تفسير ابن عربي - ج ١

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ١

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفاته ، وطوالع صفاته مطالع نور ذاته ، صفى مشارع مسامع قلوب أصفيائه لتحقق السماع ، وروّق موارد مشاعر فهوم أوليائه لتيقن الاطلاع ، ولطف أسرارهم بإشراق أشعة المحبة في أرجائها ، وشوّق أرواحهم إلى شهود جمال وجهه بفنائها ، ثم ألقى إليهم الكلام فاستروحوا إليه بكرة وعشيا ، وقرّبهم بذلك منه حتى خلصوا لديه نجيا ، فزكّى بظاهره نفوسهم فإذا هو ماء ثجاج ، وروى بباطنه قلوبهم فإذا هو بحر موّاج ، فلما أرادوا الغوص ليستخرجوا درر أسراره طغى الماء عليهم فغرقوا في تياره ، لكن أودية الفهوم سالت من فيضه بقدرها ، وجداول العقول فاضت من رشحه بنهرها ، فأبرزت الأوادي على السواحل جواهر ثاقبة ودررا ، وأنبتت الجداول على الشواطئ زواهر ناضرة وثمرا ، فأخذت القلوب عند مفيض مدّها واقفة على حدّها ، تملأ الحجور والأردان ، عاجزة عن عدّها ، وطفقت النفوس في اجتناء الثمار والأنوار ، شاكرة بوجدها ، قاضية بها الأوطار.

وأما الأسرار ، فإذا قرع سمعها قوارع الآيات تطلعت ، فاطلعت منها على طلائع الصفات ، فتحيرت في حسنها إذ رأتها ، وطاشت ودهشت عند تجلياتها وتلاشت حتى إذا بلغ الروح منها التراقي طلع من ورائها جمال طلعة وجهه الباقي ، وحكم الشهود عليها بنفي الوجود ، وألزمها الإقرار.

فسبحان من لا إله إلا هو الواحد القهار ، سبحان من يتجلى في كلامه بحلل صفات جلاله وجماله على عباده في صورة بهاء ذاته وكماله ، والصلاة على الشجرة المباركة التي أنطقها بهذا الكلام وجعلها مورده ومصدره منها ، ولها ، وإليها ، وعليها‌السلام وعلى آله الذين هم مخزن علمه وكتابه العزيز ، وأصحابه الذين أصبح الدين بهم في حرز حريز.

(وبعد) ، فإني طالما تعهدت تلاوة القرآن وتدبرت معانيه بقوّة الإيمان وكنت مع المواظبة على الأوراد حرج الصدر قلق الفؤاد ، لا ينشرح بها قلبي ولا يصرفني عنها ربي ، حتى استأنست بها فألفتها وذقت حلاوة كأسها وشربتها ، فإذا أنا بها نشيط النفس ، فلج الصدر ، متسع البال ، منبسط القلب ، فسيح السرّ ، طيب الوقت والحال ، مسرور الروح بذلك الفتوح كأنه دائما في غبوق وصبوح ، تنكشف لي تحت كل آية من المعاني ما يكلّ بوصفه لساني ، لا القدرة تفي بضبطها وإحصائها ، ولا القوة تصبر عن نشرها وإفشائها ، فتذكرت خبر من أتى ما

٥

ازدهاني مما وراء المقاصد والأماني ، قول النبيّ الأميّ الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق : «ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ، ولكل حدّ مطلع». وفهمت منه أنّ الظهر هو التفسير ، والبطن هو التأويل ، والحدّ ما يتناهي إليه الفهوم من معنى الكلام ، والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام.

وقد نقل عن الإمام المحق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام أنه قال : «لقد تجلى الله لعباده في كلامه ، ولكن لا تبصرون». وروي عنه عليه‌السلام أنه خرّ مغشيا عليه وهو في الصلاة ، فسئل عن ذلك ، فقال : «ما زلت أردّد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها».

(فرأيت) أن أعلق ببعض ما يسنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون وأنوار شوارق المطلعات دون ما يتعلق بالظواهر والحدود ، فإنه قد عين لها حدّ محدود. وقيل من فسر برأيه فقد كفر. وأما التأويل فلا يبقي ولا يذر ، فإنه يختلف بحسب أحوال المستمع وأوقاته في مراتب سلوكه وتفاوت درجاته. وكلما ترقى عن مقامه انفتح له باب فهم جديد واطلع به على لطيف معنى عتيد.

(فشرعت) في تسويد هذه الأوراق بما عسى يسمح به الخاطر على سبيل الاتفاق ، غير حائم بقعة التفسير ولا خائض في لجة من المطلعات ما لا يسعه التقرير ، مراعيا لنظم الكتاب وترتيبه ، غير معيد لما تكرّر منه أو تشابه في أساليبه. وكلّ ما لا يقبل التأويل عندي أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلا ولا أزعم أني بلغت الحدّ فيما أوردته. كلا ، فإنّ وجوه الفهم لا تنحصر فيما فهمت ، وعلم الله لا يتقيد بما علمت ، ومع ذلك فما وقف الفهم مني على ما ذكر فيه ، بل ربما لاح لي فيما كتب من الوجوه ما تهت في محاويه وما يمكن تأويله من الأحكام الظاهر منها إرادة ظاهرها فما أوّلته إلا قليلا ليعلم به أن للفهم إليه سبيلا ، ويستدل بذلك على نظائرها إن جاوز مجاوز عن ظواهرها إذ لم يكن في تأويلها بدّ من تعسف. وعنوان المروّة ترك التكلف ، وعسى أن يتجه لغيري وجوه أحسن منها طوع القياد فإن ذلك سهل لمن تيسر له من أفراد العباد. ولله تعالى في كلّ كلمة كلمات ينفد البحر دون نفادها ، فكيف السبيل إلى حصرها وتعدادها ، لكنها أنموذج لأهل الذوق والوجدان يحتذون على حذوها عند تلاوة القرآن ، فينكشف لهم ما استعدوا له من مكنونات علمه ، ويتجلى عليهم ما استطاعوا له من خفيات غيبه ، والله الهادي لأهل المجاهدة إلى سبيل المكاشفة والمشاهدة ، ولأهل الشوق إلى مشارب الذوق ، إنه وليّ التحقيق وبيده التوفيق.

٦

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

فاتحة الكتاب

اسم الشيء ما يعرف به ، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدلّ بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته ، وبوجودها على وجهه ، وبتعينها على وحدته ، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. والله اسم للذات الإلهية من حيث هي هي على الإطلاق ، لا باعتبار اتصافها بالصفات ، ولا باعتبار لا اتصافها.

و (الرَّحْمنِ) هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية. و (الرَّحِيمِ) هو المفيض للكمال المعنويّ المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية ، ولهذا قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامّة والخاصة ، التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات أبدأ وأقرأ ، وهي الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أوتيت جوامع الكلم ، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى عليه‌السلام كلمة من الله ، ومكارم الأخلاق كمالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وهاهنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم‌السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبعض الصحابة ما يشير إلى ذلك. ولهذا قيل : ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله المخاطب بقوله تعالى :«ما خلقت خلقا أحب إليّ ولا أكرم عليّ منك ، بك أعطي ، وبك آخذ ، وبك أثيب ، وبك أعاقب ...» الحديث.

والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر ، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين ، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها بثمانية عشر ألف عام ، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أمّ المراتب الذي لا عدد فوقه ، فعبر بها عن أمّهات العوالم التي هي عالم الجبروت ، وعالم الملكوت ، والعرش ، والكرسي ، والسموات السبع ، والعناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.

والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني ، فإنه وإن كان داخلا في عالم الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس برأسه له برهان ،

٧

كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) (١).

والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة إلى العالم الإلهيّ الحقّ ، باعتبار الذات ، والصفات ، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند التفصيل ، وعالم واحد عند التحقيق ، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم على المظهر الأعظميّ الإنسانيّ ولاحتجاب العالم الإلهي.

حين سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سرقها الشيطان». وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا أهلها ، ولهذا نكرت في الوضع.

وقد ورد في الحديث : «إنّ الله تعالى خلق آدم على صورته» ، فالذات محجوبة بالصفات ، والصفات بالأفعال ، والأفعال بالأكوان والآثار. فمن تجلّت عليه الأفعال بارتفاع حجب الأكوان توكل ، ومن تجلّت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي وسلّم. ومن تجلّت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا مطلقا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، فتوحيد الأفعال مقدّم على توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار صلوات الله عليه في سجوده بقوله : «أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك».

[٢ ـ ٥] (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلى آخر السورة ، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه. فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها ، وتوجهها إلى غاياتها ، وإخراج كمالاتها من حيز القوّة إلى الفعل ، مسبحة ، حامدة ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢) ، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز باستنادها إليه وحده ، ودلالتها على وحدانيته وقدرته ، وتحميدها إظهار كمالاتها المترتبة ، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية.

وخصّ بذاته بحسب مبدئيته للكل ، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية للعالمين ، أي لكلّ ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به ، والقالب لما يقلب فيه ، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب ، وبإزاء أفاضلة الخير العامّ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٩٨.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٤٤.

٨

والخاص ، أي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم. وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند التجرّد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله ، وتعويض صفاته عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته ، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل ، فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا ، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى.

ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه ، وكمال قدرته وجلاله ، فخاطبوه قولا وفعلا بتخصيص العبادة به ، وطلب المعونة منه ، إذ ما رأوا معبودا غيره ، ولا حول ولا قوّة لأحد إلّا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم كلها عبادة له وبه ، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله من كل وجه على كل وجه.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : ثبتنا على الهداية ومكّنا بالاستقامة في طريق الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصدّيقين والأولياء ، الذين شاهدوا أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا ، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود الظل الفاني.

[٦ ، ٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الذين وقفوا مع الظواهر ، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية ، والنعيم الجسمانيّ ، والذوق الحسيّ عن الحقائق الروحانية ، والنعيم القلبي ، والذوق العقليّ كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور ، فغضب عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب الظلمانية غاية البعد. (وَلَا الضَّالِّينَ) الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب النورانية واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية ، وغفلوا عن ظاهرية الحقّ ، وضلّوا عن سواء السبيل ، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكلّ كالنصارى إذ كانت دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدّوس ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكلّ ، والجمع بين محبة جمال الذات ، وحسن الصفات ، كما ورد في القرآن الكريم : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) (١) ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣.

٩

(اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (١) ، (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٢). فأجابوا الدعوات الثلاث. كما جاء في حقهم : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (٣) ، (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٤) ، (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (٥). فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (٦) ، (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) (٧) ، (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٨) ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٩).

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٣٦.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٥٧.

(٤) سورة التحريم ، الآية : ٨.

(٥) سورة فصلت ، الآية : ٣٠.

(٦) سورة البينة ، الآية : ٨.

(٧) سورة الحديد ، الآية : ١٩.

(٨) سورة البقرة ، الآية : ١١٥.

(٩) سورة يونس ، الآية : ٢٦.

١٠

سورة البقرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ) أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كلّ الوجود من حيث هو كلّ لأن (ا) إشارة إلى ذات الذي هو أوّل الوجود على ما مرّ. و (ل) إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل ، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته وتتصل بأوّلها ، ولهذا ختم وقال : «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض». وعن بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين ، أي : وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها ، فهو اسم من أسماء الله تعالى ، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأمّا (م) فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم ، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها ، فإن الميم فيها الياء ، وفي الياء ألف. والسرّ (١) في وضع حروف التهجي هو أن لا حرف إلا وفيه ألف ، ويقرب من هذا قول من قال : معناه القسم بالله العليم الحكيم ، إذ جبريل مظهر العلم ، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهر الحكمة ، فهو اسمه الحكيم. ومن هذا ظهر معنى قول من قال : تحت كلّ اسم من أسمائه تعالى أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتمّ ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب والمسببات ، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرّد قول : لا إله إلا الله ، إلا إذا قرن : بمحمد رسول الله.

فمعنى الآية (الم* ذلِكَ الْكِتابُ) الموعود ، أي : صورة الكلّ المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء ، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو ، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكلّ والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكلّ ، فمعنى كتاب الجفر والجامعة : المحتويان على كلّ ما كان ويكون ، كقولك سورة (البقرة) وسورة (النمل).

(لا رَيْبَ فِيهِ) عند التحقيق بأنه الحق ، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكلّ

__________________

(١) قوله : والسرّ في وضع إلخ ... كذا في الأصل وهو محل نظر اه.

١١

من حيث هو كلّ لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه‌السلام : «نحن نأتيكم بالتنزيل ، وأما التأويل فسيأتي به المهديّ في آخر الزمان». وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه ، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنّا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) عليه أي : ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق ، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.

واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم : إمّا سعداء ، وإمّا أشقياء. قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١) ، والأشقياء أصحاب الشمال ، والسعداء إمّا أصحاب اليمين ، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٢) الآية. وأصحاب الشمال إمّا المطرودون الذين حقّ عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣) إلى آخر الآية. وفي الحديث الربانيّ : «هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي». وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين في الأصل ، قابلين للتنوّر بحسب الفطرة والنشأة ، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي ، ومباشرة الأعمال البهيمية ، والسبعية ، ومزاولة المكايد الشيطانية ، حتى رسخت الهيئات الفاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم ، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين ، قد حبطت أعمالهم ، وانتكست رؤوسهم فهم أشدّ عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.

أما أهل الفضل والثواب ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها ، راضين بها ، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم ، ولكلّ درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم ، وصفاء قلوبهم ، المتبوّؤن درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم ، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.

وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهم قسمان : المعفوّ عنهم رأسا لقوة اعتقادهم ، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلّة مزاولتهم إياها ، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١٠٥.

(٢) سورة الواقعة ، الآية : ٧.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩.

١٢

يبدّل الله سيئاتهم حسنات ، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا ، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب ، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.

والسابقون إمّا محبون وإمّا محبوبون ، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، وأنابوا إليه حقّ إنابته ، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله ، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم ، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم ، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون ، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه كذلك : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (١) ، وقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (٢). والمحبّ يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.

فعلى هذا ، المتقون في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية ، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم ، وبقاء نورهم الفطري ، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدّمة على الإيمان ، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.

[٣] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : بما غاب عنهم الإيمان التقليديّ ، أو التحقيقيّ العلميّ ، فإنّ الإيمان قسمان : تقليديّ وتحقيقيّ. والتحقيقيّ قسمان : استدلالي وكشفيّ ، وكلاهما إمّا واقف على حدّ العلم والغيب ، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمّى علم اليقين. والثاني : إمّا عيني ، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين ، وإما حقّي ، وهو الشهود الذاتي المسمّى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب ، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية ، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية ، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث : قلبية ، وبدنية ، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف ، والحكم ، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوّة واللذّات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة هود ، الآية : ١٢٠.

١٣

هي الأموال والأسباب ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ألا وأنّ من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة الجسد ، وتقوى القلب».

ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة. فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية ، وهي أمّ العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) إذ هي تحامل على البدن والنفس ، ومشقة فادحة عليهما ، وإنفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمّى بالزهد ، فإن الإنفاق ربما كان أشدّ عليها من بذل الروح للزوم الشحّ إياها ، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال ، في وجوه المروّات ، والهبات ، والصدقات الغير الواجبة ، فيوقي شحّ نفسه ، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.

[٤ ـ ٥] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : الإيمان التحقيقيّ الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية ، وهي تفرّس القلب بالحكم والمعارف المنزّلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد ، وأمور الآخرة ، وحقائق علم القدس. ولهذا قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حدّ التزكية ، ولم يصلوا إلى التحلية التي هي ميراثها ، لقوله عليه‌السلام : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم». وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إمّا إليه وإما إلى داره ، دار السلامة والفضل والثواب واللطف ، وهم أهل الفلاح لا غير أما من العقاب وأما من الحجاب ولهذا قال : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأجلها ، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه ، وأولئك خبره ، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.

[٦ ـ ٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥.

١٤

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ إلى قوله ـ (عَظِيمٌ) هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار ، أولئك حقّت عليهم كلمة ربّك أنهم لا يؤمنون ، وكذلك حقّت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ، سدّت عليهم الطرق ، وأغلقت عليهم الأبواب ، إذ القلب هو المشعر الإلهيّ الذي هو محلّ الإلهام ، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الإنسيان ، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار ، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب ، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقيّ الكشفيّ ولا في الظاهر إلى العلم التعلميّ والكسبيّ ، فحبسوا في سجون الظلمات ، فما أعظم عذابهم.

[٨] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) هم الفريق الثاني من الأشقياء ، سلب عنهم الإيمان مع ادّعائهم له بقولهم (آمَنَّا بِاللهِ) لأنّ محلّ الإيمان هو القلب لا اللسان. (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١). ومعنى قولهم : آمنا بالله (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ادّعاء علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد ، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب ، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإمّا عن الدين كما لأهل الكتاب ، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة ، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق ، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم ، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير واستبطان الشرّ. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) ولأنه حبيبه.

وقد ورد في الحديث : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر ، ولسانه الذي به يتكلم ، ويده الذي بها يبطش ، ورجله الذي بها يمشي» فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان الكفر

__________________

(١) سورة الحجرات ، الآية : ١٤.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٨٠.

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.

١٥

والعداوة ، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم وإجراء أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك ، وادّخار العذاب الأليم والمآل الوخيم ، وسوء المغبة لهم وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى وبالوحي عن حالهم لكن الفرق بين الخداعين أنّ خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم بإهلاكها وتحسيرها وإيراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق واجتماع أسباب الهلكة والبعد والشقاء عليها ، وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشدّ إيباق ، كقوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)) (١) وهم من غاية تعمقهم في جهلهم لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.

[٩ ـ ١٣] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه فيها كما أشرنا إليه في التقسيم ، وإلا لقال قلوبهم مرضى أو موتى. (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي : آخر حقدا وحسدا وغلا بإعلاء كلمة الدين ، ونصرة الرسول والمؤمنين ، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة ، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين بالألم للمنافقين ، والعظم للكافرين ، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا يجدون شدّة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم ، كحال العضو الميت ، أو المفلوج والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكيّ وغير ذلك من الآلام. وأما المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدّة الألم فلا جرم كان عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه.

وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض ، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس ، وتهييج الفتن والحروب ، والعداوة والبغضاء بين الناس ، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم ، إذ يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه ، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة ، لتوغلهم في محبة الدنيا وانهماكهم في اللذات البدنية ، واحتجابهم بالمنافع الجزئية ، والملاذ الحسيّة عن المصالح العامة الكليّة ، واللذات العقلية ، وبذلك يتيسر مرادهم ، ويتسهل مطلوبهم وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٥٤.

١٦

وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي ، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجرّدين ، سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها ، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم ، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم ، المؤدّية إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاصلتين بالشعور والعلم ، لأنّ تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس.

وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر استدلالي عقليّ صرف.

[١٤] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطريّ النوريّ ، الضعيف المغلوب ، القريب من الانطفاء ، الذي ناسبوا به المؤمنين ، والكسبيّ الظلماني القويّ الغالب الذي تألفوا به الكفار ، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتسافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه.

والشيطان فيعال من الشطون ، الذي هو البعد ، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون ، ورؤساؤهم البالغون في النفاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدلّ على ضعف جهة النور وقوّة جهة الظلمة فيهم ، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفا ، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم ، إذ بالنور يعرف قدر النور ، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.

[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يستخفهم ، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة ، ضعيفة. فبقدر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم ، كما أنّ المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين. (وَيَمُدُّهُمْ) في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادّها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) والعمه : عمى القلب. وطغيانهم : التعدّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه ، وذلك الحدّ هو الصدر ، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح ، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحدّ

١٧

هو التعبد بأوامر الله تعالى ونواهيه ، مع التوجه إليه طلبا للتنوّر ليستنير ذلك الوجه فتتنوّر به النفس. كما أنّ الوقوف على الحدّ الآخر هو تلقي المعارف والعلوم والحقائق والحكم والشرائع الإلهية لينتقش بها الصدر ، فتتزين به النفس. فالطغيان هو الانهماك في الصفات النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية واستيلاؤها على القلب ليسودّ ويعمى ، فتتكدّر الروح.

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي : الظلمة ، والاحتجاب عن طريق الحق الذي هو الدين ، أو عن الحق. فإنّ الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور الاستعداديّ الأصليّ. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) إذ كان رأس مالهم من عالم النور والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضيّ الكماليّ ، بالعلوم والأعمال والحكم والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة ، فيصيرون أغنياء في الحقيقة ، مستحقين للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله ، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين الموجب للحجاب والحرمان الأبديّ ، فخسروا بالخسران السرمديّ ، أعاذنا الله من ذلك.

[١٧] (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))

(مَثَلُهُمْ) أي : صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيّرا ، لأن نور استعدادهم بمنزلة النار الموقدة ، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر وخمودها سريعا انطفاء نورهم الاستعداديّ وسرعة زوال ما متّعوا به من دنياهم ووشك انقضائه. (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) الاستعداديّ بإمدادهم في الطغيان ، وخلاهم محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس (لا يُبْصِرُونَ) ببصر القلب ، ووجه المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال وأسباب.

[١٨ ـ ١٩] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع الحق وتنطق به ، وتراه في الظاهر لعدم فوائدهما ، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى القلب لمكان

١٨

الحجاب ، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها على القلب ليفهموا ويعتبروا. (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الله لوجود السّدين المضروبين على قلوبهم المذكورين في قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) (١). وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس ، ليتمثل في نفوس العامة. ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق ، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين ، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين ، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر. والظلمات هي الصفات النفسانية ، والشكوك الخيالية والوهمية ، والوساوس الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهيّ والوعيد القهريّ الوارد في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوّفهم فيفيد أدنى انكسار لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبهات الروحية عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء مما يطمعهم ويرجيهم ، فيفيدهم أدنى شوق وميل إلى الإجابة.

ومعنى (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) يتشاغلون عن الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد ، ولكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن اللذات الطبيعية بهمّ الآخرة ، إذ الانقطاع عن اللذات الحسيّة هو موتهم ، والله قادر عليهم ، قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي ، قدرة المحيط بالشيء الذي لا يفوته منه ، فلا فائدة لحذرهم.

[٢٠] (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

(يَكادُ الْبَرْقُ) أي : اللامع النوريّ (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي : عقولهم المحجوبة بالنعاس عن نور الهداية والكشف ، إذ العقل بصر القلب (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) أي : ترقوا وقربوا من قبول الحق والهدى ، (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي : ثبتوا على حيرتهم في ظلمتهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) لطمس أفهامهم وعقولهم ، ومحا نور استعدادهم ، كما للفريق الأول فلم يتأثروا بسماع الوحي أصلا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الشيء الموجود الخارجيّ الواجب والممكن ، والموجود الذهني الممكن والممتنع ، إذ اللاشيء هو المعدوم الصرف الذي ليس في الذهن ولا في الخارج ، لكن تعلق القدرة به خصصه بالممكن وأخرج عنه الواجب والممتنع بدليل العقل.

هذا آخر الكلام في الأصناف السبعة على سبيل الإجمال ، وفصل بين فريقي الأشقياء

__________________

(١) سورة يس ، الآية : ٩.

١٩

وأوجز ذكر الفريق الأوّل وأعرض عنهم ، إذ الكلام فيهم لا يجدي. وبالغ في ذكر الفريق الثاني ، وذمّهم ، وتعييرهم ، وتقبيح صورة حالهم ، وتهديدهم ، وإبعادهم ، وتهجين سيرهم ، وعاداتهم لإمكان قبولهم للهداية وزوال مرضهم العارض ، واشتعال نور قرائحهم بمدد التوفيق الإلهيّ عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم ، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم ، فتتزكى بواطنهم وتتنوّر قلوبهم بنور الإرادة ، فيسلكوا طريق الحق. ولعل موادعة المؤمنين وملاطفتهم إياهم ومجالستهم معهم ، تستميل طباعهم فتهيج فيهم محبة مّا ، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر الله ، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله ، فيتوبوا ويصلحوا كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)) (١).

[٢١ ـ ٢٤] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء ، دعاهم إلى التوحيد. وأوّل مراتب التوحيد : توحيد الأفعال ، فلهذا علّق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية النعمة ، فيحبوه ، كما قال : «خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم». فيشكروه بإزائها ، إذ العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة ، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم به ، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات والذات ، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون مطلقا ، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات ، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرّهم ومسكنهم ، وجعل السماء بناء لتظلهم ، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره ، فيتنزهون عن الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله ، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدّمات بالفاء فقال : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال : هو الذي فعل هذه الأفعال ، فلا تحق العبادة إلا له ، ولا تنبغي أن تجعل لغيره ، فلا تجعلوا له ندّا بنسبة الفعل إليه ، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا. فعبادتهم إنما هي

__________________

(١) سورة النساء ، الآيات : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٢٠