تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل. كقولك : لا أرينّك هاهنا.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي غدوا إلى جنتهم ، على نشاط وسرعة وجدّ من أمرهم ، أو على منع وغضب (قادِرِينَ) أي في زعمهم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين. (فَلَمَّا رَأَوْها) أي فلما صاروا إليها ، ورأوها محترقا حرثها (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي أنكروها وشكّوا فيها. هل هي جنتهم أم لا. فقال بعضهم لأصحابه : ظنا منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها : إنا ، أيها القوم ، لضالون طريق جنتنا! فقال من علم أنها جنتهم ، وأنهم لم يخطئوا الطريق : بل نحن ، أيها القوم ، محرومون ، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢)

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم وخيرهم رأيا (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي : تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، وتخشون انتقامه من المجرمين. وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة ، فعصوه ، فعيّرهم. (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي في ترك استثناء حق المساكين ، ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا. (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيّئ (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) أي بتوبتنا إليه ، وندمنا على خطأ فعلنا ، وعزمنا على عدم العود إلى مثله. (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي في العفو عما فرط منا ، والتعويض عما فاتنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٣٣)

(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي في الدنيا لمن خالف الرسل ، وكفر بالحق ، وبغى الفساد في الأرض. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أعظم منه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لارتدعوا وتابوا وأنابوا. فالجواب مقدر. قال الشهاب : لأنه ليس قيدا لما قبله ، إذ لا مدخلية لعلمهم في كون العذاب أكبر.

٣٠١

تنبيه :

قال في (الإكليل) : قال ابن الفرس : استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فرّ من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط ، فإن ذلك لا يسقطها. ووجه ذلك : أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين ، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم. وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل ، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث ، لأجل الفقراء.

هذا ، وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سئل عن أصحاب الجنة : أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعبا.

وعن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيرا منها ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) (٤٣)

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي في الكرامة والمثوبة الحسنى ، والعاقبة الحميدة. (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي بما ينبو عنه العقل السليم ، فإنهما لا يستويان في قضيته. (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي من الأمور لأنفسكم ، وتشتهونه لكم ، كقوله : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) [فاطر : ٤٠] ، وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ، ويتمنون من الأمانيّ الكاذبة (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي تقضون من أمانيّكم ومزاعمكم.

قال الزمخشري : يقال : لفلان عليّ يمين بكذا ، إذا ضمنته منه ، وحلفت له على الوفاء به. يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد. (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) جواب القسم ، لأن معنى (أم لكم أيمان علينا) أم أقسمنا لكم. ف (بالغة) ـ كما قال الشهاب ـ معناه المراد منه ، متناهية في

٣٠٢

التوكيد. وأصله بالغة أقصى ما يمكن ، فحذف منه اختصارا ، وشاع في هذا المعنى.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ) أي : الحكم (زَعِيمٌ) أي كفيل به ، يدعيه ويصححه. (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي ناس يشاركونهم في هذا الزعم ، ويوافقونهم عليه. (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي : في دعواهم.

قال الزمخشريّ : يعني أن أحدا لا يسلّم لهم بهذا ، ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به. ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال ابن عباس : أي عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة. ألا تسمع العرب تقول : شالت الحرب عن ساق؟ ـ رواه ابن جرير.

(وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم. (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي : لا مانع يمنعهم منه. والمراد من السجود : عبادة الله وحده ، وإسلام الوجه له ، والعمل بما أمر به من الصالحات.

تنبيه :

ما أثرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى (عن ساق) هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم. في أمثال هذه الآية ، وعليه اقتصر الزمخشريّ ، وعبارته :

الكشف عن الساق ، والإبداء عن الخدام ، مثل في شدة الأمر ، وصعوبة الخطب.

وأصله في الروع والهزيمة ، وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك. قال حاتم :

أخو الحرب ، إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

وقال ابن الرقيات :

تذهل الشيخ عن بنيه ، وتبدي

عن خدام العقيلة العذراء

وجاءت منكّرة للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة ، منكر خارج عن المألوف كقوله :

٣٠٣

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) [القمر : ٦] ، كأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل.

وقال أبو سعيد الضرير : أي يوم يكشف عن أصل الأمر. وساق الشيء : أصله الذي به قوامه ، كساق الشجر وساق الإنسان. أي : تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها. فالساق بمعنى أصل الأمر ، وحقيقته. استعارة من ساق الشجر ، وفي (الكشف) تجوّز آخر ، أو هو ترشيح له.

وقال الإمام ابن حزم رحمه‌الله في (الفصل) : ما صح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يوم القيامة أن الله عزوجل يكشف عن ساقه ، فيخرون سجدا. فهذا كما قال الله عزوجل في القرآن : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ). وإنما هو إخبار عن شدة الأمر ، وهول الموقف ، كما تقول العرب : قد شمرت الحرب عن ساقها. قال جرير :

ألا ربّ سامي الطرف من آل مازن

إذا شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح. وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصّا. ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به. وقد عاب الله هذا فقال (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس : ٣٩] انتهى.

هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهانيّ إلى أن الآية وعيد دنيويّ للمشركين ، لا أخرويّ. قال : إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ، لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) ، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه : إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى) [الفرقان : ٢٢] ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة ، لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها. وإما حال الهرم والمرض والعجز. وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود ، وهم سالمون مما بهم الآن ، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم. ونظير هذه الآية قوله (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة : ٨٣] انتهى.

قال الرازيّ : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم. فأما قوله إنه لا يمكن حمله على القيامة ، بسبب أن الأمر بالسجود حاصل هاهنا ، والتكاليف زائلة يوم القيامة ، فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل ، فلم قلتم إن ذلك غير جائز؟

٣٠٤

ثم تأثر تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة ، بترهيبهم بما عنده وفي قدرته ، من القهر ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٤٤)

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كله إليّ فإني أكفيكه ، وهذا من بليغ الكناية. كأنه يقول : حسبك انتقاما منه ، أن تكل أمره إليّ ، وتخلّي بيني وبينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به ، قادر على ذلك. (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة ، وزيادة النعم ، من حيث لا يعلمون أنه استدراج ، وسبب لهلاكهم. يقال : استدرجه إلى كذا ، أي : استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورّطه فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (٤٥)

(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان ، لتكمل حجة الله عليهم. (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي كيدي بأهل الكفر شديد قويّ.

قال الزمخشريّ : الصحة والرزق والمدّ في العمر ، إحسان من الله وإفضال ، يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم. فلما تدرجوا به إلى الهلاك ، وصف النعم بالاستدراج. وقيل : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه. وسمى إحسانه وتمكينه (كيدا) ، كما سماه استدراجا ، لكونه في صورة الكيد ، حيث كان سببا للتورط في الهلكة. ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧)

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي على ما أتيتهم به من النصيحة ، ودعوتهم إليه من الحق. (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي من عزة ذلك الأجر مثقلون. أي أثقلهم الأداء ، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك ، وتجنبوا الدخول فيما دعوتهم إليه. والمعنى : لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا ، فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان. (أَمْ

٣٠٥

عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي منه ما يحكمون به ، فيجادلونك بما فيه ، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به ، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠)

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وهو إمهالهم ، وتأخير ظهورك عليهم. أي لا يثنينّك ، عن تبليغ ما أمرت به ، أذاهم وتكذيبهم ، بل امض صابرا عليه (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني : يونس عليه‌السلام (إِذْ نادى) أي دعا ربه في بطن الحوت (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي مملوء غيظا وغمّا. والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والونى عن التبليغ ، فتبتلى ببلائه (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهو قبول توبته ورحمته ، تضرعه وابتهاله (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) قال الزمخشريّ : يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء ، ولو لا توبته لكانت حاله على الذم. والعراء : الفضاء من الأرض.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي برحمته. قال القاشانيّ : لمكان سلامة فطرته ، وبقاء نور استعداده ، وعدم رسوخ الهيئة الغضبية ، والتوبة عن فرطات النفس ، فقربه تعالى إليه (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي لمقام النبوة والرسالة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢)

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قال الزمخشريّ : يعني أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزرا ، بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلّون قدمك ، أو يهلكونك. من قولهم (نظر إلى نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني) أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل ، لفعله. قال :

يتقارضون ، إذا التقوا في موطن ،

نظرا يزلّ مواطئ الأقدام

وأنشد ابن عباس ـ وقد مرّ بأقوام حددوا النظر إليه ـ :

٣٠٦

نظروا إليّ بأعين محمرة

نظر التيوس إلى شفار الجازر

وبيّن تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن ، وهو قوله : (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي القرآن ، معاداة لحكمته. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي من الهذيان الذي يهذي به في جنونه ، لعدم تمالك أنفسهم من الحسد منه ، والتنفير عنه. (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي عظة وحكمة وتذكير وتنبيه لهم ، على ما في عقولهم وفطرهم من التوحيد. فكيف يجنّن من جاء بمثله؟ ـ وبالله التوفيق ـ.

٣٠٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحاقّة

مكية. وآيها إحدى وخمسون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣)

(الْحَاقَّةُ) أي الساعة الحاقة التي تحق فيها الأمور ، ويجب فيها الجزاء على الأعمال. من قولهم : حق عليه الشيء ، إذا وجب. وقوله : (مَا الْحَاقَّةُ) من وضع الظاهر موضع المضمر ، تفخيما لشأنها ، وتعظيما لهولها. (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) قال بعضهم : من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة ، إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته ، أتوا بإجمال وتفصيل. أي : أيّ شيء أعلم المخاطب ما هي؟ تأكيدا لتفخيم شأنها ، حتى كأنها خرجت من دائرة علم المخاطب. على معنى : أن عظم شأنها ، وما اشتملت عليه من الأوصاف ، مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين ، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين ، ولا أدركه وهمه ، وكيفما قدر حالها ، فهي وراء ذلك وأعظم. ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن لازمه ، من أنها لا تعلم ، ولا يصل إليها دراية دار ، ولا تبلغها الأفكار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٨)

٣٠٨

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم.

قال الزمخشريّ : ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة ، زيادة في وصف شدتها. ولمّا ذكرها وفخمها ، أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيرا لأهل مكة ، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.

(فَأَمَّا ثَمُودُ) وهم قوم صالح عليه‌السلام (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة ، أو بطغيانهم ، و (الطاغية) مصدر كالعافية.

(وَأَمَّا عادٌ) وهم قوم هود عليه‌السلام (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي : شديدة العصوف والبرد (عاتِيَةٍ) أي : متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة.

(سَخَّرَها) أي : سلطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي متتابعات من (حسمت الدابة) ، إذا تابعت بين كيّها. شبه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكيّ القاطع للداء. أو معناه : نحسات ، حسمت كل خير واستأصلته ، أو قاطعات ، قطعت دابرهم. هذا على أن (حسوما) جمع حاسم ، كشهود وقعود. فإن كان مصدرا فنصبه بمضمر. أي تحسم حسوما ، أو بأنه مفعول له. أي سخرها عليهم للحسوم ، أي الاستئصال. وقد قيل : إن تلك الأيام هي أيام العجز. والعامة تقول : (العجوز) وهي التي تكون في عجز الشتاء ، أي آخره.

(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) أي هلكى ، جمع صريع (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي ساقطة مجتثة من أصولها كآية : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠] ، (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي : بقاء. أو نفس باقية ، أو بقية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢)

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) أي : من الأمم المكذبة ، كقوم نوح وعاد وثمود (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) وهي قرى قوم لوط (بِالْخاطِئَةِ) أي : بالخطإ ، أو الأفعال الخاطئة ، على المجاز في النسبة. (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي : زائدة في الشدة. (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي : كثر وتجاوز حده المعروف ، بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي ، وتكذيبه ، عليه‌السلام (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي السفينة التي تجري في الماء.

٣٠٩

قال ابن جرير : خاطب الذين نزل فيهم القرآن ، وإنما حمل أجدادهم نوحا وولده ، لأن الذين خوطبوا بذلك ، ولد الذين حملوا في الجارية ، فكان حمل الذين حملوا فيها من الأجداد ، حملا لذريتهم.

(لِنَجْعَلَها) أي تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين ، وإغراق الكافرين (لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي : آية وعبرة تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله ، وتدمير أعدائه.

(وَتَعِيَها) أي تحفظها (أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي حافظة لما سمعت عن الله ، متفكرة فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (١٧)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي : لخراب العالم.

قال أبو السعود : هذا شروع في بيان نفس الحاقة ، وكيفية وقوعها ، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.

(وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي : رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل. وفي توصيفها بالوحدة تعظيم لها ، وإشعار بأن المؤثر لدكّ الأرض والجبال وخراب العالم ، هي وحدها ، غير محتاجة إلى أخرى.

(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : نزلت النازلة ، وهي القيامة.

(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : انصدعت (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) متمزقة.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي : جوانبها وأطرافها حين تشقق. (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أي : فوق الملائكة الذين هم على أرجائها (يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي : من الملائكة أو من صفوفها.

قال ابن كثير : يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش (العرش العظيم) ، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة ، لفصل القضاء ، ـ والله أعلم ـ انتهى.

ومثله ، من الغيوب التي يؤمن بها ، ولا يجب اكتناهها. وتقدم في سورة الأعراف ، في تفسير آية (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] كلام لبعض علماء الفلك على هذه الآية ، فتذكره.

٣١٠

وذهب بعض منهم إلى أن المراد بالعرش ملكه تعالى للسموات والأرض ، وب (الثمانية) السموات السبع والأرض. وعبارته : (وَيَحْمِلُ) بالجذب (عَرْشَ رَبِّكَ) أي : ملك ربك للأرض والسموات (فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ) أي : فوق الملائكة الذين هم على أرجائها يوم القيامة ، (ثَمانِيَةٌ) أي : السموات السبع والأرض.

قال : وهذا يدل على أن (السبع) ليس للكثرة ، بل المراد به الحقيقة. فهم ثمانية يحملون العرش ، أي : ملك الأرض والسموات السبع بالجذب ، كما هو حاصل اليوم. ولكن ذلك يكون بشكل عظيم جدّا.

ثم قال : ولا وجه لمعترض يقول : إن حملة العرش مسبحة ، لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر : ٧] ، فكيف تسبح السماوات والأرض؟ لأنه يجاب بقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤].

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢٤)

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) أي : على ربكم للحساب والمجازاة (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي سريرة كانت تخفى في الدنيا بستر الله.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) أي : علامة لفوزه (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي : تعالوا ، أو خذوا. والهاء للسكت ، لا ضمير غيبة.

قال الشهاب : فحقها أن تحذف وصلا ، وتثبت وقفا ، لتصان حركة الموقوف عليه ، فإذا وصل استغنى عنها. ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف ، أو لأنه وصل بنيّة الوقف. وإثباتها وصلا قراءة صحيحة ، ولا يلتفت لقول بعض النحاة : إنها لحن.

(إِنِّي ظَنَنْتُ) أي : علمت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي جزائي يوم القيامة. أي : فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : ذات رضا ، ملتبسة به ، فيكون بمعنى (مرضية). أو الأصل : راض صاحبها ، فأسند الرضا إليها ، لجعلها ، لخلوصها عن الشوائب ، كأنها

٣١١

نفسها راضية مجازا ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية ، كما فصل في (المطول).

(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها) جمع قطف بكسر القاف ، وهو ما يقطف من ثمرها (دانِيَةٌ) أي قريبة سهلة التناول.

(كُلُوا) أي : يقال لهم كلوا (وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي :

الماضية في الحياة الدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ) (٣٧)

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ) أي : عند ما يلاقي العذاب (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي : أيّ شيء حسابي.

(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) قال ابن جرير : أي يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها ، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث. و (القضاء) هو الفراغ. وقيل : إنه تمنى الموت الذي يقضي عليه ، فتخرج منه نفسه.

(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي : ما دفع من عذاب الله شيئا.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ملكي وتسلطي على الناس. أو حجتي ، فلا حجة لي أحتج بها.

(خُذُوهُ) أي : يقال لخزنة النار : خذوه بالقهر والشدة (فَغُلُّوهُ) أي : ضموا يده إلى عنقه ، إذ لم يشكر ما ملكته.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي : أدخلوه ليصلى فيها ، لأنه لم يشكر شيئا من النعم ، فأذيقوه شدائد النقم.

(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) أي حلقة منتظمة بأخرى ، وهي بثالثة ، وهلم جرا.

(ذَرْعُها) أي : مقدارها (سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) فأدخلوه فيها. أي : لفّوه بها ، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقا ، لا يقدر على حركة.

٣١٢

قال القاشانيّ : والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة غير المحصورة ، لا العدد المعيّن.

ثم علل استحقاقه ذلك ، على طريقة الاستئناف ، بقوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) أي : المستحق للعظمة وحده ، بل كان يشرك معه الجماد المهين.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : إطعامه ، فضلا عن بذله ، لتناهي شحه.

(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي : قريب تأخذه الحمية له.

(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) أي : من غسالة أهل النار وصديدهم.

قال ابن جرير : كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو (غسلين) ـ فعلين ـ من الغسل من الجراح والدّبر ، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين.

(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي. الآثمون ، أصحاب الخطايا. يقال : خطئ الرجل ، إذا تعمد الخطأ. قال الرازيّ : الطعام ما هيّئ للأكل. فلما هيّئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاما لهم. ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام ، فسمي طعاما. كما قال :

تحيّة بينهم ضرب وجيع

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣)

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي : بالمشاهدات والمغيبات. وهذا القسم ـ كما قال الرازيّ ـ يعم جميع الأشياء على الشمول ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر ، فشمل الخالق والخلق ، والدنيا والآخرة ، والعالم العلويّ والسفليّ ، وهكذا. وتقدم في (الواقعة) الكلام على كلمة (لا أقسم) فتذكر.

(إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يبلغه عن الله تعالى ، لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) أي : كما تزعمون ، فإن بين أسلوبه وحقائقه ، وبين وزن الشعلة وخيالاته ، بعد المشرقين.

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ). تصدقون بما ظهر صدقه وبرهانه ، عنادا وعتوّا. والقلة

٣١٣

كناية عن النفي والعدم. ونصب (قليلا) على أنه نعت لمصدر ، أو زمان مقدر. أي إيمانا وزمانا. والناصب (تؤمنون) أو (تذكّرون). و (ما) زائدة ـ هذا ما قاله ابن عادل ـ وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون نافية ومصدرية.

(وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ) أي كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون وتعتبرون. قيل : نفى الإيمان في الأول ، والذكرى في الثاني ، لأن عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن ، لا ينكره إلا معاند. فلا عذر لقائله في ترك الإيمان ، وهو أكفر من حمار. وأما مباينته للكهانة ، فيتوقف على تذكّر ما ، لأن الكاهن يأخذ جعلا ، ويجيب عما سئل عنه ويتكلف السجع ، ويكذب كثيرا ، وإن التبس على الحمقى لإخباره عن بعض المغيبات بكلام منثور ، فتأمّل.

(تَنْزِيلٌ) أي هو تنزيل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ممن ربّاهم بصنوف نعمه ، ومنها ما نزله وأوحاه ليهتدوا به إلى سبل السعادة ، ومناهج الفلاح.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧)

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) أي افترى علينا. وسمى الكذب تقوّلا ، لأنه قول متكلف ، كما تشعر به صيغة التفعّل. و (الْأَقاوِيلِ) إما جمع (قول) على غير القياس ، أو جمع الجمع كالأناعيم ، جمع أقوال وأنعام. قيل : تسمية الأقوال المفتراة (أقاويل) تحقيرا لها ، كأنها جمع أفعولة من القول ، كالأضاحيك.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) قال ابن جرير : أي لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة ، ثم لقطعنا منه نياط القلب. وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة ، ولا يؤخّره بها. وقد قيل : إن معنى قوله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه. قال : وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه : خذ بيده ، فأقمه ، وافعل به كذا وكذا : قالوا : وكذلك معنى قوله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لأهنّاه. كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله. انتهى.

وقال الزمخشريّ : المعنى لو ادّعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم ، معاجلة بالسخط والانتقام. فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده ، وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار ، لأن

٣١٤

القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده ، وأن يكفحه بالسيف ، وهو أشد على المصبور ، لنظره إلى السيف ، أخذ بيمينه. فمعنى (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا بيمينه. كما أن قوله (لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) لقطعنا وتينه ، وهذا بيّن. انتهى.

وما قرره الزمخشريّ أبلغ في المراد ، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة ، إذ على الأول يفوت التصوير والتفصيل والإجمال ، لأن قوله (بِالْيَمِينِ) بعد (لَأَخَذْنا مِنْهُ) بيان بعد الإبهام ، ويصير قوله (مِنْهُ) زائدا من غير فائدة ، ويرتكب المجاز من غير فائدة أيضا ـ كما في (العناية) ـ.

(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي ليس أحد منكم يحجزنا عنه ، ويحول بيننا وبين عقوبته ، لو تقوّل علينا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢)

(وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي عظة لمن يتقي عقاب الله بالإيمان به وحده ، وما نزل من عنده. (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي له ، إيثارا للدنيا والهوى. أي فنجازيكم على إعراضكم. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي ندامة عليهم ، إذا رأوا ثواب المؤمنين به. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي للحق اليقين الذي لا ريب فيه. (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي دم على ذكر اسمه ، وادأب على الدعوة إليه وحده ، وإلى ما أوحاه إليك. فالعاقبة لك ، ولمن اتبعك من المؤمنين.

٣١٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المعارج

وتسمى سورة (سَأَلَ سائِلٌ). وهي مكية. وآيها أربع وأربعون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (٣)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) قال مجاهد : أي دعا داع بعذاب يقع في الآخرة ، وهو قولهم (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢]. والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة ـ فيما رواه النسائيّ عن ابن عباس ـ وقد قيل : إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا. وقد قتل النضر ببدر ، ففي الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقه. و (لِلْكافِرينَ) صفة ثانية ل (عذاب) ، أو صلة ل (واقع). واللام للتعليل ، أو بمعنى (على). (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) أي رادّ يرده من جهته ، لتعلق إرادته به. وهذا كقوله تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧].

وقوله تعالى (ذِي الْمَعارِجِ) قال الرازيّ : المعارج جمع معرج ، وهو المصعد. ومنه قوله تعالى (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣].

والمفسرون ذكروا فيه وجوها :

أحدها ـ قال ابن عباس في رواية : أي هي السموات. وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها.

وثانيها ـ قال قتادة : ذي الفواضل والنعم. وذلك لأن لأياديه ووجوده إنعامه مراتب ، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة.

وثالثها ـ أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة. وقوله تعالى :

٣١٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤)

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال ابن جرير : أي تصعد الملائكة والروح ، وهو جبريل ، إليه عزوجل ، في يوم كان مقدار صعودهم ذلك ، في يوم لغيرهم من الخلق ، خمسين ألف سنة. وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض ، إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع.

وقيل : بل معناه تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يفرغ فيه من القضاء بين خلقه ، كان قدر ذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدر خمسين ألف سنة.

وقد قيل : إن (في يوم) متعلق ب (واقع). والمراد به يوم القيامة.

فعن ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. والمقدار المذكور إما حقيقيّ ، أو مجاز عن الاستطالة.

قال الشهاب : وهكذا زمان كل شدة ، كما قيل :

تمتع بأيام السرور ، فإنها

قصار ، وأيام الغموم طوال

ونقل الرازيّ عن أبي مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها ، من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء. فبين تعالى أنه لا بدّ في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم ، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة. ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما ، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي. انتهى. وهو بعيد ، وهذه الآية كآية (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ، ولا منافاة في التقدير ، لأن المعنيّ به الاستطالة ، لشدته على الكفار ، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات. والقرآن يفسر بعضه بعضا ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) (١٤)

٣١٧

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي : على ما يقولون. ولا يضق صدرك ، فقد قرب الانتقام منهم.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ) أي : العذاب الدنيويّ أو الأخرويّ (بَعِيداً) أي : وقوعه ، لعدم إيمانهم بوعيده تعالى. (وَنَراهُ قَرِيباً) أي قريب الحضور. (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي كالشيء المذاب ، أو درديّ الزيت. و (يوم) إما ظرف ل (قريبا) ، أو لمحذوف.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي : كالصوف.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي قريب قريبا عن شأنه ، لشغله بشأن نفسه.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يعرّفون أقرباءهم ، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض. وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل ، لا احتجاب بعضهم من بعض.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي يتمنى الكافر (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) أي الذين هم محل شفقته.

(وَصاحِبَتِهِ) أي التي هي أحب إليه (وَأَخِيهِ) أي الذي يستعين به في النوائب.

(وَفَصِيلَتِهِ) أي عشيرته (الَّتِي تُؤْوِيهِ) أي تضمه إليها عند الشدائد.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي الافتداء. أو المذكور. أو من في الأرض. عطف على (يفتدى). و (ثم) للاستبعاد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى) (١٨)

(كَلَّا) أي لا يكون ذلك (إِنَّها) أي النار الموعود بها المجرم (لَظى) أي لهب خالص. (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي الأطراف ، كاليد والرجل. أو جمع (شواة) وهي جلدة الرأس. (تَدْعُوا) أي إلى صليّها (مَنْ أَدْبَرَ) أي عن الحق (وَتَوَلَّى) أي عن الطاعة. (وَجَمَعَ) أي المال (فَأَوْعى) أي جعله في وعاء وكنزه ، ومنع حق الله منه ، فلم نزكّ ، ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١)

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أي قليل الصبر ، شديد الحرص ، كما بيّنه بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الضرّ والبلاء (جَزُوعاً) أي كثير الجزع من قلة صبره. (وَإِذا

٣١٨

مَسَّهُ الْخَيْرُ) أي كثر ماله ، وناله الغنى (مَنُوعاً) أي لما في يده ، بخيل به ، لشدة حرصه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣٥)

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي مقيمون ، لا يضيّعون منها شيئا. (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي المتعفّف الذي أدبرت عنه الدنيا ، فلا يسأل الناس. وقيل : الذي لا ينمي له مال. وقيل : المصاب ثمره ، أخذا من قوله أصحاب الجنة في السورة قبل (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [القلم : ٢٧]. واللفظ أعمّ من ذلك كله.

وقد روى ابن جرير عن ابن عمر أنه سئل عن الحق المعلوم أهو الزكاة؟ فقال : إن عليك حقوقا سوى ذلك.

ومثله عن ابن عباس قال : هو سوى الصدقة ، يصل بها رحما ، أو يقري بها ضيفا ، أو يحمل بها كلّا ، أو يعين بها محروما.

وعن الشعبيّ : أن في المال حقّا سوى الزكاة.

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي الجزاء. (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) قال ابن جرير : أي وجلون أن يعذبهم في الآخرة ، فهم من خشية ذلك لا يضيّعون له فرضا ، ولا يتعدون له حدّا. (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي أن ينال من عصاه ، وخالف أمره. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) أي لغلبة ملكة الصبر ، وامتلاك ناصيته. (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) قال ابن جرير : أي التمس لفرجه منكحا سوى زوجته ، أو ملك يمينه .. (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الذين عدوا ما أحل الله لهم ، إلى ما حرّمه عليهم. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ

٣١٩

وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) قال ابن جرير : أي لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه ، وأمانات عباده التي ائتمنوا عليها ، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم ، وعهود عباده التي أعطاهم ، على ما عقده لهم على نفسه راعون ، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيّعونه. (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي لا يكتمون ما استشهدوا عليه ، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمهم أداؤها ، غير مغيّرة ولا مبدّلة. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي لا يضيّعون لها ميقاتا ولا حدّا. قيل : الحفظ عن الضياع ، استعير للإتمام والتكميل للأركان والهيئات. ولذا قال القاضي : وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا ، باعتبارين : للدلالة على فضلها ، وإنافتها على غيرها.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي بثواب الله تعالى ، لاتصافهم بمكارم الأخلاق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي مسرعين للحضور ، ليظفروا بما يتخذونه هزؤا.

وعن ابن زيد : (المهطع) الذي لا يطرف.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي متفرقين حلقا ومجالس ، جماعة جماعة ، معرضين عنك ، وعن كتاب الله. (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي ولم يتّصف بصفات أهلها المنوّه بها قبل. (كَلَّا) أي لا يكون ذلك ، لأنه طمع في غير مطمع. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي من النطف. يعني : ومن قدر على ذلك فلا يعجزه إهلاكهم ، فليحذروا عاقبة البغي والفساد. ولذا قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (٤٤)

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه ، أو

٣٢٠