي : فيها قولان ، والأكثر أنها مكية ، وآيها خمس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين ، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان : ٣] ، وكانت في رمضان ، لقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ). [البقرة : ١٨٥].

قال الإمام : سميت ليلة القدر ، إما بمعنى ليلة التقدير ، لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه. أو بمعنى العظمة والشرف ، من قولهم (فلان له قدر) أي له شرف وعظمة. لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة ، وقد جاء بما فيه الإشارة ، بل التصريح ، بأنها ليلة جليلة ، بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به ، ثم قال : (إنها خير من ألف شهر) لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهم يختبطون في ظلمات الضلال. فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص ، وتفوض الأمر ، في

٥١٦

تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر ، إلى الله تعالى. فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا ، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير. ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) فإنه جار على عادتهم في الخطاب. وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له ، بل الغرض منه التكثير. وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت (إخفاء الصدقة خير من إظهارها) لم تعين درجة الأفضلية. وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة ، هي واقعة بدر ، أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة ، أو بثلاثة آلاف ، أو بخمسة آلاف ، كما تراه في الأنفال وآل عمران. فالعدد هناك لا مفهوم له ، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله. ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) يخبر جلّ شأنه أن أول عهد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهود الملائكة ، كان في تلك الليلة. تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحده حد ولا يحيط به مقدار ، حتى تمثلت لبصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والروح هو الذي يتمثل له مبلغا للوحي ، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة ، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم. فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذا الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام. لأن الله يجلي الملائكة على النفوس ، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده. فيكون الإذن مبتدئا من الأمر على هذا المعنى. والأمر هاهنا هو الأمر في قوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان : ٤ ـ ٥] ، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام ، لا في شيء آخر سواها. ولهذا قال بعضهم : إن (من) هاهنا بمعنى الباء ، أي بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) وقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) مع أن المعنى ماض ، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن ـ لوجهين :

الأول : لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤] ، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا. والثاني : لأن مبدأ النزول كان فيها. ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي أنها كانت ليلة سالمة من كل

٥١٧

شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه ـ وهو الأمن والسلامة ـ للمبالغة في أنه يشبها كدر ، بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة. وفتح له فيها سبل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها ، الأيام والشهور الطوال.

تنبيهات :

الأول : قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ولا إجماع في تعيين تلك الليلة. بل في صحيح البخاري (١) : أنها رفعت. أي رفع العلم بتعيينها. وفي رواية فيه : نسيتها أو أنسيتها. من قوله صلوات عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في العشر الأخير من رمضان لما كان من اهتمامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين قال ابن حجر : وحجتهم حديث واثلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان. وقد اضطربت أقوال السلف فيها. صحابة ومن بعدهم. حتى أنافت على أربعين قولا.

قال الإمام : ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان. ولا نعيّنها من بين لياليه. فقد اختلف فيها الروايات اختلافا عظيما. وكتاب الله لم يعينها. وما ورد في الأحاديث من ذكرها ، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة ، شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم ، في أثنائها. ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها ، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق ، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن ، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه. فهي ليلة عبادة وخشوع ، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء ، يتسابق إليها المنافقون. ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون. كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام. فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه. ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه. بل إن أصغوا إليه ، فإنما يصغون لنغمة تاليه ، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره ، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره. ولهم

__________________

(١) أخرجه في : فضل ليلة القدر ، ٢ ـ باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر ، حديث رقم ٤١٩ ، عن أبي سعيد الخدري.

٥١٨

خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال ، فضلا عن الراشدين من الرجال. انتهى.

وقال الطبريّ : إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ، ما لا يظهر في سائر السنة. إذ لو كان ذلك حقّا ، لم يخف على كل من قام ليالي السنة ، فضلا عن ليالي رمضان.

الثاني : حكى الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) قولا عن بعض العلماء ؛ أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعل مستنده ما صح أنها رفعت. وقد قدمنا معناه. ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه. وعندي أن لا تنافي. لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به ـ وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام ، هي ليلة فيها مزية على غيرها ، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية ، فالقائم في ليالي العشر الأخير ، أو في رمضان ، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة. لأنها منه قطعا. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة. ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكاراتهم وجعلها أعيادا ، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو ، مما ينافي حكمة ذكراها فتأمّل الفرق ، واحمد الله على اتباع الحق.

الثالث : قال الإمام : ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، هي ليلة النصف من شعبان ، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار ، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة. وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومثل ذلك لم يرد ، لاضطراب الروايات ، وضعف أغلبها ، وكذب الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العزة ، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة. فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين. لعدم تواتر خبره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه. وإلا كنا من الذين (إن يتّبعون إلّا الظّنّ) نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة ، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويعدّ من عقائد الدين ، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل. فأحذر أن تقع فيها مثلهم ، انتهى كلامه رحمه‌الله تعالى.

٥١٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البيّنة

ويقال سورة القيمة. وسورة المنفكين. وسورة البرية. وعدد آياتها ثمان وهي مدنية على الأصح. روى الإمام أحمد بن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيّ ابن كعب : إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : وسمّاني لك ، قال : نعم. فبكى. ورواه البخاري ومسلم (١). وفي رواية الإمام أحمد (٢) عن أبي حبّة البدريّ قال : لما نزلت (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال جبريل : يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيّ : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة. قال أبيّ : وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله؟ قال : نعم. قال : فبكى أبيّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا نبوة النبيّ صلوات الله عليه بعنادهم ، بعد ما تبينوا الحق منها (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي اليهود والنصارى الذي عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته ، لم يكونوا هم (وَالْمُشْرِكِينَ) أي وثنيّ العرب (مُنْفَكِّينَ) أي عن غفلتهم وجهلهم بالحق ، ووقوفهم عند ما قلدوا فيه آباءهم ، ولا يعرفون من الحق شيئا (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي الحجة القاطعة المثبتة للمدعي ، وهي هنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم ، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم بأنه كان شيئا معروفا لهم ، يصلون إليه بما كان لديهم ، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع. فإن ما هم فيه أجمل وأبدع. ومتابعة الآباء

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، سورة لم يكن ، ١ ـ حدثنا محمد بن بشار ، حديث رقم ١٧٨٤ ، عن أنس.

(٢) أخرجه في المسند ٣ / ٤٨٩.

٥٢٠