تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي : أجعلها تحتك ، تحظى عندك بنور القدس وعلوم الكشف وتكون بحكمك وأمرك لا تحتجب عنك بقولها (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أي : تعمل لأجلي بالمجاهدة حتى تأتي عليك ثمانية أطوار هي أطوار الصفات السبعة الإلهية بالفناء عن صفاته في صفات الله التي آخرها مقام المكالمة مع طور المشاهدة التي يتم بها الوصول المطلوبة بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١).

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) بالترقي في طورين آخرين هما الفناء في الذات والبقاء بعده بالتحقق (فَمِنْ عِنْدِكَ) فمن كمال استعدادك وقوّته وخصوصية عينك واقتضاء هويتك وهي الكمالات العشر التي ابتلى بها إبراهيم ربّه فأتمهنّ فجعله إماما للناس في مقام التوحيد والله أعلم. (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أحمل عليك فوق طاقتك وما لا بقي به وسع استعدادك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) المربين بما يصلح للوصول من الإفاضات والعلوم ، الهادين إلى ما في أصل الاستعداد من الكمال المودع في عين الذات بالأنوار ، غير مكلفين ما لم يكن في وسعك.

[٢٨] (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

(ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) ذلك الأمر الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك ، يتعلق بقوّتنا واستعدادنا وسعينا ، لا مدخل لغيرنا فيه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أيما النهايتين بلغت فلا إثم عليّ ، إذ لا عليّ إلا السعي. وأما البلوغ فهو بحسب ما أوتيت من الاستعداد في الأزل وإنما تتقدّر قوتي في السعي بحسب ذلك والله هو الذي وكل إليه أمرنا وفي ذلك شاهد عليه ، أي : ما أوتينا من الكمال المقدّر لنا أمر تولّاه الله بنفسه وعينه من فيضه الأقدس لا يمكن لأحد تغييره ولا يطلع عليه أحد غيره ، ولا يعلم قبل الوصول قدر الكمال المودع في الاستعداد وهو من غيب الغيوب الذي استأثر به الله لذاته.

[٢٩ ـ ٣٣] (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣))

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

١٢١

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي : بلغ حدّ الكمال الذي هو أقصر الأجلين (وَسارَ بِأَهْلِهِ) من القوى بأسرها إلى جانب القدس مستصحبا للجميع بحيث لم يمانعه ولم يتخلف عنه واحدة منها ، وحصل له ملكة الاتصال للتدرب في المجاهدة والمراقبة بلا كلفة (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) طور السرّ الذي هو كمال القلب في الارتقاء نار روح القدس وهو الأفق المبين الذي أوحى منه إلى من أوحى إليه من الأنبياء (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) أي : مقام كمال القلب المسمى سرّا من شجرة نفسه القدسية (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) وهو مقام المكالمة والفناء في الصفات فيكون القائل والسامع هو الله ، كما قال : «كنت سمعه الذي به يسمع ، ولسانه الذي به يتكلم». وإلقاء العصا والإدبار وإظهار اليد البيضاء مرّ تأويله في سورة (النمل).

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) أي : لا تخف من الاحتجاب والتلوين عند الرجوع من الله واربط جأشك بتأييدي آمنا متحققا بالله. وقد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد قدّس الله روحه العزيز في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه أنه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي في شهود الوحدة ومقام الفناء ذا ذوق عظيم ، فإذا هو في بعض الأيام يبكي ويتأسف ، فسأله الشيخ عن حاله ، فقال : إني حجبت عن الوحدة بالكثرة ، ورددت ، فلا أجد حالي. فنبّهه الشيخ على أنه بداية مقام البقاء ، وإن حاله أعلى وأرفع من الحال الأولى وأمنه (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) من التمتع المذكور.

[٣٤] (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))

(وَأَخِي هارُونُ) العقل (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) لأن العقل بمثابة لسان القلب ولولاه لم يفهم أحوال القلب ، إذ الذوقيات ما لم تدرج في صورة المعقول وتتنزل في هيئة العلم والمعلوم ، وتقرب بالتمثيل والتأويل إلى مبالغ فهوم العقول والنفوس لم يمكن فهمها (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) عونا يقرّر معناي في صورة العلم بمصداق البرهان (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) لبعد حالي عن أفهامهم وبعدهم عن مقامي وحالي فلا بدّ من متوسط.

[٣٥ ـ ٤٣] (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

١٢٢

(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) نقويك بمعاضدته (وَنَجْعَلُ لَكُما) غلبة بتأثيرك فيهم بالقدرة الملكوتية وتأييدك العقل بالقوّة القدسية ، وإظهار العقل كمالك في الصورة العملية والحجّة القياسية (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ) نار الهوى على طين الحكمة الممتزجة من ماء العلم وتراب الهيئات المادية (فَاجْعَلْ لِي) مرتبة عالية من الكمال ، من صعد إليها كان عارفا. وهو إشارة إلى احتجابه بنفسه ، وعدم تجرّد عقله من الهيئات المادّية لشوب الوهم. أي : حاولت النفس المحجوبة بأنانيته من عقل المعاش المحجوب بمعقوله أن يبني بنيانا من العلم والعمل المشوبين بالوهميات ، ومقاما عاليا من الكمال الحاصل بالدراسة والتعلّم لا بالوراثة والتلقي ، من استعلى عليه توهم كونه عارفا بالغا حدّ الكمال ، كما ذكر في الشعراء أنهم كانوا قوما محجوبين بالمعقول عن الشريعة والنبوّة ، متدربين بالمنطق والحكمة ، معتنين بهما ، معتقدين الفلسفة غاية الكمال ، منكرين للعرفان والسلوك والوصال (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) بطريق التفلسف ، وإنما ظنّه من الكاذبين لقصوره عن درجة العرفان والتوحيد ، واحتجابه بصفة الأنانية والطغيان والتفرعن بغير الحق من غير أن يتّصفوا بصفة الكبرياء عند الفناء ، فيكون تكبّرهم بالحق لا بالباطل عن صفات نفوسهم.

[٤٤ ـ ٤٥] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) أي : جانب غروب شمس الذات الأحدية في عين موسى واحتجابها بعينه في مقام المكالمة لأنه سمع النداء من شجرة نفسه ، ولهذا كانت قبلته جهة المغرب ودعوته إلى الظواهر التي هي مغارب شمس الحقيقة بخلاف عيسى عليه‌السلام (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أوحينا إليه بطريق المكالمة (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) مقامه في مرتبة نقبائه وأولياء زمانه الذين شهدوا مقامه ، ولكن بعد قرنك من قرنه بإنشاء قرون كثيرة بينهما فنسوا فأطلعناك على مقامه وحاله في معراجك وطريق صراطك ليتذكروا (وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) مقام الروح (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) علوم صفاتنا ومشاهداتنا ، بل كنت في

١٢٣

طريقك إذ ترقيت من الأفق الأعلى فدنوت من الحضرة الأحدية إلى مقام قاب قوسين أو أدنى ، فأخبرتهم بذلك عند إرسالنا إياك بالرجوع إلى مقام القلب بعد الفناء في الحق.

[٤٦] (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦))

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) مقام السرّ واقفا (وَلكِنْ رَحْمَةً) تامّة واسعة شاملة (مِنْ رَبِّكَ) تداركتك ورقّتك إلى مقام الفناء في الوحدة الذي تتدرّج فيه مقامات جميع الأنبياء وصارت وصفك وصورة ذاتك عند التحقق به في مقام البقاء والإرسال لتعم نبوّتك بختم النبوّات و (لِتُنْذِرَ قَوْماً) بلغت استعداداتهم في القبول حدّا من الكمال ما بلغ استعدادات آبائهم الذين كانوا في زمن الأنبياء المتقدّمين وتدعوهم إلى كمال مقام المحبوبين الذي لم يدع إليه أحد منهم أمّته ف (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) يدعوهم إلى ما دعوت إليه (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بالوصول إلى كمال المحبة.

[٤٧ ـ ٥٣] (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) العقل القرآني والفرقاني (مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) لكمال استعدادهم دون غيرهم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) وجوهنا لله بالتوحيد ، منقادين لأمره.

[٥٤] (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤))

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أولا في القيامة الوسطى من جانب الأفعال والصفات قبل الفناء في الذات ، وثانيا في القيامة الكبرى عند البقاء بعد الفناء من الجنّات الثلاث (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ) المطلقة من شهود أفعال الحق والصفات والذات (السَّيِّئَةَ) المطلقة من أفعالهم وصفاتهم وذواتهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) بالتكميل وإفاضة الكمالات على المستعدّين القابلين.

١٢٤

[٥٥] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

(وَإِذا سَمِعُوا) لغوا لفضول المانع من القبول لم يلحوا وأعرضوا لكونهم أولياء موحدين لا أنبياء (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلّمكم الله من الآفات المانعة عن قبول الحق (لا نَبْتَغِي) صحبة (الْجاهِلِينَ) المفقودين بالسفاهة والجهل المركّب ، فإنهم لا ينتفعون بصحبتنا ولا يقبلون هدايتنا.

[٥٦ ـ ٦٥] (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥))

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته لاهتمامك بحاله غير مطلع على استعداده بمجرّد الجنسية النفسية أو للقرابة البدنية دون الأصلية ، أو الصحبة العارضية دون الحقيقية الروحية (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القابلين للهداية لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.

[٦٦] (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦))

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) أي : خفيت عليهم الحقائق والتبست في القيامة الصغرى لكونهم محجوبين ، واقفين مع الأغيار كالعمي ، وقد رسخ جهلهم الشامل أوقات النشأتين كقوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (١) ، (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم.

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

١٢٥

[٦٧] (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

(فَأَمَّا مَنْ تابَ) تنصل عما غطى بصيرته وغشى قلبه واستعداده من صفات النفس ، وآمن بالغيب بطريق العلم (وَعَمِلَ) في التحلية واكتساب الخيرات والفضائل (عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الفائزين بالتجرّد عن مقام النفس بمقام القلب والرجوع إلى الفطرة من حجاب النشأة.

[٦٨ ـ ٦٩] (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩))

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من المحجوبين والمكاشفين (وَيَخْتارُ) بمقتضى مشيئته وعنايته لهم ما يريد (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) في ذلك (سُبْحانَ اللهِ) نزّهه عن أن يكون لغيره اختيار مع اختياره فيكون شريكه.

[٧٠] (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له في الوجود (لَهُ الْحَمْدُ) المطلق لثبوت جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان ، والباطنة فيها وعنها له ، فيكون كل جميل غنيّ قوي عزيز في الدنيا بجماله وغناه وقوّته وعزّته جميلا غنيّا قويّا عزيزا ، وكل كامل عالم عارف به في الآخرة بكماله وعلمه ومعرفته كاملا عالما عارفا (وَلَهُ الْحُكْمُ) يقهر كل شيء على مقتضى مشيئته ويحكم عليه بموجب إرادته ، فيكون كل قبيح فقير ذليل ضعيف في الدنيا بحكمه ، وتحت قهره ، كذلك وكل محجوب مخذول ، أسير ، مردود في الآخرة في قهره وتحت حكمه مخذولا محجوبا أسيرا مردودا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء في وجوده أو أفعاله وصفاته أو ذاته.

[٧١ ـ ٧٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢))

(إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) ليل ظلمة النفس (سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) من نور الروح (أَفَلا تَسْمَعُونَ) حال كونكم في الحجاب ، فتفهمون المعاني والحكم فتؤمنون بالغيب (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ) نهار نور الروح سرمدا بالتجلي الدائم دون الاستتار (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الصغرى (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ) من أوقات الغفلات وغلبات صفات النفس وغشاوات الطبع (تَسْكُنُونَ فِيهِ) إلى حقوق نفوسكم وراحات أبدانكم (أَفَلا تُبْصِرُونَ) بنور روح تجلّيات الحق.

١٢٦

[٧٣ ـ ٧٤] (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤))

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بالغفلة والحضور في مقام القلب والاستتار والتجلي في مقام الروح (لِتَسْكُنُوا) في ظلمة النفس إلى نور البدن وترتيب المعاش (وَلِتَبْتَغُوا) من فضل مكاشفاته وتجلّيات صفاته ومشاهداته (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه الظاهرة والباطنة والجسمانية والروحانية في أولاكم وأخراكم باستعمالها لوجه الله فبما وجب عليكم من طاعته في كل مقام به وفيه وله.

[٧٥] (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي : نخرج يوم القيامة عند خروج المهدي من كل أمّة نبيهم وهو أعرفهم بالحق (فَقُلْنا) على لسان الشهيد الذي يشهد الحق بشهود الكل ولا يحتجب بهم عنه (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما أنتم عليه أحق هو أم لا؟ فعجزوا عن آخرهم وظهر برهان النبيّ (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) أظهره مظهر الشهيد (وَضَلَّ عَنْهُمْ) مفترياتهم من المذاهب المختلقة والطرق المتشعبة المتفرّقة. أو قلنا للشهداء : هاتوا برهانكم بإظهار التوحيد ، فأظهروا ، فعلموا أن الحقّ لله.

[٧٦ ـ ٨٢] (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) عالما كبلعم بن باعوراء (فَبَغى عَلَيْهِمْ) لاحتجابه بنفسه وعلمه بالتكبّر والاستطالة عليهم ، فغلب عليه الحرص. ومحبّة الدنيا ابتلاء من الله

١٢٧

لغروره واحتجابه برؤيته زينة نفسه بكمالها ، فمال هواه إلى الجهة السفلية ، فخسف به فيها محجوبا ممقوتا.

[٨٣ ـ ٨٤] (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) من العالم القدسيّ الباقي (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ) لا يحتجبون بنفوسهم وصفاتها فتصير فيهم الإرادة الفطرية الطالبة للترقي والعلوّ في سماء الروح هوى نفسانية تطلب الاستعلاء والاستطالة والتكبر على الناس في الأرض ، ويصير صلاحهم بطلب المعارف واكتساب الفضائل والمعالي فسادا يوجب جمع الأسباب والأموال وأخذ حقوق الخلق بالباطل (وَالْعاقِبَةُ) للمجرّدين الذين تزكّت نفوسهم عن الرذائل المردية والأهواء المغوية.

[٨٥] (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥))

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب لك في الأزل عند البداية والاستعداد الكامل الذي هو العقل القرآني الجامع لجميع الكمالات وجوامع الكلم والحكم (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ما أعظمه لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره هو الفناء في الله في أحدية الذات والبقاء بالتحقق به بجميع الصفات (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي : لا يعلم حالي وكنه هدايتي وما أوتيت من العلم اللدني المخصوص به إلا ربي لا أنا ولا غيري ، لفنائي فيه عن نفسي واحتجاب غيري عن حالي (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) من هو محجوب عن الحق لعدم الاستعداد وكثافة الحجاب لكون غيري محجوبا عن حال استعدادي فما علمته بل هو العالم به لا أنا ، لفنائي فيه وتحققي به.

[٨٦ ـ ٨٨] (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) كتاب العقل الفرقاني بتفصيل ما جمع فيك لكونك في حجب النشأة مغمورا ، وعمّا أودع فيك محجوبا (إِلَّا) أي : لكن ألقى إليك لتجلي صفة الرحمة الرحيمية (مِنْ رَبِّكَ) وظهور فيضها فيك شيئا فشيئا حتى صارت وصفك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) المحجوبين باحتجابك بها عن الفناء في الذات ، فتظهر أنائيتك

١٢٨

برؤية كمالها (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) وتجليات صفته فتقف مع أنائيتك كوقوفهم مع الغير فتكون من المشركين بالنظر إلى نفسك وإشراكها بالله في الوجود (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) به لا إلى نفسك بها ، فإنك الحبيب ، والحبيب لا يدعو إلى نفسه ولا يكون بنفسه بل إلى حبيبه بحبيبه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا تدع معه غيرا لا نفسك ولا غيرها. فمن امتثال قوله : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) حصل له وصف ما طغى ومن قوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) ، (ما زاغَ الْبَصَرُ) (١). (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : ذاته ، إذ لا موجود سواه (لَهُ الْحُكْمُ) بقهره كل ما سواه تحت صفاته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء في ذاته.

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٧.

١٢٩

سورة العنكبوت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢))

(الم) أي : الذات الإلهية والصفات الحقيقية التي أصلها وأوّلها باعتبار النسبة إلى الغير العلم والإضافية التي أوّلها ومنشؤها المبدئية اقتضت أن لا يترك الناس على نقصانهم وغفلتهم واحتجابهم بمجرّد أقوالهم المطابقة للحق وظواهر أعمالهم ، بل يفتنوا بأنواع البليّات ويمتحنوا بالشدائد والرياضات حتى يظهر ما كمن في استعدادتهم وأودع في غرائزهم. فإنّ الذات الإلهية أحبّت أن تظهر كمالاتها المخزونة في عين الجمع فأودعها معادن أعيان الناس ، وأوجدها في عالم الشهادة ، كماقال تعالى : كنت كنزا مخفيّاالحديث. فتحبّب إليهم بالابتلاء بالنعم والنقم ليعرفوه عند ظهور صفاته عليهم فيصيروا مظاهر له في الانتهاء إليه ، كما كانوا معادن وخزائن عند الابتداء منه ، فإنّ كونه منتهى من لوازم كونه مبتدأ.

[٣ ـ ٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من أهل الاستبصار والاستعداد بأنواع المصائب والمحن والرياضات والفتن ، حتى يتميز الصادق في الطلب ، القابل للكمال بظهور كماله من الكاذب المهوّس الضعيف الاستعداد.

[٥] (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) في أحد المواطن سواء كان موطن الثواب والآثار أو موطن الأفعال أو موطن الأخلاق أو موطن الصفات أو موطن الذات (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ) في إحدى المقامات الثلاث (لَآتٍ) أي : فليتيقن وقوع اللقاء بحسب حاله ورجاءه عند الأجل المعلوم ، وليعمل الحسنات ليجد الكرامة في جنة النفس من باب الآثار والأفعال عند الموت الطبيعي ، أو ليجتهد في المحو بالرياضات والمراقبات ليشاهد في جنة القلب من تجليات الصفات ومقامات الأخلاق ما يشتهيه ويدّعيه عند الموت الإرادي ، أو ليجاهد في الله حقّ جهاده بالفناء فيه ليجد روح الشهود وذوق الجمال في جنة الروح عند الموت الأكبر والطامّة الكبرى.

١٣٠

[٦ ـ ٧] (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

(وَمَنْ جاهَدَ) في أي مقام كان لأيّ موطن أراد (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ). (وَالَّذِينَ آمَنُوا) كل واحد من أنواع الإيمان المذكورة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بحسب إيمانهم (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ) سيئات أعمالهم وأخلاقهم ، أو صفاتهم أو ذواتهم بأنوار ذاته (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من أعمالنا الصادرة عن صفاتنا بدل أعمالهم.

[٨ ـ ٢٤] (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤))

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلى آخره ، جعل أول مكارم الأخلاق إحسان الوالدين إذ هما مظهرا صفتي الإيجاد والربوبية ، فكان حقّهما يلي حقّ الله بقرن طاعتهما بطاعته لأن العدل ظلّ التوحيد ، فمن وحّد الله لزمه العدل وأول العدل مراعاة حقوقهما لأنهما أولى الناس ، فوجب تقديم حقوقهما على حق كل أحد إلا على حقه تعالى ، ولهذا وجبت طاعتهما في كل شيء إلا في الشرك بالله.

١٣١

[٢٥ ـ ٤٤] (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

(إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) شيئا عبدتموه مودودا فيما بينكم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أو أن كل ما اتخذتم من دون الله شيئا مودودا فيما بينكم في الحياة الدنيا ، أو أن كل ما اتخذتم أوثانا مودود في هذه الحياة أو لمودّة بينكم في هذه على القراءتين. والمعنى : أن المودة قسمان : مودّة دنيوية ومودة أخروية ، والدنيوية منشؤها النفس من الجهة السفلية ، والأخروية منشؤها الروح من الجهة العلوية. فكل ما يحب ويودّ من دون الله لا لله ولا بمحبة الله فهو

١٣٢

محبوب بالمودّة النفسية ، وهي هوى زائل كلما انقطعت الوصلة البدنية زالت ولم تصل إلى إحدى القيامات فإنها أنشأت من تركيب البدن واعتدال المزاج ، فإذا انحلّ التركيب وانحرف المزاج تلاشت وبقي التضادّ والتعاند بمقتضى الطبائع كقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ولهذا شبهها ببيت العنكبوت في الوهن في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) إلى آخر الآية.

وأما الأخروية فمنشؤها الذات الأحدية والمحبة الإلهية ، وتلك المودّة هي التي تكون بين الأصفياء والأولياء لتناسب الصفات وتجانس الذوات لا تتصفى غاية الصفاء ولا تتجرّد عن الغطاء إلا عند زوال التركيب والبروز عن حجب النفس والبدن في مقام القلب الروح لقربها من منبعها هناك فتصير يوم القيامة محبّة صرفة صافية الهيئة بخلاف تلك.

[٤٥] (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : فصّل ما أجمل فيك من كتاب العقل القرآني بسبب الوحي ونزول كتاب العلم الفرقاني ، وأقم الصلاة المطلقة على ترتيب تفاصيل التلاوة والعلوم. ومعناه : اجمع بين الكمال العلميّ والعمل المطلق ، فإن لك بحسب كل علم صلاة وكما أن العلوم إما نافعة تتعلق بالآداب والأعمال وإصلاح المعاش وهي علوم القوى من غيب الملكوت الأرضية ، وإما شريفة تتعلق بالأخلاق والفضائل وإصلاح المعاد وهي علوم النفس من غيب الصدر والعقل العلمي ، وإما كلية يقينية تتعلق بالصفات وهي على نوعين : عقلية نظرية وكشفية سريّة ، وكلاهما من غيب القلب والسرّ. وإما حقيقية تتعلق بالتجليات والمشاهدات ، وهي من غيب الروح ، وإما ذوقية لدنية تتعلق بالعشقيات والمواصلات وهي من غيب الخفاء. وإما حقيّة من غيب الغيوب. وبحسب كل علم صلاة ، فالأولى هي الصلاة البدنية بإقامة الأوضاع وأداء الأركان ، والثانية صلاة النفس بالخضوع والخشوع والانقياد والطمأنينة بين الخوف والرجاء ، والثالثة صلاة القلب بالحضور والمراقبة ، والرابعة صلاة السرّ بالمناجاة والمكالمة ، والخامسة صلاة الروح بالمشاهدة والمعاينة ، والسادسة صلاة الخفاء بالمناغاة والملاطفة ، ولا صلاة في المقام السابع لأنه مقام الفناء والمحبة الصرفة الفناء في عين الوحدة. وكما كان نهاية الصلاة الظاهرة وانقطاعها بظهور الموت الذي هو ظاهر اليقين وصورته كما قيل في تفسير قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)) (١) ، فكذلك انتهاء الصلاة الحقيقية بالفناء المطلق الذي هو حق اليقين. وأما في

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٩٩.

١٣٣

مقام البقاء بعد الفناء فيتجدّد جميع الصلوات الست مع سابعة وهي صلاة الحق بالمحبة والتفريد.

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالصلاة البدنية تنهى عن المعاصي والسيئات الشرعية ، وصلاة النفس تنهى عن الرذائل والأخلاق الرديئة والهيئات المظلمة ، وصلاة القلب تنهى عن الفضول والغفلة ، وصلاة السرّ تنهى عن الالتفات إلى الغير والغيبة ، كماقال عليه‌السلام : «لو علم المصلي من يناجي ما التفت». وصلاة الروح عن الطغيان بظهور القلب بالصفات كنهي صلاة القلب عن ظهور النفس بها ، وصلاة الخفاء عن الاثنينية وظهور الأنانية ، وصلاة الذات تنهى عن ظهور البقية بالتلوين وحصول المخالفة في التوحيد (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) الذي هو ذكر الذات في مقام الفناء المحض ، وصلاة الحق عند التمكين في مقام البقاء أكبر من جميع الأذكار والصلوات (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) في جميع المقامات والأحوال والصلوات.

[٤٦ ـ ٤٨] (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إنما منع المجادلة مع أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن لأنهم ليسوا محجوبين عن الحق بل عن الدين ، فهم أهل استعداد ولطف لا أهل خذلان وقهر. وإنما ضلّوا عن مقصدهم الذي هو الحق في الطريق لموانع وعادات وظواهر فوجب في الحكمة مرافقتهم في المقصد الذي هو التوحيد كما قال : (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) ومرافقتهم في الطريق ما استقام منها ووافق طريق الحق ، لا ما اعوجّ وانحرف عن المقصد كالانقياد والاستسلام للمعبود بالحق الواحد المطلق كما قال : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ليتحقق عندهم أنهم على الحق متوجهون إلى مقصدهم سالكون لسبيله ، فتطمئن قلوبهم. وملاطفتهم في بيان كيفية سلوك الطريق بتصويب ما هو حق مما هم عليه وتبصير ما هو باطل لاحتجابهم عنه بالعبادة ، كقوله : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لمناسبتهم ومشاركتهم إياهم في اللطف ، فيستأنسوا بهم ويقبلوا قولهم ويهتدوا بهداهم إلا الذي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فبطل استعدادهم وحجبوا عن ربّهم ، وهم الذين ظلموا منهم على أنفسهم بإبطال استعداداتهم ونقص حقوقها من

١٣٤

كمالاتها بتكديرها وتسويدها ، ومنعها عن القبول بكثرة ارتكاب الفضول فإنهم أهل القهر لا يؤثر فيهم إلا القهر ولا تنجح فيهم الملاطفة للمضادّة بين الوصفين.

[٤٩ ـ ٥٤] (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤))

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : القرآن علوم حقيقية ذوقية بيّنة ، محلها صدور العلماء المحققين ، وهي المعاني النازلة من غيب الغيوب إلى الصدر لا الألفاظ والحروف الواقعة على اللسان والذكر ، وما يجحد بها إلّا الكافرون المحجوبون لعدم الاستعداد ، أو الظالمون الذين أبطلوا استعدادهم بالرذائل والوقوف مع الأضداد (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) المحجوبين عن الحق لكونهم مغمورين في الغواشي الطبيعية والحجب الهيولانية بحيث لم يبق فيهم فرجة إلى عالم النور فيستبصروا ويستضيئوا بها ويتنفسوا منها فيتروّحوا فيها.

[٥٥ ـ ٦٨] (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

١٣٥

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ) لحرمانهم عن الحق واحتجابهم عن النور واحتراقهم تحت القهر (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) لحرمانهم اللذات والشهوات واحتجابهم عنها بفقدان الأسباب والآلات ، وتعذّبهم بإيلام الهيئات ونيران الآثار وهم بين مبتلين شديدين ومشوقين قويين إلى الجهة العلوية بمقتضى الفطرة الأصلية ، وإلى السفلية باقتضاء رسوخ الهيئة العارضية مع الحرمان عنهما واحتباسهم في برزخ بينهما نعوذ بالله منه.

[٦٩] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا) من أهل الطريقة (فِينا) بالسير في صفاتنا ، وهو السير القلبيّ لأن المبتدئ الذي هو في مقام النفس سيره بالجهاد إلى الله. والمجاهدة في هذا السير بالحضور والمراقبة والاستقامة إلى الله في الثبات على حكم التجليات (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) إلى طرق الوصول إلى الذات ، وهي الصفات لأنها حجب الذات ، فالسلوك فيها بالاتصاف بها موصل إلى حقيقة الاسم الثابت له تعالى بحسب الصفة الموصوف هو بها وهو عين الذات الواحدية وهي باب الحضرة الأحدية (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يعبدون الله على المشاهدة ، كماقال عليه‌السلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» ، فالمحسنون السالكون في الصفات والمتّصفون بها لأنهم يعبدون بالمراقبة والمشاهدة ، وإنماقال : «كأنك تراه» لأن الرؤية والشهود العيني لا يكون إلا بالفناء في الذات بعد الصفات.

١٣٦

سورة الروم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) الم غُلِبَتِ الرُّومُ) الذات الأحدية مع صفتي العلم والمبدئية كما ذكر ، اقتضت أن روم القوى الروحانية تكون مغلوبة في أقرب موضع من أرض النفس الذي هو الصدر ، لأن فيض المبدأ يوجب إظهار الخلق واحتجاب الحق به ، فكل ما كان أقرب إلى الحق كان مغلوبا بالذي هو أقرب إلى الخلق وذلك حكم الاسم المبدئ في مظهر النشأة وتجليه تعالى به وباسمه الظاهر واسمه الخالق ، وفي الجملة : بما في حضرته المبدئية من الأسماء (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ) كونهم مغلوبين (سَيَغْلِبُونَ) على فارس القوى النفسانية الأعجمية المحجوبة بالرجوع إلى الله ، وظهور الغلب.

[٤ ـ ٥] (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) من الأطوار التي يكون فيها الترقي إلى الكمال وأوقات الحضور والمقامات والتجليات.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ) بحكم اسمه المبدئ (وَمِنْ بَعْدُ) بحكم اسمه المعيد ، يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه (وَيَوْمَئِذٍ) أي : يوم غلبة روم الروحانيات على النفسانيات (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) وتأييده من الملكوت السماوية وإمدادهم بالأمداد القدسية (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين بها (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القويّ الغالب على قهر الفارسيين المحجوبين (الرَّحِيمُ) بإفاضة الأمداد الكمالية والأنوار التأييدية القدسية على الروميين الغالبين.

[٦] (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

(وَعْدَ اللهِ) في تكميل المستعدّين من أهل عنايته (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لاحتجابهم يحسبون أن هذه الغلبة بقوّتهم وكسبهم ، وأنه قد يمكن أنه لا يبلغ المعني به السعي إلى الكمال لعدم السعي ولا يعرفون أن ذلك المستعدّ أيضا من توفيقه

١٣٧

وعلامة عنايته تعالى به ، وعدم السعي من خذلانه وآية كونه غير معني به ، فإن أعمالنا معرّفات لا موجبات.

[٧] (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وأنّ وجوه المكاسب منوطة بسعي العباد وتدبيرهم (وَهُمْ) عن الباطن وأحوال العالم الروحاني (هُمْ غافِلُونَ) لا يفطنون أن وراء هذه الحياة المنقطعة حياة سرمدية كما قال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١) ، وأنّ وراء تدبير العباد وسعيهم لله تعالى تقديرا وحكما.

[٨ ـ ١٠] (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ) سموات الغيوب السبعة وأرض البدن (وَما بَيْنَهُما) من القوى الطبيعية والملكوت الأرضية والروحانية ، والملكوت السماوية والصفات والأخلاق وغيرها إلا بالحكمة والعدل وظهور الحق في مظاهرهم بالصفات على حسب استعداد قبولها لتجلّيه (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) هو غاية كمال كل منهم وفنائه فيالله بمقتضى هوية استعداده الأول حتى يشهدوا بقدر استعدادهم وإلقاء الله فيهم بصفاته وذاته (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) لاحتجابهم عنه ، فيتوهمون أنه لا يكون إلا بالمقابلة الصورية في عالم آخر باندراج الهوية في الهوية.

[١١] (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بإظهار الفرس على الروم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بإظهار الروم على الفرس (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بالفناء فيه.

[١٢ ـ ١٦] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٤.

١٣٨

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) بوقوع القيامة الصغرى (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) عن رحمة الله وتحيّرهم في العذاب ، غير قابلين للرحمة ، أو القيامة الكبرى بظهور المهديّ وقهرهم تحت سطوته وحرمانهم من رحمته ، وحينئذ يتفرّق الناس بتميز المؤمن عن الكافر.

[١٧ ـ ١٨] (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

(فَسُبْحانَ اللهِ) أن يكون غيره في الوجود والصفة والفعل والتأثير (حِينَ تُمْسُونَ) بغلبة ظلمة الفرس على نور الروم (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) عند ظهور نورهم على ظلمة الفرس (وَلَهُ الْحَمْدُ) بظهور صفات كماله وتجليات جماله في سموات الغيوب السبعة وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات وقرب طلوع شمس الروح ، وبظهور وقت إصباح غلبة نور الروحانيات على ظلمات النفسانيات وقرب طلوع شمس الروح ، وبظهور صفات جلاله في أرض البدن عند إمساء غلبة ظلمة النفسانيات على نور الروحانيات (وَعَشِيًّا) وقت فنائهم وغيبة شمس الروح في الذات (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) في البقاء بعد الفناء عند الاستقامة والاستواء.

[١٩ ـ ٢٠] (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

(يُخْرِجُ) حيّ القلب من ميت النفس بالإعادة وقت الإصباح و (يُخْرِجُ) ميت النفس من حيّ القلب في الإبداء عند الإمساء (وَيُحْيِ) أرض البدن حينئذ (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) في النشأة الثانية.

[٢١ ـ ٢٣] (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

(وَمِنْ آياتِهِ) أي : من أفعاله وصفاته التي يتوصل بها إلى ذاته معرفة وسلوكا (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي : خلق لكم من النفوس أزواجا للأرواح (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) وتركنوا وتميلوا نحوها بالمودّة والتأثير والتأثر (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) من الجانبين المودّة والرحمة فتودّ النفس نور الروح وتأثيره بالقبول والتأثر ، فتسكن عن الطيش وتتصفى فيرحمها الله بولد القلب في مشيمة الاستعداد برّا بها ، فتهتدي ببركته وتتخلق بأخلاقه فتفلح ، وتودّ الروح النفس بالتأثير فيها وإفاضة النور عليها فيرحمه‌الله بالولد المبارك برّا ، عطوفا ، فيرتقي ببركته ويظهر به كماله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) صفات وكمالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أنفسهم وذواتهم وما جبلت عليها وأودعت فيها (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) من لسان النفس والقلب والسرّ والروح

١٣٩

والخفاء بكل مقال في كل مقام ، فإنه لا ينحصر وجوه اختلافات هذه الألسن (وَأَلْوانِكُمْ) تلوّناتكم وتلويناتكم في السموات السبع والأرض (لَآياتٍ) من تجلّيات الصفات والأفعال للعلماء العارفين في مراتب علومهم (مَنامُكُمْ) غفلتكم في ليل النفس ونهار القلب بظهور صفاتها (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) بالترقي في الكمالات واكتساب الأخلاق والمقامات (يَسْمَعُونَ) كلام الحق بسمع القلب ، فيفهمون معناه بحسب مقاماتهم في الأطوار.

[٢٤ ـ ٢٦] (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦))

(يُرِيكُمُ) برق اللوامع والطوالع في البدايات ، خائفين من انقضاضها وخفوقها وبقائكم في الظلمة بفواتها ، وطامعين في رجوعها ومزيدكم بها ، وينزل مياه الواردات والمكاشفات بعدها من سماء الروح وسحاب السكينة ، فيحيي بها أراضي النفوس والاستعدادات الهامدة بعد موتها بالجهل (يَعْقِلُونَ) بمطاوعة نفوسهم للدواعي العقلية معاني الواردات وما يصلحهم من الحكم والمعقولات.

[٢٧ ـ ٢٩] (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي : الوصف الأعلى بالفردانية في الوجود والوحدة الذاتية ، وما أحسن قول مجاهد في معناه أنه : لا إله إلا هو.

[٣٠ ـ ٣١] (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١))

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ) لدين التوحيد وهو طريق الحق تعالى ، ولذلك أطلق من غير إضافة أي : هو الدين مطلقا وما سواه ليس بدين لانقطاعه دون الوصول إلى المطلوب ، والوجه هو الذات الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها ، وإقامته للدين تجريده عن كل ما سوى الحق قائما بالتوحيد والوقوف مع الحق غير ملتفت إلى نفسه ولا إلى غيره فيكون سيره حينئذ سيرا

١٤٠