تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣)

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) خطاب للمكذّبين بالبعث من قريش ، المتقدم قولهم أول السورة ، بطريق التبكيت ، لتنبيههم على سهولته في جانب القدرة الربانية. فإن من رفع السماء على عظمها ، هيّن عليه خلقهم وخلق أمثالهم ، وإحياؤهم بعد مماتهم.

كما قال سبحانه : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] ، وقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١] ، ثم بيّن كيفية خلقها بقوله : (بَناها) قال ابن جرير : أي رفعها فجعلها للأرض سقفا وقال الإمام : البناء ضم الأجزاء المتفرّقة بعضها إلى بعض ، مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة. وهكذا صنع الله بالكواكب. وضع كلّا منها على نسبة من الآخر ، مع ما يمسك كلّا في مداره ، حتى كان عنها علم واحد في النظر ، سمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا. وهو معنى قوله : (رَفَعَ سَمْكَها) أي أعلاه و (السمك) قامة كل شيء وقد رفع تعالى أجرامها فوق رؤوسنا (فَسَوَّاها) عدلها بوضع كل جرم في موضعه (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعله مظلما. قال ابن جرير : أضاف الليل إلى السماء ، لأن الليل غروب الشمس ، وغروبها وطلوعها فيها ، فأضيف إليها لما كان فيها ، كما قيل (نجوم الليل) إذ كان فيه الطلوع والغروب. (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أبرز نهارها. و (الضحى) انبساط الشمس وامتداد النهار. وإيثار الضحى لأنه وقت قيام سلطان الشمس وكمال إشراقها. (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد تسوية السماء على الوجه السابق ، وإبراز الأضواء (دَحاها) أي بسطها ومهدها لسكنى أهلها ، وتقلبهم في أقطارها (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) أي بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا (وَمَرْعاها) أي رعيها وهو النبات.

قال الشهاب : والمرعى ما يأكله الحيوان غير الإنسان ، فأريد به هنا ، مجازا ، مطلق المأكول للإنسان وغيره. فهو مجاز مرسل.

وقال الطيبي : يجوز أن يكون استعارة مصرحة. لأن الكلام مع منكري الحشر

٤٠١

بشهادة قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) كأنه قيل : أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم ، في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها فيها (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي انتفاعا إلى حين قال أبو السعود : ونصبه إما على أنه مفعول له ، أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم ، لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى ، واصلة إليهم وإلى أنعامهم. فإن المراد بالمرعى ما يعم ما يأكله الإنسان وغيره ـ كما تقدم ـ وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر. أي متعكم بذلك متاعا. أو مصدر من غير لفظه ، فإن قوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) في معنى متع بذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١)

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي الداهية العظمى التي تطم على كل هائلة من الأمور ، فتغمر ما سواها بعظيم هولها. وهي القيامة للحساب والجزاء (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي ما عمل من خير أو شر. وذلك بعرضه عليه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي أظهرت نار الله لأبصار الناظرين (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي أفرط في تعديه ومجاوزته حد الشريعة والحق ، إلى ارتكاب العصيان والفساد والضلال (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي متاعها وشهواتها ، على كرامة الآخرة وما أعد فيها للأبرار (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي مأواه ومرجعه (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي مقامه بين يديه للسؤال ، أو جلاله وعظمته. أي اتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي فيما يكرهه الله ولا يرضاه منها ، فخالفها إلى ما أمره به (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي مصيره يوم القيامة وجواب (إذا) محذوف لدلالة التقسيم عليه. تقديره : ظهرت الأعمال. أو انقسم الناس قسمين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦)

٤٠٢

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي إقامتها. أي متى يقيمها الله ويكوّنها.

قال الناصر : وفيه إشعار بثقل اليوم كقوله : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان : ٢٧] ، ألا تراهم لا يستعملون الإرساء إلا فيما له ثقل ، كمرسى السفينة وإرساء الجبال (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي في أي شيء أنت من ذكر ساعتها لهم. أي ليس إليك ذكرها لأنها من الغيوب ، فلا معنى لسؤالهم إياك عنها. ولذا قال : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي منتهى علمها (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي ما بعثت إلا لإنذار من يخاف حسابها ، وعقاب الله على إجرامه. ولم تكلف علم وقت قيامها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي كأن هؤلاء المكذبين بها ، وبما فيها من الجزاء والحساب ، يوم يشاهدون وقوعها ، من عظيم هولها ، لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا ساعة من نهار ، بمقدار عشية أو ضحاها. وإضافة الضحى إلى العشية ، لما بينهما من الملابسة ، لاجتماعهما في يوم واحد.

٤٠٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة عبس

وتسمى الصاخبة. مكية وآيها اثنتان وأربعون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى).

روى ابن جرير : وابن أبي حاتم : عن ابن عباس ، قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وكان يتصدى لهم كثيرا ، ويحرص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله بن أم مكتوم ، يمشي وهو يناجيهم. فجعل عبد الله يستقرئ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن وقال : يا رسول الله! علمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه. وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله ، أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآيات. فلما نزل فيه ما نزل ، أكرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمه ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ وإذا ذهب من عنده قال : هل لك حاجة في شيء؟

قال ابن كثير : وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة. والضحاك. وابن زيد. وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم. والمشهور أن اسمه عبد الله. ويقال عمرو. والله أعلم. انتهى.

وقال الرازي : أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول صلوات الله عليه. وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم. قال الشهاب : وهو مكيّ قرشي من المهاجرين الأولين.

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستخلفه على المدنية في أكثر غزواته. وكان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

٤٠٤

قيل : عمي رضي الله عنه بعد نور. وقيل : ولد أعمى. ولذا لقبت أمه أم مكتوم. والتعرض لعنوان عماه ، إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغله بالقوم : وإما لزيادة الإنكار. كأنه قيل : تولى لكونه أعمى. وكان يجب أن يزيده لعماه ، تعطفا وترؤفا وتقريبا وترحيبا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠)

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر ـ بما يتلقن منك ـ من الجهل أو الإثم. وفي الالتفات إلى الخطاب إنكار للمواجهة بالعتب أوّلا ، إذ في الغيبة إجلال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لإيهام أن من مصدر منه ذلك غيره ، لأنه لا يصدر عنه مثله. كما أن في الخطاب إيناسا بعد الإيحاش ، وإقبالا بعد إعراض.

وقال أبو السعود : وكلمة (لعل) مع تحقق التزكي ، واردة على سنن الكبرياء أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. للتنبيه على أن الإعراض عنه ، عند كونه مرجوّ التزكي ، مما لا يجوز. فكيف إذا كان مقطوعا بالتزكي؟ كما في قولك (لعلك ستندم على ما فعلت) وفيه إشارة إلى أن إعراضه كان لتزكية غيره. وأن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي يعتبر ويتعظ فتنفعه موعظتك. وتقديم التزكية على التذكر. من باب تقديم التخلية على التحلية.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي بماله وقوته عن سماع القرآن والهداية والموعظة (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي تعرض بالإقبال عليه ، رجاء أن يسلم ويهتدي (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام. إن عليك إلا البلاغ. قال الرازي : أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم ، إلى أن تعرض عمن أسلم ، للاشتغال بدعوتهم (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) أي يسرع في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) أي يخاف الله ويتقيه (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تعرض وتتشاغل بغيره.

تنبيهات :

الأول : قال السيوطي في (الإكليل) : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم ، وعدم إيثار الأغنياء عليهم. وقال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا. فقد روي

٤٠٥

عن سفيان الثوريّ رحمه‌الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

الثاني : في هذه الآيات ونحوها ، دليل على عدم ضنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغيب. قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم من الوحي شيئا ، كتم هذا عن نفسه.

الثالث : قال الرازي : القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم‌السلام ، تمسكوا بهذه الآية وقالوا : لما عاتبه الله في ذلك الفعل ، دل على أن ذلك الفعل كان معصية. وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين ، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد. وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء. وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه‌السلام. وإذا كان كذلك ، كان ذلك جاريا مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل ، فلم يكن ذلك ذنبا البتة.

وأجاب الإمام ابن حزم في (الفصل) بقوله : وأما قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآيات فإنه كان عليه‌السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ، ورجا إسلامه. وعلم عليه‌السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير ، وأظهر الدين. وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته ، وهو حاضر معه. فاشتغل عنه عليه‌السلام بما خاف فوته من عظيم الخير ، عما لا يخاف فوته. وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله ، الذي لو فعله اليوم منا فاعل ، لأجر. فعاتبه الله عزوجل على ذلك ، إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي ، وهذا نفس ما قلناه! انتهى.

وقال القاشاني : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجر تربية ربه ، لكونه حبيبا. فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق ، عوتب وأدب كما قال (١) : (أدبني ربي فأحسن تأديبي) إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. انتهى. وقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧)

(كَلَّا) ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال أنس رضي الله عنه : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك يكرمه. رواه أبو يعلى. وقوله تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي إن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.

__________________

(١) أخرجه العسكري في : كشف الخفاء ، عن علي رضي الله عنه.

٤٠٦

قال الشهاب : وكون عتابه على ما ذكر عظة ، لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله. فما بالك بغيره؟ وجوّز عود الضمير للآيات وللسورة ، والوصية بالمساواة بين الناس ، ولدعوة الإسلام. وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي حفظه. على أنه من (الذكر) خلاف النسيان : أو اتعظ به ، من (التذكير).

قال الزمخشري : وذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقيل : الضمير للقرآن. والكلام استطراد (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) يعني صحف آيات التنزيل وسوره (مَرْفُوعَةٍ) أي عالية المقدار (مُطَهَّرَةٍ) من التغيير والنقص والضلالة (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) جمع سافر بمعنى سفير. أو هو الذي سعى بين قومه بالصلح والسلام. يقال : سفر بين القوم ، إذا أصلح بينهم. ومنه قوله :

وما أدع السفارة بين قومي

وما أمشي بغشّ ، إن مشيت

والسفرة ، إما الملائكة لأنهم يسفرون بالوحي بين الله تعالى ورسله. كأنه محمول بأيديهم. وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس (كِرامٍ) أي عنده تعالى ، لاصطفائهم للرسالة (بَرَرَةٍ) أي أخيار. جمع (بارّ) وهو صانع البر والخير.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين ، عجّب عباده المؤمنين من ذلك. فكأنه قيل : وأي سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أنّ أوله نطفة قذرة وآخرة جيفة مذرة. وفيما بين الوقتين حمال عذرة. فلا جرم ، ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم ، وما يصلح أن يكون علاجا لكفرهم. فإن خلق الإنسان تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر. ومرجعه إلى أن المراد بالإنسان من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به. وجوز أن يراد بالإنسان الجنس المنتظم للمستغني ، ولأمثاله من أفراده ، لا باعتبار جميع أفراده.

لطائف :

الأولى : قال الزمخشري : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم. لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها.

الثانية : قال ابن جرير : في قوله : (ما أَكْفَرَهُ) وجهان أحدهما التعجب من

٤٠٧

كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده. والآخر ما الذي أكفره ، أي أيّ شيء أكفره. وعلى الثانية ، فالهمزة للتصيير ك (أغدّ البعير).

الثالثة : قال الزمخشري في هذه الآية : ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن منتنا ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة. مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة ، على قصر متنه. وسره ما أشار له الرازيّ من أن قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. وقوله : (ما أَكْفَرَهُ) تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات.

الرابعة : أفاد في (الكشف) أن الدعاء ليس على حقيقته ، لامتناعه منه تعالى ، لأن منشأه العجز ، فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول ، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني. أي لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (٢١)

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) شروع في بيان إفراطه في الكفر ، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره ، من فنون النعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة ، مع إخلاله بذلك. وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه ، ثم بيانه بقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) تحقير له. أي من أي شيء حقير مهين خلقه؟ من نطفة مذرة خلقه (فَقَدَّرَهُ) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال. أو فقدّره أطوارا إلى أن تم خلقه (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي سهله. وهو مخرجه من رحم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه. أو سبيل الإسلام.

قال ابن زيد هداه للإسلام الذي يسره له وأعلمه به. أي بما غرز في فطرته من الخير ، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق. وقال مجاهد : يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) [الإنسان : ٣] ، واختاره أبو مسلم قال : المراد من هذه الآية هو المراد من قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] ، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا ، وبين كل خير وشر يتعلق بالدين. أي جعلناه متمكنا من سلوك سبيل الخير والشر. والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب. نقله الرازيّ. (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر يوارى فيه. تكرمة له ، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض للطير والسباع ، كالحيوان.

٤٠٨

قال الفراء : ولم يقل (فقبره) لأن القابر هو الدافن بيده ، والمقبر هو الله تعالى يقال (قبر الميت) إذا دفنه. و (أقبر الميت) إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر.

وقال ابن جرير : القابر هو الدافن الميت بيده كما قال الأعشى :

ولو أسندت ميتا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي بعثه بعد مماته وأحياه. وإنما قال : (إِذا شاءَ) لأن وقت البعث غير معلوم لأحد. فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى. متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم.

قال الشهاب : وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار ، لأن وقتهما معين إجمالا ، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية.

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال ابن جرير : أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ، من أنه قد أذى حق الله عليه ، في نفسه وماله ، فإنه لما يؤد ما فرض عليه من الفرائض ، ربّه.

وقال القاشانيّ : لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين ، تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير. وعدد النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس ، من مبادئ خلقته ، وأحواله في نفسه ، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به. وقرر أنه مع اجتماع الدليلين ، أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره ، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن ، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته ، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل ، والتوصل بها إلى المنعم. بل احتجب بها وبنفسه عنه. انتهى.

ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه ، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه. فقال سبحانه (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فإن لم يشهد خلق ذاته ، وعمي عن

٤٠٩

الآيات في نفسه ، وأصر على جحوده توحيد ربه ، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه. ماذا صنعنا في إحداثه وتهيئته لأن يكون غذاء صالحا ، وقوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) أي من المزن (صَبًّا) أي شديدا ظاهرا. وقد قرئ بكسر همزة (إنا) على الاستئناف المبين لكيفية حدوث الطعام ، وبالفتح على البدلية ، بدل اشتمال. بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول. فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ ، ادعاء (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي صدعناها بالنبات. أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) يعني حب الزرع. وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب (وَعِنَباً وَقَضْباً) وهو كل ما أكل من النبات رطبا ، كالقثاء والخيار ونحوهما. سمي قضبا لأنه يقضب ، أي يقطع مرة بعد أخرى (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ) جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة ، عليها حوائط تحيط بها (غُلْباً) جمع غلباء أي ضخمة عظيمة. وعظمها إما لاتساعها البالغ حد البصر ، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها (وَفاكِهَةً) أي ما يؤكل من ثمار الأشجار (وَأَبًّا) وهو المرعى الذي تأكله البهائم من العشب والنبات (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي تمتيعا. مفعول له ل (أنبتنا) أو مصدر حذف فعله وجرّد من الزوائد. أي متعكم بذلك متاعا. وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) يعني الداهية الشديدة ، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان. يقال صخّه يصخه ، ضرب أذنه فأصمها. وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان ، وقد صخ صخيخا ، وهو صوته إذا قرع. وصخ لحديثه إذا أصاخ له ، بمعنى استمع كما في (الأساس) ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة ، مجازا في الإسناد. وجواب (إذا) محذوف يدل عليه ما بعده. كيشتغل كل بنفسه ، أو افترق الناس (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) أي لاشتغاله بنفسه ، وعلمه بأنهم لا ينفعونه.

٤١٠

قال الشهاب : يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع ، وكلاهما منتف لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره ، وعلمه بعدم نفعه. وتأخير الأحب فالأحب للمبالغة. فهو للترقي. كذا قيل.

قال الشهاب : والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يكفيه في الاهتمام به. كأنه ذلك الهم الذي نزل به ، قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر ، فصار شبيها بالغني (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي مضيئة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد ، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وقدموا من الخير والعمل الصالح ما ملأوا به صحفهم (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار وكدورة (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي تغشاها ظلمة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي الفسقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله ، وركبوا من محارمه ، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم.

٤١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التّكوير

وتسمى سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وهو مكية وآيها تسع وعشرون. روى الإمام أحمد (١) عن ابن عمر : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سره أن ينظر إلى يوم القيامة ، كأنه رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ). و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وهكذا رواه الترمذيّ (٢).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي أزيلت من مكانها ، وألقيت عن فلكها ، ومحي ضوؤها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تنثرت وانقضّت (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي رفعت عن وجه الأرض ، ونسفت. من أثر الرجفة والزلزال الذي قطع أوصالها (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب. والعشار جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر. وخصلها ، لأنها أنفس أموالهم. أي فإذا هذه الحوامل التي يتنافس فيها أهلها أهملت ، فتركت من شدة الهول النازل بهم ، فكيف بغيرها؟ (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت من كل جانب واختلطت ، لما دهم أوكارها ومكامنها من الزلزال والتخريب ، فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض وتقطع أوصالها (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي : ملئت بتفجير بعضها إلى بعض ، حتى تعود بحرا واحدا. من (سجر التنور) إذا ملأه بالحطب. كقوله : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) وقيل : المعنى تأججت نارا. قال القفال : يحتمل أن تكون جهنم في قعور البحار ،

__________________

(١) أخرجه في المسند ٢ / ٢٧.

(٢) أخرجه في : التفسير ، سورة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

٤١٢

فهي الآن غير مسجورة لقوام الدنيا. فإذا انتهت مدة الدنيا ، أوصل الله تأثير تلك النيران إلى البحار ، فصارت بالكلية مسجورة بسبب ذلك. وأوضحه الإمام بقوله : وقد يكون تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزق طبقاتها العليا ، أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ولا يبقى في البحار إلا النار. أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار. ورد أن البحر غطاء جهنم ، وإن لم يعرف في صحيحها. ولكن البحث العلميّ أثبت ذلك. ويشهد عليه غليان البراكين وهي جبال النار. انتهى.

قال الرازي : واعلم أن هذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا ، ويمكن وقوعها أيضا بعد قيام القيامة. وليس في اللفظ ما يدل على أحد الاحتمالين. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة. انتهى.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي قرنت الأرواح بأجسادها. أو ضمت إلى أشكالها في الخير والشر ، وصنّفت أصنافا ليحشر كل إلى من يجانسه من السعداء والأشقياء.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) يعني البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهن. قال السيد المرتضى في (أماليه) : الموءودة هي المقتولة صغيرة. وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات ، بأن يدفنوهنّ أحياء ، وهو قوله تعالى : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) [النحل : ٥٩] ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٠] ، ويقال إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين : أحدهما أنهم كانوا يقولون إن الإناث بنات الله ، فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا. والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهن خشية الإملاق. قال الله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) [الأنعام : ١٥١]. قال المرتضى : وجدت أبا علي الجبائيّ وغيره يقول : إنما قيل لها موءودة لأنها ثقلت بالتراب الذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر. لأنهم يقولون من الموءودة وأد (يئد) (وأدا) والفاعل (وائد) والفاعلة (وائدة) ومن الثقل يقولون آدني الشيء يؤودني ، إذا أثقلني ، أودا. انتهى.

وإنما قال (بعض النظر) لأن القلب معهود في اللغة ، فلا يبعد أن يكون (وأد) مقلوبا من (آد). وقال المرتضى : فإن سأل سائل ، كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل ، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك ، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين : أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها ، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان ، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة ، لا المقتولة ، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم (سألت حقي) أي طالبت به ومثله قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ

٤١٣

الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٤] ، أي مطالبا به مسؤولا عنه. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة ، على سبيل التوبيخ له ، والتقريع له ، والتنبيه له ، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، على طريق التوبيخ لقومه ، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه : كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول ، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب ، لم يمتنع أن يقع. وإن لم يكن من الموءودة فهم له. لأن الخطاب. وإن علق عليها ، وتوجه إليها ، والغرض في الحقيقة به غيرها. قالوا وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده فأقبل على ولده يقول له : ضربت ما ذنبك وبأي شيء استحل هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا : إن الأطفال ، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة ، أن يكونوا كاملي العقول ، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب. فإن كان الخير متظاهرا والأمة متفقة على أنهم في الآخرة ، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال ، وأن عقولهم تكون كاملة ، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة ، لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه. انتهى.

قال الشهاب : والتبكيت قرره الطيبيّ ، بأن المجنيّ عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت له الجناية دون الجاني ، بعث ذلك الجاني على التفكّر في حاله وحال المجني عليه. فيرى براءة ساحته ، وأنه هو المستحق للعقاب والعذاب. وهذا استدراج على طريق التعريض ، وهو أبلغ من التصريح. والمراد بالاستدراج سلوك طريق توصل إلى المطلوب بسؤال غير المذنب ونسبة الذنب له. حتى يبين من صدر عنه ذلك. كما سئل عيسى دون الكفرة ، وهو فن من البديع ، بديع. انتهى.

وقال الزمخشريّ وإنما قيل (قتلت) بناء على أن الكلام إخبار عنها.

تنبيه :

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية تعظيم شأن الوأد ، وهو دفن الأولاد أحياء. وأخرج مسلم (١) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن العزل فقال : الوأد الخفيّ. وهي : وإذا الموءودة سئلت. انتهى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في : النكاح ، حديث رقم ١٤١ ، عن جذامة بنت وهب الأسدية.

٤١٤

وقد روى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب في هذه الآية قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إني وأدت بنات لي في الجاهلية. قال : أعتق عن كل واحدة منهن رقبة. قال : يا رسول الله! إني صاحب إبل. قال : فانحر عن كل واحدة منهن بدنة.

وروى الدراميّ (١) في أوائل مسنده أن رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان. فكنا نقتل الأولاد. وكانت عندي ابنة لي. فلما أجابت ، وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها. فدعوتها يوما فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من أهلي غير بعيد فأخذت بيدها فرديتها في البئر ، وكان آخر عهدي بها أن تقول يا أبتاه يا أبتاه. فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى وكف دمع عينيه. فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحزنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كف. فإنه يسأل عما أهمه. ثم قال له : أعد علي حديثك. فأعاده. فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى وكف الدمع من عينيه على لحيته. ثم قال له : إن الله قد وضع عن الجاهلية ما عملوا ، فاستأنف عملك.

وكان للعرب تفنن في الوأد ، فمنهم من إذا صارت ابنته سداسية يقول لأمها : طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها. وقد حفر لها بئرا في الصحراء. فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها. ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض.

ومنهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع ، حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة. فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة. وإن ولدت ابنا حبسته. وقد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال ، جد الفرزدق بن غالب ، بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية ، ونهى عن قتلهن. قيل إنه أحيا ألف موءودة ، وقيل دون ذلك. وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله :

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يوأد

وفي قوله أيضا :

أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب

وفكّاك أغلال الأسير المكفّر

وكان لنا شيخان ذو القبر منهما

وشيخ أجار الناس من كل مقبر

على حين تحيى البنات وإذ هم

عكوف على الأصنام حول المدوّر

أنا ابن الذي ردّ المنية فضله

وما حسب دافعت عنه بمعور

__________________

(١) أخرجه في مسنده في : ١ ـ باب ما كان عليه الناس قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجهل والضلالة.

٤١٥

أبي أحد الغيثين صعصعة الذي

متى تخلف الجوزاء والنجم يمطر

أجار بنات الوائدين ومن يجر

على القبر ، يعلم أنه غير مخفر

وفارق ليل من نساء أتت أبى

تعالج ريحا ليلها غير مقمر

فقالت أجر لي ما ولدت فإنني

أتيتك من هزلى الحمولة مقتر

رأى الأرض منها راحة فرمى بها

إلى خدد منها وفي شر محفر

فقال لها نامي فأنت بذمتي

لبنتك جار من أبيها القنوّر

وروى أبو عبيدة : أن صعصعة ـ هذا ـ وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد بني تميم. قال : وكان صعصعة منع الوأد في الجاهلية ، فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك. فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة موءودة ، وفي أخرى ثلاثمائة ، فقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بأبي أنت وأمي! أوصني. فقال : أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدانيك ، فقال : زدني. فقال عليه الصلاة والسلام : احفظ ما بين لحييك ورجليك. ثم قال عليه الصلاة والسلام : ما شيء بلغني عنك فعلته؟ فقال : يا رسول الله! رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الصواب. غير أني علمت أنهم ليسوا عليه. فرأيتهم يئدون بناتهم ، فعرفت أن ربهم عزوجل لم يأمرهم بذلك. فلم أتركهم. ففديت ما قدرت عليه. ويقال إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا. فقال الفرزدق : أنا ابن محيي الموتى ، فقال له سليمان : أنت ابن محيي الموتى؟ فقال : إن جدي أحيا الموءودة ، وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] ، وقد أحيا جدي اثنتين وتسعين موءودة فتبسم سليمان. وقال : إنك مع شعرك لفقيه. نقله المرتضى في (أماليه) وبالجملة ، فكان الوأد عادة من أشنع العوائد في الجاهلية ، مما يدل على نهاية القسوة وتمام الجفاء والغلظة.

قال الإمام : انظر إلى هذه القسوة وغلظ القلب وقتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر والعار ، كيف استبدلت بالرحمة والرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة. انتهى. ومن أثر نعمته أن صار أدباء الصدر الأول يصوغون في مدحهن ما هو أبهى من عقود الجمان ؛ فمن ذلك قول معن بن أوس :

رأيت رجالا يكرهون بناتهم

وفيهن ، لا نكذب ، نساء صوالح

وفيهن والأيام يعثرن بالفتى

خوادم لا يمللنه ونوائح

وقال العلويّ الجمانيّ ، في صديق له ولدت له بنت فسخطها ، شعرا.

٤١٦

قالوا له ماذا رزقتا

فأصاخ ثمّت قال : بنتا

وأجلّ من ولد النساء

أبو البنات. فلم جزعتا

إن الذين تودّ من

بين الخلائق ما استطعتا

نالوا بفضل البنت ما

كبتوا به الأعداء كبتا

وحكي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته. فقال : من هذه يا معاوية؟ فقال : هذه تفاحة القلب وريحانة العين وشمامة الأنف. فقال : أمطها عنك. قال : ولم؟ قال : لأنهن يلدن الأعداء ، ويقرّبن البعداء ، ويورثن الشحناء ، ويثرن البغضاء. قال : لا تقل ذلك يا عمرو! فو الله ما مرّض المرضى ، ولا ندب الموتى ، ولا أعان على الزمان ، ولا أذهب جيش الأحزان مثلهن ، وإنك لواجد خالا قد نفعه بنو أخته ، وأبا قد رفعه نسل بنيه. فقال : يا معاوية! دخلت عليك وما على الأرض شيء أبغض إليّ منهن. وإنى لأخرج من عندك وما عليها شيء أحب إليّ منهن. وفي رقعة للصاحب بالتهنئة بالبنت : أهلا وسهلا بعقيلة النساء وأم الأبناء وجالبة الأصهار ، والأولاد الأطهار ، والمبشرة بإخوة يتناسقون ، ونجباء يتلاحقون

فلو كان النساء كمن وجدنا

لفضّلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب

وما التذكير فخر للهلال

والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها ، والسعادة بموقعها ، فادّرع اغتباطا ، واستأنف نشاطا. فالدنيا مؤنثة. والرجال يخدمونها ، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية. وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب وحليت بالنجم الثاقب. والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ، ولو لاها لم تتصرف الأجسام ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون وفيها ينعم المرسلون. فهنيئا لك هنيئا بما أوتيت ، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.

ونسخت رقعة لأبى الفرج الببغاء : اتصل بي خبر المولودة المسعودة كرم الله عرقها ، وأنبتها نباتا حسنا. وما كان من تغيرك عند اتصال الخبر وإنكارك ما اختاره الله لك في سابق القدر. وقد علمت أنهن أقرب من القلوب ، وأن الله بدأ بهن في الترتيب فقال عزّ من قائل : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، وما سماه الله تعالى هبة ، فهو بالشكر أولى ، وبحسن التقبل أحرى. فهنأك الله بورود الكريمة عليك. وثمرتها إعداد النسل الطيب لديك.

والنوادر في هذا لا تحصى. وكلها من بركة الإسلام وفضله ، وقوله تعالى :

٤١٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤)

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قال ابن جرير : أي صحف أعمال العباد نشرت لهم ، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم : ٤٨] ، (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقد عليها فأحميت. قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت للمتقين (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علمت كل نفس عند ذلك ، ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة ، أو شر فتصير به إلى النار. أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به ، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. و (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٢١)

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي الرواجع من النجوم. من (خنس) إذا رجع وتأخر. قال الزمخشريّ : بينا ترى النجم في آخر البرج ، إذ كرّ راجعا إلى أوله (الْجَوارِ) جمع جارية ، من الجري (الْكُنَّسِ) أي الغيب التي تدخل في بروجها ، في رأي العين. من (كنس الوحش) إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر. فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه ، ثم صار بالغلبة في الاستعمال ، حقيقة (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أدبر ولم يبق إلا اليسير ، وذلك وقت السحر (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أقبل وتبيّن. أو هبّ نسيمه اللطيف أو انجابت عنه غمة الليل وكربته. تشبيها بمن نفس عنه كربه. قال الإمام : أقسم الله تعالى بهذه الدراريّ لينوه بشأنها من جهة ما في حركاتها من الدلائل على قدرة مصرّفها ومقدّرها ، وإرشاد تلك الحركات إلى ما في كونها من بديع الصنع وإحكام النظام ، مع نعتها ، في القسم ، بما يبعدها عن مراتب الألوهية ، من الخنوس والكنوس ، تقريعا لمن خصها بالعبادة واتخذها من دونه أربابا. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بانسدال الظلمة بعد ما استعادت الأبدان نشاطها وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد ، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات والاستدراك والاستعداد لما هو آت. انتهى.

٤١٨

وجواب القسم قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني روح القدس الذي ينفث في روعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جبريل عليه‌السلام. والضمير إما للبعث والجزاء ، المفهوم من قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أو للمذكور وهو هذا أو للقرآن (ذِي قُوَّةٍ) أي على تحمل أعباء الرسالة ، وعلى كل ما يؤمر به ، كما تقدم في قوله تعالى : (شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] ، (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تعالى (مُطاعٍ ثَمَ) أي في الملأ الأعلى (أَمِينٍ) أي على وحيه تعالى ورسالته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥)

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي ليس ممن يتكلم عن جنّة ويهذي هذيان المجانين. (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ٣٧] ، وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حسدا ولؤما.

قال الشهاب : وفي قوله (صاحِبُكُمْ) تكذيب لهم بألطف وجه. إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن ، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلا وأرجحهم نبلا وأكملهم وأصفاهم ذهنا. فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحترىّ في قوله :

إذا محاسني اللّاتي أدلّ بها

كانت ذنوبي ، فقل لي كيف أعتذر

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي ولقد رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل بالأفق الأعلى ، المظهر لما يرى فيه.

قال ابن كثير : والظاهر ، والله أعلم ، أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى. وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٣ ـ ١٥] ، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم ، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما‌السلام ، متمثلا له ، هو التحقيق الموحي به ، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان ، لا على ظن وحسبان. وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ببخيل.

٤١٩

قال مجاهد : ما يضن عليكم بما يعلم. أي لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء : يأتيه غيب السماء ، وهو شيء نفيس ، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسيّ : المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه ، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلوانا وقرئ (بظنين) بالظاء : أي ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب.

قال القاشانيّ : لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه ، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ ، لأن عقله صفّي عن شوب الوهم. والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء ، ليس من شأنه أن يتهم فيه. كما قال هرقل (١) لأبي سفيان : وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

تنبيه :

قال بن جرير : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به ، وذلك (بِضَنِينٍ) بالضاد. لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوّله (وما محمد ، على ما علمه الله من وحيه وتنزيله ، ببخيل بتعليمكموه أيها الناس. بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه) انتهى. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين :

أحدهما أن الكفار لم يبخلوه ، وإنما اتهموه ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.

وثانيهما قوله : (عَلَى الْغَيْبِ) ولو كان المراد البخل لقال (بالغيب) لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا.

وقال الشهاب : قال في (النشر) : هو بالضاد في جميع المصاحف ، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة ، إن الضاد الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى ، زيادة يسيرة ، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم ، لأن ما نقلوه موافق للقراءة

__________________

(١) أخرجه البخاري في : بدء الوحي ، عن أبي سفيان بن حرب ، ٦ ـ حدثنا أبو اليمان حديث رقم ٧.

٤٢٠