تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الفرقان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) تَبارَكَ الَّذِي) أي : تكاثر خير الذين (نَزَّلَ الْفُرْقانَ) وتزايد ، لأن إنزال الفرقان هو إظهار العقل الفرقاني المخصوص بعبده المخصوص به بانفراده من جملة العالمين بالاستعداد الكامل الذي لم يكن لأحد مثله ، فيكون عقله الفرقاني هو العقل المحيط المسمى عقل الكل ، الجامع لكمالات جميع العقول ، وذلك إنما يكون بظهوره تعالى في مظهره المحمدي بجميع صفاته المفيض بها على جميع الخلائق على اختلاف استعداداتهم ، وذلك الظهور هو تكثر الخير وتزايده الذي لم يمكن أزيد ولا أكثر منه ، ولذلك قال : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي : على العموم ، فإن كل نبيّ غيره كانت رسالته مخصوصة بمن ناسب استعداده من الخلائق ، ورسالته عليه‌السلام عامة للكل ، وهو بعينه معنى ختم النبوّة ومن هذا تبين كون أمته خير الأمم.

[٢ ـ ٥] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥))

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقهرهما تحت ملكوته ، أوجد كل شيء موسوما ، يتعين بسمة الإمكان ، ويشهد عليه بالعدم (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) على قدر قبول بعض صفاته ومظهرية بعض كمالاته دون بعض ، أي : هيأ استعداداتهم لما شاء من كمالاتهم التي هي صفاته.

[٦ ـ ١٢] (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ

٨١

سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢))

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ) الغيب المخفي عن المحجوبين في العالمين (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً) يستر صفات النفوس الحاجبة للغيوب بأنوار صفاته (رَحِيماً) يفيض الكمالات على القلوب عند صفائها بحسب الاستعدادات. ومن غفرانه ورحمته هذا الإنزال الذي تشكّون فيه أيها المحجوبون (بَلْ كَذَّبُوا) بالقيامة الكبرى ، وذلك التكذيب إنما يكون لفرط الاحتجاب أو نقصان الاستعداد ، وكلاهما يوجب التعذيب بالعذاب لاستيلاء نيران الطبيعة الجسمانية والهيئات الهيولانية على النفوس الظلمانية بالضرورة وتأثير زبانية النفوس السماوية والأرضية فيها التي إذا قابلتهم باستعداد قبول تأثيرها وقهرها من بعيد لكونها تكون في الجهة السفلية ظهر لهم آثار قهرها وتسلط غضب تأثيرها.

[١٣ ـ ١٤] (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

(وَإِذا أُلْقُوا) من جملة أماكن نار الطبيعة الحرمانية (مَكاناً ضَيِّقاً) يحبسها في برزخ يناسب هيئاتها مقدّر بقدر استعدادها (مُقَرَّنِينَ) بسلاسل محبة السفلانيات وهوى الشهوات ، تمنعها عن الحركة في تحصيل المرادات وأغلال صور هيولانية مانعة لأطرافها وآلاتها عن مباشرة الحركات في طلب الشهوات ، ومقرّنين بما يجانسهم من الشياطين المغوية إياهم عن سبيل الرشاد والداعية لهم إلى الضلال (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) بتمني الموت والتحسر على الفوت ، لكونهم من الشدة فيما يتمنى فيه الموت.

[١٥ ـ ٢١] (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١))

٨٢

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ) عالم القدس الموعودة للمجرّدين عن ملابس الأبدان وصفات النفوس (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من اللذات الروحانية أبدا سرمدا (وَما يَعْبُدُونَ) عامّ لكل معبود سوى الله ، والقول إنما يكون بلسان الحال لأن كل شيء سوى الإنسان المحجوب شاهد بوجوده ووجده بالله تعالى ووحدانيته ، مسبّح له بإظهار خاصيته وكماله ، مطيع له فيما أراد الله من أفعاله ، وذلك معنى قوله : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) فحالهم ناطقة بنفي الضلال عن نفسهم في إثبات الضلال للواقفين معهم ، المحجوبين بهم بسبب الانهماك في اللذّات الحسيّة والاشتغال بالطيبات الدنيوية الموجبة للغفلة ونسيان الذكر والبور الهلكى.

[٢٢ ـ ٢٤] (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) لأن ذلك اليوم هو وقت وقوع القيامة الصغرى وإخراب البدن الذي به تؤثر فيهم الروحانيات السماوية والأرضية بالقهر والتعذيب وإلزام الهيئات البرزخية المنافية لطباع أرواحهم في الأصل ، وإن كانت مناسبة لها في الحال (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يتمنون أن يدفع الله عنهم ذلك ويمنعه. وإنما جعلت أعمالهم هباء لكونها غير مبنية على عقائد صحيحة. والأصل في العمل الإيمان اللازم لسلامة الفطرة وإذا لم يكن كان كل حسنة سيئة لمقارنتها النية الفاسدة والتوجه بها لغير وجه الله.

[٢٥] (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥))

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) سماء الروح الحيواني بغمام الروح الإنساني بانفتاحها عنه ، ولهذا قيل في التفاسير : إنه غمام أبيض دقيق. وإنما شبّه بالغمام لاكتسابه الهيئة الجسدانية والصورة اللطيفة النفسانية من البدن واحتجابه بها وكونه منشأ العلم كالغمام للماء ، وفي تلك الصورة الثواب والعقاب قبل البعث الجسداني (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) باتصالها به إما للثواب وإما للعقاب لأنها إما مظاهر اللطف وأما مظاهر القهر.

[٢٦ ـ ٣٣] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

٨٣

فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣))

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : الثابت الذي لا يتغير (لِلرَّحْمنِ) الموصوف بجميع صفات اللطف والقهر ، المفيض على كل ما يستحق لزوال كل ملك باطل ولا قدرة حينئذ لأحد على إنجاء المعذبين منه ولا يمكنهم الالتجاء بغيره لبطلان التعلقات والإضافات وظهور ملك الرحمن على الإطلاق. أو يوم تشقق سماء القلب بغمام نور السكينة وتنزّل ملائكة القوى الروحانية بالأمداد الإلهية والأنوار الصفاتية في القيامة الوسطى تكون تلك السلطنة على القلب للرحمن المستوي على عرشه ، المتجلي له بجميع صفاته (وَ) على كلا التقديرين (كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أما على الأول فلتعذبهم عند خراب البدن بالهيئات المظلمة وقهر القوى السماوية ، وأما على الثاني فلظهور تعذّبهم في شهود صاحب هذه القيامة واطلاعه ، ولم يوجد موجودا مستقلا في التأثير فيناسبه ولم يكن قاهر غيره فيشاركه على حالهم أو للبناء على تأويلهم بالقوى النفسانية المقهورة هناك ، المعذبة بالرياضة ، والله أعلم.

تثبيت فؤاده عليه‌السلام بالقرآن هو أنه لما ردّ في مقام البقاء بعد الفناء إلى حجاب القلب لهداية الخلق كان قد يظهر نفسه وقتا غبّ وقت على قلبه بصفاتها ، ويحدث له التلوين بسببها كما ذكر في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ، وفي قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) (٢) فكان يتداركه الله تعالى بإنزال الوحي والجذبة ويؤدّبه ويعاتبه فيرجع إليه في كل حال ويتوب ، كماقال عليه‌السلام : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة حتى يتمكن ويستقيم». وكان سبب ظهور ابتلاء الله تعالى إياه بالدعوة لإيذاء الناس إياه وعداوتهم ومناصبتهم له ، والحكمة في الابتلاء أمران ، أحدهما : راجع إليه ، وهو أن يظهر نفسه بجميع صفاتها في مقابلة استيلاء الأعداء المختلفين في النفوس وصفاتها واستعداداتها ومراتبها فيؤدّبه الله بحكمة وجود كل صفة وفضيلة كل قوة ، فيحصل له جميع مكارم الأخلاق وكمالات جميع الأنبياء كماقال عليه‌السلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وأوتيت جوامع الكلم». فإن ظهوره بكل صفة هو ظرف قبوله لفضيلتها وحكمتها ، إذ لو لا الجهات المختلفة في القلب بواسطة صفات النفس لما استعدّ لقبول الحكم المتفننة والفضائل بتخصص توجهه لكل واحدة منها. والثاني : راجع إلى الأمّة ، فإنه رسول إلى الكل واستعداداتهم متباينة ، ونفوسهم في الصفات متفاوتة. فيجب أن يكون فيه جوامع الحكم والكلم والفضائل والأخلاق ليهدي

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة عبس ، الآية : ١.

٨٤

كلّا منهم بما يناسبه من الحكمة ، ويزكيه بما يليق به من الخلق ، ويعلّمه ما ينتفع به من العلم على حسب استعداداتهموصفاتهم وإلا لم يمكنه دعاء الكل. فعلى هذا كون التنزيل مفرّقا منجما إنما يكون بحسب اختلاف صفات نفسه في الظهور منها على أوقاته موجبا لتثبت قلبه في الاستقامة في السلوك إلى الله ، وفي الله عند الاتصاف بصفاته ، ومن الله في هداية الخلق ، وتلك هي الاستقامة التامة المطلقة. فليقتدي به السالكون والواصلون والكاملون المكملون في سلوكهم وكونهم مع الحق وتكميلهم.

والترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر مدة يمكن فيها تزايله في قلبه ويترسخ ويصير ملكة لا حالا ومن هذا تبين معنى قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي : صفة عجيبة (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الذي يقمع باطل تلك الصفة كما قال : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (١) وهو الفضيلة المقابلة لتلك الرذيلة (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي : كشفا بإظهار صفة إلهية تجلي بها لك تقوم مقامها فتكشفها ، وبالحقيقة تلك الصفة الإلهية الكاشفة إياها هي تفسير الصفة الباطلة ومعاناتها فإن كل صفة نفسانية ظلّ ظلماني لصفة إلهية نورانية تنزّلت في مراتب التنزلات واحتجبت وتضاءلت وتكدّرت كالشهوة للمحبة والغضب للقهر وأمثالها.

[٣٤ ـ ٤٢] (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢))

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) لشدة ميل نفوسهم إلى الجهة السفلية فتنكست فطرتهم فبعثوا على صور وجوهها إلى الأرض يسحبون إلى نار الطبع (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) من أن يقبلوا الحق الدامغ لباطل صفاتهم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) من أن يهتدوا إلى صفات الله تعالى التي هي تفسير صفاتهم وكشفها.

[٤٣ ـ ٤٤] (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٨.

٨٥

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) كل محجوب بشيء واقف معه ، فهو محبّ له ، مجانس لذلك الشيء ، فهو في الحقيقة عابد لهواه بعبادته لذلك المحبوب ، والباعث لهواه على محبة غير الله هو الشيطان ، فمحبّ كل شيء غير الله لا لله وبغير محبة الله عابد له ولهواه وللشيطان متعدد المعبود متفرق الوجهة.

أبعد ذلك (تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) بدعوته إلى التوحيد وقد كان في غاية البعد محجوبا بظلّ من ظلاله.

[٤٥ ـ ٤٦] (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦))

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) بالوجود الإضافي. اعلم أن ماهيات الأشياء وحقائق الأعيان هي ظل الحق وصفة عالمية الوجود المطلق ، فمدها إظهارها باسمه النور الذي هو الوجود الظاهر الخارجي الذي يظهر به كل شيء ويبرز كتم العدم إلى فضاء الوجود أي الإضافي (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي : ثابتا في العدم الذي هو خزانة وجوده ، أي : أمّ الكتاب واللوح المحفوظ الثابت وجود كل شيء فيهما في الباطن وحقيقته لا العدم الصرف بمعنى اللاشيء فإنه لا يقبل الوجود أصلا ، وما ليس له وجود في الباطن وخزانة علم الحق وغيبه لم يمكن وجوده أصلا في الظاهر ، والإيجاد والإعدام ليس إلا إظهار ما هو ثابت في الغيب وإخفاؤه فحسب وهو الظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (ثُمَّ جَعَلْنَا) شمس العقل (عَلَيْهِ) أي : الظل (دَلِيلاً) يهدي إلى أن حقيقته غير وجوده وإلا فلا مغايرة بينهما في الخارج فلا يوجد إلا الوجود فحسب ، إذ لو لم يمكن وجوده لما كان شيئا فلا يدلّ على كونه شيئا غير الوجود إلا العقل (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) بإفنائه (قَبْضاً يَسِيراً) لأن كل ما يفنى من الموجودات في كل وقت فهو يسير بالقياس إلى ما سبق ، وسيظهر كل مقبوض عما قليل في مظهر آخر. والقبض دليل على أن الإفناء ليس إعداما محضا بل هو منع عن الانتشار في قبضته التي هي العقل الحافظ لصورته وحقيقته أزلا وأبدا.

[٤٧] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ليل ظلمة النفس (لِباساً) يغشاكم بالاستيلاء عن مشاهدة الحق وصفاته والذات وظلالها فتحتجبون يوم الغفلة في الحياة الدنيا (سُباتاً) تسبتون بها عن الحياة الحقيقية السرمدية كماقال عليه‌السلام : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». (وَجَعَلَ) نهار نور الروح (نُشُوراً) تحيا قلوبكم به فتنتشرون في فضاء القدس بعد نوم الحسّ.

[٤٨ ـ ٤٩] (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))

٨٦

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) رياح النفحات الربانية ناشرة محيية أو مبشرة بين يدي رحمة الكمال بتجلي الصفات (وَأَنْزَلْنا) من سماء الروح ماء العلم (طَهُوراً) مطهرا يطهركم عن لوث الرذائل ورجس الطبائع والعقائد الفاسدة والجهالات المفسدة (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي : قلبا ميتا بالجهل (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) من القوى النفسانية بالعلوم النافعة العملية (وَأَناسِيَ) من القوى الروحانية (كَثِيراً) بالعلوم النظرية.

[٥٠] (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) هذا العلم المنزّل على صور وأمثال مختلفة (لِيَذَّكَّرُوا) حقائقهم وأوطانهم الحقيقية وما نسوا من العهد والوصل وطيب الأصل (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) لنعمة الهداية الحقانية ، وغمطا للرحمة الرحيمية للاحتجاب بصور الرحمة في ستور الجلال من الغواشي الهيولانية.

[٥١] (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١))

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي : فرقنا كمالك المطلق الذي تدعو به جميع الخلق إلى الحق على أشخاص ووزعناه بحسب أصناف الناس على اختلاف استعداداتهم على الأنبياء ، كما قال : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١) ، فبعثنا في كل صنف نبيّا يناسبهم كما كان قبل بعثه محمد من اختصاص موسى ببني إسرائيل واختصاص شعيب بأهل مدين وأصحاب الأيكة وغير ذلك. وخففنا عنك الجهاد ، إذ الجهاد إنما يكون بحسب الكمال وكلما كان الكمال أعظم كان الجهاد أكبر لأن الله تعالى يربّ كل طائفة باسم من أسمائه فإذا كان الكامل مظهر جميع صفاته متحققا بجميع أسمائه وجب عليه الجهاد مع جميع طوائف الأمم بجميع الصفات ، ولكن ما فعلنا ذلك لعظم قدرك وكونك الكامل المطلق ، والقطب الأعظم ، والخاتم على ما ذكر في تأويل قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (٢).

[٥٢] (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢))

(فَلا تُطِعِ) المحجوبين بموافقتهم في الوقوف مع بعض الحجب ونقصان بعض الصفات (وَجاهِدْهُمْ) لكونك مبعوثا إلى الكل (جِهاداً كَبِيراً) هو أكبر الجهادات كماقال : «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ، أي : ما كمل نبيّ مثل كمالي.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٧.

(٢) سورة الفرقان ، الآية : ٣٢.

٨٧

[٥٣ ـ ٥٧] (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧))

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : خلط بحر الجسم والروح في الإيجاد (هذا) الذي هو بحر الروح (عَذْبٌ فُراتٌ) أي : صاف لذيذ ، وهذا الذي هو بحر الجسم (مِلْحٌ أُجاجٌ) أي : متغير متكدّر غير لذيذ (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) هو النفس الحيوانية الحائلة بينهما من الامتزاج وتكدر الروح بالجسم وتكثفه وتنور الجسم بالروح وتجرّده (وَحِجْراً مَحْجُوراً) عياذا يتعوّذ به كل منهما من بغي الآخر ومانعا يمنع ذلك.

[٥٨ ـ ٥٩] (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩))

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي : شاهد موت الكل وعدم حراكهم بذواتهم ، كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) فإنهم لا يتحركون إلا بدواع أوجدها الله تعالى فيهم بفناء أفعالك وأفعال الكل في أفعال الحق ورفع حجبها عن أفعاله إذ مقام التوكل هو الفناء في الأفعال.

وبيّن بقوله : (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) إن منشأ التوكل شهود صفة حياته التي بها يحيا كل حيّ لأن من يموت لا يكون حيّا بالذات وبالترقي عن مقام فناء الأفعال إلى الفناء في صفة الحياة يصح مقام التوكل كما قالت المتصوفة : لا يمكن تصحيح كل مقام إلا بالترقي إلى المقام الذي فوقه ، وإذا كان كل حيّ يموت إنما يحيا بحي الذات الذي حياته عين ذاته فبه يتحرك ، فلا تبال بأفعالهم فإنهم لو اجتمعوا بأسرهم على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلا بما كتب الله عليك ، على ما ورد في الحديث.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) ونزهه بتجرّدك عن صفاتك ومحوها في صفاته عن أن تكون لغيره صفة مستقلّة تكون مصدرا لفعله ملتبسا بحمده ، أي : متّصفا بصفاته ، فإن الحمد الحقيقي هو الاتصاف بصفاته الكمالية التي هو بها حميد وذلك هو تصحيح مقام التوكل وتحقيقه بنفي الصفات التي هي مبادئ الأفعال من الغير ، وإذا تجرّدت عن صفاتك بالاتصاف بصفاته

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.

٨٨

شاهدت إحاطة علمه بالكل ، فاكتفيت به عن سؤاله في دفع جناياتهم عنك وجزاء إيذائهم لك ، وشاهدت قدرته على مجازاتهم ، كما قال إبراهيم عليه‌السلام : «حسبي من سؤالي علمه بحالي». وذلك معنى قوله : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراًالَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : احتجب بسماوات الأرواح وأرض الأجسام (وَما بَيْنَهُما) من القوى في الأيام الستة التي هي الآلاف الستة من ابتداء زمان آدم إلى محمد عليهما‌السلام ، لأن الخلق ليس إلا احتجاب الحق بالأشياء والأيام هي أيام الآخرة لا أيام الدنيا ، إذ لم تكن الدنيا ثمة ولا الشمس والنهار (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى) عرش القلب المحمدي في السابع الذي هو يوم الجمعة ، أي : يوم اجتماع جميع الأوصاف والأسماء فيه ، وذلك هو معنى الاستواء في الاستقامة بالظهور التامّ والفيض العام الذي هو الرحمة الرحمانية ولهذا جعل فاعل الاستواء اسم الرحمن دون اسم آخر إذ لا يكون الاستواء بمعنى الظهور التام إلا به ، ويمكن أن تؤوّل الأيام بالشهور الستة التي يتمّ فيها خلق سموات أرواح الجنين وأرض جسده وما بينهما من القوى والاستواء بالظهور التام على عرش قلبه الذي كان على ماء النطفة قبل خلقه ما خلق في الشهر السابع الذي أنشأه فيه خلقا آخر بحصوله إنسانا ، والرحمانية بعموم فيضه المعنويّ والصوريّ من قلبه إلى جميع أجزاء وجوده (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) اسأل عارفا به يخبرك بحاله واسأله في حالة كونه عالما بكل شيء.

[٦٠] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا) أي : إذا أمرتهم بالفناء في جميع صفاته وطاعته بها أنكروا ولم يمتثلوا أمرك لقصور استعدادهم عن قبول هذا الفيض وعدم معرفتهم لهذا الاسم لعدم احتظائهم من جميع الصفات أو وجود احتجابهم عنها.

[٦١ ـ ٦٣] (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣))

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي) سماء النفس بروج الحواس (وَجَعَلَ فِيها) سراج شمس الروح وقمر القلب (مُنِيراً) بنور الروح (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ) ليل ظلمة النفس ، ونهار نور القلب يعتقبان (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) في نهار نور القلب العهد المنسي وينظر في المعاني والمعارف ويعتبر (أَوْ أَرادَ) في ليل ظلمة النفس (شُكُوراً) بأعمال الطاعات واكتساب الأخلاق والملكات (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) أي : المخصوصون بقبول فيض هذا الاسم لسعة الاستعداد

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٧.

٨٩

(الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي : الذين اطمأنت نفوسهم بنور السكينة وامتنعت عن الطيش بمقتضى الطبيعة فهم هينون في الحركات البدنية لتمرّن أعضائهم بهيئة الطمأنينة (وَإِذا خاطَبَهُمُ) أهل السفاهة يسلمون مقالهم ولا يعارضونهم لامتلائهم بالرحمة وبعد حالهم عن ظهور النفس بالسفاهة وكبر نفوسهم بالتقوّي بنور القلب عن أن تتأثر بالإيذاء وتضطرب.

[٦٤ ـ ٦٩] (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨))

(يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) أي : الذين هم في مقام النفس ميتون بالإرادة (سُجَّداً) فانين بالرياضة قائمين بصفات القلب أحياء بحياته لله قائلين بلسان الحال الذي لا تتخلف عن دعائه الإجابة (رَبَّنَا اصْرِفْ) ولما وصفهم بالتزكية التامة والفناء عن جميع صفات النفس من الرذائل المذيقة المورطة في عذاب جهنم الطبيعة ومستقرّ السوء والعاقبة الوخيمة عقب وصفهم بالتحلية التامة من الاتصاف بجميع أجناس الفضائل الأربع ، وذلك هو حياتهم بالقلب بعد موتهم عن النفس ، كما قيل : مت بالإرادة تحيا بالطبيعة ، فالقوام بين الإسراف والإقتار في الإنفاق هو العدل والتوحيد المشار إليه بقوله : (لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) هو أساس فضيلة الحكمة الذي إذا حصل وقع ظله الذي هو العدل في النفس فاتصفت بجميع أنواع الفضائل ، والامتناع عن قتل النفس المحرّمة إشارة إلى فضيلة الشجاعة ، والامتناع عن الزنا فضيلة العفّة. ثم ذكر من في مقابلتهم من المحجوبين من فيض الرحمة الرحيمية التي في ضمن الرحمانية الذين لا يستعدون لقبول عموم فيضه فلا يختصون به وإن كانوا لا يخلون من فيضه الظاهر الشامل للكل فقال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي : يرتكب جميع أجناس الرذائل حتى الشرك بالله (يَلْقَ) جزاء الإثم الكبير المطلق ، وهو مضاعفة العذاب الروحاني والجسماني بالاحتجاب الكلي وهيئات الهيكل السفلي (يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى والخلود فيه على غاية الهوان.

[٧٠ ـ ٧٦] (إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً

٩٠

وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))

(إِلَّا مَنْ تابَ) رجع إلى الله وتنصل عن المعاصي فبدّل الشرك بالإيمان واستبدل الرذائل بالفضائل (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) بمحو الهيئات عن نفوسهم وإثبات هذه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر صفات نفوسهم بنوره (رَحِيماً) يفيض عليهم الكمالات بجوده ، وهذه هي التوبة الحقيقية. ثم بيّن بعد ذكر التوبة الحقيقية حال أهل السلوك فقال : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي : لا يحضرون أهل الزور المشتغلين بمتاع الغرور ، فإن أهل الدنيا أهل الزور يحسبون الفاني باقيا والقبيح حسنا ويعدّون المعدوم موجودا ، والشرّ خيرا ، فهم الكذّابون المبطلون ، الخاطئون ، أي : يعتزلونهم بملازمة الخلوات وإيثار الطاعات وإقام الصلاة.

(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي : الفضول غير الضرورية تركوها وأعرضوا عنها (مَرُّوا) بها مكرمين أنفسهم عن مباشرتها ، قانعين بالحقوق عن الحظوظ وهم الزاهدون بالحقيقة ، التاركون المجرّدون. ثم لما بيّن الزهد الحقيقي والتجريد قرن به العبادة الحقيقية والتحقيق بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : كوشفوا المعارف والحقائق وتجليات الصفات والمشاهدات (لَمْ يَخِرُّوا) على العلم بتلك الآيات من المعارف والحقائق (صُمًّا) بل تلقوها بآذان واعية هي آذان القلوب لا النفوس ، وعلى مشاهدتها (وَ) تجليها (عُمْياناً) بل أحدقوا نحوها ببصائر جديدة مكحلة بنور الهداية. ثم وصف طلبهم للترقي عن مقام القلب إلى مرتبة السابقين والاستعانة بالله عن تلوين النفس وصفاتها لينخرطوا في سلك المقرّبين بقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ) أزواج نفوسنا وذريّات قوانا ما تقرّ به أعيننا من طاعاتهم وانقيادهم خاضعين ، وتنوّرهم بنور القلب مخبتين غير طالبين للاستعلاء والترفع والاستكبار والتجبر (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ) أي : المجرّدين (إِماماً) بالوصول إلى مقام السابقين (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ) غرفة الفردوس وجنة الروح بصبرهم مع الله وفي الله عن غيره (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً) خلود حياة (وَسَلاماً) سلامة وبراءة عن الآفات ، أي : يحييهم الله بإبقائهم سرمدا ببقائه ويسلمهم بإيتائهم كماله كما قيل : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (١) ، وقال : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢).

[٧٧] (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

(ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي : لو لم يكن طلبكم لله وإرادتكم لكنتم شيئا غير ملتفت إليه ولا معبوء به كالحشرات والهوام ، فإن الإنسان إنما يكون إنسانا وشيئا معتدّا به إذا كان من أصحاب الإرادة والطلب ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٤.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٢٣.

٩١

سورة الشعراء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)) (ط) إشارة إلى الطاهر و (س) إلى السلام و (م) إلى المحيط بالأشياء بالعلم. و (الْكِتابِ الْمُبِينِ) الذي هذه الأسماء والصفات آياته هو الموجود المحمدي الكامل ذو البيان والحكمة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : وفيك الكتاب المبين الذي* بأحرفه يظهر المضمرفيكون معناه على ما ذكر في (طه) : إنه عليه‌السلام لما رأى عدم اهتدائهم بنوره وقبولهم لدعوته استشعر أنه من جهته لا من جهتهم ، فزاد في الرياضة والمجاهدة والفناء في المشاهدة ، فأوحى إليه بأن هذه الصفات التي هي الطهارة من لوث البقية المانع من التأثير في النفوس وسلامة الاستعداد عن النقص في الأمثل ، والكمال الشامل لجميع المراتب بالعلم هي صفات كتاب ذاتك ، المبين لكل كمال ومرتبة باتصافها بجميع الصفات الإلهية واشتمالها على معاني جميع أسمائه ، فلا تبخع نفسك ، أي : لا تهلكها على آثارهم بشدّة الرياضة لعدم إيمانهم وامتناعه ، فإنه من جهتهم إما لوجود المانع بشدّة الحجاب وأما لعدم الاستعداد ، فمعنى لعل في لعلك باخع : الإشفاق ، أي : أشفق على نفسك أن تهلكها بالرياضة لعدم إيمانهم وفواته (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ) من العالم العلوي بتأييدنا لك قهرا فتخضع أعناقهم له ، منقادين ، مسلمين ، مستسلمين ظاهرا ، وإن لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما كان يوم الفتح أي : امتنع إيمانهم لأنه أمر قلبي سيظهر إسلامهم بالقهر والإلجاء والاضطرار.

[١٠ ـ ٢٢] (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا

٩٢

رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) القلب المهذب بالحكمة العملية ، المدرب بالعلوم العقلية ، المشوّق بذكر الأنوار القدسية والكمالات الإنسية ، ووصف المفارقات والمجردات إلى الحضرة الإلهية الغالب على القوّة الشهوانية بالسعي في طلب الأرزاق الروحانية من المعارف اليقينية والمعاني الحقيقية بعد قتل جبار الشهوة الذي كان يجبر لفرعون النفس الأمّارة وفراره من استيلائها إلى مدين مدينة العلم من الأفق الروحاني ووصوله إلى خدمة شعيب الروح في مقام السرّ الذي هو محل المكالمة والمناجاة بالسير العقلي بطريق الحكمة ، واكتساب الأخلاق بالتعديل قبل السلوك في الله بطريق التوحيد والرياضة بالترك والتجريد مع بقاء النفس المتقوية بالعلم والمعرفة ، المتزينةبالفضيلة والمتبجحة بزينتها وكمالها ، الطاغية بظهورها على أشرف أحوالها ، المنازعة ربّها صفة العظمة والكبرياء ، المعجبة بالبهجة والبهاء لاحتجابها بأنانيتها وانتحالها كمال الحق برؤيته لها ، فكانت شرّ الناس كماقال عليه الصلاة والسلام : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» ، ولو ماتت ثم قامت القيامة عليها لكانت خير الناس.

(أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) من القوى النفسانية الفرعونية العانية لفرعون النفس الأمّارة ، المتخذة لها ربّا ، الواضعة كمال الحق موضع كمالها وهو أفحش الظلم (أَلا يَتَّقُونَ) قهري وبأسي بتدميرهم وإفنائهم (أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) في دعوتي إلى التوحيد ولم يطيعوني في الرياضة والترك والتجريد (وَيَضِيقُ صَدْرِي) لعدم اقتداري على قهرهم وعلمي بامتناعهم عن قبول الأوامر الشرعية والأسرار الوحيية وما يكون خارجا عن طور الفكر والعقل لتدربهم بذلك وتفرعنهم باستبدادهم (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) معهم في هذه المعاني لكونها على خلاف ما تعوّدوا به ونشؤا عليه من الحكم العملية الداعية إلى مراعاة التعديل في الأخلاق دون الفناء بالإطلاق (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) العقل ليؤدّبهم بالمعقول ويسوسهم بما يسهل قبولهم له من رعاية مصلحة الدارين واختيار سعادة المنزلين فتلين عريكتهم وتضعف شكيمتهم بمداراته ورفقه وموافقته لهم بعلمه وحلمه (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) بقتلي جبار الشهوة (فَأَخافُ) إن دعوتهم إلى التوحيد وأمرتهم بالتجريد وترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق (أَنْ يَقْتُلُونِ) بالاستيلاء والغلبة ، وهذا صورة حال من احتجبت نفسه بالحكمة ولم يتألف بعد طريق الوحدة مع قوّة استعداده وعدم وقوفه مع ما نال من كمال ، فقلما تقبل نفسه خلاف ما يعتقد وتنقاد في متابعة

٩٣

الشريعة وتقلد إلا من تداركه سبق العناية وساعده التوفيق بالجذبة و (كَلَّا) ردع له عن الخوف بالتشجيع والتأييد (فَاذْهَبا) أمر باستصحاب العقل للمناسبة والجنسية وتقرير التوحيد بطريق البرهان القامع للتفرعن والطغيان و (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) وعد بالكلاءة والحفظ وتقوية اليقين ، فإن من كان الحق معه لا يغلبه أحد (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) القوى الروحانية المستضعفة ، المستخدمة في تحصيل اللذات الجسمانية. وتربيته إياه وليدا ولبثه فيهم سنين صورة حال الطفولية والصبوية إلى أوان التجرّد وطلب الكمال الذي أشدّه ببلوغ الأربعين ، فإنّ القلب في هذا الزمان في تربية النفس والولاية لها لحكمة عادية الآلة. والفعلة هي الحركة المذمومة عند النفس من الاستيلاء على الشهوة والكفر الذي نسبه إليه هو إضاعة حق التربية (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي : لست من الكافرين لكون الصلاح في ذلك بل من الذين لا يهتدون إلى طريق الوحدة.

(فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي : حكمة متعالية عن طريق البرهان وراء طور الكسب والعقل (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إليكم بها. وأما تعبيد بني إسرائيل القوى التي هي قومي فليس بمنّة تمنها عليّ ، بل عدوان وطغيان إذ لو لم تعبدهم لما ألقتني أمي الطبيعة البدنية في يمّ الهيولى في تابوت الجسد ، ولقام بتربيتي أهلي وقومي من القوى الروحانية.

[٢٣ ـ ٦٩] (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)

٩٤

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩))

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) قيل في القصة : إن فرعون كان منطقيا مباحثا سأل بما هو عن حقيقته تعالى ، فلما أجابه موسى عليه‌السلام بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) وبيّن أنّ حقيقته لا تعرف بالحدّ لبساطتها ، غير معلومة للعقل لشدّة نوريتها ولطافتها ، بأن عرّفها بالصفة الإضافية والخاصة اللازمة ، وعرّض به في تجهيله ونفي الإيقان عنه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي : لو كنتم من أهل الإيقان لعلمتم أن لا طريق للعقل إلى معرفته إلا الاستدلال على وجوده بأفعاله الخاصة به ، وأما حقيقته فلا يعرفها إلا هو وحده وما سألتم عنه بما مما لا يصل إليه نظر العقل. استخفه ونبّه قومه على خفة عقله وكون جوابه غير مطابق للسؤال تعجبا منه لقومه وتسفيها له ، فلما ثنى قوله بمثل ما خفة عقله وكون جوابه غير مطابق للسؤال تعجبا منه لقومه وتسفيها له ، فلما ثنى قوله بمثل ما قال أولا من إيراد خاصة أخرى جننه ، فثلث بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : إن جننت فأين عقلكم حتى يعرف طوره ولم يتجاوز حدّه. وهذه المقالة إشارة إلى أن النفس المحجوبة بمعقولها لا تهتدي إلى معرفة الحق وحكمة الرسالة والشرع ، ولا تذعن للمتابعة ولا تنقاد للمطاوعة بل تظهر بالأنائية وطلب العلوم والربوبية والتغلب على الرسالة الإلهية وهو معنى قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

والشيء المبين الذي يمنعه عن الاستيلاء ويردعه عن الغلبة والاستعلاء هو النور البارق القدسي ، والبرهان النّير العرشي الذي ائتلف به القلب في الأفق الروحي المعجز للنفس والقوى الدالة على صدقه في الدعوى المفيد لقوّتيه العاقلتين النظرية والعلمية للهيئة النورية والقوة القهرية حتى صارت الأولى قوة قدسية متأيدة بالحكمة البالغة يعتمد عليها في قمع العدوّ عند المجادلة ودفع الخصم عند المغالطة. والثانية قوّة ملكية متأيدة بالقدرة الكاملة يعجز بها من غالبه في القوة وعارضه بالقدرة ، فإذا ألقى عصا القوة القدسية بالذكر القلبي صار ثعبانا ظاهر الثعبانية في الغلبة القوية ، وإذا نزع يد الملكية من جيب الصدر حيّر الناظر بالإشراق والنورية. ولما تحيرت النفس الفرعونية وقواها وعجزت وخافت أن يخرجها من أرض البدن

٩٥

ويدفع شرّ فسادها ورئاستها فيها ، ويمنع تسلطها واستيلاءها بعث الدواعي الشيطانية ، استنهضوا البواعث النفسانية إلى مدائن محال القوى الوهمية والتخيلية ، وأحضروا سحرتها لإلقاء الوساوس والهواجس بآلات المغالطات والتشكيكات وجمعوها لوقت الحضور وجمعية جميع القوى النفسانية والبدنية والروحانية في توجه السرّ إلى حضرة القدس ، فألقوا حبال التخييلات والوهميات وعصيّ الهواجس والوساوس لتوهم الغلبة بعزّة فرعون النفس الأمّارة وقوّته ، ورجاء التعظيم والمنزلة والتقريب في صدر الرياسة والسلطنة فتلقفها ثعبان القوة القدسية بقوة التوحيد وابتلع مأفوكاتها بنور التحقيق ، فانقادت سحرة الوهم والخيال والتخيل إذ فقدت آلاتها وآمنت بنور اليقين في متابعة موسى القلب وهارون العقل بربّهما ، فبقيت مقطوعة الأرجل والأيدي عن السعي في أرض البدن بأنواع الحيل والكيد والمكر وطلب المعاش وتحصيل اللذات والشهوات والتصرّف في أملاك القوى البدنية بالرياسة والسلطنة من جهة مخالفة النفس وموافقة القلب مصلوبة على جذوع النفس النباتية ، ممنوعة عن حركاتها بالرياضة والقهر والسياسة ، منقلبة إلى ربّهم في متابعة القلب ومشايعة السرّ عند التوجه إلى الحق ، مغفورة خطاياهم من التزويرات والمفتريات بنور القدس.

وأوحى إلى موسى القلب إسراء القوى الروحانية في ليل هدوء الحواس وسكون القوى النفسانية إلى الحضرة الوحدانية والعبور من بحر المادة الهيولانية. فلما أتبعهم فرعون النفس في التلوينات حاشرا جنوده من مدائن طبائع الأعضاء ، حاذرا من ذهاب رئاسته وملكه ، ممتلئا من غيظ تسلّط القلب واتباعه واستيلائه على مملكته وأعوانه ، فكادوا أن يظفروا بهم ، ضرب موسى القلب بأمر الحق عند تقابلهما وتعارضهما بعصا القوة القدسية البحر الهيولاني فانفلق إلى الحقوق والحظوظ ونجا موسى وقومه بطريق التجريد وأخرج أعداءهم بالمنع عن الحظوظ والإجبار على الحقوق من جنات اللذات النفسانية وعيون أذواقها وأهوائها وكنوز مدّخراتها وأسبابها ومقام الركون إلى مشتهياتها إلى أن خرج موسى وأهله من البحر بالمفارقة وغرق فرعون النفس وقومه أجمعون.

[٧٠ ـ ٢٠٩] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥)

٩٦

وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ

٩٧

أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

(ما تَعْبُدُونَ) كل من عكف على شيء يهواه ويحبّه ويتولاه فهو عابد له ، محجوب به عن ربّه ، موقوف معه عن كماله ، وذلك عدوّ الموحد ، إذ الغير لا يوجد عنده إلا في التوهم. فالباعث على عبادته الشيطان والغالب على عابده الظلم والعدوان ، ولا يضرّ غير الحق في شهوده ولا ينفع ولا يبصر بنفسه ولا يسمع لأنه يشهد الحق قائما على كل نفس بما تفعل وأيدي الأفعال كلها في حضرة أسمائه منه تصدر ، كما قال عليه‌السلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) إلى آخره ، فهو الخالق والهادي والمطعم والساقي والممرض والشافي والمميت والمحيي ، ويقرّر هذا المعنى قوله : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣)) (١) إلى قوله : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١)) (٢). ولما كان هذا المقام مقام الفناء وذنبه لا يكون إلا بوجود البقية ، خاف ذنب حاله ، ورجا

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) سورة الشعراء ، الآيات : ١٠٠ ـ ١٠١.

٩٨

غفرانه منه بنور ذاته فقال : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي : القيامة الكبرى ولا يجازيني من ظهور البقية بالحرمان ، ثم سأل الاستقامة في التحقق به في مقام البقاء بقوله : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : حكمة وحكما بالحق لأكون من الذين جعلتهم سببا لصلاح العالم وكمال الخلق واجعلني محبوبا لك فيحبني بحبك خلقك أبدا فيحصل لي (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) إذ لا بد لمن يحب شيئا من كثرة ذكره بالخير ذكر اللازم مكان الملزوم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي : إلا حال من أتى الله وسلامة القلب بأمرين : براءته عن نقص الاستعداد في الفطرة ، ونزاهته عن حجب صفات النفس في النشأة.

يمكن أن يؤوّل كل نبيّ مذكور فيها بالروح أو القلب وتكذيب قومه المرسلين بامتناع القوى النفسانية عن قبول التأدّب بآداب الروحانيين والتخلق بأخلاق الكاملين. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلا تَتَّقُونَ) معناه : تجتنبون الرذائل (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أؤدي إليكم ما تلقفت من الحق من الحكم والمعاني اليقينية غير مخلوطة بالوهميات والتخيلات (فَاتَّقُوا اللهَ) في التجريد والتزكية (وَأَطِيعُونِ) في التنوّر والتحلية (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) مما عندكم من اللذات والمدركات الجزئية فإني غنيّ عنها (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) بإلقاء المعاني والحكم الكلية وإشراق الأنوار اللذيذة القدسية.

[٢١٠ ـ ٢١٢] (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) لأن تنزّلهم لا يكون إلا عند استعداد قبول النفوس لنزولها بالمناسبة في الخبث والكيد والمكر والغدر والخيانة وسائر الرذائل ، فإنّ مدركات الشياطين من قبيل الوهميات والخياليات ، فمن تجرّد عن صفات النفس وترقى عن أفق الوهم إلى جناب القدس ، وتنوّرت نفسه بالأنوار الروحية ومصابيح الشهب السبوحية ، وأشرق عقله بالاتصال بالعقل الفعال ، وتلقى المعارف والحقائق في العالم الأعلى ما ينبغي ولا يمكن للشياطين أن يتنزّلوا عليه ولا أن يتلفقوا المعارف والحقائق والمعاني الكلية والشرائع ، فإنهم معزولون عن جناب سماء الروح واستماع كلام الملكوت الأعلى ، مرجومون بشهب الأنوار القدسية والبراهين العقلية ، لأن طور الوهم لا يترقى عن أفق القلب ومقام الصدر ولا يتجاوز إلى السرّ ، فكيف إلى حدّ من هو (بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) (١)؟.

[٢١٣] (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٧ ـ ٨.

٩٩

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي : لا تلتفت إلى وجود الغير بظهور النفس ولا تحتجب في الدعوة بالكثرة عن الوحدة (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) بإلقاء الشياطين وإن امتنع تنزّلهم بالموافقة والمراقبة كقوله : (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ، فإنه لا يأمن في الإنذار والنزول إلى مبالغ عقول المنذرين ونفوسهم إلقاءهم وإن أمن تنزّلهم ومصاحبتهم وإغواءهم عند التلقي.

[٢١٤] (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤))

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) من الذين يقارب استعدادهم استعدادك ويناسب حالهم بحسب الفطرة حالك ، إذ القبول لا يكون إلا بجنسية ما في النفس وقرب في الروح.

[٢١٥ ـ ٢١٧] (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧))

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) بالنزول إلى مرتبة من (اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لتخاطبه بلسانه ليفهم ، وترقيه عن مقامه فيصعد ، وإلا لم يمكنهم متابعتك (فَإِنْ عَصَوْكَ) لاستحكام الرين وتكاثف الحجاب فتبرأ عن حولهم وقوّتهم وحولك وقوّتك بالتوكل والفناء في أفعاله تعالى فإنهم وإياك لا يقتدرون على ما لم يشأ الله ولا يكون إلا ما يريد وشاهد في توكلك وفنائك عن أفعالك مصادر أفعاله من العزّة التي يقهر بها من يشاء من العصاة فيحجبهم ويمنعهم من الإيمان والرحمة التي يرحم بها ويفيض النور على من يشاء من أهل الهداية فإنه يحجب المحجوبين بقهره وجلاله ويهدي المهتدين بلطفه وجماله ، وليس لك من الأمر شيء (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢).

[٢١٨ ـ ٢٢٠] (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

(الَّذِي يَراكَ) ويحضرك ويحفظك (حِينَ تَقُومُ) في النشأة في القيامة الصغرى والفطرة في الوسطى بالوحدة حين الاستقامة في الكبرى (وَتَقَلُّبَكَ) انقلابك وانتقالك في أطوار الفانين في أفعاله تعالى وصفاته وذاته بالنفس والقلب والروح في زمرتهم وقبل النشأة الأولى في أصلاب آبائك الأنبياء الفانين في الله عنها. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله (الْعَلِيمُ) لما تعلمه فيعلم أنه ليس من كلام الشياطين وإلقائهم.

[٢٢١ ـ ٢٢٧] (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٥٢.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

١٠٠