تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧)

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما ومنازلهما ، به تتسق أمور الكائنات السفلية ، وتختلف الفصول والأوقات ، ويعلم السنون والحساب. (وَالنَّجْمُ) أي النبات الذي ينجم ، أي يطلع من الأرض ولا ساق له. (وَالشَّجَرُ) أي الذي له ساق (يَسْجُدانِ) أي ينقادان لله فيما يريد بهما طبعا ، انقياد الساجد من المكلفين طوعا. فهو استعارة مصرّحة تبعيّة. شبّه جريهما على مقتضى طبيعته ، بانقياد الساجد لخالقه والجملة ـ إن كانت خبرا عن الرحمن لعطفها على الخبر ـ فالرابط محذوف لوضوحه ، أي بحسبانه ويسجدان له. أو مستأنفة ، فالقطع لأنها مسوقة لغرض آخر. وإدخال العاطف بينهما ، لما أن الشمس والقمر سماويّان ، والنجم والشجر أرضيّان ، فبينهما مناسبة بالتقابل ، وبانقياد الكل لإرادته. (وَالسَّماءَ رَفَعَها) أي خلقها مرفوعة. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي العدل بين خلقه في الأرض.

قال القاشاني : أي خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن ، فإن العدالة هيئة نفسانية ، لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية. ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن ، لما وجد ، ولم يبق. ولمّا استقام أمر الدين والدنيا بالعدل ، واستتبّ كمال النفس والبدن به ، بحيث لولاه لفسد ـ أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها ، لشدّة العناية به ، وفرط الاهتمام بأمره. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (٩)

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال ، فيلزم الجور الموجب للفساد. و (أن) مصدرية على تقدير الجارّ. أي لئلا تطغوا فيه ، أو مفسرة لما في وضع الميزان من معنى القول ، لأنه بالوحي ، وإعلام الرسل. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أي الاستقامة في الطريقة ، وملازمة حدّ الفضيلة ، ونقطة الاعتدال في جميع الأمور ، وكل القوى. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) قال القاشانيّ : أي بالتفريط عن حدّ الفضيلة.

قال بعض الحكماء : العدل ميزان الله تعالى ، وضعه للخلق ، ونصبه للحق. انتهى.

١٠١

وممن فسّر (الْمِيزانَ) في الآية بالعدل ، مجاهد ، وتبعه ابن جرير ، وكذا ابن كثير ، ونظر لذلك بآية (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] ، وجوّز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما. ومنه قال السيوطيّ في (الإكليل) : فيه وجوب العدل في الوزن ، وتحريم البخس فيه. وعليه ، فوجه اتصال قوله (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) بما قبله ، هو أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار ، أراد وصف الأرض بما فيها ، مما يظهر به التفاوت ، ويعرف به المقدار ، ويسوّى به الحقوق والمواجب ـ كذا ارتآه القاضي ـ والله أعلم وفي الحقيقة ، الثاني من أفراد الأول ، وأخذ اللفظ عامّا أولى وأفيد. ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازيّ : (الْمِيزانَ) ذكر ثلاث مرات ، كل مرة بمعنى. فالأول : هو الآلة. والثاني : بمعنى المصدر. والثالث : للمفعول. قال : وهو كالقرآن ، ذكر بمعنى المصدر في قوله تعالى : (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨] ، وبمعنى المقروء في قوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] ، فكأنه آلة ومحل له ، وفي قوله تعالى : (آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧]. ثم قال : وبين القرآن والميزان مناسبة ، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب. والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي مهّدها للخلق (فِيها فاكِهَةٌ) أي صنوف مما يتفكّه به (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي أوعية الطلع ، وهو الذي يطلع فيه العنقود ، ثم ينشقّ عن العقود فيكون بسرا ، ثم رطبا. ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه. وإنما أفردها بالذكر ، لما فيها من الفوائد العظيمة ، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها ، والانتفاع بجمّارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك. فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة ، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار ، فلذا ذكر النخل باسمه ، وذكر الفاكهة دون أشجارها ، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها. (وَالْحَبُ

١٠٢

ذُو الْعَصْفِ) أي وفيها الحبّ. وهو حبّ البرّ والشعير ونحوهما (ذُو الْعَصْفِ) أي الورق اليابس كالتبن. (وَالرَّيْحانُ) أي الورق الأخضر. تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتيه. هذا على (قراءة) (الريحان) بالجرّ. وقرئ بالرفع ، وهو الزرع الأخضر مطلقا ، سمي به تشبيها له بما فيه الروح ، لأن حياته النباتية في نضرة خضرته.

قال ابن عباس : الريحان خضر الزرع.

وقال القرطبيّ : الريحان ، إما فيعلان ، من (روح) ، فقلبت الواو ياء ، وأدغم ثم خفف ، أو فعلان ، قلبت واوه ياء للتخفيف ، أو للفرق بينه وبين الروحان ، وهو ما له روح. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال أبو السعود : الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى : (لِلْأَنامِ) [الرحمن : ١٠] ، وسينطق به قوله تعالى : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١]. والفاء لترتيب الإنكار ، والتوبيخ على فصل من فنون النعماء ، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما. والتعرّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير ، وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم بآلائه تعالى ، كفرهم بها ، إما بإنكار كونه نعمة في نفسه ، كتعليم القرآن ، وما يستند إليه من النعم الدينية ، وإما بإنكار كونه من الله تعالى ، مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه ، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى استقلالا ، أو اشتراكا صريحا ، أو دلالة ، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها. والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب ، لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر ، شهادة منها بذلك ، فكفرهم تكذيب بها لا محالة ، أي فإذا كان الأمر كما فصل ، فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيّكما بتلك الآلاء تكذبان ، مع أن كلّا منهما ناطق بالحق ، شاهد بالصدق. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) قال أبو السعود : تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين. و (الصلصال) الطين اليابس الذي له صلصلة. و (الفخار) الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام من تراب جعله طينا ، ثم حمأ مسنونا ، ثم صلصالا. فلا تنافي بين الآية

١٠٣

الناطقة بأحدها ، وبين ما نطق به بأحد الآخرين. (وَخَلَقَ الْجَانَ) أي الجن ، أو أبا الجن ، (مِنْ مارِجٍ) أي لهب صاف (مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النّعم. ومما أظهره لكما بالقرآن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨)

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما ، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى ، كاختلاف الفصول ، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢١)

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسلهما ، من (مرج فلان دابته) إذا خلّاها وتركها. والمعنى : أرسل وأجرى البحر الملح ، والبحر العذب (يَلْتَقِيانِ) أي يتجاوران (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجر من قدرة الله تعالى وبديع صنعه (لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة ، وإبطال الخاصية.

قال الشهاب : يعني أنهما إذا دخل أحدهما في الآخر ، قد يجرى فيه فراسخ ، ولا يتلاشى ويضمحل ، حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه ، كما نشاهده.

وقيل : المراد بحري فارس والروم ، فإنهما يلتقيان في البحر المحيط ، وبينهما برزخ من الأرض ، لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما ـ وهو مروي عن قتادة والحسن ـ قال الشهاب : لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ...) [الفرقان : ٥٣] الآية. والقرآن يفسر بعضه بعضا.

واختار ابن جرير ما روي عن ابن عباس وغيره ، أنه عني به بحر السماء وبحر الأرض وذلك أن الله قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قطر ماء السماء. فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء. انتهى.

وفيه ما في الذي قبله من عدم موافقته لتلك الآية. والأصل في الآي التشابه.

١٠٤

زاد ابن كثير : أن ما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا ، وحجرا محجورا. فالأولى هو الأول. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما في البحرين وخلقهما من الفوائد ، وقد أشار إلى بعضهما بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٣)

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي كبار الدر وصغاره. أو (المرجان) الخرز الأحمر المعروف. وإنما قيل (مِنْهُمَا) مع أنه يخرج من أحدهما ، وهو الملح ، لأنه لامتزاجهما يكون خارجا منهما حقيقة ، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر : وهذا هو الصواب. ومثله (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وإنما أريد إحدى القريتين. وكما يقال : هو من أهل مصر ، وإنما هو من محلة منها. انتهى.

قال الشهاب : ولا يخفى أن هذا ، وإن اشتهر ، خلاف الظاهر. فإما أن يكون ضمير (مِنْهُمَا) لبحري فارس والروم ، أو يقال معنى خروجه منهما ليس أنه متكون فيهما ، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار انصبّت إليها المياه العذبة. انتهى. والخطب سهل.

ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس ، لتحلّيهم بهما ، كما تشير له آية (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : ١٢] ، قال سبحانه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥)

(وَلَهُ الْجَوارِ) يعني السفن ، جمع جارية (الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) قرئ بكسر الشين ، بمعنى الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن ، وبفتحها بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر. و (الأعلام) جمع علم ، وهو الجبل الطويل. ولما كانت من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ، قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي نعمه التي أنعم بها في هذه الجواري.

١٠٥

قال القاضي : أي من خلق موادها ، والإرشاد إلى أخذها ، وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر خلقها وجمعها غيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٨)

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : من على ظهر الأرض هالك (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أي ذاته الكريمة (ذُو الْجَلالِ) أي العظمة والعلوّ والكبرياء (وَالْإِكْرامِ) أي التفضل العام ، وهذه الآية كآية (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

ولما كان فناء الخلق سببا لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل ، وينقلب الأول بالثواب ، ويبوء الآخر بالعقاب ، وذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين ـ قال سبحانه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقد أشار الرازيّ إلى ما في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) من الفوائد ، بقوله : فيه فوائد :

منها ـ الحث على العبادة ، وصرف الزمان اليسير إلى الطاعة.

ومنها ـ المنع من الوثوق بما يكون للمرء. فلا يقول ـ إذا كان في نعمة ـ إنها لن تذهب فيترك الرجوع إلى الله ، معتمدا على ماله وملكه.

ومنها ـ الأمر بالصبر إن كان في ضر ، فلا يكفر بالله معتمدا على أن الأمر ذاهب ، والضر زائل.

ومنها : ترك اتخاذ الغير معبودا ، والزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك ، وترك التقرب إلى الله تعالى. فإن أمرهم إلى الزوال قريب.

ومنها ـ حسن التوحيد ، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعا ، لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠)

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يدعونه ويرغبون إليه ، ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي ، وغناه المطلق. (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي كل وقت يحدث أمورا ، ويجدّد أحوالا.

١٠٦

قال مجاهد : يعطي سائلا ، ويفك عانيا ، ويجيب داعيا ، ويشفي سقيما.

وروى ابن جرير أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية. فقيل : يا رسول الله! وما ذاك الشأن قال : يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع أقواما ، ويضع آخرين.

وقال القاشاني : المراد يسأله كلّ شيء ، فغاب العقلاء ، وأتى بلفظ (مَنْ) أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه ، فله كل وقت في كل خلق شأن ، بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده. فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار ، يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. ومن استعد بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ، ولوث العقائد الفاسدة ، والخبائث ، للشرور والمكاره ، وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال : يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. انتهى.

وقد أخذ الآية عامة من حيث السائلون خاصة بلسان الاستعداد وغيره ـ كابن كثير والقاضي ـ رآها خاصة بمن يعقل ، عامة بلسان الحال أو المقال. والأقرب هو ما يتبادر بادئ بدء إلى الفهم ، وهو ما ذكرناه أولا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يسعف به سؤالكما ، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آنا فآنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٢)

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قال القرطبي : يقال : فرغت من الشغل أفرغ فراغا وفروغا. وتفرغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته. والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه. وإنما المعنى : سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم ، فهو وعيد لهم وتهديد ، كقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرغ لك ، أي أقصدك.

وقال الزجّاج : الفراغ في اللغة على ضربين : أحدهما الفراغ من الشغل ، والآخر القصد للشيء. والإقبال عليه ، كما هنا. وهو تهديد ووعيد. تقول : قد فرغت مما كنت فيه ، أي قد زال شغلي به. وتقول : سأفرغ لفلان ، أي سأجعله قصدي. فهو على سبيل التمثيل. شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة ، من الأخذ في الجزاء ، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين ، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي ، والإماتة والإحياء ، والمنع والإعطاء ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن ـ بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر ، إذا فرغ من ذلك الشغل ، شرع في آخر. وجازت الاستعارة التصريحية أيضا. وقد ألم به صاحب (المفتاح) حيث قال : الفراغ الخلاص عن

١٠٧

المهام. والله عزوجل لا يشغله شأن عن شأن ، وقع مستعارا للأخذ في الجزاء وحده.

لطيفة :

ترسم (أَيُّهَ) بغير ألف. وأما في النطق فقرأ أبو عمرو والكسائي (أيها) بالألف في الوقف ، ووقف الباقون على الرسم (أيه) بتسكين الهاء ، وفي الوصل قرأ ابن عامر (أيه) برفع الهاء ، والباقون بنصبها.

و (الثقلان) تثنية (ثقل) بفتحتين ، فعل بمعنى مفعل ، لأنهما أثقلا الأرض ، أو بمعنى مفعول ، لأنهما أثقلا بالتكاليف. وقال الحسن : لثقلهما بالذنوب.

والخطاب في (لكم) قيل للمجرمين ، لكن يأباه قوله : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) نعم! المقصود بالتهديد هم. ولا مانع من تهديد الجميع ـ كما أفاده الشهاب ـ ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت ، بل هو حامل للوعد أيضا ، لأن المعنى : سنفرغ لحسابكم ، فنثيب أهل الطاعة ، ونعاقب العصاة ، وهو جليّ. ولذا اعتد ذلك نعمة عليهم بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي من ثوابه أهل طاعته ، وعقابه أهل معصيته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٤)

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم ، أي بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم (فَانْفُذُوا) أي فجوزوا واخرجوا (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي بقوة وقهر وغلبة ، وأنّي لكم ذلك ونحوه (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [العنكبوت : ٢٢] ، ويقال : معنى الآية : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان ، يعني البينة من الله تعالى. والأول أظهر ، لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مجاز للعباد ، عقبه بقوله : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ...) إلخ ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه ، إذا أراده. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال ابن جرير : أي من التسوية بين جميعكم ، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم.

وقال القاضي : أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة.

١٠٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦)

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) أي من لهب (مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) أي صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم (فَلا تَنْتَصِرانِ) أي تمتنعان وتنقذان منه. يعني : إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم.

وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ، وعبارته :

هذا في مقام الحشر ، والملائكة محدقة بالخلائق ، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي بأمر الله (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ، ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس : ٢٧] ، ولهذا قال تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) والمعنى لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. انتهى.

ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك ، الإمام ابن القيّم رحمه‌الله ، فقد قال رحمه‌الله في أواخر كتابه (طريق الهجرتين) في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) ما مثاله :

وفي الآية تقرير آخر ، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ، وأحاط سرادق النار بالآفاق ، فهرب الخلائق ، فلا يجدون مهربا ولا منفذا كما قال تعالى : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) [غافر : ٣٢ ـ ٣٣] ، قال مجاهد : فارّين غير معجزين. وقال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار ندّوا هربا ، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفا ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] ، وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ..) [الرحمن : ٣٣] الآية. وهذا القول أظهر ـ والله أعلم ـ فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين ، يقال لهم : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات

١٠٩

والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ، فافعلوا. وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ، فإن قبلها (سَنَفْرُغُ لَكُمْ ...) الآية ، وهذا في الآخرة ، وبعدها (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ ..) [الرحمن : ٣٧] الآية ، وهذا في الآخرة ، وأيضا فإن هذا خطاب لجميع الإنس. والجن فإنه أتى فيه بصيغة العموم ، وهي قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر. وقال تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ولم يقل : إن استطعتما ، لإرادة الجماعة ، كما في آية أخرى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] ، وقال : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما) ، ولم يقل : يرسل عليكم ، لإرادة الصنفين ، أي لا يختص به صنف عن صنف ، بل يرسل ذلك على الصنفين معا. وهذا ، وإن كان مرادا بقوله : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) [الرحمن : ٣٣] ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن. أي من استطاع منكم. وحسّن الخطاب بالتثنية في قوله : (عَلَيْكُما) أمر آخر ، وهو موافقة رؤوس الآي ، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما ـ والله أعلم ـ انتهى كلام ابن القيم.

وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ، لأنه ليس من نظائره. فالوجه ما ذكرناه.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال القاضي : فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ، من عداد الآلاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٨)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفطرت فاختل نظامها العلوي (فَكانَتْ وَرْدَةً) أي كلون الورد الأحمر (كَالدِّهانِ) أي كالدهن الذي هو الزيت ، كما قال : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨] ، وهو دردي الزيت ، يعني في لونه الكدر وذوبانه ، لصيرورتها إلى الفناء والزوال. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي مما يحله بكم بعد ذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٠)

١١٠

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي لا يفتح له باب المعذرة ، كقوله (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] ، ففي السؤال مجاز عن نفي سماع الاعتذار. فهو من باب نفي السبب لانتفاء المسبب. وأخذ كثير السؤال على حقيقته ، وحاولوا الجمع بينه وبين ما قد ينافيه.

قال القاشاني : وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] ، ونظائره ، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم ، وقد يكون بعده.

وكذا قال ابن كثير : إن هذه الآية كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] ، فهذا حال. وثمّ حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] ، وفي الآية تأويل آخر. قال مجاهد : لا يسأل الملائكة عن المجرم ، يعرفون بسيماهم.

وقال الإمام ابن القيّم في (طريق الهجرتين) اختلف في هذا السؤال المنفي ، فقيل : هو وقت البعث والمصير إلى الموقف ، لا يسألون حينئذ ، ويسألون بعد إطالة الوقوف ، واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ، ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل المنفيّ سؤال الاستعلام والاستخبار ، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي قد علم الله ذنوبهم ، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها ، وإنما يحاسبهم عليها. انتهى.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال ابن جرير : أي من عدله فيكم أنه لم يعاقب منكم إلا مجرما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥)

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة. وقيل : بسواد الوجوه ، وزرقة العيون (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم ، فتسحبهم إلى جهنم ، وتقذفهم فيها. والباء للآلة ، كأخذت

١١١

بالخطام ، أو للتعدية. و (الناصية) مقدم الرأس. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال ابن جرير : أي من تعريفه ملائكته ، أهل الإجرام من أهل الطاعة منكم ، حتى خصوا بالإذلال والإهانة ، المجرمين دون غيرهم (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ) أي ماء حار (آنٍ) أي انتهى حره ، واشتد غليانه. وكل شيء قد أدرك وبلغ فقد أنى. ومنه قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] ، يعني إدراكه وبلوغه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي من عقوبته أهل الكفر به ، وتكريمه أهل الإيمان به.

ثم تأثر ما عدد عليهم من الآلاء الدينية ، والدنيوية بتعداد ما أفاض عليهم في الآخرة ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٩)

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي قيامه عند ربه للحساب ، فأطاعه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه. فإضافته للرب لأنه عنده ، فهو كقول العرب : ناقة رقود الحلب ، أي رقود عند الحلب ، أو موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب ، فإضافته للرب لامية لاختصاص الملك يومئذ به تعالى. أو هو كناية عن خوف الرب وإثبات خوفه له بطريق برهاني بليغ ، لأن من حصل له الخوف من مكان أحد ، يهابه وإن لم يكن فيه ، فخوفه منه بالطريق الأولى. وهذا كما يقول المترسلون : المقام العالي ، والمجلس السامي (جَنَّتانِ) أي جنة لمن أطاع من الإنس ، وجنة لمن أطاع من الجن. أو هو كناية عن مضاعفة الثواب ، وإيثار التثنية للفاصلة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بإثابته المحسن ما وصف (ذَواتا أَفْنانٍ) أي أنواع من الأشجار والثمار. جمع (فن) بمعنى النوع ، أو أغصان لينة ، جمع (فنن) وهو ما دقّ ولان من الغصن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ

١١٢

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الديباج. نبه على شرف الظهارة ، بشرف البطانة ، وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

قال ابن مسعود : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر؟!

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي وثمرهما المجنيّ داني القطوف (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي منكسرات الجفن ، خافضات النظر ، غير متطلعات لما بعد ، ولا ناظرات لغير زوجها. أو معناه : إن طرف النظر لا يتجاوزها ، كقول المتنبي :

وخصر تثبت الأبصار فيه

كأنّ عليه من حدق نطاقا

فالمراد : قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز لغيرهن. أو المعنى : شديدات بياض الطرف ، كما يقال : أحور الطرف وحوراؤه ، من قولهم : ثوب مقصور وحوّاري.

وجليّ أن المعاني هاهنا لا تتزاحم لتحقق مصداقها كلها. (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يمسهن. وأصله خروج الدم ، ولذلك يقال للحيض (طمث) ثم أطلق على جماع الأبكار ، لما فيه من خروج الدم. ثم عمّ كل جماع. وقد يقال : إن التعبير به للإشارة إلى أنها توجد بكرا كلما جومعت. ويستدل بالآية على أن الجن يطمثن ويدخلن الجنة. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) أي في الحسن والبهجة ، أو في حمرة الوجنة والوجه ، أدبا وحياء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

القول في تأويل قوله تعالى :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨)

١١٣

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) أي في العمل (إِلَّا الْإِحْسانُ) أي في الثواب ، وهو الجنة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما) أي دون تينك الجنتين المنوّه بهما (جَنَّتانِ) أي بستانان آخران. إشارة إلى وفرة الجنان واتصالها وسعة امتداد الطرف في مناظرها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ) أي خضراوان من الري ، تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. أو من كثرة أشجارها الممتدة لا إلى نهاية (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي فوّارتان بالماء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) وإنما أفردهما بالذكر بيانا لفضلهما ، كأنهما ، لما لهما من المزية ، جنسان آخران (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ خَيْراتٌ) جمع (خيّرة) بالتشديد ، إلا أنه خفف. وقد قرئ على الأصل. أي فاضلات الأخلاق. وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده (حِسانٌ) أي حسان الوجوه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) الحور : جمع (حوراء) وهي البيضاء النقية. ومعنى (مَقْصُوراتٌ) قصرن أنفسهنّ على منازلهنّ ، لا يهمهنّ إلا زينتهنّ ولهوهنّ. وفيه المعاني المتقدمة أيضا. و (الْخِيامِ) قال ابن جرير : يعني بها البيوت. وقد يسمّي العرب هوادج النساء خياما ، ثم أنشد له. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) يعني بهنّ حور الجنتين اللتين من دون الأوليين. أو تكرير لما سبق ، للتنويه بهذا الوصف ، وكونه في مقدمة المشتهيات ، وطليعة الملذات : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) أي سرر أو مساند أو وسائد (خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍ) أي طنافس وبسط (حِسانٌ) أي جياد. والصفة كاشفة ، ولذا قال ابن جبير : (العبقري) عتاق الزرابي ، أي جيادها. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي من إكرامه أهل طاعته منكما هذا الإكرام. (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي ذي العظمة والكبرياء ، والتفضل بالآلاء و (الاسم) هنا كناية عن الذات العليّة ، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها ، كآية (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] ، وآية (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١] ، ونحوهما. وسر إيثار الاسم التنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى ، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة. فما عرف الله إلا الله. هذا هو التحقيق.

وقيل : لفظ (اسم) مقحم ، كقوله :

إلى الحول ، ثم اسم السلام عليكما

وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته. وردّ من استدلّ بأن الاسم هو المسمى بما مثاله :

١١٤

لا حجة فيما احتجوا به. أما قول الله عزوجل (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فحقّ. ومعنى (تَبارَكَ) تفاعل من البركة ، والبركة واجبة لاسم الله عزوجل الذي هو كلمة مؤلّفة من حروف الهجاء. ونحن نتبرّك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرّمه ، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى ، وله الإكرام من الله تعالى ومنا ، حينما كان من قرطاس ، أو في شيء منقوش فيه ، أو مذكور بالألسنة. ومن لم يجلّ اسم الله عزوجل كذلك ولا أكرمه ، فهو كافر بلا شكّ. فالآية على ظاهرها دون تأويل ، فبطل تعلقهم بها. انتهى كلامه رحمه‌الله.

فائدة :

فيما قاله الأئمة في سر تكرير (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

قال السيوطيّ في (الإتقان) في بحث التكرير :

قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة ، وإن كان مفيدا للتأكيد معنى. ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكدة.

ثم قال : وجعل منه قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإنها ، وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة ، فكل واحدة تتعلق بما قبلها ، ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة ، لأن التأكيد لا يزيد عليها ـ قاله ابن عبد السلام وغيره ـ انتهى.

وفي (عروس الأفراح) : فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ كل أريد به غير ما أريد به الآخر.

قلت : إذا قلنا : العبرة بعموم اللفظ ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكون نصّا فيما يليه ، ظاهرا في غيره.

فإن قلت : يلزم التأكيد؟

قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة ، لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع. أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة ، فلا يمتنع. انتهى.

وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه (الإشارة إلى الإيجاز) وأما قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه ، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها

١١٥

من النعم ، وبالثانية ما تقدمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية والرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر السورة.

فإن قيل : كيف يكون قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) نعمة ، وقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) نعمة ، وكذلك قوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) وقوله : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) وقوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ).

قلنا : هذه كلها نعم جسام ، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان ، والانقياد والإذعان. فإن من حذر من طريق الردى ، وبين ما فيها من الأذى ، وحث على طريق السلامة ، الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعما غاية الإنعام ، ومحسنا غاية الإحسان. ومثل ذلك قوله (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢] ، وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط ، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام. وأما قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦] ، فإنه تذكير بالموت والفناء ، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء. انتهى.

وقال البغوي : كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها. ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها. كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك ، أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب انتهى.

وقال السيد مرتضى في (الدرر والغرر) : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدّدة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم ، كقول مهلهل يرثي كليبا :

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما ضيم جيران المجير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا رجف العضاه من الدّبور

١١٦

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خرجت مخبّأة الخدور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما أعلنت نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خيف المخوف من الثّغور

على أن ليس عدلا من كليب

غداة تلاتل الأمر الكبير

على أن ليس عدلا من كليب

إذا ما خار جار المستجير

ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ، وهو من لطائف العرب ، فاعرفه.

وقال شيخ الإسلام في (متشابه القرآن) : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم. ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ، لأن من جملة الآلاء ، رفع البلاء ، وتأخير العقاب. وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذا من قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ). فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة. انتهى.

اللهم زدنا اطّلاعا على لطائف قرآنك الكريم ، وغوصا على لآلئ فرقانك العظيم.

١١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الواقعة

سميت بها لأنها مملوءة بوقائع القيامة ، التي هي الواقعة العظمى ، لوقوعها في أشد الأحوال ـ قاله المهايمي ـ.

وهي مكية. وآيها ست وتسعون.

وعن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله! قد شبت! قال شيبتني هود والواقعة والمرسلات ، وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت ـ رواه الترمذي (١) وقال : حسن غريب.

وعن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان يخفف ، كانت صلاته أخف من صلاتكم. وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، سورة الواقعة ، ٦ ـ حدثنا أبو كريب. حدثنا معاوية بن هشام.

١١٨

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ) (٣)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي نزلت وجاءت. و (الْواقِعَةُ) علم بالغلبة على القيامة ، أو منقول ، سميت بذلك لتحقق وقوعها ، وكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بد من وقوعها ، واختيار (إذا) مع صيغة المضي ، للدلالة على ما ذكر (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي كذب أو تكذيب. وقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة ، والعافية. واللام للاختصاص. أو المعنى : ليس حين وقعتها نفس كاذبة ، أي تكذب على الله ، أو تكذب في نفيها. واللام للتوقيت.

قال الشهاب : و (الْواقِعَةُ) السقطة القوية ، وشاعت في وقوع الأمر العظيم ، وقد تخص بالحرب ، ولذا عبر بها هنا. (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض الأشقياء إلى الدركات ، وترفع السعداء إلى الدرجات. وقيل ، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية ، لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوما وترفع آخرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) (٦)

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت زلزالا شديدا (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتّتت ، أو سيقت وأذهبت ، كقوله (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) [النبأ : ٢٠] ، (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي متفرقا. قال قتادة : الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر. وقال غيره : هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)

١١٩

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١٢)

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا (ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة ، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق (الميمنة) و (المشأمة) اللتين هما الجهتان المعروفتان ، على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس ، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس ـ أصله من تيمّن العرب باليمين ، وتشاؤمهم بالشمال ، كما في السانح والبارح ، وقولهم للرفيع : هو منى باليمين ، وللوضيع : هو منى بالشمال ، تجوّزا به ، أو كناية به عما ذكر.

وقيل : الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم ، فليس بمعنى الجهة ، بل بمعنى البركة وضدها ، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم. وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر ، تعجّبا منه.

(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة ، بعد ظهور الحق ، وأوذوا لأجله ، وصبروا على ما أصابهم ، وكانوا الدعاة إليه.

فإن قيل : لم خولف بين المذكورين في السابقين ، وفي أصحاب اليمين ، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين؟

فنقول : التعظيم المؤدي بقوله : (السَّابِقُونَ) أبلغ من قرينه. وذلك أن مؤدي هذا أن أمر السابقين ، وعظمة شأنه ، ما لا يكاد يخفى. وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف ، وبين الإخبار عنه بقوله : (الْمُقَرَّبُونَ) معرفا بالألف واللام العهدية؟ وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين ، فإنه مصدر بقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) ـ أفاده الناصر ـ.

و (السَّابِقُونَ) الثاني إما خبر ، أي الذين عرفت حالهم ، واشتهرت أوصافهم على حدّ (وشعري شعري) ، أو تأكيد ، والخبر قوله :

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أي الذين يقرّبهم الله منه بإعلاء منازلهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

١٢٠