تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : العلماء المحققون يرون حقيّة ما أنزل إليك عيانا لأن المحجوب لا يمكنه معرفة العارف وكلامه ، إذ كل عارف بشيء لا يعرفه إلا بما فيه من معناه ، فمن لم يكن له حظ من العلم ونصيب من المعرفة لا يعرف العالم العارف وعلمه لخلوّه عما به يمكن معرفته (وَيَهْدِي إِلى) طريق الوصول إلى الله (الْعَزِيزِ) الذي يغلب المحجوبين ويمنعهم بالقهر والقمع (الْحَمِيدِ) الذي ينعم على المؤمنين بأنواع اللطف ولو لم يعتبر تطبيق الصفتين على قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) إلى آخره ، واعتبر التطبيق على قوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لكان معنى العزيز القوي الذي يغلب الواصلين بالإفناء الحميد الذي ينعم عليهم بصفاته عند البقاء.

[١٠ ـ ١١] (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١))

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) الروح (مِنَّا فَضْلاً) بعلوّ الرتبة وتسبيح المشاهدة والمناغاة في المحبة مع مزيد العبادة والتفكّر والكمالات العلمية والعملية ، بأن قلنا : يا جبال الأعضاء (أَوِّبِي) أي : سبحي (مَعَهُ) بالتسبيحات المخصوصة بك من الانقياد والتمرن في الطاعات بالحركات والسكنات والأفعال والانفعالات التي أمرناك بها وطير القوى الروحانية بالتسبيحات القدسية من الأذكار والإدراكات والتعقلات والاستفاضات والاستشراقات من الأرواح المجرّدة والذوات المفارقة كل بما أمر (وَأَلَنَّا لَهُ) حديد الطبيعة الجسمانية العنصرية (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) من هيئات الورع والتقوى فإن الورع الحصين في الحقيقة هو لباس الورع الحافظ من صوارم دواعي أعادي النفوس وسهام نوازع الشياطين (وَقَدِّرْ) بالحكمة العملية والصنعة المتقنة العقلية والشرعية في ترغيب الأعمال المزكية ووصول الهيئات المانعة من تأثير الدواعي النفسية (وَاعْمَلُوا) أيها العاملون لله بالجمعية في الجهة السفلية إلى الجهة العلوية عملا صالحا يصعدكم في الترقي إلى الحضرة الإلهية ويعدّكم لقبول الأنوار القدسية. والخطاب لداود الروح وآله من القوى الروحانية والنفسانية والأعضاء البدنية.

[١٢] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢))

(وَلِسُلَيْمانَ) القلب ريح الهوى النفسانية (غُدُوُّها شَهْرٌ) أي : جريها غداة طلوع نور الروح وإشراق شعاع القلب وإقبال النهار سير طور في تحصيل الأخلاق والفضائل والطاعات والعبادات والصوالح التي تتعلق بسعادة المعاد (وَرَواحُها) أي : جريها رواح غروب الأنوار

__________________

(١) سورة سبأ ، الآية : ٤.

١٦١

الروحية في الصفات النفسية وزوال تلألؤ أشعتها ، وإدبار نهار النور سير طور آخر في ترتيب مصالح المعاش من الأقوات والأرزاق والملابس والمناكح وما يتعلق بصلاح النظام وقوام البدن.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ) قطر الطبيعة البدنية الجامدة بالتمرين في الطاعات والمعاملات (وَمِنَ) جنّ القوى الوهمية والخيالية (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) بحضوره في التقديرات المتعلقة بصلاح العالم وعمارة البلاد ورفاهية العباد والتركيبات والتفضيلات المتعلقة بإصلاح النفس واكتساب العلوم (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بتسخيره إياها له وتيسيره الأمور على أيديها (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) بمقتضى طبيعته الجنيّة وينحرف عن الصواب والرأي العقليّ بالميل إلى الزخارف النفسية واللذات البدنية (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) بالرياضة القوية وتسليط القوى الملكية عليها بضرب السياط النارية من الدواعي العقلية القهرية المخالفة للطباع الشيطانية.

[١٣] (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) المقامات الشريفة (وَتَماثِيلَ) الصور الهندسية (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) من ظروف الأرزاق المعنوية والأغذية الروحانية بمحاكاة المعاني بالصور الحسيّة وإيداع الحقائق في الأمثلة الصورية وإدراج المدركات الكلية والواردات الغيبية في الملابس اللفظية والهيئات الجزئية واسعة كالحياض لكونها عرية عن المواد الهيولانية ، وإن اكتفت باللواحق المادية والعوارض الجسمانية (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) من تهيئة الاستعدادات بتركيب القياسات المستقيمة وإعداد موارد العلوم والمعارف بالآراء الصائبة والعزائم القوية الثابتة (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ) الروح بما سخّرنا لكم ما سخرنا ، وأفضنا عليكم من نعم الكمالات ما أفضنا (شُكْراً) باستعمال هذه النعم في طريق السلوك والتوجه إليّ وأداء حقوق العبودية بالفناء فيّ لا في تدبير المملكة الدنيوية وإصلاح الكمالات البدنية (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الذي يعمل استعمال النعم في طاعة الله العمل الخالص لوجه الله.

[١٤] (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) بالفناء فيّ في مقام السرّ (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي : ما اهتدوا إلى فنائه في مقام الروح وتوجهه إلى الحق في حال السرّ إلا بحركة الطبيعة الأرضية وقواها البدنية الضعيفة الغالبة على النفس الحيوانية التي هي منسأته إذ لا طريق لهم إلى الوصول إلى مقام السرّ ولا وقوف على حال القلب فيه ولا شعور بكونه في طور

١٦٢

وراء أطوارهم إلا برابطة اتصال الطبيعة البدنية المتصلة به ، المقهورة بالقوى الطبيعية لضعفها بالرياضة وانقطاع مدد القلب عنها حينئذ أي : لا يطلعون إلا على حال الدابة التي تأكل المنسأة بالاستيلاء عليها لأن النفس الحيوانية عند عروج القلب ضعفت وسقطت قواها ولم يبق منها إلا القوى الطبيعية الحاكمة عليها (فَلَمَّا خَرَّ) من صعقته الموسوية وذهل في الحضور والاشتغال بالحضرة الإلهية عن استعمالها في الأعمال وإعمالها بالرياضات (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) غيب مقام السرّ بالاطلاع على المكاشفات لو كانوا مجرّدين (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) من الرياضة الشاقة التي تمنعهم الحظوظ والمرادات ومقتضيات الطباع والأهواء بالمخالفات والإجبار على الأعمال المتعبة في السلوك والاقتصار بها على الحقوق.

[١٥] (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥))

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) أهل مدينة البدن (فِي مَسْكَنِهِمْ) في مقارّهم ومحالهم (آيَةٌ) دالة لهم على صفات الله وأفعاله (جَنَّتانِ) جنة الصفات والمشاهدات عن يمينهم من جهة القلب والبرزخ التي هي أقوى الجهتين وأشرفهما ، وجنّة الآثار والأفعال عن شمالهم من جهة الصدر والنفس التي هي أضعف الجهتين وأخسّهما (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) من الجهتين كقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١) ، (وَاشْكُرُوا لَهُ) باستعمال نعم ثمراتها في الطاعات والسلوك فيه بالقربات (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) باعتدال المزاج والصحة (وَرَبٌّ غَفُورٌ) يستر هيئات الرذائل وظلمات النفوس والطباع بنور صفاته وأفعاله ، فلكم التمكين من جهة الاستعداد والأسباب والآلات والتوفيق بالإمداد وإفاضات الأنوار.

[١٦ ـ ١٨] (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨))

(فَأَعْرَضُوا) عن القيام بالشكر والتوسل بها إلى الله بل عن الأكل من ثمراتها التي هي العلوم النافعة والحقيقية بالانهماك في اللذات والشهوات والانغماس في ظلمات الطبائع والهيئات.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ) الطبيعة الهيولانية بنقب جرذان سيول الطبائع العنصرية سكر المزاج الذي سدّته بلقيس النفس التي هي ملكتهم. والعرم الجرذ (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ)

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

١٦٣

من شوك الهيئات المؤذية وأثل الصفات السيئة البهيمية والسبعية والشيطانية (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي : ثمرة مرّة بشعة كقوله : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)) (١).

(وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) بقاء الصفات الإنسانية (قَلِيلٍ ذلِكَ) العقاب (جَزَيْناهُمْ) بكفرانهم النعم (وَهَلْ نُجازِي) بذلك (إِلَّا الْكَفُورَ) الذي يستعمل نعمة الرحمن في طاعة الشيطان (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) من الحضرة القلبية والسرية والروحية والإلهية بالتجليات الأفعالية والصفاتية والأسمائية الذاتية وأنوار المكاشفات والمشاهدات (قُرىً ظاهِرَةً) مقامات ومنازل مترائية متواصلة كالصبر والتوكل والرضا وأمثالها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) إلى الله وفي الله مرتبا يرتحل السالك في الترقي من مقام وينزل في مقام (سِيرُوا) في منازل النفوس (لَيالِيَ) وفي مقامات القلوب ومواردها (وَأَيَّاماً آمِنِينَ) بين القواطع الشيطانية وغلبات الصفات النفسانية بقوة اليقين والنظر الصحيح على منهاج الشرع المبين.

[١٩] (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

(فَقالُوا) بلسان الحال والتوجه إلى الجهة السفلية المبعدة عن الحضرة القدسية والميل إلى المهاوي البدنية والسير في المهامة الطبيعية والمهالك الشيطانية (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالاحتجاب عن أنوار القرى المباركة بظلمات البرازخ المنحوسة (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) وآثارا سائرة بين الناس في الهلاك والتدمير (وَمَزَّقْناهُمْ) بالغرق والتفريق.

[٢٠ ـ ٥٤] (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٦٥.

١٦٤

بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) على الناس (إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) في قوله : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) (١) وأمثال ذلك. والفريق المستثنون هم المخلصون (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما سلطناه عليهم إلا لظهور علمنا في مظاهر العلماء المحققين المخلصين

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١١٩.

١٦٥

وامتيازهم عن المحجوبين المرتابين ، فإن المستعدّ الموفق الصافي القلب ينبع علمه من مكمن الاستعداد ويتفجر من قلبه عند وسوسة الشيطان فيرجمه بمصابيح الحجج النيّرة ويطرده بالعياذ بالله عند ظهور مفسدته الغوية بخلاف غيره من الذين اسودّت قلوبهم بصفات النفوس وناسبت بجهالاتهم مكايد الشيطان وأحوال القيامة الكبرى من الجمع والفصل والفتح بين المحق والمبطل ومقالات الظالمين كلها تظهر عند ظهور المهدي عليه‌السلام.

١٦٦

سورة الملائكة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) عن جهات التأثير الكائنة في الملكوت السماوية والأرضية بالأجنحة ، جعلها الله رسلا مرسلة إلى الأنبياء بالوحي وإلى الأولياء بالإلهام وإلى غيرهم من الأشخاص الإنسانية وسائر الأشياء بتصريف الأمور وتدميرها ، فما يصل بتأثيرهم إلى ما يتأثر منه فهو جناح ، فكل جهة تأثير جناح مثلا : إنّ العاقلتين العلمية والنظرية جناحان للنفس الإنسانية والمدركة والمحركة الباعثة والمحركة الفاعلة ثلاثة أجنحة للنفس الحيوانية والغاذية والنامية والمولدة والمصوّرة أربعة أجنحة للنفس النباتية. ولا تنحصر أجنحتهم في العدد بل لهم بحسب تنوّعات التأثيرات أجنحة. ولهذا حكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى جبريل عليه‌السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح ، وأشار إلى كثرتها بقوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ).

[١٠ ـ ٢٧] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ

١٦٧

شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي : العزة صفة من صفات الله مخصوصة به ، من أرادها فعليه بالفناء في صفات الله تعالى عن صفاته ، ثم علّم طريق التجريد ومحو الصفات بقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي : النفوس الصافية الطيبة عن خبائث الطبائع الباقية على نور فطرتها ، الذاكرة لميثاق توحيدها (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) بالتزكية والتحلية (يَرْفَعُهُ) أي : يرفع ذلك الجنس الطيب إلى حضرته دون غيره فيتّصف بصفة العزّة وسائر الصفات. أو إليه يصعد العلم الحقيقي من التوحيد الأصلي الفطري الطيب عن خبائث التوهمات والتخيلات والعمل الصالح بمقتضاه يرفعه دون غيره كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم مقرون بالعمل ، والعلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل» ، أي : سلم الصعود إلى الحضرة الإلهية هو العلم والعمل لا يمكن الترقي إلا بهما ولا يكفي التوحيد الذي هو الأصل في الاتّصاف بعزّته وسائر صفاته لأن الصفات مصادر الأفعال فما لم يترك الأفعال النفسية التي مصادرها صفات النفس بالزهد والتوكل ولم يتجرّد عن هيئاتها بالعبادة والتبتل لم يحصل استعداد الاتصاف بصفاته تعالى ، فكان العلم الحقيقي الذي هو التوحيد بمثابة عضادتي السلم والعمل بمثابة الدرجات في الترقي.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) بظهور صفات النفوس وإن كانوا عالمين (لَهُمْ عَذابٌ) من هيئات الأعمال القبيحة المؤذية (شَدِيدٌ).

١٦٨

[٢٨] (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي : ما يخشى الله إلا العلماء ، العرفاء به ، لأنّ الخشية ليست هي خوف العقاب بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة واستحضاره لها ، فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيه ، ومن تجلى الله له بعظمته خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوري الحاصل للعالم الغير العارف وبين التجلي الثابت للعالم العارف بون بعيد ، ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كل شيء بعظمته (غَفُورٌ) يستر صفة تعظم النفس وهيئة تكبرها بنور تجلي عزّته.

[٢٩ ـ ٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) الذي أعطاهم في بدء الفطرة من العقل القرآني بإظهاره وإبرازه ليصير فرقانا (وَأَقامُوا) صلاة الحضور القلبي عند ظهور العلم الفطري (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من صفة العلم والعمل الموجب لظهوره عليهم (سِرًّا) بالتجريد عن الصفات (وَعَلانِيَةً) بترك الأفعال (يَرْجُونَ) في مقام القلب بالترك والتجريد (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) من استبدال أفعال الحق وصفاته بأفعالهم وصفاتهم (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) في جنات النفس والقلب من ثمرات التوكل والرضا (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) في جنات الروح مشاهدات وجهه في التجليات (إِنَّهُ غَفُورٌ) يستر لهم ذنوب أفعالهم وصفاتهم (شَكُورٌ) يشكر سعيهم بالإبدال من أفعاله وصفاته.

[٣١] (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) الفرقاني المطلق (هُوَ الْحَقُ) الثابت المطلق الذي لا مزيد عليه ولا نقص فيه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لكونه مشتملا عليها ، حاويا لما فيها بأسرها (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) يعلم أحوال استعداداتهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، يعطيهم الكمال على حسب الاستعداد بقدر الاستحقاق بالأعمال.

[٣٢] (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢))

١٦٩

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا) منك هذا (الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) المحمديين المخصوصين من عند الله بمزيد العناية وكمال الاستعداد بالنسبة إلى سائر الأمم لأنهم لا يرثون ولا يصلون إليه إلا منك وبواسطتك لأنك المعطي إياهم الاستعداد والكمال فنسبتهم إلى سائر الأمم نسبتك إلى سائر الأنبياء (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بنقص حق استعداده ومنعه عن خروجه إلى الفعل وخيانته في الأمانة المودعة عنده بحملها وإمساكها والامتناع عن أدائها لانهماكه في اللذات البدنية والشهوات النفسانية (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) يسلك طريق اليمين ويختار الصالحات من الأعمال والحسنات ، ويكتب الفضائل والكمالات في مقام القلب (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) التي هي تجليات الصفات إلى الفناء في الذات (بِإِذْنِ اللهِ) بتيسيره وتوفيقه ، (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

[٣٣] (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) من الجنان الثلاث (يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) صور كمالات الأخلاق والفضائل والأحوال والمواهب المصوغة بالأعمال من ذهب العلوم الروحانية ولؤلؤ المعارف والحقائق الكشفية الذوقية فلباسهم فيها حرير الصفات الإلهية.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

(وَقالُوا) بألسنة أحوالهم وأقوالهم عند اتّصافهم بجميع الصفات الحميدة حالة البقاء بعد الفناء (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) اللازم لفوات الكمالات الممكنة بحسب الاستعدادات بهبته لنا إياها في هذا الوجود الحقاني (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) جزاؤنا منه أوفى وأبقى مما نستحقه بسعينا (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ) الإقامة الدائمة التي لا انتقال منها بوجه في هذا الوجود الموهوب من عطائه الصرف وفضله المحض (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) بالسعي والانتقال (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) بالسير والترحال.

[٣٦ ـ ٤٥] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا

١٧٠

مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) المحجوبون منك بالإنكار ، الذين لا يقبلون الكتاب ولا يرثونه لبعدهم عنك في الحقيقة ، فلا تقارب ولا تواصل بينك وبينهم.

(لَهُمْ نارُ) جهنم الطبيعة يعذبون فيها بأنواع الحرمان والآلام دائما (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ويستريحوا (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) فيتنفسوا ، والله أعلم.

١٧١

سورة يس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) يس) أقسم بالصنفين الدالين على كمال استعداده كما ذكر في (طه). (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) الذي هو الكمال التامّ اللائق باستعداده على أنه بسبب هذه الأمور من المرسلين على طريق التوحيد الموصوف بالاستقامة وذلك أن (ي) إشارة إلى اسمه الواقي و (س) إلى اسمه السلام الذي وقى سلامة فطرتك السالمة عن النقص في الأزل عن آفات حجب النشأة والعادة والسلام الذي هو عينها وأصلها ، والقرآن الحكيم الذي هو صورة كمالها الجامع لجميع الكمالات المشتمل على جميع الحكم.

[٣ ـ ٥] (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥))

(إِنَّكَ) بسبب هذه الثلاثة (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي : القرآن الشامل للحكمة الذي هو صورة كمال استعدادك تنزيل بإظهاره مفصلا من مكمن الجمع على مظهرك ليكون فرقانا من العزيز الغالب الذي غلب على أنائيتك وصفات نشأتك وقهرها بقوّته لئلا تظهر وتمنع ظهور القرآن المكنون في غيبك على مظهر قلبك وصيرورته فرقانا. الرحيم الذي أظهره عليك بتجليات صفاته الكمالية بأسرها.

[٦] (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

(لِتُنْذِرَ قَوْماً) بلغوا في كمال استعدادهم ما لم يبلغ آباؤهم فما أنذروا بما أنذرتهم به (فَهُمْ غافِلُونَ) عما أوتي إليهم من الاستعداد البالغ حدّا لم يبلغه استعداد أحد من الأمم السابقة ، كما قال : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (١).

[٧] (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) في القضاء السابق بأنهم أشقياء (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لأنه إذا قويت الاستعدادات عند ظهورك قوي الأشقياء في الشرّ كما قوي السعداء في الخير.

[٨] (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٣٢.

١٧٢

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) من قيود الطبيعة البدنية ومحبّة الأجرام السفلية (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) تمنع رؤوسهم عن التطأطؤ للقبول إذ عمت الأعناق التي هي مفاصل تصرّفات الرؤوس وأطبقت المفاصل حتى جاوزت أعاليها وبلغت حدّ الرؤوس من قدّام فلم يبق لهم تصرّف بالقبول ولا تأثر بالانفعال والميل إلى الركوع والسجود للانقياد والفناء ، فإنّ الكمالات الإنسانية انفعالية لا تحصل إلا بالتذلّل والانقهار (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ممنوعون عن قبولها بإمالة الرؤوس.

[٩ ـ ١٠] (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من الجهة الإلهية (سَدًّا) من حجاب ظهور النفس والصفات المستولية على القلب منعهم من النظر إلى فوق ليشتاقوا للقاء الحقّ عند رؤية الأنوار الجمالية (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من الجهة البدنية (سَدًّا) من حجاب الطبيعة الجسمانية ولذاتها المانعة لامتثالهم الأوامر والنواهي فمنعهم من العمل الصالح الذي يعدّهم لقبول الخير والصفات الجلالية فانسدّ لهم طريق العلم والعمل فهم واقفون مع أصنام الأبدان حيارى يعبدونها لا يتقدّمون ولا يتأخرون (فَأَغْشَيْناهُمْ) بالانغماس في الغواشي الهيولانية والانغمار في الملابس الجسمانية (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لكثافة الحجب من جميع الجهات وإحاطتها بهم وإذا لم يبصروا ولم يتأثروا وعدم فالإنذار وعدم الإنذار بالنسبة إليهم سواء.

[١١ ـ ١٢] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

(إِنَّما تُنْذِرُ) أي : يؤثر الإنذار وينجع في (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) لنورية استعداده وصفائه فيتأثر به ويقبل الهداية بما في استعداده من التوحيد الفطري والمعرفة الأصلية ، فيتذكر ويخشى الرحمن بتصوّر عظمته مع غيبته من التجلي فيتبعه بالسلوك ليحضر ما هو غائب عنه ويرى ما استضاء بنوره (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) عظيمة من ستر ذنوب حجب أفعاله وصفاته وذاته (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) من جنات أفعال الحق وصفاته وذاته.

[١٣ ـ ٣٦] (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا

١٧٣

طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) إلى آخر المثل ، يمكن أن يؤوّل أصحاب القرية بأهل مدينة البدن والرسل الثلاثة بالروح والقلب والعقل ، إذ أرسل إليهم اثنان أوّلا (فَكَذَّبُوهُما) لعدم التناسب بينهما وبينهم ، ومخالفتهم إياهما في النور والظلمة ، فعزّزوا بالعقل الذي يوافق النفس في المصالح والمناجح ويدعوها وقومها إلى ما يدعو إليه القلب والروح فيؤثر فيهم.

وتشاؤمهم بهم : تنفّرهم عنهم لحملهم إياهم على الرياضة والمجاهدة ومنعهم عن اللذات والحظوظ. ورجمهم إياهم : رميهم بالدواعي الطبيعية والمطالب البدنية. وتعذيبهم إياهم : استيلاؤهم عليهم واستعمالهم في تحصيل الشهوات البهيمية والسبعية. والرجل الذي جاء من أقصى المدينة ، أي : من أبعد مكان منها ، هو العشق المنبعث من أعلى وأرفع موضع منها بدلالة شمعون العقل ونظره لإظهار دين التوحيد والدعوة إلى الحبيب الأول وتصديق الرسل (يَسْعى) لسرعة حركته ويدعو الكل بالقهر والإجبار إلى متابعة الرسل في التوحيد ، ويقول : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وكان اسمه حبيبا وكان نجارا ينحت في بدايته أصنام مظاهر الصفات من الصور لاحتجابه بحسنها عن جمال الذات وهو المأمور بدخول جنة الذات ، قائلا : (يا لَيْتَ قَوْمِي) المحجوبين عن مقامي وحالي (يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) ذنب عبادة أصنام مظاهر الصفات ونحتها (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) لغاية قربي في الحضرة الأحدية. وفي الحديث : «إنّ لكل شيء قلبا ، وقلب القرآن يس» ، فلعل ذلك لأن حبيبا المشهور بصاحب يس آمن به قبل بعثته بستمائة سنة وفهم سرّ نبوته ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٧٤

«سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين ، عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وصاحب يس ومؤمن آل فرعون».

[٣٧ ـ ٣٩] (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩))

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) أي : ليل ظلمة النفس (نَسْلَخُ مِنْهُ) نهار ونور شمس الروح والتلوين (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) وشمس الروح (تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) وهو مقام الحق في نهاية سير الروح (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) المتمنع من أن يصل إلى حضرة أحديته شيء ، الغالب على الكل بالقهر والفناء (الْعَلِيمِ) الذي يعلم حدّ كمال كل سيّار وانتهاء سيره ، وقمر القلب (قَدَّرْناهُ) أي : قدّرنا مسيره في سيره (مَنازِلَ) من الخوف والرجاء والصبر والشكر وسائر المقامات كالتوكل والرضا (حَتَّى عادَ) عند فنائه في الروح في مقام السرّ (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وهو بقرب استسراره فيه وإضاءة وجهه الذي يلي الروح قبل تمام فنائه فيه ، واحتجابه لنوريته عن النفس والقوى ، وكونه بدرا إنما يكون في موضع الصدر في مقابلة مقام السرّ.

[٤٠] (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سيره فيكون له الكمالات الصدرية من الإحاطة بأحوال العالمين والتجلي بالأخلاق والأوصاف (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) بإدراك القمر الشمس وتحويل ظلمة النفس نهار نور القلب لأن القمر إذا ارتقى إلى مقام الروح بلغ الروح حضرة الوحدة فلا تدركه وتكون النفس حينئذ نيّرة في مقام القلب لا ظلمة لها ، فلم تسبق ظلمتها نوره بل زالت مع أن القلب ونوره في مقام الروح فلم تسبقه على تقدير بقائها (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي : مدار ومحل لسيرة معيّن في بدايته ونهايته لا يتجاوز حدّيه المعينين (يَسْبَحُونَ) يسيرون إلى أن جمع الله بينهما في حدّ وخسف القمر بها وأطلع الشمس من مغربها فتقوم القيامة.

[٤١ ـ ٤٤] (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) وهو سفينة نوح فيه سرّ من أسرار البلاغة حيث لم يذكر آباءهم الذين كانوا فيها بل ذريّاتهم الذين كانوا في أصلابهم ، فلا بد من وجود الذرّيات حينئذ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) أي : مثل سفينة نوح وهي السفينة المحمدية (ما يَرْكَبُونَ)

١٧٥

[٤٥ ـ ٥٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩))

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من أحوال القيامة الكبرى (وَما خَلْفَكُمْ) من أحوال القيامة الصغرى ، فإن الأولى تأتي من جهة الحقّ والثانية تأتي من جهة النفس بالفناء في الله في الأولى ، والتجرّد عن الهيئات البدنية في الثانية والنجاة منها. والصيحتان هما التنبّه عن النفخة الأولى بوقوع مقدّماتها وانزعاج القوى كلها دفعة عن مقارّها ، وعن الثانية بوقوعها وانتباهتهم دفعة ، وانتشار القوى في محالها. والأجداث : الأبدان التي هي مراقدهم.

[٥٥ ـ ٨١] (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا

١٧٦

أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١))

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) من أنوار التجليات ومشاهدات الصفات ، متلذذون هم ونفوسهم الموافقة لهم في التوجه (فِي ظِلالٍ) من أنوار الصفات (عَلَى الْأَرائِكِ) المقامات والدرجات (مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) من أنواع المدركات وأصناف الواردات والمكاشفات (وَلَهُمْ) ما يتمنون من المشاهدات ، وهي : (سَلامٌ) أعني (قَوْلاً) بإفاضة الكمالات وتبرئتهم بها من وجوه النقص التي تنبعث منها دواعي التمنيات صادرا (مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يرحم بتلك المشتهيات. والعهد عهد الأزل وميثاق الفطرة وعبادة الشيطان ، هو الاحتجاب بالكثرة لامتثال دواعي الوهم والصراط المستقيم طريق الوحدة. وقال الضحاك في وصف جهنم : «إن لكل كافر بئرا من النار يكون فيه لا يرى ولا يدري» ، وذلك صورة احتجابه. ومعنى الختم على الأفواه وتكليم الأيدي وشهادة الأرجل : تغيير صورهم وحبس ألسنتهم عن النطق وتصوير أيديهم وأرجلهم على صور تدل بهيئاتها وأشكالها على أعمالها وتنطق بألسنة أحوالها على ملكاتها من هيئات أفعالها.

[٨٢ ـ ٨٣] (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

(إِنَّما أَمْرُهُ) عند تعلق إرادته بتكوين شيء ترتب كونه على تعلق الإرادة به دفعة معا بلا تخلل زماني (فَسُبْحانَ) أي : نزّه عن العجز والتّشبه بالأجسام والجسمانيات في كونها وكون أفعالها زمانية (الَّذِي) تحت قدرته وفي تصرّف قبضته (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) من النفوس والقوى المدّبرة له (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء فيه والانتهاء إليه ، والله أعلم.

١٧٧

سورة الصافات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم بنفوس السالكين في سبيله طريق التوحيد ، الصافات في مقامهم ومراتب تجلياتهم ومواقف مشاهداتهم (صَفًّا) واحدا في التوجه إليه (فَالزَّاجِراتِ) في دواعي الشياطين ، وفوارغ التمنيات النفسانية في الأحايين (زَجْراً) بالأنوار والأذكار والبراهين (فَالتَّالِياتِ) نوعا من أنواع الأذكار بحسب أحوالهم باللسان أو القلب أو السرّ أو الروح كما ذكر غير مرة على وحدانية معبودهم لتثبيتهم في التوجه عن الزيغ والانحراف بالالتفات إلى الغير (رَبُ) سموات الغيوب السبعة التي هم سائرون فيها ، وأرض البدن (وَما بَيْنَهُما وَرَبُ) مشارق تجليات الأنوار الصفاتية ، وصفه بالوحدانية الذاتية في أطوار الربوبية الكاشفة عن وجوه التحوّلات بتعدّد الأسماء ليتحفظوا عند تعدّد تجليات الصفات وترتب المقامات من الاحتجاب بالكثرة.

[٦] (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦))

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : العقل الذي هو أقرب السموات الروحانية بالنسبة إلى القلب (بِزِينَةٍ) كواكب الحجج والبراهين ، كقوله : (بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (١).

[٧] (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧))

(وَحِفْظاً) أي : وحفظناها (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) من شياطين الأوهام والقوى التخيلية عند الترقي إلى أفق العقل بتركيب الموهومات والمخيلات في المغالطات والتشكيكات (مارِدٍ) خارج عن طاعة الحق والعقل.

[٨ ـ ٩] (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩))

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) من الروحانيات والملكوت السماوية بتلك الحجج (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من جميع الجهات السماوية ، أي : من أي وجه من وجوه المغالطة والتخييل

__________________

(١) سورة الملك ، الآية : ٥.

١٧٨

يركبون القياس ويرتقون به ، يقذفون بما يبطله من الدحور والطرد ، أو مدحورين مطرودين (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دائم الرياضات وأنواع الزجر في المخالفات.

[١٠ ـ ٣٩] (إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) في الاستراق فموّه كلامه بهيئة جليّة وأوهم الحق بصورة نورية استفادها من كلمة حقة ملكية (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) من برهان نيّر عقليّ ، أو إشراق نور قدسي فأبطلها وطرد الجنيّ بنفي الصورة الوهمية التي أوهمها.

[٤٠] (إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠))

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع ، أي : لكن عباد الله المخصوصون به لفرط عنايتهم به ، الذين أخلصهم الله عن شوب الغيرية والأنانية والبقية واستخلصهم لنفسه بفناء الأنانية والاثنينية.

[٤١ ـ ٤٣] (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣))

(أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) يعلمه الله دون غيره وهو معلومات الله المقوّية لقلوبهم المغذيّة لأرواحهم.

(فَواكِهُ) ملذة غاية التلذيذ ، إذ الفاكهة ما يتلذّذ به ، أي : يتلذذون في مكاشفاتهم بما يحضرهم من معلوماته تعالى (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الجنات الثلاث يتنعمون بقرب الحق في حضرته غاية الإكرام والتنعم.

١٧٩

[٤٤ ـ ٤٨] (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨))

(عَلى سُرُرٍ) مراتب ودرجات (مُتَقابِلِينَ) في الصف الأول ، مترائين لا يحجب بعضهم عن بعض ولا يتفاضلون في المقاعد (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ) خمر العشق (مَعِينٍ) مكشوف لأهل العيان إذ دنّه المعاينة فكيف لا يعاين.

(بَيْضاءَ) نورية من عين الأحدية الكافورية ، لا شوب فيها ولا مزج من التعينات (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ) يغتال العقل لأنهم أهل صحو أخلصهم الله من الشوائب والحجاب فلا ينكر لهم (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) بذهاب العقول وإلا لم يكونوا أهل الجنات الثلاث في مقام البقاء.

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) من أهل الجبروت والملكوت والنفوس المجرّدة ، الواقفات تحت مراتبهم في مقام تجليات الصفات وسرادقات الجلال ، وفي مجالي مشاهداتهم تحت قباب الجمال في روضات القدس وحضرة الأسماء (عِينٌ) لأنّ ذواتهم كلها عيون لا يمدون طرفا عنهم لفرط محبّتهم وعشقهم لهم لأنهم هم المعشوقون.

[٤٩ ـ ٦٣] (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣))

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) في الأداحي لغاية صفائها في خدور القدس ونقائها من موادّ الرجس (يَتَساءَلُونَ) يتحادثون بأحاديث أهل الجنة والنار ومذاكرة أحوال السعداء والأشقياء ، مطلعين على كلا الفريقين وما هم فيه من الثواب والعقاب ، كما ذكر في وصف أهل (الأعراف).

[٦٤ ـ ٦٥] (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥))

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وهي شجرة النفس الخبيثة المحجوبة النابتة في قعر جهنم الطبيعة ، المتشعبة أغصانها في دركاتها القبيحة الهائلة ، ثمراتها من الرذائل والخبائث كأنها من غاية القبح والتشوّه والخبث بالتنفر (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي : تنشأ منها الدواعي

١٨٠