تفسير القاسمي - ج ٩

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٩

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة ق

وتسمى سورة (الباسقات). وهي مكية بالإجماع. وآيها خمس وأربعون آية.

قال ابن كثير : وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح ، وقيل : من الحجرات. وأما ما يقوله العوام أنه من (عمّ) فلا أصل له ، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم. والدليل ما رواه أوس بن حذيفة قال : سألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ؛ وحزب المفصل وحده. فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة (ق) بيانه :

ثلاث : البقرة وآل عمران والنساء.

وخمس : المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.

وسبع : يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.

وتسع : سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان.

وإحدى عشرة : الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.

وثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.

ثم بعد ذلك الحزب المفصل ، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم ، فتعيّن أن أوّله سورة (ق).

٣

وروى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثيّ : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيد؟ قال : ب (ق) و (اقتربت).

وروى مسلم وغيره ، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كان يخطب بها كل جمعة. وفي رواية : كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.

والقصد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب. انتهى.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١)

(ق) هو حرف من حروف التهجي المفتتح بها أوائل السور ، مثل : ص ، ون ، والم ، وحم ، ونحوها. علم على السورة ، على الصحيح من أقوال ، كما تقدم مرارا.

تنبيه :

قال ابن كثير : روي عن بعض السلف أنهم قالوا : (ق) جبل محيط بجميع الأرض يقال له (جبل قاف). وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس ، لما رأى من جواز الرواية عنهم ، مما لا يصدّق ولا يكذب. وعندي أن هذا وأمثاله من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افتري في هذه الأمة ، مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها ، أحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما بالعهد من قدم. فكيف بأمة بني إسرائيل ، مع طول المدى ، وقلة الحفّاظ والنقاد فيهم ، وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه ، وتبديل كتب الله وآياته؟ وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : (١) (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوّزه العقل. فأما فيما تحيله العقول ، ويحكم فيه البطلان ، ويغلب على الظنون كذبه ، فليس من هذا القبيل.

وقد أكثر كثير من السلف المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف ، من الحكاية عن كتب أهل الكتاب ، تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة.

ثم ردّ ابن كثير ، رحمه‌الله ، ما قيل من أن المراد من (ق) قضي الأمر والله! كقول الشاعر :

قلت لها قفي فقالت قاف

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأنبياء ، ٥٠ ـ باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، حديث رقم ١٦٢٤ ، عن ابن عمرو.

٥

أي : إني واقفة ، بأن في هذا نظرا ، لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف. انتهى.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي : ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢)

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي : لأن جاءهم منذر من جنسهم ، لا من جنس الملك ، أو من جلدتهم. وهو كما قال أبو السعود ـ إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف ، كأنه قيل : والقرآن المجيد ، أنزلناه إليك ، لتنذر به الناس. حسبما ورد في صدر سورة الأعراف ، كأنه قيل بعد ذلك : لم يؤمنوا به ، جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب ، مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول ، وأقربه إلى التلقي بالقبول.

وقيل : التقدير : والقرآن المجيد ، إنك لمنذر. ثم قيل بعده إنهم شكوا فيه ، ثم أضرب عنه. وقيل : بل عجبوا ، أي لم يكتفوا بالشك والرد ، بل جزموا بالخلاف ، حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة. وقيل : هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد ، كأنه قيل : ليس سبب اقتناعهم من الإيمان بالقرآن أنه لا مجد له ، ولكن لجهلهم.

(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) تفسير لتعجبهم ، وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار ، مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن. وإضمارهم أولا ، للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم. وإظهارهم ثانيا ، للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه. أو عطف لتعجبهم من البعث ، على تعجبهم ، من البعثة. على أن هذا إشارة إلى مبهم ، يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣)

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) تقرير للتعجيب ، وتأكيد للإنكار. والعامل في (إذا) مضمر غنيّ عن البيان ، لغاية شهرته ، مع دلالة ما بعده عليه. أي : أحين نموت ونصير ترابا نرجع ، كما ينطق به النذير والمنذر به. مع كمال التباين بيننا وبين الحياة ،

٦

حينئذ (ذلِكَ) إشارة إلى محل النزاع (رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي : عن الأوهام أو العادة أو الإمكان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤)

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : ما تأكل من أجسامهم بعد مماتهم. وهو ردّ لاستبعادهم ، وإزاحة له. فإن من عمّ علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى. وتأكل من لحومهم وعظامهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا. وقيل : المعنى ما يموت فيدفن في الأرض منهم. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) قال أبو السعود : أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، أو محفوظ من التغير. والمراد : إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها ، بعلم من عنده كتاب محيط ، يتلقى منه كل شيء. أو تأكيد لعلمه تعالى بها ، بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥)

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) وهو القرآن ، (لَمَّا جاءَهُمْ) أي من غير تأمّل وتفكّر.

قال الزمخشري : إضراب أتبع الإضراب الأول ، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق ، الذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات ، في أول وهلة من غير تفكّر ولا تدبّر. وكونه أفظع ، للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مضطرب. يعني. اختلاف مقالتهم فيه ، من ادعاء أنه شعر أو سحر ونحوه ، تعنتا وكبرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦)

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) أي هؤلاء المكذّبون بالبعث ، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم ، (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) أي رفعناها بغير عمد ، (وَزَيَّنَّاها) أي بالنجوم ، (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ). قال ابن جرير : يعني وما لها من صدوع وفتوق. كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ،

٧

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٣ ـ ٤] ، أي كليل عن أن ترى عيبا أو نقصا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٧)

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها. (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت ، حفظا لها من الاضطراب ، لقوة الجيشان في جوفها ، (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف ، (بَهِيجٍ) أي حسن المنظر ، يبتهج به لحسنه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨)

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي لتبصر وتذكّر كل عبد منيب راجع إلى ربه ، مفكّر في بدائع صنعه. و (تَبْصِرَةً) و (ذِكْرى) منصوبات بالفعل الأخير على أنهما مفعولان له ، وإن كانتا علتين للأفعال المذكورة معنى. أو بفعل مقدر. أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ) أي المزن (ماءً مُبارَكاً) أي كثير المنافع ، (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي أشجارا ذوات أثمار ، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي الزرع المحصود من البرّ والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر ، لأنه المقصود بالذات. (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء ، النخل طوالا ، أو حوامل. من (أبسقت الشاة) إذا حملت ، فيكون من (أفعل) فهو (فاعل). والقياس (مفعل) فهو من النوادر كالطوائح واللواقح ، في أخوات لها شاذة. وإفرادها بالذكر مع دخولها في (جَنَّاتٍ) لبيان فضلها بكثرة منافعها. وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل. (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي متراكم بعضه فوق بعض. (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي لرزقهم. قال أبو السعود : علة لقوله تعالى : (فَأَنْبَتْنا). وفي تعليله بذلك ، بعد تعليل أنبتنا الأول بالتبصرة والتذكير ،

٨

تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار ، أهم من تمتعه به من حيث الرزق. وقيل : (رِزْقاً) مصدر من معنى (أَنْبَتْنا) ، لأن الإنبات رزق. (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا جدبة ، فأنبتت أنواع النبات والأزهار. (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي خروجهم أحياء من القبور. شبه بعث الأموات ونشرهم ، بقدرته تعالى بإخراج النبات من الأرض ، بعد وقوع المطر عليها ، ف (كَذلِكَ) خبر (الْخُرُوجُ). أو مبتدأ فالكاف بمعنى (مثل).

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ) قال أبو السعود : استئناف وارد لتقرير حقية البعث ، ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم‌السلام عليها ، وتعذيب منكريها. (وَأَصْحابُ الرَّسِ) وهو بئر كانوا عنده. يقال إنهم قوم شعيب عليه‌السلام. ويقال غير ذلك ، كما تقدم في سورة الفرقان. (وَثَمُودُ) وهم الذين جادلوا صالحا ، وقتلوا الناقة. (وَعادٌ) وهم الذين جادلوا هودا في أصنامهم. (وَفِرْعَوْنُ) وهو الذي جادل موسى فيما أرسل به. قال الرازي : ولم يقل (وقوم فرعون) لأن فرعون كان هو المغترّ المستخف بقومه ، والمستبد بأمره. (وَإِخْوانُ لُوطٍ) وهم الذين جادلوا في إتيان الرجال. (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الغيضة من الشجر ، المجادلون شعيبا في الكيل والوزن. (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) قال المهايمي : المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين. ومضى الكلام على ذلك في الحجر والدخان. (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي كل من هذه الأمم ، وهؤلاء القرون ، كذبوا رسولهم ، ومن كذب رسولا ، فكأنما كذب جميع الرسل ، كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] ، وإنما جاءهم رسول واحد ، فهم في نفس الأمر ، لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم ـ أفاده ابن كثير ـ وهو توجيه لجمع الرسل. وإفراد ضمير (كَذَّبَ) مراعاة للفظ (كُلٌ) فإنه مفرد وإن كان جمعا معنى. (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر ، وهو العذاب والنقمة.

قال ابن جرير : إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل ، ترهيبا منه بذلك مشركي قريش ، وإعلاما منه لهم أنهم إن

٩

لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه محلّ بهم من العذاب مثل الذي أحل بهم. أي فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه ، وتهديد لهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي : أفعجزنا عن الإبداء ، حتى نعجز عن الإعادة ، فالهمزة للإنكار. قال الشهاب : العي هنا بمعنى العجز ، لا التعب. قال الكسائي : تقول (أعييت) من التعب و (عييت) من انقطاع الحيلة ، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح ، وإن لم يفرق بينهما كثير. و (الخلق الأول) هو الإبداء على ما ذكر ، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض ، لأن خلق الإنسان متأخر عنه. ويدل له آية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ...) [الأحقاف : ٣٣] الآية.

وقوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) عطف على مقدر ، يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم معترفون بالخلق الأول ، فلا وجه لإنكارهم للثاني ، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس ، لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية ، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.

لطيفة :

قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاثة : لم عرّف الخلق الأول ، ونكّر اللبس ، والخلق الجديد؟

فاعلم : أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه ، ومنه تعريف الذكور في قوله (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، ولهذا المقصد عرف الخلق الأول ، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى. أي إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول ، على عظمته ، فالخلق الآخر أولى أن لا يعيى به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.

وأما التنكير فأمره منقسم : فمرة يقصد به تفخيم المنكر ، من حيث ما فيه من الإبهام ، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرة يقصد به التقليل من المنكر ، والوضع منه. وعلى الأول (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٨٥] ، وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٩] و [الحجرات : ٣] ، و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)

١٠

[الطور : ١٧] ، وهو أكثر من أن يحصى. والثاني : هو الأصل في التنكير ، فلا يحتاج إلى تمثيله. فتنكير (اللبس) من التعظيم والتفخيم ، كأنه قال : في لبس أيّ لبس. وتنكير (الخلق الجديد) للتقليل منه ، والتهوين لأمره ، بالنسبة إلى الخلق الأول. ويحتمل أن يكون للتفخيم ، كأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه ، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦)

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي تحدّث به نفسه ، وهو ما يخطر بالبال. وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) تمثيل للقرب المعنوي ، بالصورة الحسية المشاهدة. وقد جعل ذاك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ ، الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام ، إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.

قال الشهاب : تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم ، لتنزّهه عن القرب المكاني ، إما تمثيلا ، وإما من إطلاق السبب وإرادة المسبب ، لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة. والمعنى : أنه تعالى أعلم بأحواله ، خفيّها وظاهرها ، من كل عالم. وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد ، لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية ، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج. وخص هذا لأن به حياته ، وهو بحيث يشاهده كل أحد. والحبل : العرق. شبه بواحد الحبال. فإضافته للبيان أو لامية ، من إضافة العام للخاص. فإن أبقى الحبل على حقيقته ، فإضافته كلجين الماء.

تنبيه :

تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم ، بجعل (نحن) كناية عن الملائكة ، وعبارته : يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. قال : ومن تأوله على العلم ، فإنما فرّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع ، تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه ، فإنه يقل (وأنا أقرب إليه) وإنما قال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) كما قال في المحتضر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [الواقعة : ٨٥] ، يعني : ملائكته. وكما قال تبارك وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن ، بإذن الله عزوجل.

١١

وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده ، بإقدار الله ، جل وعلا ، لهم على ذلك. فللملك لمّة من الإنسان ، كما أن للشيطان لمة. ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. ثم أيد ابن كثير رحمه‌الله ما ذكره ، بما ورد في الآية بعدها. والوجه الأول أدق وأقرب ، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم ، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ، ما لا يخفى حسنه. وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط ، بل له ولما تقدم أولا. كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه ، لاحتمال إرادة التعظيم ب (نحن) كما هو شائع ، فلا يتم له ذلك. نعم! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيما للملك ، لأنه بأمره تعالى وبإذنه ، ولكن لا ضرورة تدعو إليه ، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة. وقد عنى رحمه‌الله بمن فهم الحلول والاتحاد ، من قال في تفسير الآية كالقاشاني ـ ما مثاله : وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ. ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره ، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود ، من حيث هو وجود ، ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. انتهى كلام القاشاني. ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف ، لأن لهؤلاء اصطلاحا معروفا ، وهم أول من يتبرأ من الحلول والاتحاد ، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما ، في كتاب (دلائل التوحيد) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب. فارجع إليه ، واستغفر لمصنفه.

أقول : رأيت ابن كثير بعد ، مسبوقا بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية ، فقد أوضح ذلك رحمه‌الله في كتابه (شرح حديث النزول) : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلا ، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام ، كقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦]. فهو سبحانه قريب ممن دعاه. وكذلك ما في الصحيحين (١) عن أبي موسى الأشعري ؛ أنهم كانوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير ، فقال : (أيها الناس! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، وإنما تدعون سميعا قريبا. إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). فقال : إن الذي تدعونه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد ، ١٣١ ـ باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير ، حديث رقم ١٤٢٣. وأخرجه مسلم في : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث ٤٤ ـ ٤٧.

١٢

أقرب إلى أحدكم ، لم يقل : إنه قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه‌السلام (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود : ٦١] ، ومعلوم أنه قوله : (قَرِيبٌ مُجِيبٌ) مقرون بالتوبة والاستغفار. أراد به ، قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه ، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب. ومعلوم أنه لا يقال مجيب لكل موجود ، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه ، فكذلك قربه سبحانه وتعالى ، وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب ، لا يجب أن تتعلق بكل موجود ، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه. واسمه العليم ، لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوما تعلق بكل شيء. وأما قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فالمراد به قربه إليه بالملائكة. وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف. قالوا : ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة. وقد قال طائفة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) بالعلم. وقال بعضهم : بالعلم والقدرة والرؤية. وهذه الأقوال ضعيفة ، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود ، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة ، ولكن بعض الناس ، لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء ، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء ؛ قادر على كل شيء ، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب ، مثل لفظ المعية. وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا : في آية (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] ، هو معهم بعلمه ، مع علوّه على عرشه. وقد ذكر ابن عبد البر وغيره ؛ أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين ، لم يخالفهم فيه أحد.

ثم قال : ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال : هو فوق عرشه ، وهو قريب من كل شيء ، بل قال : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ، وقال : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].

وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ...) الآية. ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته ، فإنه عالم بكل شيء ، قادر على كل شيء ، وهم لم يشكّوا في ذلك ، ولم يسألوا عنه ، وإنما عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه ، فأخبر أنه قريب مجيب.

وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم ، لكونه هو

١٣

المقصود ، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده. وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول ، بأنه قريب من كل شيء ، بمعنى العلم والقدرة ، فإن هذا قد قاله بعض السلف ، وكثير من الخلف ، لكن لم يقل أحد منهم إن نفس ذاته قريب من كل موجود. وهذا المعنى يقرّ به جميع المسلمين ، من يقول إنه فوق العرش ، ومن يقول إنه ليس فوق العرش.

ثم قال : وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد ، ومن الميت. ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة ، فسروا ذلك بالعلم والقدرة ، كما في لفظ المعية. ولا حاجة إلى هذا ، فإن المراد بقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي بملائكتنا ، في الآيتين : وهذا بخلاف المعية ، فإنه لم يقل : ونحن معه ، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد ، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا ، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض ، وهو نفسه الذي استوى على العرش ، فلا يجعل لفظ مثل لفظ ، مع تفريق القرآن بينهما.

ثم قال : وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) لا يجوز أن يراد به مجرد العلم ، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره ، لا يقال إنه أقرب إليه من غيره ، بمجرد علمه به ، ولا بمجرد قدرته عليه. ثم إنه سبحانه عالم بما يسرّ من القول ، وما يجهر به ، وعالم بأعماله ، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه ، فإنه حبل الوريد قريب إلى القلب ، ليس قريبا إلى قوله الظاهر ، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم ، سياق الآية ، فإنه قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ، فأخبر أنه يعلم وسواس نفسه.

ثم قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فأثبت العلم ، وأثبت القرب ، وجعلهما شيئين ، فلا يجعل أحدهما هو الآخر ، وقيد القرب بقوله (إِذْ يَتَلَقَّى ...) الآية.

وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد ، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله ، فهذا في غاية الضعف. وذلك أن الذين يقولون إنه في كل مكان ، وإنه قريب من كل شيء بذاته ، لا يخصون بذلك شيئا دون شيء ، ولا يمكن مسلما أن يقول إن الله قريب من الميت دون أهله ، ولا أنه قريب من حبل الوريد دون

١٤

سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم ، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان ، وهو في أهل الميت ، كما هو في الميت ، فكيف يكون (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) إذا كان معه ومعهم على وجه واحد؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه ، وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة ، فإنه قال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى ...) الآيتين. فقيد القرب بهذا الزمان ، وهو زمان تلقي المتلقيين ، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان ، كما قال (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ...) [ق : ١٨] الآية. ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال ، ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [الواقعة : ٨٣ ـ ٨٤] ، فإن هذا إما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال ، لكن نحن لا نبصره ، والرب تعالى في هذا الحال لا يراه الملائكة ، ولا البشر. وأيضا فإنه قال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال. وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل هي في مكان ، أو قيل قريبة من كل موجود ، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال ، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء ، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص ، كما في قوله (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده. وهذا المحتضر قد يكون كافرا وفاجرا ، أو مؤمنا ومقربا. ولهذا قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٩٤]. ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصه الرب بقرب منه ، دون من حوله ، وقد يكون حوله قوله مؤمنون. وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٧] ، وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] ، وقال (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام : ٩٣] ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١] ، وقال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [السجدة : ١١]. ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ

١٥

إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وهذا كقوله سبحانه : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [القصص : ٣] ، وقال (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣] ، وقال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٧ ـ ١٩] ، فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه ، دل على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة. فإن صيغة (نحن) يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره ، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم ، وهو خالقهم وربهم ، فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه ، وملائكته تعلم ، فكان لفظ (نحن) هنا هو المناسب. وكذلك قوله : (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) فإنه سبحانه يعلم ذلك ، وملائكته يعلمون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين (١) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، وإن تركها لله كتبت له حسنة. فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة ، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به.

ثم قال : وقوله : (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك ، يعلمون ما توسوس به للعبد نفسه ، كما قال (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠] ، فهو يسمع ، ومن يشاء من ملائكته. وأما الكتابة ، فرسله يكتبون كما قال هاهنا : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] ، وأخبر بالكتابة (نحن) لأن جنده يكتبون بأمره ، وفصّل في تلك الآية بين السماع والكتابة ، لأنه يسمع بنفسه ، وأما كتابه الأعمال فتكون بأمره ، والملائكة يكتبون. فقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) مثل قوله : (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره ، كما كانوا كاتبين عمله بأمره ، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة ، كتكليمه عبده بتوسط الرسل ، كما قال تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل ، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار ، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة. انتهى كلامه رحمه‌الله. وقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الرقاق ، ٣١ ـ باب من همّ بحسنة أو بسيئة. حديث ٢٤٣٥ ، عن ابن عباس.

وأخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث ٢٠٧.

١٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧)

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به. ف (إذ) ظرف (لأقرب) وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين ، فإنه أعلم منهما ، ومطلع على ما يخفى عليهما ، لكنه لحكمة اقتضته ، وهي إلزام الحجة في الأخرى ، والتقدم إلى ما يرغبه ويرهبه في الأولى.

وقال القاشاني : بين تعالى بهذه الآية أقربيّته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : هو مع كل شيء ، لا بمقارنة ، إذ الشيء به ذلك الشيء ، وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه. أي : يعلم حديث نفسه الذي توسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين ، مع كونه أقرب إليه منهما. وإنما تلقيهما للحجة عليه ، وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية ، للجزاء.

ثم قال : والمتلقي القاعد عن اليمين ، هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة. وإنما قعد عن يمينه ، لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة ، وهي جهة النفس التي تلي الحق. والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية ، والآراء الشيطانية والوهمية ، والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال ، لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة ، وهي التي تلي البدن ، ولأن الفطرة الإنسانية خيّرة بالذات ، لكونها من عالم الأنوار ، مقتضية بذاتها ، وغريزتها الخيرات. والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته ، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال ، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال ، وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال من كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح ، أي التنزيه عن الغواشي البدنية ، والهيئات الطبيعية ، بالرجوع إلى مقره الأصليّ ، وسنخه الحقيقيّ ، وحاله الغريزي ، لينمحي أثر ذلك الأمر العارضيّ ، بالنور الأصليّ والاستغفار ، أي التنوّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ، لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية ، بالنور الوارد كما روي أن كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين

١٧

لصاحب اليسار : دعه سبع ساعات ، لعله يسبح أو يستغفر! انتهى.

وقد كثر في كلام القاشانيّ رحمه‌الله تأويل الملك بالقوة الحاثة على الخير ، والشيطان بالمغوية على الشر. وسبقه إليه الحكماء. قال بعض الحكماء : هذا الشيء الذي أودع فينا ونسميه قوة وفكرا ، وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه ، وروح لا تكتنه حقيقتها ، لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكا ، ويسمي أسبابه ملائكة ، أو ما شاء من الأسماء ، فإن التسمية لا حجر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة ، والسلطان النافذ ، والعلم الواسع.

وقد سبق الغزاليّ إلى هذا المعنى ، وعبّر عنه بالسبب وقال : إنه يسمى ملكا ، فإنه ، في شرح عجائب القلب من كتاب (الإحياء) ، بعد ما قسم الخواطر إلى محمود ومذموم ، قال : وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان : فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا ، وسببا لخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا .. إلخ. والبحث كله غرر ، تجدر مراجعته.

لطيفة :

(قَعِيدٌ) كجليس ، بمعنى مجالس ، لفظا ومعنى. وإنما أفرد رعاية للفواصل ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كقوله :

فإني وقيّار بها لغريب

وقيل : يطلق (فعيل) للواحد والمتعدد ، كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [لتحريم : ٤] ، وضعف بأنه ليس على إطلاقه ، بل إذا كان (فعيل) بمعنى (مفعول) بشروطه ، وهذا بمعنى (فاعل) ، فلا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على (فعيل) بمعنى (مفعول).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨)

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) أي ملك يرقب عمله ، (عَتِيدٌ) أي حاضر.

ولما ذكر استبعادهم للبعث ، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ، أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب ، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي ، فقال سبحانه :

١٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩)

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي شدّته المحيّرة الشاغلة للحواس ، المذهلة للعقل (بِالْحَقِ) أي بالموعود الحق ، والأمر المحقق ، وهو الموت ، فالباء للملابسة. أو بالموعود الحق من أمر الآخرة ، والثواب والعقاب الذي غفل عنه ، فالباء للتعدية. أي أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر ، وهي أحوالها الباطنة ، وأظهرتها عليه.

قال الشهاب : السكرة استعيرت للشدة ، ووجه الشبه بينهما أن كلّا منهما مذهب للعقل ، فالاستعارة تصريحية تحقيقية. ويجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية. وإثبات السكرة لها ، تخييل. (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تفرّ. والجملة على تقدير القول. أي يقال له في وقت الموت : ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك ، فلم ينفعك الهرب والفرار. وهل المشار إليه بذلك ، الحق أو الموت؟ قال الطيبي : إن اتصل قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ ..) إلخ بقوله (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) وما معه ، فالمشار إليه بذلك الحق ، والخطاب للفاجر. أي جاءك أيها الفاجر الحق الذي أنكرته. وإن اتصل بقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) إلخ ، فالمشار إليه الموت. والالتفات لا يفارق الوجهين. والثاني هو المناسب ، لقوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) بعده ، وتفصيله (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) [ق : ٢٤] ، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١] انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢١)

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) يعني : نفخة البعث (ذلِكَ) أي النفخ (يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي وقت تحقق الوعيد ، بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال ابن جرير : أي سائق يسوقها إلى الله ، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وهل هما ملكان ، أو ملك جامع للوصفين ، أو الأول ملك ، والثاني الإنسان نفسه يشهد على نفسه ، أو سائق من أعمالها ، إلى مكان جزائها ، وشهيد من أجزائها؟ أقوال :

١٩

وقال القاشاني : أي سائق من علمه ، وشهيد من عمله ، لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره ، وما اختاره بعلمه. والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء ، وحكمه بملاءمته له ، سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه ، وأغراه عليه وهمه وقوّاه ؛ أو أمرا علويّا روحانيّا بعثه عليه عقله ، ومحبته الروحانية ، وحرّضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه ، وشاهده بالميل الغالب عليه ، والحب الراسخ فيه.

والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه ، وينطق عليه كتابه بالحق ، وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) في المخاطب بهذا ، أقوال ثلاثة :

أحدها ـ أنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتى بهذه الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي ، تنويها بمنة الإعلام بذلك ، والتعريف به ، ثم شدة نفوذ البصر به ، والوقوف على غوامضه ، بعد خلوّ الذهن عنه رأسا. والمعنى : لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك ، فبصرك اليوم حديد ، نافذ قويّ ، ترى ما لا يرون ، وتعلم ما لا يعلمون. ومثله آية (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢].

وثانيها ـ أنه الكافر ، وأن الكلام على تقدير القول. أي : يقال له لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم من الأهوال ، فكشفنا عنك غطاءك ، بأن جلينا لك ، ذلك ، وأظهرناه لعينيك ، حتى رأيته وعاينته ، فزالت الغفلة عنك. ومثله عن الكفار آية (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] ، وآية (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢].

وثالثها ـ أنه الإنسان مطلقا ، لقوله (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ) ، والمقصود أنه كشف الغطاء عن البرّ والفاجر ، ورأى كل ما يصير إليه.

وعوّل ابن جرير في الأولوية على الثالث.

٢٠