تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

الخنازير فأهل السحت ، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصمّ والبكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصّاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلّبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات وممنعو حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» ، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[١٩] (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩))

(وَفُتِحَتِ) سماء الروح عند العود إلى البدن بأبواب الحواس الظاهرة والباطنة (فَكانَتْ أَبْواباً) أي : ذات أبواب كثيرة هي طرق الشعور كأن كلها أبواب لكثرتها.

[٢٠] (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠))

(وَسُيِّرَتِ) جبال الحجب الساترة لهيئاتهم وصفاتهم عن الأعين الحاجزة عن ظهورها من الأبدان والأعضاء العارضة دون تلك الهيئات التي ظهرت في المحشر (فَكانَتْ سَراباً) كقوله تعالى : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦)) (١) أي : صارت شيئا كلا شيء في انبثاثها وتفرّق أجزائها.

[٢١ ـ ٢٢] (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢))

(إِنَّ جَهَنَّمَ) الطبيعة (كانَتْ مِرْصاداً) حدّا يرصد فيه كل أحد ، يرصدهم عندها الملائكة ، أما السعداء فلمجاوزتهم وممرّهم عليها لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٢). وعن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن الآية فقيل له : أنتم أيضا واردوها؟ فقال : «جزناها وهي خامدة». وأما الأشقياء فلكونها مآبهم كما قال : (لِلطَّاغِينَ مَآباً) وكقوله : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٣).

[٢٣] (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣))

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أزمنة متطاولة متتابعة أما غير متناهية إن كانت الاعتقادات باطلة فاسدة أو متناهية بحسب رسوخ الهيئات إن كانت الأعمال سيئة مع عدم الاعتقاد أو مع الاعتقاد الصحيح.

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية : ٦.

(٢) سورة مريم ، الآيات : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) سورة مريم ، الآية : ٧٢.

٤٠١

[٢٤ ـ ٢٦] (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦))

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) روحا وراحة من أثر اليقين (وَلا شَراباً) من ذوق المحبة ولذتها (إِلَّا حَمِيماً) من أثر الجهل المركب (وَغَسَّاقاً) من ظلمة هيئات محبة الجواهر الفاسقة والميل إليها (جَزاءً) موافقا لما ارتكبوه من الأعمال وقدموه من العقائد والأخلاق.

[٢٧ ـ ٢٨] (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨))

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي : ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات والصفات أي : لفساد العمل والعلم فلم يعملوا صالحا رجاء الجزاء ولم يعلموا علما فيصدقوا بالآيات.

[٢٩] (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩))

(وَكُلَّ شَيْءٍ) من صور أعمالهم وهيئات عقائدهم ضبطناه ضبطا بالكتابة عليهم في صحائف نفوسهم وصحائف النفوس السماوية.

[٣٠] (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي : بسببها ذوقوا عذابا يوازيها لا مزيد عليه فإنها بعينها معذبة لكم دون ما عداها. والمعنى : فذوقوا عذابها فإننا لن نزيدكم عليها شيئا إلا التعذيب بها الذي ذهلتم عنه.

[٣١ ـ ٣٦] (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥))

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) المقابلين للطاغين المتعدّين في أفعالهم حدّ العدالة مما عينه الشرع والعقل وهم المتزكون عن الرذائل وهيئات السوء من الأفعال (مَفازاً) فوزا ونجاة من النار التي هي مئاب الطاغين (حَدائِقَ) من جنان الأخلاق (وَأَعْناباً) من ثمرات الأفعال وهيئاتها (وَكَواعِبَ) من صور آثار الأسماء في جنة الأفعال (أَتْراباً) متساوية في الرتب (وَكَأْساً) من لذّة محبة الآثار مترعة ممزوجة بالزنجبيل والكافور لأن أهل جنة الآثار والأفعال لا مطمح لهم إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي (عَطاءً حِساباً) كافيا إلى ما وراءها فهم محجوبون بالآثار عن المؤثر وبالعطاء عن المعطي (عَطاءً حِساباً) كافيا يكفيهم بحسب هممهم ومطامح أبصارهم لأنهم لقصور استعداداتهم لا يشتاقون إلى ما وراء ذلك فلا شيء ألذّ لهم بحسب أذواقهم مما هم فيه.

[٣٧] (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) أي : ربّهم المعطي إياهم ذلك العطاء هو

٤٠٢

الرحمن لأن عطاياهم من النعم الظاهرة الجليلة دون الباطنة الدقيقة ، فمشربهم من اسم الرحمن دون غيره (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) لأنهم لم يصلوا إلى مقام الصفات فلا حظ لهم من المكالمة.

[٣٨ ـ ٣٩] (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) الإنساني وملائكة القوى في مراتبهم صافين أي : مرتبة كل في مقامه كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) (١) (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) يسر له بأن هيأ له استعداد المكالمة في الأزل ووفقه لإخراج ذلك الاستعداد إلى الفعل بالتزكية (وَقالَ صَواباً) قولا حقا لا باطلا.

[٤٠] (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً) هو عذاب الهيئات الفاسقة من الأعمال الفاسدة دون ما هو أبعد منه من عذاب القهر والسخط وهو ما قدّمت أيديهم ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٦٤.

٤٠٣

سورة النازعات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧))

أقسم بالنفوس المشتاقة التي غلب عليها النزوع إلى جناب الحق ، غريقة في بحر الشوق والمحبة التي تنشط من مقرّ النفس وأسر الطبيعة أي : تخرج من قيود صفاتها وعلائق البدن كقولهم : ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، أو من قولهم : نشط من عقاله. والتي تسبح في بحار الصفات فتسبق إلى عين الذات ومقام الفناء في الوحدة فتدبر بالرجوع إلى الكثرة أمر الدعوة إلى الحق والهداية وأمر النظام في مقام التفصيل بعد الجمع ، وبالكواكب السيارة التي تنزع من المشرق إلى المغرب مفرقة في سيرها إلى أقصى المغرب وتخرج من برج إلى برج وتسبح في أفلاكها فيسبق بعضها بعضا في السير وتدبر أمر العالم فيما نيط بها وبسيرها ، أو بالملائكة من النفوس الفلكية التي تنزع الأرواح البشرية من الأجساد إغراقا في النزع من أقاصي البدن ، أنامله وأظفاره ، والتي تخرجها من الأبدان من قولهم : نشط الدلو من البئر ، إذا أخرجها. والتي تسبح في جريها فيما أمرت به فتسبق إليه فتدبر المأمور به على الوجه الذي أمر به. والمقسم عليه محذوف كما ذكر غير مرة أي : لتبعثنّ ، ويدل عليه قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي : تقع الواقعة التي ترجف لها أرض الجسد وجبال الأعضاء وهي النفخة الأولى أو وقت زهوق الروح (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي : النفخة الثانية وهي الإحياء بالبعث.

[٨ ـ ١٣] (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣))

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) أي : وقت وقوع الرجفة في حال النزع (واجِفَةٌ) مضطربة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) ذليلة (يَقُولُونَ) المحجوبون المنكرون البعث على سبيل الإنكار (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) في الطريقة الأولى من الحياة بعد صيرورتنا عظاما بالية فنحن إذا خاسرون إن صح ذلك (فَإِنَّما هِيَ) أي : الرادفة التي هي الرجفة إلى الحياة بالبعث (زَجْرَةٌ) أي : صيحة (واحِدَةٌ) هي تأثير الروح الإسرافيلي في تعلق هذه الروح المفارقة بالمادة القابلة لها دفعة فتحيا وذلك يوم القيامة الصغرى.

٤٠٤

[١٤ ـ ١٥] (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥))

(فَإِذا هُمْ) أي : فاجؤوا الحصول (بِالسَّاهِرَةِ) وقت هذه النفخة أي : النفخ والكون بالساهرة في آن واحد ، والساهرة أرض بيضاء مستوية أي : عالم الروح الإنساني المفارق الغير الكامل ، فإنها أرض بالنسبة إلى سماء عالم القدس الذي هو مأوى الكمل ، سميت بالساهرة لنوريتها وبساطتها أو الروح الحيواني لاتصال الأرواح الإنسية الناقصة بها عند البعث فتلبثها بها ضرورة انجذابها إلى المادة ويمكن أن يكون إشارة إلى المحل الذي تتصل به الروح عند البعث لبياضه واستواء أجزائه.

[١٦ ـ ١٧] (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧))

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) الوادي المقدّس هو عالم الروح المجرّد لتقدّسه عن التعلق بالمواد واسمه (طُوىً) لانطواء الموجودات كلها من الأجسام والنفوس تحته وفي طيه وقهره وهو عالم الصفات ومقام المكالمة من تجلياتها ، فلذلك ناداه بهذا الوادي. ونهاية هذا العالم هو الأفق الأعلى الذي رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده جبريل على صورته (طَغى) أي : ظهر بأنانيته ، وذلك أن فرعون كان ذا نفس قوية حكيما عالما سلك وادي الأفعال وقطع بوادي الصفات واحتجب بأنانيته وانتحل صفات الربوبية ونسبها إلى نفسه وذلك تفرعنه وجبروته وطغيانه فكان ممنقال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» لقيامه بنفسه وهواها في مقام توحيد الصفات وذلك من أقوى الحجب.

[١٨ ـ ١٩] (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

(هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) بالفناء عن أنائيتك (وَأَهْدِيَكَ إِلى) الوحدة الذاتية بالمعرفة الحقيقية (فَتَخْشى) وتلين أنانيتك فتفنى.

[٢٠ ـ ٣٣] (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي : الهوية الحقيقية بالتوحيد العلمي والهداية الحقانية فلم يرها لقوة حجابه ورسوخ توهمه فكذبه في أنّ وراء ما بلغ من المقام رتبة (وَعَصى) أمره لتفرعنه وعتوّه (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن مقام توحيد الصفات الذي هو فيه لذنب حاله وتوجه إلى مقام النفس بالكلية لعناده واستيلاء نفسه وشدة ظهورها بالدعوى (يَسْعى) في دفع موسى بالمكايد

٤٠٥

الشيطانية والحيل النفسانية فردّ عن جناب القدس مطرودا وازداد حجابه فتظاهر بقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) أو نازع الحق لشدة ظهور أنائيته رداء الكبرياء فقهر وقذف في النار ملعونا كماقال تعالى : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار». ويروى : قصمته ، وذلك القهر هو معنى قوله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) فيخشع وتلين نفسه وتنكسر فلا تظهر.

[٣٤] (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤))

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي : تجلى نور الوحدة الذاتية الذي يطمّ على كل شيء فيطمسه ويمحوه.

[٣٥] (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥))

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) سعيه في الأطوار من مبدأ فطرته إلى فنائه وسلوكه في المقامات والدرجات حتى وصل إلى ما وصل فيشكره.

[٣٦] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦))

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : نار الطبيعة الآثارية (لِمَنْ يَرى) ممن بصر بنور الله وبرز من الحجاب لله دون العمي المحجوبين الذين يحترقون بناره ولا يرونه ، فيومئذ يصير الناس في شهوده قسمين.

[٣٧ ـ ٣٩] (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩))

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي : تعدّى طور الفطرة الإنسانية وجاوز حدّ العدالة والشريعة إلى الرتبة البهيمية أو السبعية وأفرط في تعدّيه (وَآثَرَ الْحَياةَ) الحسيّة على الحقيقية بمحبة اللذات السفلية (فَإِنَّ الْجَحِيمَ) مأواه ومرجعه.

[٤٠ ـ ٤٤] (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤))

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) بالترقي إلى مقام القلب ومشاهدة قيوميته تعالى على نفسه (وَنَهَى النَّفْسَ) لخوف عقابه أو قهره (عَنِ) هواها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) مأواه على حسب درجاته (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي : في أي شيء أنت من علمها ، وذكرها إنما إلى ربك ينتهي علمها فإن من عرف القيامة هو الذي انمحى علمه أولا بعلمه تعالى ثم فنيت ذاته في ذاته فكيف يعلمها ولا علم له ولا ذات ، فمن أين أنت وغيرك من علمها بل لا يعلمها إلا الله وحده.

٤٠٦

[٤٥ ـ ٤٦] (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) لإيمانه بها تقليدا (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي : وقت غروب نور الحق في الأجساد أو وقت طلوعه من مغربه ، أي : وقت رؤيتهم القيامة بالفناء في الوحدة تيقنوا إن لم يكن لهم وجود قط إلّا توهما باللبث في عالم الأجسام والاحتجاب بالحس أو في عالم الأرواح والاحتجاب بالعقل وهما المراد بقول من قال : خطوتين وقد وصلت ، أي : إذا جزت هذين الكونين فقد وصلت ، والله أعلم.

٤٠٧

سورة عبس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦))

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجر تربية ربّه لكونه حبيبا فكلما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق حتى تحرك بنفسه لا بالله. عوتب وأدّب كماقال : «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» ، إلى أن تخلّق بأخلاقه تعالى. فإن التخلّق بأخلاقه كان بعد الوصول والفناء والتحقق به حال البقاء وهو الاستقامة وقت التمكين وانتفاء التلوين ، فلما نظر بظاهر الحال إلى الكبراء وعظم في عينه غنى الأغنياء وأعرض عن الفقير اعتناء بالقوم وتقوّى الإسلام بهم إن آمنوا ، واحتقارا للفقير وإيمانه ، نبّه بأن مثلك لا ينبغي أن ينظر إلى ظاهر الحال فيتشاغل عن المستعد الطالب الضعيف بالغني القويّ بل يجب أن يكون نظرك مقصورا على الاستعداد وقبول الإيمان فتعتبر ذلك دون غيره ولا تحتجب بالظاهر عن الباطن عسى أن يكون الفقير المتلهي عنه عاملا بالتزكية والتحلية بالغا حدّ الكمال ، فيصير مهديا هاديا لغيره. والغنيّ المتصدّي له لم يؤمن لعدم استعداده أو لاستكباره وعناده.

[٧ ـ ١٤] (وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١))

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) وَما عَلَيْكَ) بأس في امتناعه عن الإسلام (كَلَّا) ردع له عن ذلك ، ولهذا روي أنه ما تعبّس بعد نزول هذه الآية في وجه فقير قط ، ولا تصدّى لغني (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) عند الله هي ألواح النفوس السماوية التي نزل القرآن إليها أولا من اللوح المحفوظ كما ذكر (مَرْفُوعَةٍ) القدر والمكان (مُطَهَّرَةٍ) عن دنس الطبائع وتغبراتها.

[١٥ ـ ٣٢] (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

٤٠٨

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) أي : كتبة هي العقول المقدّسة المؤثرة في تلك الألواح (كِرامٍ) لشرفها وقربها من الله (بَرَرَةٍ) أتقياء لتقدّسها عن المواد ونزاهة جوهرها عن التعلقات. ثم لما بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجب من كفران الإنسان واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير وعدم النعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس من مبادئ خلقته وأحواله في نفسه وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به وقرر أنه مع اجتماع الدليلين أي النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن (لَمَّا يَقْضِ) في الزمان المتطاول (ما أَمَرَهُ) الله به من شكر نعمته باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل والتوصل بها إلى المنعم ، بل احتجب بها وبنفسه عنه.

[٣٣ ـ ٤١] (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١))

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي : النفخة الأولى المذهبة للعقل والحواس (يَوْمَ) يهتم كل أحد بأمر نفسه لا يتفرّغ إلى غيره لشدة ما به واشتغاله بما يظهر عليه من أحوال نفسه ، انقسم الناس قسمين : السعداء المسفرة وجوههم المضيئة المتهللة بنورية ذواتهم وصفائها المستبشرة بما لقوا من هيئات أعمالهم ونعيم جنانهم ، والأشقياء المسودة وجوههم بسواد كفرهم وظلمة ذواتهم المغبرة بغبار هيئات فجورهم وقتام آثار أعمالهم.

[٤٢] (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

(أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي : اجتماع كفرهم وفجورهم هو السبب في اجتماع السواد والغبرة على وجوههم.

٤٠٩

سورة التكوير

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي : إذا كوّرت شمس الروح بطيء ضوئها الذي هو الحياة وقبضها عن البدن وإزالتها ، وإذا انكدرت نجوم الحواس بذهاب نورها ، وإذا سيرت جبال الأعضاء بتفتيتها وجعلها هباء ، وإذا عطلت عشار الأرجل المنتفع بها في السير عن الاستعمال في المشي وترك الانتفاع بها أو الأموال النفيسة المنتفع بها فإن العشار أنفس أموال العرب ، وإذا حشرت وحوش القوى الحيوانية بأن هلكت وأفنيت من قولهم : حشرتهم السنة إذا بالغت في إهلاكهم أو حشرت بالإحياء عند البعث. وإذا سجرت أي : ملئت بحار العناصر بأن فجرّ بعضها إلى بعض واتصل كل جزء بأصله فصار بحرا واحدا ، وإذا زوّجت النفوس بأن تحشر كل نفس إلى ما تجانسه وتشاكله من صنف فصنفت أصنافا من السعداء والأشقياء كل مع قرنائه ، وإذا سئلت موءودة النفس الناطقة التي أثقلتها وائدة النفس الحيوانية في قبر البدن وأهلكتها (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) أي : طلب إظهار الذنب الذي به استولت النفس الحيوانية على الناطقة من الغضب أو الشهوة أو غيرهما فمنعتها عن خواصها وأفعالها وأهلكتها فأظهر فكنى عن طلب إظهاره بالسؤال ، ولهذاقال عليه‌السلام : «الوائدة والموؤدة في النار» ، لأن النفس الناطقة في العذاب مقارنة للنفس الحيوانية. وفي الحديث سرّ آخر ليس هذا موضع ذكره.

[١٠] (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠))

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي : صحائف القوى والنفوس التي فيها هيئات الأعمال تطوى عند الموت وتكوّر شمس الروح وتنشر عند البعث والعود إلى البدن.

[١١] (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١))

(وَإِذَا السَّماءُ) أي : الروح الحيوانية أو العقل (كُشِطَتْ) أزيلت وأذهبت.

[١٢] (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢))

٤١٠

(وَإِذَا الْجَحِيمُ) أي : نار آثار الغضب والقهر في جهنم الطبيعة (سُعِّرَتْ) أوقدت للمحجوبين.

[١٣ ـ ١٤] (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

(وَإِذَا الْجَنَّةُ) أي : نعيم آثار الرضا واللطف (أُزْلِفَتْ) قربت للمتقين (عَلِمَتْ) كل (نَفْسٌ) ما أحضرته ووقفت عليه بعد نسيانها وذهولها عنه.

[١٥ ـ ١٦] (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) أي : الرواجع من الكواكب السيارة (الْكُنَّسِ) التي تدخل في بروجها كالوحوش في كناسها أو النفوس الرواجع إلى الأبدان الجارية الداخلة مواضعها.

[١٧] (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧))

(وَاللَّيْلِ) أي : ليل ظلمة الجسد الميت (إِذا عَسْعَسَ) أي : أدبر بابتداء ذهاب ظلمته بنور الحياة عند تعلق الروح به وطلوع نور شمسه عليه.

[١٨ ـ ٢٢] (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢))

(وَالصُّبْحِ) أي : أثر نور طلوع تلك الشمس (إِذا تَنَفَّسَ) وانتشر في البدن بإفادة الحياة (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي : روح القدس النافث في روع الإنسان.

[٢٣ ـ ٢٥] (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥))

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي : نهاية طور القلب الذي يلي الروح وهو مكان إلقاء النافث القدسي (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي : ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي لأن عقله ما ستر بل صفى عن شوب الوهم (وَما هُوَ) من إلقاء شيطان الوهم المرجوم بنور الروح فيكون كله وهميّا لما ذكر.

[٢٦ ـ ٢٧] (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧))

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي : بعد هذا الكلام من إلقاء الوهم ومزجه وصاحبه من الجنة بما لا يخفى على أحد ، فمن سلك هذه الطرق ونسبه إلى أحد الأمور الثلاثة فقد بعد عن الصواب بما لا يضبط ولا تقرب إليه بوجه ، كمن سلك طريقا يبعده عن سمت مقصده فيقال : أين تذهب.

٤١١

[٢٨ ـ ٢٩] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) من جملة العالمين الاستقامة في طريق السلوك ، والصراط المستقيم هو الطريق الذي عليه الحق لقوله : إنّ ربي على صراط مستقيم ، فما يشاء أحد سلوكها إلا بمشيئة الله فإن طريقه لا يسلك إلا بإرادته ، والله تعالى أعلم.

٤١٢

سورة الانفطار

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي : إذا انفطرت سماء الروح الحيوانية بانفراجها عن الروح الإنساني وزوالها.

[٢] (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢))

(وَإِذَا الْكَواكِبُ) أي : الحواس (انْتَثَرَتْ) بالموت وذهبت.

[٣] (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣))

(وَإِذَا الْبِحارُ) أي : الأجسام العنصرية (فُجِّرَتْ) بعضها في بعض بزوال البرازخ الحاجزة عن ذهاب كل إلى أصله وهي الأرواح الحيوانية المانعة عن خراب البدن ورجوع أجزائه إلى أصلها.

[٤ ـ ٥] (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

(وَإِذَا الْقُبُورُ) أي : الأبدان (بُعْثِرَتْ) بحثت وأخرج ما فيها من الأرواح والقوى.

[٦ ـ ١٩] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

(ما غَرَّكَ) إنكار للغرور بكرمه ، أي : إن كان كونه كريما يسوغ الغرور ويسهله لكن له من النعم الكثيرة والمنن العظيمة والقدرة الكاملة ما يمنع من ذلك أكثر من تجويز الكرم إياه ، والكرام الكاتبون هم النفوس السماوية والقوى الفلكية المنتقشة بما يصدر عنهم من الأفعال ، أي : ارتدعوا عن الغرور بالكرم بل إنما عصيانهم للتكذيب بالجزاء أصلا الذي هو أعظم من الغرور. وإن الكرام الأشراف التي كرمت عن الكون والفساد يحفظون أفعالكم ويكتبونها عليكم فضلا عن الملكين الموكلين بكم ، كما قال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١) فكيف تجترءون على المعاصي وقد تكتب عليكم في السماء والأرض ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ١٧.

٤١٣

سورة المطففين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الباخسين حقوق الناس في الكيل والوزن ، يمكن أن يحمل بعد الظاهر على التطفيف في الميزان الحقيقي الذي هو العدل ، والموزونات به هي الأخلاق والأعمال ، والمطففون هم الذين إذا اعتبروا كمالات أنفسهم متفضلين (عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) يستكثرونها ويزيدون على حقوقهم في إظهار الفضائل العلمية والعملية أكثر مما لهم عجبا وتكبرا.

[٣] (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣))

(وَإِذا) اعتبروا كمالات الناس بالنسبة إلى كمالاتهم أخسروه واستحقروها ولم يراعوا العدالة في الحالين لرعونة أنفسهم ومحبة التفضل على الناس كقوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (١).

[٤ ـ ٥] (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥))

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الرذيلة التي هي أفحش أنواع الظلم ، أي : ليس في ظنهم (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فيظهر ما في أنفسهم من الفضائل والرذائل ، أو يحاسب عليه ويرتدع فضلا عن العلم (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) لا يقدر أحد فيه أن يظهر ما ليس فيه ولا أن يكتم ما فيه لانقلاب باطنه ظاهره وصفته صورته فيستحيي ويذوق وبال رذيلته.

[٦] (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) عن مراقد أبدانهم (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بارزين لا يخفى عليه منهم شيء.

[٧ ـ ١١] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١))

(كَلَّا) ردع عن هذه الرذيلة (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي : ما كتب من أعمال المرتكبين

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨.

٤١٤

للرذائل الذين فجروا بخروجهم عن حدّ العدالة المتفق عليها الشرع والعقل (لَفِي سِجِّينٍ) في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة يزحفون على بطونهم كالسلاحف والحيّات والعقارب أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة ودركاتها وهو ديوان أعمال أهل الشرّ ولذلك فسر بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : ذلك المحل المكتوب فيه أعمالهم كتاب مرقوم برقوم هيئات رذائلهم وشرورهم.

[١٢ ـ ١٣] (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ) مجاوز طور الفطرة الإنسانية بتجاوزه حدّ العدالة إلى الإفراط والتفريط في أفعاله (أَثِيمٍ) محتجب بذنوب هيئات صفاته.

[١٤ ـ ١٧] (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(كَلَّا) ردع عن هاتين الرذيلتين (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : صار صدأ عليها بالرسوخ فيها وكدر جوهرها وغيرها عن طباعها ، والرين حد من تراكم الذنب على الذنب ورسوخه تحقق عنده الحجاب وانغلق باب المغفرة ، نعوذ بالله منه ولذلك قال : (كَلَّا) أي : ارتدعوا عن الرين (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لامتناع قبول قلوبهم للنور وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري كالماء الكبريتي مثلا ، إذ لو روّق أو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها بخلاف الماء المسخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته ، ولهذا استحقوا الخلود في العذاب وحكم عليهم بقوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ).

[١٨ ـ ٢١] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١))

(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي : ما كتب من صور أعمال السعداء وهيئات نفوسهم النورانية وملكاتهم الفاضلة في عليين وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته وكونه ديوان أعمال أهل الخير كما قال : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي : محل شريف رقم بصور أعمالهم من جرم سماوي أو عنصري إنساني (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي : يحضر ذلك المحل أهل الله الخاصة من أهل التوحيد الذاتي.

[٢٢ ـ ٢٥] (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥))

٤١٥

(إِنَّ الْأَبْرارَ) السعداء الأتقياء عن دون صفات النفوس (لَفِي نَعِيمٍ) من جنان الصفات والأفعال (عَلَى الْأَرائِكِ) التي هي مقاماتهم من الأسماء الإلهية في حجال عالم القدس الخفي عن أعين الإنس (يَنْظُرُونَ) إلى جميع مراتب الوجود ويشاهدون أهل الجنة والنار وما هم فيه من النعيم والعذاب لا تحجب حجالهم عنه شيئا وتحجب أغيارهم عنهم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجته ونوريته وآثار سروره (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) خمر صرف من المحبة الروحانية الغير الممزوجة بحب النفس للجواهر الجسمانية (مَخْتُومٍ) بختم الشرع لئلا تمتزج به النجاسات الشيطانية من المحبات الوهمية المحرمة والشهوات النفسانية المهيئة.

[٢٦ ـ ٢٧] (خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧))

(خِتامُهُ مِسْكٌ) هو حكم الشرع بالمباحات المطيبة للنفوس المقوية للقلوب.

(وَفِي ذلِكَ) أي : في شرب رحيق المحبة الروحانية الصرفة المقيدة بقيد الشريعة ولذتها الصافية (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فإنه أعزّ من الكبريت الأحمر (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي : مزاج خمر الأبرار من تسنيم العشق الحقيقي الصرف وهو محبة الذات المعبر عنها بالكافور باعتبار الخاصية حال الجمع عبر عنها بالتسنيم باعتبار المرتبة حال التفصيل فإنه في أعلى رتب الوجود ويجري كما قيل في غير أخدود لتجرّده عن المحل والتعين بصورة وصفه ، أي : لهم مع محبة الصفات في مقامها محبة الذات الصرفة ممزوجة بشرابهم لمشاهدتهم الذات من وراء حجب الصفات.

[٢٨ ـ ٣٦] (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي : التسنيم عين يشرب بها المقرّبون صرفة وهم الكاملون الواصلون إلى توحيد الذات من أهل التمكين القائمين بالله في مقام التفصيل بالاستقامة ، ففرق بين أهل الاستقامة في مقام التفصيل وأهل الاستغراق في مقام الجمع باختلاف اسمهم واسم شرابهم مع إيجاد حقيقتهم وحقيقة شرابهم بأن سماهم مقرّبين للإشعار بالفرق مع القرب ، وسمّى شرابهم التسنيم للإشعار بعلوّ الرتبة بالنسبة إلى سائر الرتب ، وسمّى أهل الاستغراق بعباد الله للإشعار بالمقهورية مع الاختصاص المؤذنة بالفناء ، وسمّى شرابهم بالكافور للإشعار بالوحدة الصرفة والبياض الخالص بلا نسبة وفرق.

٤١٦

سورة الانشقاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) كقوله : انفطرت (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : انقادت لأمره بانفراجها عن الروح الإنساني انقياد السامع المطيع لأمره المطاع (وَحُقَّتْ) أي : حقّ لها ووجب أن تنقاد لأمر القادر المطلق ولا تمتنع وهي حقيقة بذلك.

[٣ ـ ٥] (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥))

(وَإِذَا) أرض البدن (مُدَّتْ) وبسطت بنزع الروح عنها (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الروح والقوى (وَتَخَلَّتْ) تكلفت في الخلو عن كل ما فيها من الآثار والأعراض كالحياة والمزاج والتركيب والشكل بتبعية خلوها عن الروح.

[٦] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))

(إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) ساع مجتهد في الذهاب إليه بالموت ، أي : تسير مع أنفاسك سريعا كما قيل : أنفاسك خطاك إلى أجلك ، أو مجتهد مجد في العمل خيرا أو شرّا ذاهبا إلى ربّك (فَمُلاقِيهِ) ضرورة ، والضمير إمّا للربّ وإما للكدح.

[٧ ـ ٩] (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩))

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) بأن جعل من أصحاب اليمين في الصورة الإنسانية آخذا كتاب نفسه أو بدنه بيمين عقله ، قارئا ما فيه من معاني العقل القرآني (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) بأن تمحى سيئاته ويعفى عنه ويثاب بحسناته دفعة واحدة لبقاء فطرته على صفائها ونوريتها الأصلية (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) ممن يجانسه ويقارنه من أصحاب اليمين مسرورا فرحا بصحبتهم ومرافقتهم وبما أوتي من حظوظه.

[١٠] (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠))

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) أي : جهته التي تلي الظلمة من الروح الحيوانية والجسد ، فإن وجه الإنسان جهته التي إلى الحق وخلفه جهته التي إلى البدن الظلماني بأن ردّ

٤١٧

إلى الظلمات في صور الحيوانات.

[١١ ـ ١٢] (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢))

(فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) لكونه في ورطة هلاك الروح وعذاب البدن (وَيَصْلى سَعِيراً) أي : سعير نار الآثار في مهاوي الطبيعة.

[١٣ ـ ١٤] (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤))

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي : ذلك لأنه كان بطرا في أهله بالنعم محتجبا بها عن المنعم ، ظانّا أنه لن يرجع إلى ربّه أو إلى الحياة بالبعث لاعتقاده أنه يحيا ويموت ولا يهلكه إلا الدهر.

[١٥] (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

(بَلى) ليحورنّ (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) فيجازيه على حسب حاله.

[١٦] (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) أي : النورية الباقية من الفطرة الإنسانية بعد غروبها واحتجابها في أفق البدن الممزوجة بظلمة النفس عظمها بالإقسام بها لإمكان كسب الكمال والترقي في الدرجات بها.

[١٧] (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧))

(وَاللَّيْلِ) أي : وليل ظلمة البدن (وَما) جمعه من القوى والآلات والاستعدادات التي يمكن بها اكتساب العلوم والفضائل والترقي في المقامات ونيل المواهب والكمالات.

[١٨] (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨))

(وَالْقَمَرِ) أي : قمر القلب الصافي عن خسوف النفس (إِذَا اتَّسَقَ) أي : اجتمع وتمّ نوره وصار كاملا.

[١٩ ـ ٢٠] (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي : مراتب مجاوزة عن مراتب وطبقات وأطوار مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بها.

[٢١ ـ ٢٢] (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢))

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) بتذكير هذه الأطوار والمراتب لا يخضعون ولا ينقادون (بَلِ) المحجوبون عن الحق محجوبون بالضرورة عن الدين.

٤١٨

[٢٣] (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣))

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في وعاء أنفسهم وبواطنهم من الاعتقادات الفاسدة والهيئات الفاسقة.

[٢٤ ـ ٢٥] (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) من نيران الآثار وحرمان الأنوار مؤلم غاية الإيلام لكن (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العلمي بتصفية قلوبهم عن كدر صفات النفس وتزكيتها (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) باكتساب الفضائل (لَهُمْ أَجْرٌ) ثواب الآثار والصفات في جنة النفس والقلب غير مقطوع لبراءته عن الكون والفساد وتجرّده عن المواد والله سبحانه وتعالى أعلم.

٤١٩

سورة البروج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي : الروح الإنساني ذات المقامات في الترقي والدرجات (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي : القيامة الكبرى التي هي آخر درجاته من كشف التوحيد الذاتي (وَشاهِدٍ) أي : الذي شهد الشهود الذاتي في عين الجمع (وَمَشْهُودٍ) أي : الذات الأحدية ومعنى التنكير التعظيم ، أي : شاهد لا يعرفه أحد ولا يقدّر قدره إلا الله لفنائه فيه وانتفاء عينه وأثره فكيف يعرف؟! ، ومشهود لا يعلمه أحد إلا هو. ولعمري إنه عين الشاهد لا فرق إلا بالاعتبار وجواب القسم محذوف مدلول عليه بقوله : (قُتِلَ) أي : لتحجبنّ أو لتلعننّ.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي : لعن البدنيون المحجوبون بصفات النفس في شقوق أرض البدن وأوهادها (النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) بدل الاشتمال من الأخدود لملازمتها إياه وهي الطبيعة الآثارية المحرقة أربابها بالشهوات والأماني (إِذْ هُمْ عَلَيْها) أي : على تلك النار (قُعُودٌ) عاكفون ملازمون لا يبرحون فيتنفسوا في فضاء القدس ويذوقوا روح النفحات الإلهية (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الموحدين أهل الكشف والعيان من الازدراء والاستحقار والاستهزاء والاستنكار (شُهُودٌ) يشهد بعضهم على بعض بذلك.

[٨] (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨))

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي : وما أنكروا منهم (إِلَّا) الإيمان (بِاللهِ الْعَزِيزِ) الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام والحجب والحرمان (الْحَمِيدِ) المنعم على أوليائه بالهداية والإيقان.

[٩] (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يحتجب بهما عن الأشقياء ويتجلى فيهما على الأولياء (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر يظهر ويتجلى على أوليائه على كل ذرة ، فلهذا آمن من آمن وأنكر من أنكر.

٤٢٠