تفسير القاسمي - ج ٥

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٥

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الأعراف

أخرج أبو الشيخ ابن حبان عن قتادة ، قال : الأعراف مكية ، إلا آية (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وقال : من هنا إلى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) مدني.

وآياتها مائتان وست آيات.

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(المص (١))

(المص)

تقدّم الكلام في أول سورة البقرة ، على حروف فواتح السور ، والمذاهب فيها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢)

(كِتابٌ) أي : هذا كتاب (أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي : لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه ، مخافة أن يكذبوك ، أو أن تقصر في القيام بحقه. فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخاف قومه ، وتكذيبهم له ، وإعراضهم عنه ، وأذاهم. فكان يضيق صدره من الأداء ، ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.

قال الناصر : ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) [هود : ١٢] الآية (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي : بالكتاب المنزل ، المشركين ليؤمنوا (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي عظة لهم. وتخصيص الذكرى بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذار بالمشركين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) خطاب منه تعالى لكافة المكلفين بالأمر باتباع ما أنزل ، وهو القرآن ، والمراد ب (ما أُنْزِلَ) : القرآن والسنة. وقوفا مع عمومه ، لقوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

٤

تنبيه :

قال السيوطي في (الإكليل) : استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به ، لأنه من جملة ما أنزل الله ، وقد أمرنا الله باتباعه ـ انتهى ـ.

وأقول : هذا غلوّ في الاستنباط ، وتعمق بارد. ويرحم الله القائل : إذا اشتد البياض صار برصا.

(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي لا تتبعوا أولياء غيره تعالى ، من الجن والإنس. فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي ما تتعظون إلا قليلا ، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه ، وتتركون دينه تعالى ، وتتبعون غيره. ثم حذرهم تعالى بأسه ، إن لم يتبعوا المنزل إليهم ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥)

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم (فَجاءَها بَأْسُنا) أي : فجاء أهلها عذابنا (بَياتاً) أي بائتين. كقوم لوط. والبيتوتة : الدخول في الليل ، أي ليلا قبل أن يصبحوا (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي قائلين نصف النهار ، كقوم شعيب. والمعنى : فجاءها بأسنا غفلة ، وهم غير متوقعين له. ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة. وكل ذلك وقت الغفلة. والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم ، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب ، وفيه وعيد وتخويف للكفار. كأنه قيل لهم : لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة ، فإن عذاب الله إذا نزل ، نزل دفعة واحدة. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨]؟ ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦)

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي : المرسل إليهم وهم الأمم ، يسألهم عما

٥

أجابوا عنه رسلهم كما قال : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ، (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي : عما أجيبوا به ، كما قال سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩]. والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٧)

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي : على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ) أي :

عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي : عنهم وعما وجد منهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨)

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ، يوم يسأل الله الأمم ورسلهم ، العدل. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : حسناته في الميزان (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الناجون من السخط والعذاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي : حسناته في الميزان (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بالعقوبة (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي : يكفرون.

تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآية ذكر الميزان ، ويجب الإيمان به. انتهى.

وقال الإمام الغزالي في (المضنون) : تعلّق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء ، كما قال تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢] ، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده ، وهي مقادير تلك الآثار ، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال ، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحدّ الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ، ومثاله في العالم

٦

المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والأصطرلاب لحركات الفلك والأوقات ، والمسطرة للمقادير والخطوط ، والعروض لمقادير حركات الأصوات. فالميزان الحقيقيّ ، إذا مثله الله عزوجل للحواس ، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك ، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان. وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات. والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.

الثاني : الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل : الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في (الصحيح) (١) «أنّ البقرة وءال عمران يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان أو غيابتان ، أو فرقان من طير صوافّ».

ومن ذلك في (الصحيح) (٢) قصة القرآن ، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا القرآن الذي أسهرت ليلك ، وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء (٣) في قصة سؤال القبر : فيأتي المؤمن شابّ حسن اللون ، طيب الريح ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح. وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية ، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية ، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك ، وتتصور بصورة النار ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٤] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً

__________________

(١) الحديث رواه مسلم في : صلاة المسافرين وقصرها ، حديث رقم ٢٥٢ ونصه : عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «اقرؤا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه. اقرؤا الزهراوين : البقرة وسورة آل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيابتان. أو كأنهما فرقان من طير صواف. تحاجان عن أصحابهما. اقرؤا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة. ولا يستطيعها البطلة».

(٢) أخرجه ابن ماجة في : الأدب ، ٥٢ ـ باب ثواب القرآن ، حديث ٣٧٨١ ونصه : عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب ، فيقول : أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك».

(٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤ / ٢٨٧.

٧

إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠]. الآية ـ وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) «في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة : إنما يجرجر في بطنه نار جهنم». ولا بعد في ذلك. ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.

وقيل : صحائف الأعمال هي التي توزن ، ويؤيده حديث البطاقة. فقد أخرج أحمد (٢) والترمذي وصححه ، وابن ماجة والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمر وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلّا ، كل سجلّ منها مدّ البصر ، فيقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول : لا ، يا رب! فيقول : أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل ، فيقول : لا. يا رب فيقول : بلى. إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) فيقول : يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات؟ فيقال : إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة».

وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث (٣) : يؤتى يوم القيامة بالرجل

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأشربة ، ٢٨ ـ باب آنية الفضة ، حديث ٢٢٣٣ ونصه : عن أم سلمة ، زوج النبيّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

(٢) أخرجه في المسند ٢ / ٢١٣ ، والحديث رقم ٦٩٩٤ ونصه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله عزوجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلّا. كل سجلّ مدّ البصر. ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال : لا ، يا رب. فيقول : ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل. فيقول : لا ، يا رب. فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة. لا ظلم اليوم عليك.

فتخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله) فيقول : أحضروه فيقول : يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال : إنك لا تظلم. قال فتوضع السجلات في كفّة. قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء باسم الله الرحمن الرحيم.

وأخرجه الترمذي في : الإيمان ، ١٧ ـ باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، حدثنا سويد بن نصر.

وأخرجه ابن ماجة في : الزهد ، ٣٥ ـ باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة ، حديث ٤٣٠٠.

(٣) أخرجه البخاريّ في : التفسير ، ١٨ ـ سورة الكهف ، ٧ ـ باب (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) ، حديث رقم ٢٠٢٣ ونصه : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة».

٨

السمين ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. ثم قرأ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥].

وفي مناقب عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده! لهما في الميزان أثقل من أحد» (١).

قال الحافظ ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار ، بأن يكون ذلك كله صحيحا ، فتارة توزن الأعمال ، وتارة يوزن محلها ، وتارة يوزن فاعلها. والله أعلم ـ انتهى.

قال أبو السعود : وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السوي ، والحكم العادل. وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، بناء على أن استعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية. قالوا : إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشيء. ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك ، لأنها أعراض قد فنيت. وعلى تقدير بقائها ، لا تقبل الوزن ـ انتهى ـ وأصله للرازي.

قال في (العناية) : فمنهم من أوّل الوزن بأنه بمعنى القضاء والحكم العدل ، أو مقابلتها بجزائها. من قولهم : وازنه ، إذا عادله. وهو إما كناية أو استعارة. بتشبيه ذلك بالوزن المتصف بالخفة والثقل ، بمعنى الكثرة والقلة. والمشهور من مذهب أهل السنة أنه حقيقة بمعناه المعروف انتهى.

فإن جمهور الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل.

قال في (فتح البيان) : وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه. بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية ، وليس في ذلك حجة لأحد. فهذا إذا لم تقبله عقولهم ، فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى جاءت البدع كالليل المظلم ، وقال كلّ ما شاء ، وتركوا الشرع خلف ظهورهم. وليتهم جاءوا

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١ / ٤٢٠ والحديث رقم ٣٩٩١ ونصه : عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكا من الأراك. وكان دقيق الساقين. فجعلت الريح تكفؤه ، فضحك القوم منه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مم تضحكون»؟ قالوا : يا نبيّ الله ، من دقة ساقيه. فقال «والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد».

٩

بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ، ويتحد قبولهم لها. بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ، ويوافق ما يذهب إليه هو ومن تابعه ، فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم. يعرف هذا كل منصف. ومن أنكره فليصفّ فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب ، فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه. وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء : ٤٧]. وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠٢ ـ ١٠٣]. وقوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] وقوله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) [القارعة : ٨ ـ ٩].

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّا مذكورة في كتب السنة المطهرة. وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما. فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه ، مع قوله تعالى وقول رسوله الصادق المصدوق ، والصباح يغني عن المصباح ـ انتهى.

وخلاصته ، أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا إذا تعذرت ، ولا تعذر هاهنا.

الثالث : إن قلت : أليس الله عزوجل يعلم مقادير أعمال العباد؟ فما الحكمة في وزنها؟ قلت : فيه حكم :

منها ـ إظهار العدل ، وإن الله عزوجل لا يظلم عباده.

ومنها ـ امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى.

ومنها ـ تعريف العباد ما لهم من خير وشر وحسنة وسيئة.

ومنها ـ إظهار علامة السعادة والشقاوة.

ونظيره ، أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ ثم في صحائف الحفظة الموكلين ببني آدم ، من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى. كذا في (اللباب).

وقال أبو السعود : إن قيل : إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور ، فيكفيه حكمه تعالى بكيفات الأعمال وكمياتها. وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات

١٠

تلك الأعمال ، بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه ، فما الفائدة في الوزن؟

أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ ، وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه ، وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح ، وغير ذلك. وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا ، فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها ، وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ، ولا يخطر بباله خلاف ذلك ـ انتهى.

وقد سبقه إلى نحوه الرازي.

ولما أمر تعالى أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ، ونهاهم عن اتباع غيره ، وبيّن لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ـ ذكرهم فنون نعمه ترغيبا في اتباع أمره ونهيه ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠)

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا. أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) الكلام فيه كالذي في قوله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) وقد مرّ قريبا. والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم ، أي ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم ، وترك متابعة من دوننا ، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية. ثم بيّن تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه ، وبيّن لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم ، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ

١١

يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) هذا كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٨ ـ ٢٩] وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق ، كالتي قبلها ، إعلام بكمال العناية بمضمونها.

قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين ، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه‌السلام وتصويره حتما ، توفية لمقام الامتنان حقه ، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم ، بالرمز إلى أن لهم حظّا من خلقه عليه‌السلام وتصويره ، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه ، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا ، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه ، ومصنوع على شاكلته ، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره. أي : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، ثم صورناه أبدع تصوير ، وأحسن تقويم ، سار إليكم جميعا ـ انتهى ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)

(قالَ) سبحانه وتعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي أن تسجد كما وقع في سورة (ص). و (لا) مزيدة للتنبيه على أن الموبّخ عليه ترك السجود. ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] ، كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك. وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة (لا) النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه ، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقا ، بل إذا صحبت نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح ، كما في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وكما هنا ، فإنها تؤكد تعلق المنع به ـ انتهى ـ.

وقيل (ما منعك) محمول على (ما حملك وما دعاك) مجازا أو تضمينا. وقال الراغب : المنع ضد العطية ، وقد يقال في الحماية. والمعنى ما حماك عن عدم السجود. ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود ، مع علمه به ، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه‌السلام. كما أوضحه قوله تعالى : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال ابن كثير. هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب ـ انتهى ـ.

وإنما قال هذا ، ولم يقل (منعني كذا) مطابقة للسؤال. لأن في هذه الجملة

١٢

التي جاء بها مستأنفة ، ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه ، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول ، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلاليّ ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ. وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين ، لأنها جوهر نورانيّ ، وهو ظلمانيّ ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة. كما نبه عليه بقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواصّ ليست لغيره. وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته ، يشرف بفاعله وغايته وصورته ، والثلاثة في آدم عليه‌السلام دونه ، فاستبان غلطه.

وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق ، وأخطأ طريق الصواب ، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب. وهذا الذي حمله ، مع سابقة شقائه ، على الاستكبار عن السجود لآدم عليه‌السلام ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورده ذلك العطب والهلاك. ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت ، وهذا كان الداعي لآدم عليه‌السلام ، مع سابقة سعادته ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت (١) : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم». رواه مسلم.

تنبيه :

روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال : قاس إبليس وهو أول من قاس. وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس ، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الزهد والرقاق ، حديث ٦٠.

١٣

قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) خطاب عامّ يتناول جميع الملائكة ، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس ، وهو أنه مخلوق من النار ، والنار أشرف من الطين ، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف ، والأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدنى ، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ، ولا معنى للقياس إلا ذلك. وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم ، وما ذاك إلا لعدم جوازه. وأيضا ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر : وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) فوصفه تعالى بكونه متكبرا ، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبّر على الله. ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد ، والإخراج من زمرة الأولياء. ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز ، وهذا هو المراد مما نقله الواحديّ في (البسيط) عن ابن عباس أنه قال : كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس ، فعصى ربه وقاس ، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه ، قرنه الله مع إبليس ـ هذا ما نقله الواحديّ في (البسيط) عن ابن عباس ، وأفاده الرازي.

وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس ، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس. وعن مسروق قال : لا أقيس شيئا بشيء ، فتزلّ قدمي بعد ثبوتها. وعن الشعبيّ : إياكم والقياس ، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام ، وحرمتم الحلال ، ولأن أتغنى غنية ، أحب إليّ من أن أقول في شيء برأيي. وقد ذكر الحافظ ابن عبد البرّ رحمه‌الله من هذا المعنى آثارا وافرة في (جامع بيان العلم وفضله) وقال : احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها. وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة. وتكلم داود في إسناد حديث معاذ وردّه ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يسمّوا. قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور ، رواه الأئمة العدول ، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول. ثم قال : وسائر الفقهاء وقالوا في هذه الآثار وما كان مثلها في ذم القياس : إنه القياس على غير أصل ، أو القياس الذي يردّ به أصل ، والقول في دين الله بالظن. ألا ترى إلى قول من قال منهم : أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس ردّ أصل العلم بالرأي الفاسد ، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها ، لا في رد الأصول بالرأي والظن. وإذا صحّ النص من الكتاب والأثر ، بطل القياس (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ

١٤

إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ ـ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ...) [الأحزاب : ٣٦] الآية ـ وأيّ أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود ، وهو العالم بما خلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس ، ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء ، فهذا ومثله لا يحلّ ولا يجوز. وأما القياس على الأصول ، والحكم للشيء بحكم نظيره ، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف ، بل كل من روي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا. لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل ، مخالف للسلف في الأحكام.

وقال مسروق الوراق :

كنّا من الدين قبل اليوم في سعة

حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس

قاموا من السوق إذ قلّت مكاسبهم

فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس

أما العريب فقوم لا عطاء لهم

وفي الموالي علامات المفاليس

فلقيه أبو حنيفة فقال : هجوتنا. نحن نرضيك. فبعث إليه بدراهم فقال :

إذا ما أهل مصر بادهونا

بآبدة من الفتيا لطيفه

أتيناهم بمقياس صحيح

صليب من طراز أبي حنيفه

إذا سمع الفقيه به وعاه

وأثبته بحبر في صحيفة

قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك الزمن ، فقال :

إذا ذو الرأي خاصم عن قياس

وجاء ببدعة منه سخيفة

أتيناهم بقول الله فيها

وآثار مبرّزة شريفه

هكذا حكاه ابن عبد البر في (جامع فضل العلم). وله فيه في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل) مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.

ومما ذكر فيه : أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحدّ. قال : والسبب الموجب لذلك ، عندهم ، إدخاله الرأي والقياس على الآثار ، واعتبارهما. وأكثر أهل العلم يقولون : إذا صح الأثر بطل النظر. وكان ردّه لما ردّ من أخبار الآحاد بتأويل محتمل ، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره ، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي :

١٥

وجلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده ، كإبراهيم النخعيّ وأصحاب ابن مسعود. إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل ، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم. فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف. ثم قال : وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية ، أو مذهب في سنة ، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا ، وهو يوجد لغيره قليل. وعن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما قال مالك فيها برأيه. قال : وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه : أنه روى عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم ـ أي الصحابة ـ على ترك العمل بالرأي والقياس ، مطلقا فقد غلط ، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس ، فقد غلط ، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها ـ انتهى ـ.

وقال ابن تيمية رحمه‌الله في فتوى أخرى : والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم ، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان :

أحدهما : أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع ، كما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح (١) أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : ألقوها وما حولها ، وكلوا سمنكم. وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن ، فلهذا قال جماهير العلماء : إنه أيّ نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت ، وكالهرّ الذي يقع في السمن ، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن. ومن قال من أهل الظاهر : إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن ، فقد أخطأ ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة ، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها ، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع ، فأجاب المفتي عن ذلك ، خصه لكونه سئل عنه ، لا لاختصاصه

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ٣٤ ـ باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب ، حديث ١٧٥ ونصه : عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهم قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال «ألقوها وما حولها ، وكلوه».

١٦

بالحكم. ومثل هذا أنه سئل عن رجل (١) أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمّخة بخلوق فقال : انزع عنك الجبة الخلوق ، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك. فأجابه عن الجبة ، ولو كان عليه قميص أو نحوه ، كان الحكم كذلك بالإجماع.

والنوع الثاني من القياس : أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ، ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره ، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوّى بينهما ، وكان هذا قياسا صحيحا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، يستعملونهما ، وهما من باب فهم مراد الشارع. فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه ، وعلى أن يعرف مراده باللفظ. وإذا عرفنا مراده ، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك ، لا لمعنى يخص الأصل ، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك. وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص ، منعنا القياس. كما أنا علمنا أن الحج خص به جهة الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان ، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس ، ونحو ذلك ، فإنه يمتنع هنا أن نفيس على المنصوص غيره. وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة ، كتعيين الكعبة وشهر رمضان ، أو عين بعض الأقوال والأفعال ، كتعيين القراءة في الصلاة ، والركوع والسجود ، بل وتعيين التكبير وأمّ القرآن ، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم ، وقالوا : المقصود أربعة أشهر من السنة ، فقال تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧]. وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص ، من جنس قياس الذين قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا

__________________

(١) أخرجه البخاري في : فضائل القرآن ، ٢ ـ باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب ، حديث ٨١٥ ونصه : عن صفوان بن يعلى بن أمية ، أن يعلى كان يقول : ليتني أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين ينزل عليه الوحي! فلما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجعرانة ، وعليه ثوب قد أظل عليه ، ومعه ناس من أصحابه ، إذ جاءه رجل متضمخ بطيب. فقال : يا رسول الله ، كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فنظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة. فجاءه الوحي. فأشار عمر إلى يعلى أن : تعال. فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو محمر الوجه يغط كذلك ساعة. ثم سري عنه فقال «أين الذي يسألني عن العمرة آنفا»؟ فالتمس الرجل فجيء به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك».

١٧

وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥]. وكذلك قياس (١) المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكّى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١]. فهذه الأقيسة الفاسدة ، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد ، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه ، فقياسه فاسد. وكل من سوّى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد. لكن من القياس ما يعلم صحته ، ومنه ما يعلم فساده ، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.

ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته ، فقد استدل بما لا يعلم صحته ، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته ، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته ، وإلى ما يعلم فساده ، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة ، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة ، وهذا هو المراد من قول من قال : النصوص تتناول أفعال المكلفين. ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض ، كقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦]. و (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) [الشورى : ١٧] ، فالكتاب هو النص ، والميزان هو العدل ، والقياس الصحيح من باب العدل ، فإنه تسوية بين المتماثلين ، وتفريق بين المختلفين. ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص ، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد. ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا ، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح ، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية ، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة ، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة ، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر ، كما يدل النص على ذلك ، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء ، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة ، كما دل القرآن على هذا المعنى. وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة ، لا فرق في ذلك بين

__________________

(١) أخرجه النسائيّ في : الضحايا ، ٤٠ ـ باب تأويل قول الله عزوجل : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، ونصه : عن ابن عباس في قوله عزوجل : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)، قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه. وما ذبحتم أنتم أكلتموه.

١٨

شراب وشراب ، فالفرق بين الأنواع المشتركة من الجنس تفريق بين المتماثلين ، وخروج عن موجب القياس الصحيح ، كما هو خروج عن موجب النصوص. وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس ، لكن يقولون : معنا آثار توافق ، اتبعناها ، ويقولون : إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر. وغلطوا في فهم النص ، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم. ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها ، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ، وقد قال تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [التوبة : ٩٧] والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا ـ والله أعلم ـ انتهى كلامه رحمه‌الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣)

(قالَ) تعالى لإبليس (فَاهْبِطْ مِنْها) أي : بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي. وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة ، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها. قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى ـ انتهى ـ وعليه اقتصر المهايمي حيث قال : فاهبط منها أي : من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي : فما يصح ولا يستقيم ، فإنها مكان المطيعين الخاشعين (فَاخْرُجْ) تأكيد للأمر بالهبوط ، متفرّع على علته (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي : من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١٤)

(قالَ أَنْظِرْنِي) أي : أمهلني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : آدم وذريته من القبور.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥)

(قالَ) أي : الله له (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من المؤجلين إلى نفخة الصور

١٩

الثانية. قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع. ولا معقب لحكمه.

وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشميّ اليمانيّ في تفسيره (التهذيب) : ومتى قيل : ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى ، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية. ومتى قيل : هل خاطبه بهذا؟ قلنا : يحتمل ذاك ، ويحتمل أنه أمر ملكا فخاطبه به. ومتى قيل : هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا : فيه خلاف.

الأول : قيل لا ، لأنه إكرام وتعظيم ـ عن أبي عليّ ـ ولذلك يقال : فلان مستجاب الدعوة ، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه ، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.

الثاني : يجوز إجابة دعائه استصلاحا له ، لأنه تفضّل ـ عن أبي بكر أحمد بن عليّ ـ وليس بالوجه. ومتى قيل : إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا : لا ، لأنه لم يعلم ما الوقت المعلوم ، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه ، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار ، ولعنه ـ علم أنه لا يختار الإيمان أبدا. ومتى قيل : ما فائدة إنظاره؟ قلنا : لطف له ، لأنه يمكنه من استدراك أمره. وهل يضل به أحد؟ قال أبو عليّ ، لا ، لقوله تعالى : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦٢] ، (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦٣]. ولأنه لو ضل به ، لكان بقاؤه مفسدة ، فكان الله تعالى لا ينظره. فأما أبو هاشم فيجوّز أن يضل به أحد ، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة ، ويجوز أن يكون لطفا من وجوه : أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح ، وكان ثوابه أكثر ، ولأنه تعالى عرفنا عداوته ، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوّه ويغمّه ، وذلك إنما يكون بطاعة ربه ، ومن أطاعه فمن قبل نفسه أتى ، لا من قبل ربه. انتهى كلام الجشمي ، وهو جار على أصول المعتزلة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦)

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي أضللتني عن الهدى ، أو حكمت بغوايتي. والباء للقسم ، كما في قوله تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ) [ص : ٨٢]. أي : فأقسم بإغوائك إياي. وقيل : هي بمعنى لام التعليل ، أي : لأجل إغوائك إياي (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي :

٢٠