تفسير القاسمي - ج ٦

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٦

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة يونس

سميت به ، عليه‌السلام ، لتضمنها قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] ، ففيه غاية ما يفيد فيه الإيمان وضرر تركه وتأخيره ، وهو المقصد الأعلى من إنزال الكتاب ـ قاله المهايميّ ـ.

وهذه السورة مكية ، واستثنى منها قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ...) [يونس : ٩٤ ـ ٩٥]. الآيتين. وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ...) [يونس : ٤٠] الآية ، قيل : نزلت في اليهود. وقيل : من أولها إلى رأس أربعين مكيّ ، والباقي مدنيّ ـ حكاه ابن الفرس والسخاويّ في (جمال القراء).

وآياتها مائة وتسعة.

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١)

(الر) مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي. أو اسم للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي هذه السورة مسماة ب (الر) والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده ، صارت في حكم الحاضر ، كما يقال : هذا ما اشترى فلان ، أو النصب بتقدير : اقرأ.

وكلمة (تِلْكَ) إشارة إليها ، إما على تقدير كون (الر) مسرودة على نمط التعديد ، فقد نزّل حضور مادتها ، التي هي الحروف المذكورة ، منزلة ذكرها فأشير إليها ، كأنه قيل : هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة ... إلخ.

وأما على تقدير كونه اسما للسورة ، فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها ، أو الأمر بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد ، للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ، ومحله الرفع على أنه مبتدأ ، خبره قوله تعالى :

(آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ، وعلى تقدير كون (الر) مبتدأ ، فهو مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول. والمعنى : هي آيات مخصوصة منه ، مترجمة باسم مستقل ، والمقصود ببيان بعضيتها منه ، وصفا بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة ، والصفات الكاملة.

والمراد ب (الْكِتابِ) : إما جميع القرآن العظيم ، وإن لم ينزل الكل حينئذ ، لاعتبار تعينه وتحققه في علم الله تعالى ؛ وإما جميع القرآن النازل وقتئذ ، المتفاهم بين الناس إذ ذاك.

و (الْحَكِيمِ) أي ذو الحكمة ، وإنما وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ، ونطقه بها ، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه ، أو من باب الاستعارة المكنيّة المبنية على تشبيه الكتاب الحكيم الناطق بالحكمة ـ أفاده أبو السعود ـ.

٤

وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه ، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال ، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه ، وعدم مناسبة حالهم لحاله ، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه و «القدم» بمعنى السبق مجازا ، لكونه سببه وآلته ، كما تطلق «اليد» على النعمة ، و «العين» على الجاسوس ، و «الرأس» على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنويّ إلى المنازل الرفيعة ، فهو مجاز بمرتبتين أو «القدم» بمعنى المقام ، ك (مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥] ، بإطلاق الحالّ وإرادة المحلّ ، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله «قدم صدق» أي محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ، ظاهرا وباطنا.

قال في (الانتصاف) : ولم يرد في سابقة السوء تسميتها «قدما» إما لأن المجاز لا يطرد ، وإما أن يكون مطردا ، ولكن غلب العرف على قصرها ، كما يغلب في الحقيقة.

(قالَ الْكافِرُونَ) وهم المتعجبون (إِنَّ هذا) أي الكتاب الحكيم (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر. وقرئ «لساحر» على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم ، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا ، وذلك لأن التعجب أولا ، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعا ، حتى عند نفس المعارض ، دأب العاجز المفحم.

ثمّ بيّن تعالى بطلان تعجبهم ، وما بنوا عليه ، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه ، وصحة ما أنكروه ، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير ، ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال

٥

البخاري (١) في صحيحه في الرد على الجهمية :

قال أبو العالية : استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد : استوى على العرش علا ، أي بلا تمثيل ولا تكييف ، والعرش : هو الجسم المحيط بجميع الكائنات ، وهو أعظم المخلوقات و «الأيام» قيل : كهذه ، وقيل : كل يوم كألف سنة.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضي ويقدر ، على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله ، و (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. (ذلِكُمُ اللهُ) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف هو (رَبَّكُمُ) أي الذي رباكم لتعبدوه (فَاعْبُدُوهُ) أي وحّدوه بالعبادة. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي تتفكّرون أدنى تفكّر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة. لا ما تعبدونه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي الموت أو النشور. أي لا ترجعون في العافية إلا إليه ، فاستعدوا للقائه (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي صدقا ، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي من النطفة (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي بعد الموت (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم ، أو بإيمانهم ، لأنه العدل القويم ، كما أن الشرك ظلم عظيم ، وهو الأوجه لمقابلة قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي من ماء حارّ قد انتهى حره (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) تعليل لقوله. لمقابلة قوله ، فإن معناه ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم ، وعذاب أليم ، بسبب كفرهم ، لكنه غيّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقا مقررا لهم ، كما تفيده «اللام» وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة. والعقاب واقع بالعرض بكسبهم ، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد ، ٢٢ ـ باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم.

٦

العبارة به لفخامته وعظمته ولذلك لم يعينه.

ثم نبه تعالى ، للاستدلال على وحدته في ربوبيته ، بآثار صنعه في النيرين ، إثر الاستدلال بما مرّ من إبداع السموات والأرض ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) للعالمين بالنهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) أي لهم بالليل : والضياء أقوى من النور (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) الضمير لهما ، بتأويل كل واحد منهما ، أو للقمر ، وخص بما ذكر ، لكون منازله معلومة محسوسة ، وتعلق أحكام الشريعة به ، وكونه عمدة في تواريخ العرب (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي حساب الشهور والأيام ، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي بالحكمة البالغة (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات ، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها.

قال السيوطيّ : هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضا بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها ، وكمال قدرته ، وبالغ حكمته. وخص «المتقين» لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها ، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى ، والحذر من العاقبة.

تنبيه :

في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة ، وأودع فيها

٧

المنافع الظاهرة ، وأبدع في كل كائن صنعه ، وأحسن كل شيء خلقه ، وميز الإنسان وعلمه البيان ـ يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته ، ليبلغ عنه شرائع عامة ، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم ، وكبح شهواتهم ، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي فلا يتوقعون الجزاء (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي لا يتفكرون فيها (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي بسببه ، إلى مأواهم ، وهي الجنة ، وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها ، وانسياق النفس إليها ، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي من تحت منازلهم أو بين أيديهم. (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي دعاؤهم هذا الكلام ، لأن (اللهُمَ) نداء ، ومعناه : اللهم إنما نسبحك ، كقول القانت : اللهم إياك نعبد. يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى ، كما يقال : شكا يشكو شكاية وشكوى ، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة ، ونظيره آية (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٨] : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي ما يحيي به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم ، كما في قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٥٨] ، أو تحية الله عزوجل لهم كما في قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٣٦]. و «التحية» التكرمة بالحالة الجلية أصلها : أحياك الله حياة طيبة. و «السّلام» بمعنى السلامة من كل مكروه. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي وخاتمة دعائهم هو التسبيح (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي حمده تعالى : والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم. سبحانك اللهم وبحمدك. وإيثار التعبير عن

٨

(وبحمدك) بقوله : (وَآخِرُ) إلخ رعاية للفواصل ، واهتماما بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيرا بمسماها ، والآية تدل على سموّ هذا الذكر لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام.

قال الرازي لما استسعد أهل الجنة بذكر «سبحانك اللهم وبحمدك» ، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات ، علموا أن كل هذه الأحوال السنية ، والمقامات القدسية ، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه ، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.

ولما بيّن تعالى وعيده الشديد ، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاه التكليف فقال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١)

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ) وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم (الشَّرَّ) أي الذي كانوا يستعجلون به ، فإنهم كانوا يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ونحو ذلك (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي تعجيلا مثل استعجالهم الدعاء بالخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لأميتوا وأهلكوا (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي في ضلالهم وشركهم يترددون.

لطيفة :

زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير ، أي تعجيله لهم الخير وضع الأول موضع الثاني إشعارا بسرعة إجابته لهم ، وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم ، وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع. ولا بلاغة فيه أيضا ، وإن توبع فيه والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد ـ غير ضروريّ في العربية ، والشواهد كثيرة.

وجوز الرازيّ أن يكون (يُعَجِّلُ) أصله يستعجل. عدل عنه تنزيها للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة ، فوصف بتكوينها ، ووصف الناس بطلبها ، لأنه الأليق.

٩

ولعل الأليق أن (اسْتِعْجالَهُمْ) مصدر لفعل دل عليه ما قبله والتقدير ، ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم. وإنما حذف إيجازا ، للعلم به ، ويوافقه قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١]. فإنه في معنى ما هنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا) أي لكشفه وإزالته (لِجَنْبِهِ) حال من فاعل (دعا) واللام بمعنى (على) أي على جنبه ، أي مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) أي مضى على طريقته الأولى ، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ) أي كشفه (مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي من الإعراض عن الذكر ، واتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجا على المشركين ، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد ، علما بأنه لا يكشفها إلا هو ، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، ويستيقنوا أنه الإله الأحد ، الذي لا يعبد سواه. وفيها نعي عليهم سوء منقلبهم ، إثر كشف كرباتهم ، وتحذير من مثل صنيعهم.

ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه ، بقوله سبحانه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣)

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أي بالتكذيب والكفر (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة. وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها ، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم. (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) الخطاب للذين

١٠

بعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها ، لننظر كيف تعملون من خير أو شر ، فنعاملكم حسب عملكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش ، بأنهم إذا قرأ عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب الله وحججه الواضحة ، قالوا له : ائت بقرآن غير هذا ، أي جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر. قال تعالى لنبيه : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) : أي ليس ذلك إليّ ، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.

قيل : إنما اكتفى بالجواب عن التبديل ، للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا ، من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها. وأن التصدي لذلك ، مع كونه ضائعا ، ربما يعدّ من قبيل المجاراة مع السفهاء ، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء. ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى ، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة وقوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بالتبديل والنسخ من عند نفسي.

قال السيوطيّ في (الإكليل) استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة.

قال الزمخشري : فإن قلت : فما كان غرضهم ، وهم أدهى الناس وأمكرهم ، في هذا الاقتراح ؛ قلت : الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك ، وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ، ولاختبار الحال ، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه ، وتصحيحا لافترائه على الله ـ انتهى ـ.

ولما بيّن بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته ، أشار إلى تحقيق حقيقة القرآن ، وكونه من عنده تعالى بقوله :

١١

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ).

قال الزمخشري : يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلّم ولم يستمع ، ولم يشهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء ، فيقرأ عليكم كتابا فصيحا ، يبهر كلّ كلام فصيح ، ويعلو على كلّ منثور ومنظوم ، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان ويكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفا من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه ، وألصقهم به.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي ولا أعلمكم به على لساني (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزوله ، لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بنحوه ، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان ، فتتهموني باختراعه. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي فتعلموا أنه ليس إلا من الله ، لا من مثلي.

قال الزمخشري : وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) من إضافة الافتراء إليه.

تنبيه :

رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسّلام ، لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم ، واقتصار حاله عليه الصلاة والسّلام على اتباع الوحي ، وامتناع الاستبداد بالرأي ، من غير تعرض هناك ولا هاهنا ، لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ، ولا لكونه عليه‌السلام غير قادر على الإتيان بمثله ، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة ، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان. كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى. والمعنى : قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي ، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة. فضلا

١٢

عما فيه كذب أو افتراء ، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطّرد في هذا العهد البعيد ، مستحيل أن يفتري على الله ، ويتحكم على الخلق كافة ، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء ، وسلب الأموال ، ونحو ذلك. وأن ما أتي به وحي مبين ، تنزيل من رب العالمين ـ انتهى ـ.

وما استنسبه رحمه‌الله ، اقتصر عليه ابن كثير ، ثم استشهد بقول (١) هرقل ملك الروم لأبي سفيان ، فيما سأله من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال هرقل له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت : لا! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة ، وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يكذب على الله.

وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشيّ ملك الحبشة (٢) : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.

وعن ابن المسيب : ثلاثا وأربعين سنة. والصحيح المشهور الأول.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) استفهام إنكاريّ معناه الجحد. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله تعالى ، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه ، أو كفر بآياته ، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن ، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسّلام.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي لا ينجون من محذور ، ولا يظفرون بمطلوب ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] ، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي ، وعده صادق بلا مرية ، فإن مفتريه ، يبوء بالخزي والنكال ، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه في : بدء الوحي ، ٦ ـ حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١ / ٢٠٢ ، والحديث رقم ١٧٤٠.

١٣

وقد ذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب ـ وكان صديقا له في الجاهلية ، وكان عمرو لم يسلم بعد ـ فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو! وماذا أنزل على صاحبكم ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في هذه المدة؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة. فقال : وما هي؟ فقال : (وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسانَ ...) إلخ [العصر : ١ ـ ٣] ، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأن قد أنزل عليّ مثله! فقال : وما هو؟ فقال : يا وبر يا وبر .. إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر نقر!! كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو : والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب!

وقال عبد الله بن سلام (١) : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس ، فكنت فيمن انجفل منه ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال : فكان أول ما سمعته : يقول : أيها الناس! أفشوا السّلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام. قال حسان :

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تأتيك بالخبر

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨)

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ ، أي ومن شأن المعبود القدرة على ذلك. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ، قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بمعلوم الله ، وإذا لم يكن معلوما له ـ وهو العالم المحيط بجميع المعلومات ـ لم يكن موجودا ، فكان خبرا ليس له مخبر عنه.

فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم ، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به ، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.

وقوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ، لأن ما لم يوجد فيهما فهو

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة ، ٣٢ ـ باب حدثنا محمد بن بشار.

وأخرجه ابن ماجة في الإقامة ، ١٧٤ ـ باب ما جاء في قيام الليل ، حديث رقم ١٣٣٤.

١٤

منتف معدوم ـ كذا في الكشاف ـ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي عن الشركاء الذي يشركونهم به ، أو عن إشراكهم.

ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع ، فطرة وتشريعا ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي حنفاء متفقين على ملة واحدة ، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد (فَاخْتَلَفُوا) باتباع الهوى وعبادة الأصنام ، فالشرك وفروعه جهلات ابتدعها الغواة صرفا للناس عن وجهة التوحيد ، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) أي بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي عاجلا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) بتمييز الحق من الباطل ، بإبقاء المحق ، وإهلاك المبطل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠)

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي من الآيات التي اقترحوها تعنتا وعنادا ، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة ، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر ، بديعة غريبة في الآيات. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي هو المختص بعلم الغيب ، المستأثر به ، لا علم لي ولا لأحد به. يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيّب لا يعلمه إلا هو.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي فما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم ، فإن العاقبة للمتقين. وقد قال تعالى في آية أخرى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] ، وقال تعالى :

١٥

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧] ، أي فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم ، لفرط عنادهم. ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته ، عليه‌السلام ، لإعجازه ، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم ـ مما لا حاجة له في صحة نبوته ، وتقرير رسالته. فمثلها يكون مفوضا إلى مشيئته تعالى ، فتردّ إلى غيبه ، وسواء أنزلت أو لا ، فقد ثبتت نبوته ، وضحت رسالته ، صلوات الله عليه.

ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج مشيرا إلى أنهم لا يذعنون ولو أجيبوا لمقترحهم ، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم ، إلى الإشراك بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١)

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) أي يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم ، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها ، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن ، ثم ينجلي أمره بعد : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي عقوبة ، أي عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق. وتسمية العقوبة بالمكر ، لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا. (إِنَّ رُسُلَنا) أي الذي يحفظون أعمالكم (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي مكركم ، أو ما تمكرونه. وهو تحقيق للانتقام ، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلا عن العليم الخبير.

ثم بين تعالى نوعا من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين) (٢٢)

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي السفن

١٦

(وَجَرَيْنَ) أي السفن (بِهِمْ) أي بالذين فيها (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي لينة الهبوب ، موافقة للمرغوب (وَفَرِحُوا بِها) لأمن الآيات (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) أي ذات شدة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي أحاط بهم أسباب الهلاك. وهي شدة الموج والريح (دَعَوُا اللهَ) أي للتخلص منها (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي العابدين لك شكرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يفسدون فيها ، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي وباله عليكم. (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) خبر محذوف أو هو متاع. أو خبر ثان أو هو الخبر ل (بغيكم) و (على) متعلق به. وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف ، أي نمتعكم. أو مفعول به له. أي تبغون. (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي.

ثم بيّن تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع. الموعود بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤)

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي امتزج به لسريانه فيه ، فالباء للمصاحبة ، أو هي للسببية أي اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضا ، أي التف بعضه ببعض ، والأول أظهر (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الزروع

١٧

والثمار والكلأ والحشيش (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي حسنها وبهجتها (وَازَّيَّنَتْ) أي بأصناف النبات (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها (أَتاها أَمْرُنا) أي عذابنا (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي كالمحصود من أصله (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) أي لم تنبت (بِالْأَمْسِ) أي قبيل ذلك الوقت. و (الأمس) مثل في الوقت القريب (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي بالأمثلة تقريبا (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في معانيها.

تنبيه :

قال القاشانيّ : البغي ضد العدل ، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل ، وهيئة وحدانية لها ، فائضة من نور الوحدة على النفس ، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعا ، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ، ونهاية الظلمة ، كما قال : الظلم ظلمات يوم القيامة (١). فلهذا قال : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) لا على المظلوم ، لأن المظلوم سعد به ، وشقي الظالم غاية الشقاء ، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا. إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ، ولذّات حيوانية ، تنقضي بانقضاء الحياة الحسّية التي مثلها في سرعة الزوال ، وقلة البقاء ، هذا المثل الذي مثل به ، من تزيّن الأرض بزخرفها من ماء المطر ، ثم فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها ، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم.

وفي الحديث (٢) : أسرع الخير ثوابا صلة الرحم ، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة ، لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس ، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. انتهى.

وسمعت بعض المشايخ يقول : قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة ، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه ، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى ـ.

ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها ، رغّب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المظالم والغصب ، ٨ ـ باب الظلم ظلمات يوم القيامة ، حديث ١٢٠٤.

ومسلم في : البرّ والصلة والآداب ، حديث رقم ٥٧.

(٢) أخرجه ابن ماجة في : الزهد ، ٢٣ ـ باب البغي ، حديث رقم ٤٢١٢.

١٨

السّلام ، أي من الآفات والنقائص ، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات كما مرّ ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦)

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي دين قيم يرضاه ، وهو الإسلام.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) أي للذين أحسنوا النظر ، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات فأعرضوا عنها ، وتوجهوا إلى الله تعالى ، فعبدوه كأنهم يرونه ، المثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، وزيادة على المثوبة ، وهي التفضل كما قال تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ١٧٣] ، و [النور : ٣٨] ، و [فاطر : ٣٠] ، و [الشورى : ٢٦] ، وأعظم أنواعه النظر إلى وجه تعالى الكريم. ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين. ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه ، عن أبي موسى وكعب بن عجرة ، وأبيّ. وكذا ابن أبي حاتم.

وروى الإمام أحمد (١) عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ...) إلخ. وقال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا ، يريد أن ينجزكموه. فيقولون : ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار النار؟ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فو الله! ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم. وهكذا رواه مسلم (٢).

(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات (وَلا ذِلَّةٌ) أي أثر هوان ، وكسوف بال ، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه في مسنده ٦ / ١٥.

(٢) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ٢٩٧.

١٩

قال الناصر : وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة فإن فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى ، فجدير بهم أن لا يرهن وجوههم قتر البعد ، ولا ذلة الحجاب ؛ عكس المحرومين المحجوبين ، فإن وجوم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ) أي الذين أحسنوا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧)

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي الشرك والمعاصي (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي واق يقيهم العذاب (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) أي ألبست (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً) أي أجزاء (مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لفرط سوادها وظلمتها. وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية ، والأعمال الردية والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

ثم بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي معبوديهم بالله مع توقعهم الشفاعة منهم (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي الزموا مكانكم ، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم.

قال القاشانيّ : معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم ، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل.

٢٠