تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

أن هذه الرياضة مزجرة للقوة الفلانية مهلكة لها كالانقهار والتسخر للغضب والصوم للشهوة والضّعة للتكبّر والذلّة للتجبر وأمثال ذلك (فَجَعَلَهُمْ) هلكى هامدة لا حراك بها (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي : كقوى نباتية أميتت وذهبت قوتها وخاصيتها ووقفت عن فعلها لضعفها بالرياضة ، والله أعلم.

٤٦١

سورة قريش

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) القوى الروحانية وإيقاع مؤالفتها وموافقتها ومسالمتها في اكتساب الفضائل واتحادها في التوجه نحو الكمال في الرحلتين (رِحْلَةَ الشِّتاءِ) وبعد شمس الروح عن سمت رؤوسهم والأوى إلى غور البدن وترتيب مصالح المعاش وإصلاح أحوال البدن والقيام بضرورياته وعمارته ورحلة صيف قرب تلك الشمس من سمت رؤوسهم والرقيّ إلى أنجاد عالم القدس والتلقي لروح اليقين.

[٣ ـ ٤] (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) بالتوحيد وتخصيص العبادة به والتوجه نحوه بعد معرفته (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) أطعمة المعاني اليقينية والمعارف الحقيقية والحقائق الإلهية (مِنْ جُوعٍ) داعية الاستعداد وتقاضي الفطرة في سنة الجهل البسيط (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) استيلاء حبشة القوى النفسانية وتخطفهم إياهم ومنعهم عن الانقياد والسعي في تخريب الديار والأسر عن الاختيار والاستئصال بالدمار والبوار والله الموفق. والسورتان كانتا في مصحف أبيّ سورة واحدة وبعض كبار الصحابة قرأهما في ثانية المغرب معا والسلام.

٤٦٢

سورة الماعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي : هل عرفت الجاهل المحجوب عن الجزاء من هوان لم تعرفه (فَذلِكَ) هو المرتكب جميع أصناف الرذائل ، المنهمك فيها لأن الجهل والاحتجاب الذي هو رذيلة القوة النطقية أصل جميعها (الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) يؤذي الضعيف ويدفعه بعنف وخشونة لاستيلاء النفس السبعية وإفراطها (وَلا يَحُضُ) أهله (عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ويمنع المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال واستحكام رذيلة البخل في نفسه. المعروف عن المستحق لاستيلاء النفس البهيمية ومحبة المال واستحكام رذيلة البخل في نفسه.

[٤ ـ ٥] (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥))

(فَوَيْلٌ) لهم أي : للموصوفين بهذه الصفات الذين إن صلوا غفلوا عن صلاتهم لاحتجابهم عن حقيقتها بجهلهم وعدم حضورهم ، والمصلين من باب وضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بأن أشرف أفعالهم وصور حسناتهم سيئات وذنوب لعدم ما هي به معتبرة من الحضور والإخلاص. وأورد على صيغة الجمع لأن المراد بالذي يكذب هو الجنس.

[٦ ـ ٧] (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) لاحتجابهم بالخلق عن الحق (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الذي يعان به الخلق ويصرف في معونتهم من الأموال والأمتعة وكل ما ينتفع به لكون الحجاب حاكما عليهم بالاستئثار بالمنافع وحرمانهم عن النظر التوحيدي واحتجابهم بالمطالب الجزئية عن الكلية وعدم اعتقادهم بالجزاء ، فلا محبة لهم للحق للركون إلى عالم التضادّ والهبوط إلى طبيعة الكون والفساد والاحتجاب عن حقيقة الاتحاد ولا عدالة في أنفسهم للاتصاف بالرذائل والبعد عن الفضائل ولا خوف ولا رجاء لغفلتهم عن الكمال والجهل بالمعاد فلا يعاونون أحدا فلن يفلحوا أبدا ، والله أعلم.

٤٦٣

سورة الكوثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي : معرفة الكثرة بالوحدة وعلم التوحيد التفصيلي وشهود الوحدة في عين الكثرة بتجلي الواحد الكثير والكثير الواحد وهو نهر في الجنة من شرب منه لم يظمأ أبدا (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أي : إذا شاهدت الواحد في عين الكثرة فصلّ بالاستقامة الصلاة التامة بشهود الروح وحضور القلب وانقياد النفس وطاعة البدن بالتقلّب في هياكل العبادات فإنها الصلاة الكاملة الوافية بحقوق الجمع والتفصيل (وَانْحَرْ) بدنة أنائيتك لئلا تظهر في شهودك بالتلوين ونسلبك مقام التمكين ، وكن مع الحق بالفناء الصرف ، باقيا ببقائه أبدا ، فلا تكون أبتر في وصولك وحالك واتصال أمتك الذين هم ذريتك بك (إِنَ) مبغضك الذي على خلاف حالك المنقطع عن الحق (هُوَ الْأَبْتَرُ) لا أنت ، فإنك الباقي ببقائه الدائم المتصل بك ذرياتك الحقيقة من أهل الإيمان أبد الآبدين المذكور فيهم دهر الداهرين وهو الفاني بالحقيقة الهالك الذي لا يوجد ولا يذكر ولا ينسب إليه ولد حقيقة ، والله أعلم.

٤٦٤

سورة الكافرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الذين ستروا نور استعدادهم الأصلي بظلمة صفات النفوس وآثار الطبيعة ، فحجبوا عن الحق بالغير (لا أَعْبُدُ) أبدا وأنا شاهد للحق بالشهود الذاتي (ما تَعْبُدُونَ) من الآلهة المجعولة بهواكم ، المصوّرة بخيالكم والممثلة المعينة بعقولكم لمكان حجابكم.

[٣ ـ ٥] (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥))

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) أبدا وأنتم أنتم أي : على حالكم وما أنتم عليه من احتجابكم (ما أَعْبُدُ) لامتناع معرفة الحق من الذين طبع على قلوبهم بالرين (وَلا أَنا) قط (عابِدٌ) في الزمان الماضي قبل الكمال والوصول التام بحسب الاستعداد الأول والفطرة الأولى أي : الذات المجرّدة وحدها (ما عَبَدْتُّمْ) فيه بحسب استعداداتكم الأوّلية قبل الاحتجاب والرين لكمال استعدادي في الأزل وتوجهه إلى الحق في الفطرة ونقصان استعداداتكم أزلا (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) بحسب ذلك الاستعداد (ما أَعْبُدُ) أي : ولا يمكنكم عبادة معبودي بحسب الفطرة لنقصها الذاتي ، والحاصل إن عبادتي معبودكم وعبادتكم معبودي على الحال التي نحن فيها من الاستعداد الثاني الذي هو كمالي واحتجابكم كلاهما محال في الحال والاستقبال ، وكذا قبل هذا الاستعداد حال الاستعداد الأولي أيضا بحسب الذوات والأعيان أنفسها كان غير ممكن في الأزل لوفور استعدادي وقصور استعداداتكم ، ومعناه : سلب الإمكان الاستقبالي والوصفي والذاتي والأزلي ليفيد ضرورة السلب الأزلية.

[٦] (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

(لَكُمْ دِينُكُمْ) من عبادة معبوداتكم (وَلِيَ دِينِ) من عبادة معبودي أي : لما لم يمكن الوفاق بيننا تركتكم ودينكم فاتركوني وديني ، والله أعلم.

٤٦٥

سورة النصر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي : المدد الملكوتي والتأييد القدسي بتجليات الأسماء والصفات (وَالْفَتْحُ) المطلق الذي لا فتح وراءه وهو فتح باب الحضرة الأحدية والكشف الذاتي بعد الفتح المبين في مقام الروح بالمشاهدة ٨

[٢] (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢))

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ) أي : التوحيد والسلوك على الصراط المستقيم بتأثير نورك فيهم عند فراغك من تكميل نفسك (أَفْواجاً) مجتمعين كأنهم نفس واحدة تستفيض من فيض ذاتك قائمة مقام نفسك وهم المستعدّون الذين كانت بين نفسه عليه‌السلام وأنفسهم علاقة مناسبة ورابطة جنسية توجب اتصالهم به بقبول فيضه.

[٣] (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

(فَسَبِّحْ) أي : نزّه ذاتك من الاحتجاب بمقام القلب الذي هو معدن النبوّة بقطع علاقة البدن والترقي إلى مقام حق اليقين الذي هو معدن الولاية (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : حامدا له بإظهار كمالاته وأوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلي (وَاسْتَغْفِرْهُ) واطلب ستره ذاتك بذاته كما كان حال الفناء قبل الرجوع إلى الخلق أبدا (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) قابلا لرجوع من رجع إليه بإفنائه بنوره ، ولما كمل الدين واستقرّت دعوته التي كانت بعثته لأجلها أمره بالرجوع إلى مقام حق اليقين الذي لا يستمر إلا بعد الموت ، ولذلك لما نزلت فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استبشر الأصحاب وبكى ابن عباسفقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك؟» قال : نعيت إليك نفسك! فقال عليه‌السلام : «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا». وروى أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله» ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعنه أنه دعا فاطمة عليها‌السلام فقال : «يا بنتاه! نعيت إليّ نفسي» فبكت ، فقال : «لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي» ، فضحكت. وتسمى هذه السورة (سورة التوديع) ، وروي أنه عاش بعدها سنتين ونزلت في حجة الوداع.

٤٦٦

سورة تبت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢))

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) أي : هلك ما هو سبب عمله الخبيث الذي استحق به الجهنمي الملازم لنار الهلاك وهلك ذاته الخبيثة لاستحقاقها بحسب استعدادها ، أي : استحق النار بذاته وبوصفه نارا على نار ولذلك ذكره بكنيته الدالة على لزومه إياها (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي : ما نفعه ماله الأصلي من العلم الاستعدادي الفطري ولا مكسوبه لعدم مطابقة اعتقاده لما في نفس الأمر وكلاهما متعاونان في تعذيبه وما يجدي له أحدهما.

[٣ ـ ٤] (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤))

(سَيَصْلى ناراً) عظيمة لاحتجابه بالشرك (ذاتَ لَهَبٍ) زائد على أصله لخبث أعماله وهيئاتها فيصلى بالاعتقاد الفاسد والعمل السيئ هو (وَامْرَأَتُهُ) متقارنين فيها (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي : التي تحمل أوزار آثامها وهيئات أعمالها الخبيثة التي هي وقود نار جهنم وحطبها.

[٥] (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

(فِي جِيدِها حَبْلٌ) قويّ مما مسد ، أي : فتل فتلا قويّا من سلاسل النار لمحبتها الرذائل والفواحش فربطت هيئاتها وآثامها بذلك الحبل إلى عنقها تعذيبا لها بما يجانس خطاياها ، والله أعلم.

٤٦٧

سورة الإخلاص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قل ، أمر من عين الجمع وارد على مظهر التفصيل هو عبارة عن الحقيقة الأحدية الصرفة أي : الذات من حيث هي بلا اعتبار صفة لا يعرفها إلا هو ، والله بدل منه وهو اسم الذات مع جميع الصفات دال بالإبدال على أن صفاته تعالى ليست بزائدة على ذاته بل هي عين الذات لا فرق إلا بالاعتبار العقلي ولهذا سميت سورة (الإخلاص) لأن الإخلاص تمحيص الحقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، وإياه عنى من قال : صفاته تعالى لا هو ولا غيره ، أي : لا هو باعتبار العقل ولا غيره بحسب الحقيقة. وأحد : خبر المبتدأ ، والفرق بين الأحد والواحد أن الأحد هو الذات وحدها بلا اعتبار كثرة فيها أي : الحقيقة المحضة التي هي منبع العين الكافوري بل العين الكافوري نفسه وهو الوجود من حيث هو وجود بلا قيد عموم وخصوص وشرط عروض ولا عروض ، والواحد هو الذات مع اعتبار كثرة الصفات وهي الحضرة الأسمائية لكون الاسم هو الذات مع الصفة فعبر عن الحقيقة المحضة الغير المعلومة إلا له ب «هو» ، وأبدل عنها الذات مع جميع الصفات دلالة على أنها عين الذات وحدها في الحقيقة وأخبر عنها بالأحدية ليدلّ على أن الكثرة الاعتبارية ليست بشيء في الحقيقة وما أبطلت أحديته وما أثرت في وحدته ، بل الحضرة الواحدية هي بعينها الحضرة الأحدية بحسب الحقيقة كتوهم القطرات في البحر مثلا.

[٢ ـ ٤] (اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

(اللهُ الصَّمَدُ) أي : الذات في الحضرة الواحدية بحسب اعتبار الأسماء هو السند المطلق لكل الأشياء لافتقار كل ممكن إليه وكونه به فهو الغني المطلق المحتاج إليه كل شيء كما قال : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (١). ولما كان كل ما سواه موجودا بوجوده ليس بشيء في

__________________

(١) سورة محمد ، الآية : ٣٨.

٤٦٨

نفسه لأن الإمكان اللازم للماهية لا يقتضي الوجود فلا يجانسه ولا يماثله شيء في الوجود.

(لَمْ يَلِدْ) إذ معلولاته ليست موجودة معه بل به فهي به هي وبنفسها ليست شيئا (وَلَمْ يُولَدْ) لصمديته المطلقة ، فلم يكن محتاجا في الوجود إلى شيء ولما كانت هويته الأحدية غير قابلة للكثرة والانقسام ولم يمكن مقارنة الوحدة الذاتية لغيرها إذ ما عدا الوجود المطلق ليس إلا العدم المحض فلا يكافئه أحد. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إذ لا يكافئ العدم الصرف الوجود المحض ، ولهذا سميت سورة الأساس ، إذ أساس الدين على التوحيد بل أساس الوجود. وعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أسست السموات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» وهو معنى صمديته.

٤٦٩

سورة الفلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي : ألتجئ إلى الاسم الهادي وألوذ به بالاتصاف به والاتصال بروح القدس في الحضرة الأسمائية لأن الفلق هو نور الصبح المقدّم على طلوع الشمس ، أي : بربّ نور صبح تجلي الصفات الذي هو مقدمة طلوع نور الذات ، وربّ نور صبح الصفات هو الاسم الهادي وكذا معنى كل مستعيذ بربّه من شرّ شيء فإنه يستعيذ بالاسم المخصوص بذلك الشيء كاستعاذة المريض مثلا بربّه فإنه يستعيذ بالشافي ، وكاستعاذة الجاهل من جهله بالعليم.

[٢] (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢))

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي : من شرّ الاحتجاب بالخلق وتأثيرهم فيه فإن من اتصل بعالم القدس في حضرة الأسماء واتّصف بصفاته تعالى أثر في كل مخلوق ولم يتأثر من أحد لأنهم في عالم الآثار ومقام الأفعال وقد ارتقى هو عن مقام الأفعال إلى مباديها من الصفات.

[٣] (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣))

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي : من شرّ الاحتجاب بالبدن المظلم إذا دخل ظلامه كل شيء واستولى وأثر بتغيرات أحواله وانحراف مزاجه في القلب لمحبة القلب له وميله إليه وانجذابه نحوه.

[٤] (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤))

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ) أي : القوى النفسانية من الوهم والتخيّل والغضب والشهوة ونحوها التي تنفث في عقد عزائم السالكين بإيهانها بالدواعي الشيطانية وحلها ونكثها بالوساوس والهواجس.

[٥] (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي : النفس إذا حسدت تنوّر القلب فانتحلت صفاته ومعارفه باستراق السمع ، فطغت وظهرت عليه وحجبته وذلك هو التلوين في مقام القلب.

ويجوز أن يكون الغاسق هو النفس المستولية الحاجبة بظلمة صفاتها للقلب والحاسد هو القلب

٤٧٠

إذا ظهر في مقام الشهود ، فإن تلوين مقام الشهود بوجود القلب كما أن تلوين مقام القلب بوجود النفس وتخصيص هذه الثلاثة بالاستعاذة منها بعد الاستعاذة من المخلوقات عموما إنما كان لأن أكثر الاحتجاب منها دون ما عداها من المخلوقات عموما لاتصالها به وتعلقه بها ، والله تعالى أعلم.

٤٧١

سورة الناس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣))

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ربّ الناس هو الذات مع جميع الصفات لأن الإنسان هو الكون الجامع الحاصر لجميع مراتب الوجود فربّه الذي أوجده وأفاض عليه كماله هو الذات باعتبار جميع الأسماء بحسب البداية المعبر عنه بالله ، ولهذا قال تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١) بالمتقابلين من الصفات كاللطف والقهر والجمال والجلال الشاملين لجميعها تعوّذ بوجهه بعد ما تعوّذ بصفاته ولهذا تأخرت هذه السورة عن المعوّذة الأولى إذ فيها تعوّذ في مقام الصفات باسمه الهادي فهداه إلى ذاته.

ثم بيّن ربّ الناس بملك الناس على أنه عطف بيان لأن الملك هو الذي يملك رقابهم وأمورهم باعتبار حال فنائهم فيه من قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) فالملك بالحقيقة هو الواحد القهار الذي قهر كل شيء بظهوره ثم عطف عليه (إِلهِ النَّاسِ) لبيان حال بقائهم بعد الفناء لأن الإله هو المعبود المطلق وذلك هو الذات مع جميع الصفات باعتبار النهاية. استعاذ بجنابه المطلق ففنى فيه فظهر كونه ملكا ثم ردّه إلى الوجود لمقام العبودية فكان معبودا دائما فتم استعاذته به.

[٤ ـ ٥] (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥))

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) لأن الوسوسة تقتضي محلا وجوديا كما قال : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ولا وجود في حال الفناء فلا صدور ولا وسواس ولا موسوس بل إن ظهر هناك تلوين بوجود الأنانية فقل : أعوذ بك منك ، فلما صار معبودا بوجود العابد ظهر الشيطان بظهور العابد كما كان أولا موجودا بوجوده. والوسواس اسم للوسوسة سمي به الموسوس لدوام وسوسته كأن نفسه وسواس ، وإنما استعاذ منه بالإله دون بعض أسمائه كما في السورة الأولى لأن الشيطان هو الذي يقابل الرحمن ويستولي على الصورة الجمعية الإنسانية ويظهر في صور جميع الأسماء ويتمثل بها إلا بالله ، فلم تكف الاستعاذة منه بالهادي والعليم والقدير

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٧٥.

(٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

٤٧٢

وغير ذلك فلهذا لما تعوّذ من الاحتجاب والضلالة تعوّذ بربّ الفلق وهاهنا تعوّذ بربّ الناس ومن هذا يفهم معنىقوله عليه‌السلام : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثّل بي». الخناس ، أي : الرجّاع لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة وكلما تنبّه العبد وذكر الله خنس فالخنوس عادة لهكالوسواس. عن سعيد بن جبير : إذا ذكر الإنسان ربّه خنس الشيطان وولى ، وإذا غفل وسوس إليه.

[٦] (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس ، فإن الموسوس من الشياطين جنسان : جني غير محسوس كالوهم ، وإنسي محسوس كالمضلين من أفراد الإنسان أما في صورة الهادي كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (١) وأما في صورة غيره من صور الأسماء فلا يتم أيضا الاستعاذة منه إلا بالله ، والله العاصم.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٨.

٤٧٣

قال مصحح طبعه ومحسن وضعه الفقير إلى الله تعالى محمد الصباغ

أسبغ الله عليه النعم أتم إسباغ :

سبحان من أحيا قلوب أحبابه بإشارات كتابه المنزّل في وصفه المجيد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فتمّ لهم من التفسير ما أرادوه وائتموا به فيما قصدوه وصلاة وسلاما على النبي الكريم المنزّل عليه ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه.

وبعد : فقد تم طبع هذا التفسير ذي الفضل الغزير لم ينسج ناسج على منواله ولم يحك حائك على مثاله :

إذا امتحنت محاسنه أتته

غرائب جمة من كل باب

كيف لا وهو مع حسن كلمة تدفقت بحار علومه وحكمه ، وأينعت أفنان فنونه وأزهرت عذبات غصونه وزكت مغارسه ونمت نفائسه وطابت ثمراته وعظمت خيراته وامتدّ وارف ظلاله وراق منظر حسنه وجماله فهو جدير بتهذيب الطبع وتحسين الوضع بالطبعة العامرة ببولاق ـ مصر ـ القاهرة ، ذات الشهرة الباهرة ، والمحاسن الزاهرة في أيام ابتسم ثغرها عن العدل ، وأفاضت على الأنام جزيل الفضل في ظلّ صاحب السعادة الأكرم الخديوي الأعظم عزيز مصر ، ووحيد العصر ، سعادة أفندينا المحروس بعناية ربّه العلي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي لا زال جيد الدهر حاليا بعقود مواكبه ، وفم الأفق ناطقا بسعود كواكبه حفظ الله دولته كما حفظ رعيته وأدام مجده وخلد حمده وحرس أشباله الكرام وجعلهم غرة في جبين الأيام ملحوظة دار الطباعة المذكورة بنظر ناظرها المشمر عن ساعد الجدّ والاجتهاد في تدبير نضارها من لا تزال عليه أخلاقه باللطف ، تثنى حضرة حسين بك حسني ثم إن تضوّع عرف ختامه وتمام سلك نظامه في العشر الأخير من شوال من عام ألف ومائتين وثلاث وثمانين من هجرة من ليس له في وصفه مثال عليه الصلاة والسلام وعلى آله وأصحابه الكرام.

٤٧٤

فهرس المحتويات

سورة مريم..................................................................... ٥١

سورة طه عليه السلام............................................................. ٨

سورة الأنبياء................................................................... ٣٨

سورة الحج..................................................................... ٥٣

سورة المؤمنون.................................................................. ٦٥

سورة النور..................................................................... ٧٢

سورة الفرقان................................................................... ٨١

سورة الشعراء................................................................... ٩٢

سورة النمل.................................................................. ١٠٢

سورة القصص................................................................ ١١٥

سورة العنكبوت............................................................... ١٣٠

سورة الروم................................................................... ١٣٧

سورة لقمان.................................................................. ١٤٣

سورة السجدة................................................................ ١٤٦

سورة الأحزاب................................................................ ١٥٠

سورة سبأ.................................................................... ١٦٠

سورة الملائكة................................................................. ١٦٧

سورة يس.................................................................... ١٧٢

سورة الصافات............................................................... ١٧٨

سورة ص.................................................................... ١٨٥

سورة الزمر................................................................... ١٩٧

سورة المؤمن وهي غافر......................................................... ٢٠٩

سورة حم السجدة............................................................ ٢١٨

٤٧٥

سورة حم عسق............................................................... ٢٢٧

سورة الزخرف................................................................ ٢٣٥

سورة حم الدخان............................................................. ٢٤٤

سورة حم الجاثية.............................................................. ٢٥١

سورة الاحقاف............................................................... ٢٥٦

سورة محمد (صلى الله عليه وسلم).............................................. ٢٦٤

سورة الفتح................................................................... ٢٦٨

سورة الحجرات................................................................ ٢٧٣

سورة ق..................................................................... ٢٧٧

سورة الذاريات................................................................ ٢٨٤

سورة الطور.................................................................. ٢٨٨

سورة النجم.................................................................. ٢٩٢

سورة القمر.................................................................. ٢٩٧

سورة الرحمن.................................................................. ٣٠١

سورة الواقعة.................................................................. ٣١٠

سورة الحديد.................................................................. ٣١٧

سورة المجادلة................................................................. ٣٢٤

سورة الحشر.................................................................. ٣٢٨

سورة الممتحنة................................................................ ٣٣٣

سورة الصف................................................................. ٣٣٦

سورة الجمعة.................................................................. ٣٣٩

سورة المنافقون................................................................ ٣٤٢

سورة التغابن................................................................. ٣٤٥

سورة الطلاق................................................................. ٣٤٩

سورة التحريم................................................................. ٣٥٢

سورة الملك................................................................... ٣٥٦

سورة القلم................................................................... ٣٦١

٤٧٦

سورة الطاغية................................................................. ٣٦٤

سورة المعارج.................................................................. ٣٦٩

سورة نوح (عليه السلام)....................................................... ٣٧٢

سورة الجن................................................................... ٣٧٥

سورة المزمل................................................................... ٣٨١

سورة المدثر................................................................... ٣٨٤

سورة القيامة.................................................................. ٣٨٨

سورة الإنسان................................................................ ٣٩١

سورة والمرسلات.............................................................. ٣٩٧

سورة النبأ.................................................................... ٤٠٠

سورة النازعات................................................................ ٤٠٤

سورة عبس................................................................... ٤٠٨

سورة التكوير................................................................. ٤١٠

سورة الانفطار................................................................ ٤١٣

سورة المطففين................................................................ ٤١٤

سورة الانشقاق............................................................... ٤١٧

سورة البروج.................................................................. ٤٢٠

سورة الطارق................................................................. ٤٢٣

سورة الاعلى................................................................. ٤٢٤

سورة الغاشية................................................................. ٤٢٧

سورة الفجر.................................................................. ٤٢٩

سورة البلد................................................................... ٤٣٢

سورة الشمس................................................................ ٤٣٤

سورة الليل................................................................... ٤٣٦

سورة الضحى................................................................ ٤٣٩

سورة الانشراح................................................................ ٤٤١

سورة والتين.................................................................. ٤٤٣

٤٧٧

سورة العلق................................................................... ٤٤٥

سورة القدر.................................................................. ٤٤٧

سورة البينة................................................................... ٤٤٨

سورة الزلزلة.................................................................. ٤٥٠

سورة العاديات............................................................... ٤٥١

سورة القاعة.................................................................. ٤٥٣

سورة التكاثر................................................................. ٤٥٥

سورة والعصر................................................................. ٤٥٧

سورة الهمزة................................................................... ٤٥٨

سورة الفيل................................................................... ٤٦٠

سورة قريش.................................................................. ٤٦٢

سورة الماعون................................................................. ٤٦٣

سورة الكوثر................................................................. ٤٦٤

سورة الكافرون............................................................... ٤٦٥

سورة النصر.................................................................. ٤٦٦

سورة تبت................................................................... ٤٦٧

سورة الإخلاص............................................................... ٤٦٨

سورة الفلق................................................................... ٤٧٠

سورة الناس.................................................................. ٤٧٢

٤٧٨