تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

[١٠] (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠))

(إِنَ) المحجوبين (الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) من قلوب أهل الشهود ونفوسهم بالإنكار والاحتقار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي : بقوا في الحجاب ولم يستبصروا فيرجعوا (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : من تأثيرنا والطبيعة السفلية (وَلَهُمْ عَذابُ) حريق القهر من نار الصفات فوق نار الآثار وذلك لشوقهم عند خراب البدن إلى أنوار الصفات في عالم القدس وحرمانهم وطردهم بقهر الحق فعذبوا بالنارين جميعا.

[١١] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العيني الحقيّ (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في مقام الاستقامة من الأفعال الإلهية المقتضية لتكميل الخلق وضبط النظام (لَهُمْ جَنَّاتٌ) من الجنان الثلاث (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم توحيد الأفعال والصفات والذات وأحكام تجلياتها (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) التامّ الذي لا فوز أكبر منه.

[١٢ ـ ١٦] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) بالقهر الحقيقي والإفناء (لَشَدِيدٌ) لا يبقي بقية ولا أثرا (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) البطش (وَيُعِيدُ) أي : يكرره ، يبدئ أولا بإفناء الأفعال ثم يعيد بإفناء الصفات ثم بالذات (وَهُوَ الْغَفُورُ) يستر ذنوب وجودات المحبين وبقاياهم بنوره (الْوَدُودُ) للمحبوبين بإيصالهم إلى جنابه وتنعيمهم وإكرامهم بكمالاته من غير رياضة (ذُو الْعَرْشِ) أي : المستوي على عرش قلوب أحبائه من العرفاء (الْمَجِيدُ) ذو العظمة المتجلي بصفات الكمال من الجمال والجلال (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) على مظاهرهم لاستقامتهم فيختارون اختياره في أفعالهم أو يحجب من يريد بجلاله كالمنكرين ويتجلى لمن يريد بجماله كالعارفين.

[١٧ ـ ٢٢] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١))

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) المحجوبين إما بالأنائية كفرعون ومن يدين بدينه أو بالآثار والأغيار كثمود ومن يتصل بهم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا مطلقا في أي مقام كان وبأي شيء كان (فِي تَكْذِيبٍ) لأهل الحق لوقوفهم مع حالهم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ) فوق حالهم وحجابهم

٤٢١

(مُحِيطٌ) يسع كل شيء وهم حصروه في شاهدهم وما شاهدوا إحاطته فلذلك أنكروا (بَلْ هُوَ) أي : هذا العلم (قُرْآنٌ) جامع لكل العلوم (مَجِيدٌ) لعظمته وإحاطته.

(فِي لَوْحٍ) هو القلب المحمدي (مَحْفُوظٍ) عن التبديل والتغيير وإلقاء الشياطين بالتخييل والتزوير هذا إذا حمل اليوم الموعود على القيامة الكبرى ، فأما إذا أوّل بالصغرى فمعناها : الروح ذات الأبدان للأرواح كالأبراج أو الحواس فإنها تخرج منها كالحمام من البروج وشاهد لعلمه وما عمل. وجواب القسم ليهلكنّ البدنيون ، قتل أصحاب الأخدود ، أي : أهلك القوى النفسانية الملازمة لأخدود البدن إذ هم عليها عاكفون وهم على ما يفعلون بمؤمني القوى الروحانية من الاستيلاء عليهم وحجبهم عن مقاصدهم الشريفة وكمالاتهم النفيسة واستعبادهم في أهوائهم وشهواتهم شهود بألسنة أحوالهم وما أنكر هذه القوى المحجوبة عن الكمالات المعنوية من الروحانيين إلا الإيمان بالله المجرّد عن الأين والجهة الغالب على المحجوبين بالقهر الحميد المنعم على المهتدين بالهداية المحتجب بظواهر ملك السموات والأرض الشهيد الظاهر على كل شيء. إن هؤلاء الفاتنين بالاستيلاء والاستخدام لمؤمني العقول ومؤمنات النفوس ثم لم يرجعوا بالرياضة واكتساب الملكات الفاضلة والانقياد لهم فلهم عذاب جهنم الآثار والطبيعة وعذاب حريق الشوق إلى المألوفات مع الحرمان عنها.إن الذين آمنوا الإيمان العلمي من الروحانيين وعملوا الصالحات من الفضائل والأخلاق الحميدة لهم جنّات من جنان الأفعال والصفات وهي جنات النفوس والقلوب. ذلك الفوز أي : النجاة من النار والوصول إلى المقصود الكبير بالنسبة إلى الحالة الأولى ، إن بطش ربك أي : أخذه للمحجوبين بالإهلاك والتعذيب لشديد ، فإنه هو يبدئهم ويهلكهم ثم يعيدهم للعذاب وهو الغفور للتائبين المؤمنين من الروحانيين يستر لهم ذنوب هيئات السوء بنور الرحمة الودود لهم بالمحبة الأزلية فيكرمهم بإفاضة الكمالات والفضائل ، ذو العرش المستولي على القلب المجيد المنوّر بنوره جميع القوى ، فعال لما يريد ، المتجلي بالأفعال على مظاهر الملك للقلب فيصحح مقام التوكل بالفناء في توحيد الأفعال ، والله تعالى أعلم.

٤٢٢

سورة الطارق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) أي : والروح الإنساني والعقل الذي يظهر في ظلمة النفس وهو النجم الذي يثقب ظلمتها وينفذ فيها فيبصر بنوره ويهتدي به كما قال : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (١).

[٤ ـ ٨] (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨))

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) مهيمن رقيب يحفظها وهو الله تعالى ، إن أريد بالنفس الجملة وإن أريد بها النفس المصطلح عليها من القوة الحيوانية فحافظها الروح الإنساني (إِنَّهُ) أي : إنّ الله على رجع الإنسان في النشأة الثانية لقادر كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى.

[٩ ـ ١٠] (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) تظهر وتعرف خفيات الضمائر بالمفارقة عن الأبدان وجعل الباطن ظاهرا (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) في نفسه يمتنع بها على قدرته (وَلا ناصِرٍ) يمنعه وينصره على الامتناع.

[١١ ـ ١٢] (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢))

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي : والروح ذات الرجع في النشأة الثانية (وَالْأَرْضِ) أي : والبدن (ذاتِ الصَّدْعِ) بالانشقاق عن الروح وقت زهوقه أو الشقّ وقت اتصاله به.

[١٣ ـ ١٧] (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

(إِنَّهُ) أي : القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) فارق بين الحق والباطل بين أي عقل فرقاني ظهر بعد ما كان قرآنيا (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب والله القادر ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٦.

٤٢٣

سورة الأعلى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) اسمه الأعلى والأعظم هو الذات مع جميع الصفات ، أي : نزّه ذاتك بالتجرّد عما سوى الحق وقطع النظر عن الغير ليظهر عليها الكمالات الحقانية بأسرها ، وهو تسبيحه الخاص به في مقام الفناء لأن الاستعداد التام القابل لجميع الصفات الإلهية لم يكن إلا له ، فذاته هو الاسم الأعلى عند بلوغ كماله ولكل شيء تسبيح خاص يسبح به اسما خاصا من أسماء ربّه.

[٢] (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢))

(الَّذِي خَلَقَ) أنشأ ظاهرك (فَسَوَّى) أي : عدل بنيتك على وجه قبلت بمزاجه الخاص الروح الأتم المستعدّ لجميع الكمالات.

[٣] (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣))

(وَالَّذِي قَدَّرَ) فيك الكمال النوعي التام (فَهَدى) إلى إبرازه وإظهاره وإخراجه إلى الفعل بالتزكية والتصفية.

[٤] (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤))

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي : زينة الحياة الدنيا ومنافعها ومآكلها ومشاربها فإنها مرعى النفس الحيوانية ومرتع بهائم القوى.

[٥] (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي : سريع الفناء وشيك الزوال كالهشيم والحطام البالي المسودّ فلا تلتفت إليه ولا تشتغل به فيمنعك عن تسبيحك الخاص من تنزيه ذاتك وتجريدها فتحتجب به عن كمالك المقدّر فيك ولا تعد عيناك عنه إليه ، فإنه الفاني وذلك هو الباقي أبدا لا يزال.

[٦ ـ ٧] (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧))

(سَنُقْرِئُكَ) نجعلك قارئا لما في كتاب استعدادك الذي هو العقل القرآني من القرآن الجامع للحقائق فتذكره ولا تنساه أبدا (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن ينسيك ويذهلك عنها فيدخر

٤٢٤

للمقام المحمود إذا بعثت فيه (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي : ما ظهر فيك من الكمال (وَما يَخْفى) بعد بالقوة.

[٨] (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨))

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي : نوفقك للطريقة اليسرى أي : الشريعة السمحة السهلة التي هي أيسر الطرق إلى الله وهو عطف على سنقرئك أي : نكلمك بالكمال العلمي والعملي التام وفوق التام الذي هو التكميل وهي الحكمة البالغة والقدرة الكاملة.

[٩ ـ ١٠] (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠))

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : كمل الخلق بالدعوة إن كانوا قابلين مستعدّين لقبول التذكرة فتنفعهم ، يعني : أن التذكير وإن كان عاما لا ينفع الخلق كلهم بل هو مشروط بشرط الاستعداد ، فمن استعدّ قبل انتفع به ، ومن لا فلا ، أجمل في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) ، ثم فصّل بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي : يتذكر ويتعظ وينتفع به من كان لين القلب سليم الفطرة مستعدا لقبوله يتأثر به لنوريته وصفائه.

[١١ ـ ١٣] (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) أي : يتحاماه المحجوب عن الربّ ، العديم الاستعداد ، النائي القلب الذي هو أشقى من المستعدّ الذي زال استعداده واحتجب بظلمة صفات نفسه (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) التي هي نار الحجاب عن الربّ بالشرك والوقوف مع الغير ، ونار القهر في مقام الصفات ونار الغضب والسخط في مقام الأفعال ونار جهنم الآثار في المواقف الأربعة من موقف الملك والملكوت والجبروت وحضرة اللاهوت أبد الآبدين فما أكبر ناره. وأما الثاني فلا يصلى إلا بنار الآثار.

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) لامتناع انعدامه (وَلا يَحْيى) بالحقيقة لهلاكه الروحاني أي : يتعذب دائما سرمدا في حالة يتمنى عندها الموت وكلما احترق وهلك أعيد إلى الحياة وعذب ، فلا يكون ميتا مطلقا ولا حيّا مطلقا.

[١٤ ـ ١٥] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥))

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي : فاز وظفر من تطهر عن صفات نفسه وظلمات بدنه بعد حصول استعداده (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي : الاسم الخاص الذي يريه به بإفاضة كماله الذي يسأل ربّه بلسان استعداده كالعليم للجاهل والهادي للضالّ والغفار للمذنب وهو في الحقيقة عين ذاته

٤٢٥

التي غفل هو عنها بحجاب الآثار والهيئات وصفات النفس وسائر الظلمات ، كما قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (١). وذكره تعرفه وطلب كماله المخصوص به بالتأييد الرباني والتوفيق الإلهي (فَصَلَّى) فعبد معبوده الذي هو الحق المتجلي له في صورة ذلك الاسم الخاص الذي يعرف ربّه به بعد رؤيته بكماله المقدّر له.

[١٦ ـ ١٧] (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧))

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : تغفلون وتحتجبون عن ذكر ذلك الاسم وصلاة الربّ بالحياة الحسية وطيباتها وزخارفها لعدم التزكية وتؤثرونها بالمحبة على الحياة الحقيقية الدائمة الروحانية وهي أفضل وأدوم.

[١٨ ـ ١٩] (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

(إِنَّ هذا) المعنى من انتفاع المستعدّ بالتذكير وعدم انتفاع العديم الاستعداد وتعذّبه بالنار الكبرى وفلاح أهل التزكية والتحلية من المستعدّين وهلاك المؤثرين للحياة الحسيّة منهم (لَفِي الصُّحُفِ) القديمة المنزّهة عن التبديل والتغيير المحفوظة عند الله من الألواح النورية المجرّدة التي اطلع عليها النبيان المذكوران ونزل عليهما الظهور على مظاهرها والسلام ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الحشر ، الآية : ١٩.

٤٢٦

سورة الغاشية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) الْغاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها أي : القيامة الكبرى التي تغشى الذوات وتفنيها بنور التجلي الذاتي ، فينكشف الناس يوم إذ غشيت على من غشيته منقسمين أشقياء وسعداء ، والصغرى التي تغشى العقل بشدّة السكرات وتلبس المغشي أهوالها فيكون الناس يوم إذ غشيتهم إما أشقياء وإما سعداء.

[٢ ـ ٥] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي : ذوات (خاشِعَةٌ) أي : ذليلة خائفة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها كالهويّ في دركات النار والارتقاء في عقباتها وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا وإتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب (تَصْلى ناراً) من نيران آثار الطبيعة (حامِيَةً) مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) من الجهل المركب الذي هو مشربهم والاعتقاد الفاسد المؤذي.

[٦ ـ ٧] (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) الشبه والعلوم الغير المتنفع بها المؤذية كالمغالطات والخلافيات والسفسطة وما يجري مجراها (لا يُسْمِنُ) أي : لا يقوّي النفس (وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) ولا يسكن داعية النفس ونهم الحرص على تعلمها والمباحثة عنها ويمكن أن يحشر بعض الأشقياء على صور طعامهم الشبرق اليابس كالزقوم لبعضهم والغسلين لبعضهم.

[٨ ـ ١٦] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) تظهر عليها نضرة النعيم من اللطافة والنورية لتجرّدهم (لِسَعْيِها) وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل والسير في الله (راضِيَةٌ) شاكرة لا تندم ولا تتحسر

٤٢٧

ولا تتجرّد عما فعلت كالأولى (فِي جَنَّةٍ) من جنان الصفات وحضرة القدس (عالِيَةٍ) رفيعة القدر من علوّ المكانة (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) لأن كلامهم الحكمة والمعرفة والتسبيح والتحميد (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) من عيون مياه علوم المعارف والذوق والكشف والوجدان والتوحيد (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) من مراتب الأسماء الإلهية التي بلغوها بالاتصاف بصفاته رفعت قدرها عن مراتب الجسمانية (وَأَكْوابٌ) من أوصاف الذوات المجرّدة ومحاسنها التي هي ظروف خمور المحبة (مَوْضُوعَةٌ) لثباتها على حالها في محالها (وَنَمارِقُ) من مقاماتهم ومقاعدهم في مراتب الصفات ، فإن لكل صفة من ابتداء تجليها وطوالع أنوارها وكونها حالا إلى كمال الاتصاف بها وكونها ملكا ومقاما مواضع أقدام ومقاعد فإذا استوفى السالك حظه منها بحسب استعداده وبلغ غاية مبلغه حتى تمّ سيره فيها وصارت ملكا له كان مقامه منها نمرقة على تلك الأريكة التي هي موضع ذلك الوصف مع الذات (مَصْفُوفَةٌ) مرتبة (وَزَرابِيُ) من مقامات تجليات الأفعال التي تحت مقامات الصفات كالتوكل تحت الرضا (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة تحتهم.

[١٧ ـ ٢٠] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى الآثار الظاهرة بالحس فيعتبرون ويعبرون عنها إلى تجلي الوصل إلى تجلي الصفات.

[٢١ ـ ٢٤] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤))

(فَذَكِّرْ) عسى أن يكون فيهم مستعدّ يتذكر ويتعظ فيترقى في السلم المنخلعة إلى جناب الحق لا من أعرض واحتجب بهذه الآثار عن المؤثر (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو النار الكبرى المشار إليها في سورة (الأعلى) المعدّة للمحجوب المطلق في جميع مراتب الوجود وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) اعتراض أي : ما إليك إلا التذكير لا الغلبة والقهر كقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) ، (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٢).

[٢٥ ـ ٢٦] (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي : خاصة إلينا إيابهم لا إلى غيرنا ، فإنّا نحاسبهم ونعذبهم بالعذاب الأكبر فإن القهر والغلبة لنا لا لك.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة ق ، الآية : ٤٥.

٤٢٨

سورة الفجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤)) أقسم بابتداء ظهور نور الروح على مادة البدن عند أول أثر تعلقه به (وَلَيالٍ عَشْرٍ) ومحال الحواس العشرة الظاهرة والباطنة التي تتعين عند تعلقه به لكونها أسباب تحصيل الكمال وآلاتها (وَالشَّفْعِ) أي : الروح والبدن عند اجتماعهما وتمام وجود الإنسان الذي يمكن به الوصول (وَالْوَتْرِ) أي : الروح المجرّد إذا فارق.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي : ظلمة البدن إذا ذهبت وزالت بتجرّد الروح فيكون الإقسام بالمبتدأ والمنتهى أو بالقيامة الكبرى وآثارها أي : والفجر الذي هو مبتدأ طلوع نور الحق وتأثيره في ليلة النفس وليال عشر من الحواس الراكدة الهادئة المظلمة المتعطلة عن أشغالها عند تجلي النور الإلهي والشفع الذي هو الشاهد والمشهود قبل تجلي الفناء التام حال المشاهدة في مقام الصفات ، والوتر أي : الذات الأحدية عند الفناء التام وارتفاع الاثنينية ، والليل أي : ظلمة الأنانية إذا ذهبت وزالت بزوال البقية أو بالقيامة الصغرى أي : فجر ابتداء ظهور نور الشمس الطالعة من مغربها. وليال عشر أي : الحواس المتكدّرة المظلمة عند الموت ، والشفع أي : الروح والبدن ، والوتر أي : الروح المفارق إذا تجرّد ، والليل إذا يسر ، والبدن إذا انقشع ظلامه عن الروح وزوال بالموت.

[٥ ـ ١٤] (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩))

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) استفهام في معنى الإنكار ، أي : هل عاقل يهتدي إلى الإقسام بهذه الأشياء ووجه تعظيمها بالقسم بها وحكمة انتظامها في قسم واحد وتناسبها فإن عقول أهل الدنيا المشوبة بالوهم لا تهتدي إلى ذلك. وجواب القسم ليعذبن المحجوبون لدلالة قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) إلى قوله : (لَبِالْمِرْصادِ) عليه أو في معنى التقرير أي : إنما يهتدي إلى ذلك أولو الألباب الصافية المجرّدة عن شوب الوهم. وجواب القسم :

٤٢٩

ليثابنّ العقلاء المعتبرون بحال المحجوبين دونهم.

[١٥ ـ ٢٠] (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩))

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أي : الإنسان يجب أن يكون في مقام الشكر أو الصبر بحكم الإيمانلقوله : «الإيمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر» ، لأن الله تعالى لا يخلو من أن يبتليه إما بالنعم والرخاء فعليه أن يشكره باستعمال نعمته فيما ينبغي من إكرام اليتيم وإطعام المسكين وسائر مراضيه ولا يكفر نعمته بالبطر والافتخار فيقول : إن الله أكرمني لاستحقاقي وكرامتي عنده ، ويترفه في الأكل ويحتجب بمحبة المال ويمنع المستحقين ، أو بالفقر وضيق الرزق فيجب عليه أن يصبر ولا يجزع ولا يقول : إن الله أهانني ، فربما كان ذلك إكراما له بأن لا يشغله بالنعمة عن المنعم ويجعل ذلك وسيلة له في التوجه إلى الحق والسلوك في طريقه لعدم التعلق كما أن الأول ربما كان استدراجا منه.

[٢١ ـ ٢٢] (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢))

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي : البدن بالموت (دَكًّا دَكًّا) متفتتا (وَجاءَ رَبُّكَ) أي : ظهر في صورة القهر لمن برز عن حجاب البدن بالمفارقة (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي : ظهر تأثير الملائكة من النفوس السماوية والأرضية المترتبة في مراتبهم في تعذيبه بعد ما كان محتجبا عنهم بشواغل البدن.

[٢٣ ـ ٢٦] (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي : برزت نار الطبيعة وأحضرت للمعذبين.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) خلاف ما اعتقده في الدنيا وصار هيئة في نفسه من مقتضيات فطرته فإن ظهور الباري بصفة القهر والملائكة بصفة التعذيب لا يكون إلا لمن اعتقد خلاف ما ظهر عليه مما هو في نفس الأمر كالمنكر والنكير (وَأَنَّى لَهُ) فائدة (الذِّكْرى) ومنفعته فإن الاعتقاد الراسخ يمنع نفع هذا التذكير.

[٢٧ ـ ٢٨] (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨))

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) التي نزلت عليها السكينة وتنوّرت بنور اليقين فاطمأنت إلى الله من الاضطراب (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) في حال الرضا ، أي : إذا تمّ لك كمال الصفات فلا

٤٣٠

تسكني إليه وارجعي إلى الذات في حال الرضا الذي هو كمال مقام الصفات والرضا عن الله لا يكون إلا بعد رضا الله عنها ، كما قال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١).

[٢٩ ـ ٣٠] (فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في زمرة عبادي المخصوصين بي من أهل التوحيد الذاتي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) المخصوصة بي أي : جنّة الذات وقرئ في عبدي وقرئ في جسد عبدي أي : حالة البعث والنشور وردّ الأرواح إلى الأجساد ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ١١٩.

٤٣١

سورة البلد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣)) أقسم بالبلد الحرام الذي هو البلد القدسي النازل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الأفق الأعلى والوادي المقدّس (وَأَنْتَ حِلٌ) مطلق (بِهذَا الْبَلَدِ) تفعل به ما تشاء غير مقيد بقيود صفات النفس والعادات (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي : روح القدس الذي هو الأب الحقيقي للنفوس الإنسانية كقول عيسى عليه‌السلام : «إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي» ، وقوله : «تشبّهوا بأبيكم السماويّ». ونفسك التي ولدها هو أي : بروح القدس ونفسك الناطقة.

[٤] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي) مكابدة ومشقة من نفسه وهواه أو مرض باطن وفساد قلب وغلظ حجاب إذ الكبد في اللغة غلظ الكبد الذي هو مبدأ القوة الطبيعية وفساده وحجاب القلب وفساده من هذه القوة فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

[٥ ـ ٧] (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧))

(أَيَحْسَبُ) لغلظ حجابه ومرض قلبه لاحتجابه بالطبيعة (أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا ، أي : في المكارم للافتخار والمباهاة كقول العرب : خسرت عليه كذا ، إذا أنفق عليه يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله ولهذا قال : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي : أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله وهي رذيلة على رذيلة فكيف تكون فضيلة.

[٨ ـ ١٠] (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال ليبصر ما يعتبر به ويسأل عما لا يعلم ويتكلم فيه (وَهَدَيْناهُ) إلى طريقي الخير والشر.

[١١ ـ ١٧] (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧))

٤٣٢

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي : عقبة النفس وهواها الحاجبة للقلب بالرياضة والمجاهدة ، وأي عقبة كؤود هي لا يدري كنه مشقتها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي : العقبة التي يجب اقتحامها تخليص رقبة القلب الأسير في قيد هوى النفس وفكها عن أسرها بالتجريد عن الميول الطبيعية بالكلية فإن لم يكن الفك بالكلية بالرياضة وإماتة القوى وقهر النفس فتكلف الفضائل والتزام سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طباعا وهو معنى قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) إلى قوله : (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فإن الإطعام خصوصا وقت شدة الاحتياج للمستحق الذي هو وضع في موضعه من باب فضيلة العفة بل أفضل أنواعها والإيمان من فضيلة الحكمة وأشرف أنواعها وأجلها وهو الإيمان العلمي اليقيني والصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة وأخره عن الإيمان لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين ، والمرحمة أي : التراحم والتعاطف من أفضل أنواع العدالة فانظر كيف عدد أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس. بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخص خصالها الذي هو السخاء ، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس وجاء بلفظة ثم لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلوّ وعبر عن الحكمة به لكونه أم سائر مراتبها وأنواعها ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين وأخر العدالة التي هي نهايتها واستغنى بذكر المرحمة التي هي صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

[١٨ ـ ٢٠] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : الموصوفون بهذه الفضائل هم السعداء أصحاب اليمن وسكان عالم القدس (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي : حجبوا عن هذه الصفات التي هي آيات الله الحقيقية التي تعرف بها ذاته (هُمْ أَصْحابُ) الشؤم وسكان عالم الرجس (عَلَيْهِمْ) تستولي نار الطبيعة الآثارية مطبقة عليهم أبوابها محبوسين فيها ممنوعين عن الروح والمراتب أبد الآبدين ، والله أعلم.

٤٣٣

سورة الشمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١))

(وَالشَّمْسِ) أقسم بشمس الروح وضوئها المنتشر في البدن الساطع على النفس.

[٢] (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢))

(وَالْقَمَرِ) أي : قمر القلب إذا تلى الروح في التنوّر بها وإقباله نحوها واستضاءته بنورها ولم يتبع النفس فينخسف بظلمتها.

[٣] (وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣))

(وَالنَّهارِ) ونهار استيلاء نور الروح وقيام سلطانها واستواء نورها (إِذا جَلَّاها) وأبرزها في غاية الظهور كالنهار عند الاستواء في تجلية الشمس.

[٤] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤))

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي : ليل ظلمة النفس إذا سترت الروح فإن وجود القلب الذي هو محل المعرفة وعرش الرحمن لا يكون إلا بامتزاج نور الروح وظلمة النفس كأنه موجود مركب منهما متولد من اجتماعهما ولو لا ظلمة النفس لم تستبن المعاني في القلب ، فلم تضبط كما في حيز الروح لغاية صفائها ونوريتها وإن كانت الثلاثة حقيقة واحدة تختلف أسماؤها بحسب اختلاف مراتبها.

[٥] (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥))

(وَالسَّماءِ) أي : الروح الحيوانية التي هي سماء هذا الوجود والقادر الذي بناها.

[٦] (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦))

(وَالْأَرْضِ) أي : البدن والخالق الذي طحاها.

[٧] (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧))

(وَنَفْسٍ) أي : القوة الحيوانية المنطبعة في الروح الحيوانية المسماة باصطلاح أهل الشرع والتصوّف النفس مطلقا أو الجملة أو النفس الناطقة والحكيم الذي (سَوَّاها) عدّلها بين

٤٣٤

جهتي الربوبية والسفالة لا في ظلمة الجسم وكثافته ولا في ضوء الروح ولطافته كما قال : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) (١) على الأول ، وعدّل مزاجها وتركيبها على الثاني ، وأعدّها لقبول الكمال ووسطها بين العالمين على الثالث.

[٨] (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي : أفهمها إياهما وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي والتمكين من معرفتهما وحسن التقوى وقبح الفجور بالعقل الهيولاني.

[٩] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩))

(قَدْ أَفْلَحَ) بالوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى (مَنْ زَكَّاها) وطهرها.

[١٠ ـ ١٥] (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وأخفاها في تراب البدن عن نور الحق ورحمته وجواب القسم محذوف ، أي : ليهلكنّ المحجوبون المكذبون للنبي بطغيانهم كما أهلكت ثمود لتكذيبهم نبيهم بطغيانهم لعدم قبول ذلك الإلهام وبقائهم على الفجور واحتجاب العقل واستيلاء ظلمة النفس وقد مرّ تأويل الناقة وسقياها والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٣٥.

٤٣٥

سورة الليل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣)) أقسم بليل ظلمة النفس إذا ستر نور الروح وبنهار نور الروح (إِذا تَجَلَّى) فظهر من اجتماعهما وجود القلب الذي هو عرش الرحمن فإن القلب يظهر باجتماع هذين له وجه إلى الروح يسمى الفؤاد يتلقى به المعارف والحقائق ووجه إلى النفس يسمى الصدر يحفظ به السرائر ويتمثل فيه المعاني والقادر العظيم القدرة الحكيم الباهر الحكمة الذي (خَلَقَ الذَّكَرَ) الذي هو الروح (وَالْأُنْثى) التي هي النفس فولد القلب.

[٤ ـ ٧] (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧))

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أشتات مختلفة لانجذاب بعضكم إلى جانب الروح والتوجه إلى الخير لغلبة النورية وميل بعضكم إلى جانب النفس والانهماك في الشر لغلبة الظلمة وتفصيل ذلك في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي : آثر الترك والتجريد فرفض ما يشغله عن الحق وتركه بالسهولة واتقى عن هيئات النفس فجرّدها عن الميل إلى ما رفض والالتفات نحوه (وَصَدَّقَ) بالفضيلة (بِالْحُسْنى) التي هي مرتبة الكمال بالإيمان العلمي إذ لو لم يتيقن بوجود كمال كامل لم يمكنه الترقي (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي : فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى التي هي السلوك في الله لقطع علائقه وقوة يقينه.

[٨ ـ ١٠] (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠))

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) آثر محبة المال وجمعه ومنعه واستغنى به عن كسب الفضيلة لاحتجابه به عن الحق (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) بوجود مرتبة الكمال والفضيلة لاستغنائه بالحياة الدنيا واحتجابه بها عن عالم النور والآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) فسنهيئه بالخذلان للطريقة العسرى التي هي الانحطاط عن رتبة الفطرة إلى قعر الطبيعة ودركات أسفل سافلين مأوى الحشرات والديدان والحيلولة بينه وبين شهواته بالحرمان.

[١١] (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

٤٣٦

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) الذي تعب في تحصيله وأفنى عمره في حفظه (إِذا تَرَدَّى) إذا وقع في قعر بئر جهنم وعمق الهاوية وهلك.

[١٢ ـ ١٣] (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣))

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) بالإرشاد إلينا بنور العقل والحسّ والجمع بين الأدلة العقلية والسمعية والتمكين على الاستدلال والاستبصار.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي : نعطيهما من توجه إلينا فلا نحرم التارك المجرّد عن ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة فإن من آثر الأشرف يكون الأخس تحت قدمه بالضرورة كقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (١).

[١٤ ـ ١٥] (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥))

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) أي : نارا عظيمة يبلغ لظاها جميع مراتب الوجود وهي النار الكبرى الشاملة للحجاب والقهر والسخط والتعذيب بالآثار ، ولهذا قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) العديم الاستعداد ، الخبيث الجوهر ، المشرك بالله في المواقف الأربعة.

[١٦ ـ ١٧] (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧))

(الَّذِي كَذَّبَ) بالله لشركه (وَتَوَلَّى) وأعرض عن الدين لعناده (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي : يتحاماها ويبعد عنها في جميع مراتبها (الَّذِي) اتقى ما عدا الله من ذاته وصفاته وأفعاله وكل شيء من الأغيار والآثار بالاستغراق في عين الجمع وهو الأتقى المطلق الذي لم يقف مع غير الله فيوقف على الله ويعذب ببعض النيران. وأما التقي فقد لا يجنب جميع مراتبها كالمتجرّد من الهيئات والأفعال ، الواقف مع الصفات فإنه وإن كان مغفورا ذنوبه فقد حرم عن روح الذات ولذة المقرّبين في حجاب وجوده.

[١٨] (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨))

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) الذي يعطيه في حالة كونه متطهرا عن لوث محبة الأنداد وتعلق الأغيار والالتفات إلى ما سوى الله والاشتغال به مزكيا نفسه عن الشرك الخفي.

[١٩ ـ ٢٠] (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠))

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي : لا يؤتيه للمكافأة والمعارضة (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) باجتناب ما عداه ولكونه على أعلى مراتب التقوى لأن الله تعالى بحسب كل اسم له

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٦.

٤٣٧

وجه يتجلى به لمن يدعوه بلسان حاله بذلك الاسم ويعبده باستعداده والوجه الأعلى هو الذي له بحسب اسمه الأعلى الشامل لجميع الأسماء وإن جعلته وصفا لربّه ، فالرب هو ذلك الاسم.

[٢١] (وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) بالوصول إليه في عين الجمع والشهود الذاتي ثم مشاهدة ذلك الوجه في مقام التفصيل حال البقاء بعد الفناء لاستدعاء الرضا وجوده مع الوصف ، والله تعالى أعلم.

٤٣٨

سورة الضحى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)) أقسم بالنور والظلمة الصرفة (....) (١) حالها الذين هما أصل الوجود الإنساني وجماع الكونين على أن ربك ما تركك ترك مودّع في عالم النور وحضرة القدس مع بقاء المحبة والشوق في مقام الصفات محجوبا عن الذات ، فإنّ المودع لا بدّ له من محبة وشوق (وَما قَلى) أي : وما قلاك في عالم الظلمة والوقوف مع الكون بلا محبة وشوق في مقام النفس محجوبا عن الربّ وصفاته وأفعاله ترك قال مبغض وذلك أن المحبوب الذي يسبق كشفهاجتهاده إذا كوشف بالتوحيد الذاتي ورفع غطاؤه ليعشق ردّ إلى الحجاب وسدّ طريقه إلى حضرة تجلي الذات ليشتدّ شوقه ويلطف سرّه وتذوب أنائيته بنار الشوق ثم فتح طريقه ورفع حجابه بالكلية وكوشف بالحق الصرف ليكون ذوقه أتم وكشفه أكمل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الاحتجاب يصعد الجبال ليرمي بنفسه فإذا نفدت طاقته رفع الحجاب ونزل.

[٤ ـ ٥] (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))

(وَلَلْآخِرَةُ) أي : وللحالة الآخرة التي هي التجلي بعد الاحتجاب واشتداد الشوق (خَيْرٌ لَكَ مِنَ) الحالة (الْأُولى) لا منك في الحالة الثانية عن التلوين بوجود البقية وظهور الأنانية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) الوجود الحقاني لهداية الخلق والدعوة إلى الحق بعد هذا الفناء الصرف (فَتَرْضى) به حيث ما رضيت بالوجود البشري والرضا لا يكون إلا حال الوجود.

[٦ ـ ٨] (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨))

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) منفردا محجوبا بصفات النفس عن نور أبيك الحقيقي الذي هو روح القدس منقطعا عنه ضائعا (فَآوى) أي : فأواك إلى جنابه وربّاك في حجر تربيته وتأديبه وكفلك أباك ليعلمك ويزكيك (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن التوحيد الذاتي عند كونك في عالم أبيك محتجبا بالصفات عن الذات فهداك بنفسه إلى عين الذات (وَوَجَدَكَ عائِلاً) فقيرا عديما فانيا فيه بالفقر

__________________

(١) طمس رسم الكلمة في المطبوعة.

٤٣٩

الذي هو سواد الوجه في الدارين الذي هو الفناء المحض بعد الفقر الذي هو فخره أي : فناء الصفات كما قال : «الفقر فخري» فأغناك بما أعطاك من الوجود الموهوب الموصوف بصفات الكمال الحقانيّ المتخلق بالأخلاق الربانية ، فإذا تم كمالك فتخلق بأخلاقي وافعل بعبادي ما فعلت بك لتكون عبدا شكورا أي : قائما بشكر نعمتي.

[٩ ـ ١١] (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ) أي : المنفرد المنكسر القلب ، المنقطع عن نور القدس ، المحتجب بحجاب النفس (فَلا تَقْهَرْ) والطف به بالمداراة والرفق وآوه إلى نفسك بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة كما آويتك (وَأَمَّا السَّائِلَ) أي : المستعدّ المحجوب الضالّ عن طريق مقصده الطالب إياه (فَلا تَنْهَرْ) ولا تمنعه عن السؤال واهده كما هديتك (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) من العلم والحكمة الفائض عليك في مقام البقاء (فَحَدِّثْ) بتعليم الناس وإغنائهم بالخير الحقيقي كما أغنيتك ، والله تعالى أعلم.

٤٤٠