تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

متصرّف فيه ، قاهر له بإذن الله تعالى؟ ، وتسخيره والانهماك في عالم الحسّ يخمد قوة الفطرة ويطفئ نور القلب فلا تبقى له قدرة ولا قوة وتأثير في شيء ، وكيف وقد تأثرت عمّا من شأنه التأثر المحض وتسخرت لما من شأنه التسخر الصرف والانفعال المطلق؟ ، ولهذا قيل : الدنيا كالظل تتبع من أعرض عنها وتفوت من أقبل إليها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : «من أقبل إليها فاتته ومن أعرض عنها أتته».

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الذلة والصغار لملازمتكم بالطبع للجهة السفلية وتوجهكم بالعشق إلى المطالب الدنية ، فأنتم اخترتم الدناءة والانقهار بالتجبر والاستكبار وذلك معنى قوله : (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : في مقام النفس باستيلاء القوة الغضبية التي شأنها الاستكبار (فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إذ لو تجرّدوا عن الهيئات الغضبية والشهوية ، وترّفعوا عن الصفات النفسية ونضوا جلابيب الإنية والأنانية لاستكبروا بالحق في السماء والأرض ولكان تكبّرهم كبرياء الله كماقال الصادق عليه‌السلام لمن قال له : فيك كل فضيلة وكمال إلا أنك متكبّر! ، فقال : «لا والله ، بل انخلعت عن كبري فخلع عليّ كبرياء الله» أو ما هذا معناه ، فهذا هو التكبر بالحق (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) باستيلاء القوة الشهوانية التي خاصيتها الفسق والفساد.

[٢٩] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩))

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) الجنّ نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر سماها حكماء الفرس الصور المعلقة ، ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية ومشاركتها الإنس في ذلك سميّا ثقلين ، وكما أمكن الناس التهدّي بالقرآن أمكنهم.

وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن ردّ الجميع وأوضح من أن يقبل التأويل ، وإن شئت التطبيق فاسمع. وإذ صرفنا إليك نفرا من جنّ القوى الروحانية من العقل والفكر والمتخيلة والوهم حال القراءة في الصلاة ، أي : أملناهم نحوك واتّبعناهم سرّك بالإقبال بهم إليك وصرفهم عن جانب النفس والطبيعة بتطويقهم إياك وتسخيرهم لك حتى يجتمع همّك ولا يتوزع قلبك ولا يتشوّش بالك بحركاتهم في وقت حضورك عند طلوع فجر نور القدس (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الوارد إليك من العالم القدسيّ (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : حضروا العقل القرآني الجامع للكمالات عند ظهور النور الفرقاني عليك (قالُوا أَنْصِتُوا) أي : سكنوا وسكت بعضهم بعضا عن كلامهم الخاص بهم مثل الأحاديث النفسانية والتصورات والهواجس والوساوس والخواطر والحركات الفكرية والانتقالات التخيلية. والقول هاهنا حاليّ كما ذكر غير مرة إذ لو لم يسكنوا وينصتوا مستمعين لما يفيض عليهم من الواردات القدسية لم يبق من الوارد أثر ، بل لم يكن بتلقي الغيب ولا ورود المعنى القدسي ولا تلاوة الكلام الإلهي كما

٢٦١

ينبغي ، ولهذا قال : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)) (١) ولأمر ما كان مبدأ الوحي منامات صادقة وذلك كون هذه القوى ساكنة متعطلة عند النوم حتى قوي على عزلها عن أشغالها وتعطيلها في اليقظة (فَلَمَّا قُضِيَ) أي : الوارد المعنوي والنازل القدسي الكشفي (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ) القوى النفسانية والطبيعية ينذرونهم عقاب الطغيان والعدوان على القلب بالتأثير فيهم بالملكات الفاضلة وإفاضات الهيئات النورية المستفادة من المعنى القدسي النازل ويمنعونهم الاستيلاء على القلب بالتسخير والارتياض.

[٣٠] (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠))

(قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) أي : ما تأثرنا بمثل هذا التأثر النوري في الوجود المحمدي إلا في زمن موسى ومن بعده إلى هذا الزمان ما تلقينا هذا المعنى لأن عيسى عليه‌السلام ما تم معراجه وما بلغ حاله حال النبيين المذكورين ، موسى ومحمد ، في الانخراط في سلك القدس في حياته ومشايعة جميع قواه لسرّه وما كمل فناؤه ليتحقق جميع قواه بالوجود الحقاني ولذلك بقي في السماء الرابعة واحتجب فيها بخلافهما وسيتبع الملة المحمدية بعد النزول ليتم حاله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) لكونه مطابقا له في الهداية إلى التوحيد والاستقامة كما أشير إليه بقوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ).

[٣١ ـ ٣٥] (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) بمطاوعة القلب في التوجه إلى الله والتأدّب بآدابه والاستسلام لأحكامه والانقياد لأوامره ونواهيه في طاعته (وَآمِنُوا بِهِ) بالتنوّر بنوره والانخراط في سلك عبادته (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) الهيئات الرذائل والميل إلى الجهات السفلية بمتابعة الهوى وحجب الصفات النفسانية دون التعلقات البدنية والشواغل الطبيعية لامتناع تجريدها عن المادة ، ولهذا المعنى أورد من التبعيضية (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) بسبب النزوع والانجذاب

__________________

(١) سورة المزمل ، الآية : ٦.

٢٦٢

إلى اللذات والشهوات مع الحرمان لفقدان الآلات وما قال بعض المفسرين : إنّ الجنّ لا ثواب لهم وإنما إسلامهم يدفع عقابهم ، في تفسير الآية إن ثبت إشارة إلى أن هذه القوى البدنية لا حظ لها من المعاني الكلية العقلية والهيئات النورية واللذات القدسية لكن انقيادها ومطاوعتها للسر يدفع آلامها الحسية والنزوعية والله أعلم.

٢٦٣

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

[١ ـ ١٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

تطبيق (الَّذِينَ كَفَرُوا) على القوى النفسانية المانعة عن السلوك في سبيل الله و (الَّذِينَ آمَنُوا) على الروحانية المعاونة إلى آخر الكلام ظاهر مما سبق فلا نكرر.

[١٥ ـ ١٨] (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨))

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي : صفة الجنة المطلقة المتناولة للجنان كلها (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) من الأصناف الخمسة المذكورة غير مرة (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي : أصناف من العلوم والمعارف الحقيقية التي تحيا بها القلوب وتروى بها الغرائز كما تحيا بالماء الأرض وتروى

٢٦٤

الأحياء. غير آسن : غير متغيّر بشوائب الوهميات والتشكيكات واختلاف الاعتقادات الفاسدة والعادات وهي للمتقين المجتبين من الصفات النفسانية الواصلين إلى مقام القلب (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي : من علوم نافعة متعلقة بالأفعال والأخلاق مخصوصة بالناقصين المستعدّين الصالحين للرياضة والسلوك في منازل النفس قبل الوصول إلى مقام القلب بالاتّقاء عن المعاصي والرذائل كعلوم الشرائع والحكمة العملية التي هي بمثابة اللبن المخصوص بالأطفال الناقصين ، لم يتغير طعمه بشوب الأهواء والبدع واختلافات أهل المذاهب وتعصبات أهل الملل والنحل (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) أي : أصناف من محبة الصفات والذات (لَذَّةٍ) أي : لذيذة (لِلشَّارِبِينَ) الكاملين البالغين إلى مقام مشاهدة حسن تجليات الصفات وشهود جمال الذات ، العاشقين المشتاقين إلى الجمال المطلق في مقام الروح والاستغراق في عين الجمع من المتّقين عن صفاتهم وذواتهم (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ) أي : حلاوات الواردات القدسية والبوارق النورية واللذات الوجدانية في الأحوال والمقامات للسالكين الواجدين للأذواق والمريدين المتوجهين إلى الكمال قبل الوصول إلى مقام المحبة من الذين اتّقوا الفضول ، فإن الآكلين للعسل أكثر من الشاربين للخمر ، وليس كل من ذاق حلاوة العسل ذاق لذّة الخمر دون العكس (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : أنواع اللذات من تجليات الأفعال والصفات والذات بأسرها كما قال الشاعر :

وكل لذيذة قد نلت منه

سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

لأن شهود المعذب وتجلي صفات القهر له لذة خاصة بمن ذاقها يعرفها منت يعرفها وينكرها من ينكرها (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) بستر هيئات المعاصي وتكفير سيئات الرذائل لأصحاب الألبان ثم بستر الأفعال أيضا لأصحاب المياه ، ثم بمحو الصفات لأصحاب العسل وبعض أصحاب الخمر ، ثم بطمس ذنوب الأحوال والمقامات وإفناء البقيات وإخفاء ظهورها بالأنوار والتجليات لأهل الفواكه والثمرات ثم بإفناء الذات بالاستغراق في جمع الأحدية والاستهلاك في عين الهوية لشراب الخمور الصرفة وكلهم أصناف المتّقين (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) كمن هو في مقابلتهم في دركات جحيم الطبيعة وشرب حميم الهوى.

[١٩ ـ ٢٦] (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)

٢٦٥

أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦))

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : حصل علم اليقين في التوحيد ثم اسلك طريقه إذ الاستغفار الذي هو صورة السلوكمسبوق بالإيمان العلمي دون الظني لأن من لم يرزق ثبات الإيمان لم يمكنه السلوك ، والثبات لا يكون إلا باليقين إذ الاعتقاد التقليدي يمكن تغيره وكل حجاب ذنب سواء كان بالهيئات البدنية أو الصفات النفسانية أو القلبية أو الإنية كما قيل :

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

فالأمر بالعلم ها هنا هو الحث على شهود الوحدة وبالاستغفار لذنبه هو التحريض على التنصل عن ذات ظهور البقية والأنانية (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بتكميلهم وإرشادهم ودعوتهم إلى الحق وهدايتهم إلى سلوك طريق التوحيد ، وهذا وأمثاله مما يدل على أن أكثر سلوكه في الله إنما كان بعد البعثة والنبوّة (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) انتقالاتكم في السلوك من رتبة إلى رتبة وحال إلى حال (وَمَثْواكُمْ) ومقامكم الذي أنتم فيه فيفيض عليكم الأنوار وينزل الأمداد على حسبها.

[٢٧ ـ ٢٨] (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) توفي الملائكة مخصوص بالقاطنين في مقام النفس المنخرطين في سلك الملكوت الأرضية أي : ما حيلتهم أو كيف يعملون إذا توفّتهم الملائكة الأرضية بقبض أرواحهم على الصفة المؤلمة المؤذية من جهتهم بالحجب عن الأنوار القدسية من وجوههم والمنع عما يميلون إليه من اللذات الحسية من أدبارهم إذ وجه النفس هو الجهة التي تلي القلب والضرب فيه هو الإيلام من جهته بالحجب عن أنواره وما فيه قرّة العين من تجليات الصفات والدبر هو الجهة التي تلي البدن والضرب فيه هو التعذيب من جهته بالحجز عن الجهة السفلية واللذات الحسية التي انجذبت إليها بالميل الطبيعي والهوى والحجب عنها بأخذ الآلات الموصلة إليها منهم (ذلِكَ) أي : ذلك الضرب والإيلام من الجهتين بسبب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الانهماك في المعاصي والشهوات البدنية المبعدة عن جنابه ، فاستحقوا الضرب في الأدبار (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) الذي هو الانسلاخ عن صفاتهم للاتصاف بصفاته والتوجه إلى جنابه الموجب لمقام الرضا والقرب ، فاستحقوا الضرب في الوجوه.

[٢٩ ـ ٣٠] (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

٢٦٦

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) لما كانت سراية هيئات النفس إلى البدن أسرع من تعدي هيئات البدن إلى النفس لكونها من الملكوت التي من شأنها التأثير وكون البدن من عالم الملك الذي من شأنه الانفعال لم يمكن إخفاء الأحوال النفسانية كما ترى من ظهور هيئات الغضب والمساءة والمسرّة على وجوه أصحابها لكن الجهل الذي هو من أصعب أمراض القلوب يغرّ صاحبه ويعميه فيحسب أنّ ما في قلبه من الغلّ والحقد والحسد يخفيه والله يظهرها على صفحات وجهه وفي فلتات لسانه كماقال النبي عليه‌السلام : «ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه». وذلك معنى قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ولهذا قيل : لو بات أحد على معصية أو طاعة في مطمورة وراء سبعين بابا مغلقة لأصبح الناس يتقاولون بها لظهورها في سيماه وحركاته وسكناته وشهادة ملكاته بها.

[٣١ ـ ٣٨] (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) علم الله تعالى قسمان : سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء ، وتفصيلا في لوح القدر ، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية والنفوس السماوية الجزئية ، فمعنى حتى نعلم : حتى يظهر علمنا التفصيلي في المظاهر الملكوتية والإنسية التي يثبت بها الجزاء ، والله أعلم.

٢٦٧

سورة الفتح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فتوح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة : أوّلها : الفتح القريب المشار إليه بقوله : (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (١) وهو فتح باب القلب بالترقي عن مقام النفس وذلك بالمكاشفات الغيبية والأنوار اليقينية ، وقد شاركه في ذلك أكثر المؤمنين كما أشار إليه بقوله : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (٢) ، وقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٣) ويلزمه البشارة بالأنوار الملكوتية والتجليات الصفاتية كما قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤). وحصول المعارف اليقينية وكشوف الحقائق القدسية المشار إليها بقوله : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) (٥). وثانيها : الفتح المبين بظهور أنوار الروح وترقي القلب إلى مقامه وحينئذ تترقى النفس إلى مقام القلب فتستتر صفاتها اللازمة إياها السابقة على فتح القلب من الهيئات المظلمة بالأنوار القلبية وتنتفي بالكلية ، وذلك معنى قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) وكذا الحادثة المتأخرة عنه من الهيئات النورانية المكتسبة بالتنوّر بالأنوار القلبية التي تظهر بها في التلوينات وتخفي حالها وهي الذنوب المشار إليها بقوله : (وَما تَأَخَّرَ) ولا تنتفي هذه بالفتح القريب وإن انتفت الأولى به لأن مقام القلب لا يتم ولا يكمل إلا بعد الترقي إلى مقام الروح واستيلاء أنواره على القلب فيظهر تلوين القلب حينئذ وينتفي تلوين النفس الذي كان في مقام القلب بالكلية وتنقطع مادته ويحصل في هذا الفتح مغانم المشاهدات الروحية والمسامرات السرية. وثالثها : الفتح المطلق المشار إليه بقوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١)) (٦) وهو فتح باب الوحدة بالفناء المطلق والاستغراق في عين الجمع بالشهود الذاتي وظهور النور

__________________

(١) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة الصف ، الآية : ١٣.

(٣) سورة الفتح ، الآية : ١٨.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٧.

(٥) سورة الفتح ، الآية : ١٩.

(٦) سورة النصر ، الآية : ١.

٢٦٨

الأحدي ، فهذا الفتح المذكور هاهنا هو المتوسط يترتب عليه أمور أربعة : المغفرة المذكورة وإتمام النعمة الصفاتية والمشاهدات الجمالية والجلالية بكمال مقام القلب كما ذكر ، والهداية إلى طريق الوحدة الذاتية بالسلوك في الصفات وانخراق حجبها النورية وانكشاف غيومها الرقيقة حتى الوصول إلى فناء الإنية والنصرة العزيزة بالوجود الموهوب والتأييد الحقاني الموروث بعد الفناء.

[٤ ـ ٥] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن وهو من مبادئ عين اليقين بعد علم اليقين كأنه وجدان يقينيّ معه لذة وسرور (لِيَزْدادُوا إِيماناً) وجدانيا ذوقيا عينيا (مَعَ إِيمانِهِمْ) العلميّ (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) من الأنوار القدسية والأمداد الروحانية (وَالْأَرْضِ) من الصفات النفسانية والملكوت الأرضية كالقوى البشرية وغيرها ، يغلب بعضها على بعض بمقتضى مشيئته كما غلّب الملكوت السماوية الروحية على الأرضية النفسية في قلوبهم بإنزال السكينة ، وغلّب الأرضية على السماوية في قلوب أعدائهم فوقعوا في الشك والريبة (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بسرائرهم ومقتضيات استعداداتهم وصفات فطرة الفريق الأول وكدورة نفوس الفريق الثاني (حَكِيماً) بما يفعل من التغليب على ما اقتضى الحكمة والصواب (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) بإنزال السكينة (جَنَّاتٍ) الصفات الجارية من تحتها أنهار علوم التوكل والرضا والمعرفة وأمثالها من علوم الأحوال والمقامات والحقائق والمعارف (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) من صفات النفوس (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً) بنيل درجات المقربين (عَظِيماً) بالنسبة إلى جنات الأفعال.

[٦ ـ ٩] (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) المبطلين لاستعداداتهم ، المكدّرين لصفائها بأفعالهم وملكاتهم (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) المردودين المطرودين عن جناب الحق من الأشقياء الذين لا يمكنهم موافقة المؤمنين ظاهرا لما بينهم من التضادّ الحقيقي والتباغض الذاتي الأصلي بحسب الفطرة (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) لمكان الشك والارتياب وظلمة نفوسهم

٢٦٩

بالاحتجاب (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع كالقتل والإماتة والإذلال (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالقهر والحجب (وَلَعَنَهُمْ) بالطرد والإبعاد في الآخرة (وَأَعَدَّ لَهُمْ) أنواع العذاب (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ) كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين بعكس ما فعل بالمؤمنين ، وبدّل عليما بقوله : عزيز ، ليفيد معنى القهر والقمع لأن العلم من باب اللطف والعزّة من باب القهر.

[١٠ ـ ١٩] (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) هذه المبايعة هي نتيجة العهد السابق المأخوذ ميثاقه على العباد في بدء الفطرة وإنما كانت مبايعته مبايعة الله لأن النبي قد يفنى عن وجوده ويحقق الله في ذاته وصفاته وأفعاله فكل ما صدر عنه ونسب إليه فقد صدر عن الله ونسب إليه ، فمبايعته مبايعة الله تعالى ، وإنما قلنا إنها نتيجة ميثاق الفطرة إذ لو لم تكن جنسية ومناسبة أصلية بينهم وبينه لما وجدت هذه البيعة لانتفاء الألفة والمحبة المقتضية لها بانتفاء الجنسية ، فهي دليل سلامة فطرتهم وبقائها على صفائها الأصلي (يَدُ اللهِ) الظاهرة في مظهر رسوله الذي هو اسمه الأعظم (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي : قدرته البارزة في يد الرسول فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم فيضرّهم عند النكث وينفعهم عند الوفاء (فَمَنْ نَكَثَ) العهد بتكدير صفاء فطرته والاحتجاب بهيئات نشأته وتغليب ظلمة صفات نفسه على نور قلبه الموجب لمخالفة العهد (فَإِنَّما يَنْكُثُ

٢٧٠

عَلى نَفْسِهِ) أي : يعود ضرر نكثه عليه دون غيره لسقوطه عن الفطرة الأصلية واحتجابه في الظلمات البدنية وحرمانه عن اللذات الروحانية وتعذّبه بالآلام النفسانية ، وهذا هو النفاق الحقيقي (وَمَنْ أَوْفى) بالمحافظة على نور فطرته (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) بأنوار تجليات الصفات ولذات المشاهدات ولهذا سميت هذه البيعة بيعة الرضوان ، إذ الرضا هو فناء الإرادة في إرادته تعالى وهو كمال فناء الصفات. ولتحقيق هذا الثواب لاطلاع الله تعالى على صفاء فطرتهم قال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد وحفظ النور المذكور (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) بتلألؤ نور التجلي الصفاتي الذي هو نور كمالي على نور ذاتي فحصل لهم اليقين (وَأَثابَهُمْ) الفتح المذكور ، فحصلوا على مقام الرضا ورضوا عنه بما أعطاهم من الثواب ، ولو لم يسبق رضا الله عنهم لما رضوا (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) من علوم الصفات والأسماء (يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) حيث كانت قدرته فوق قدرتهم (حَكِيماً) حيث خبّأ في صورة هذا القهر الجليّ معنى هذا اللطف الخفي ، إذ ظاهر قوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قهر ووعيد حصل منه معنى قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الذي هو لطف محض.

[٢٠ ـ ٢٩] (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

٢٧١

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) من علوم توحيد الذات (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ) ناس صفاتكم عنكم (وَلِتَكُونَ آيَةً) دالة ، شاهدة (لِلْمُؤْمِنِينَ) على توحيد الذات (وَيَهْدِيَكُمْ) سلوك صراطه بعد العلم به (وَأُخْرى) من علومه تعالى التي هي عين ذاته بعد فنائكم فيه وتحققكم به حال البقاء بعد الفناء (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) إذ لا تكون إلا له (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) دون من سواه (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من معلوماته (قَدِيراً) والله أعلم.

٢٧٢

سورة الحجرات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) طلب الجمع بين أدبي الظاهر والباطن من أهل الحضور ونهى عن التقدمة المطلقة في الحضرة الإلهية والحضرة النبوية المتناولة للتقدم في الأقوال والأفعال وحديث النفس والظهور بالصفات والذات ، ولحضرة كل اسم من أسماء الله تعالى أدب يجب مراعاته على من تجلى الله له به ولكل مقام وحال أدب يجب على صاحبه محافظته. فالتقدمة بين يدي الله في مقام الفناء هي الظهور بالأنائية في حضرة الذات ، وفي مقام المحو الظهور بصفة تقابل الصفة التي تشاهد تجليها في حضرة الأسماء كالظهور بإرادته في مقام الرضا ، ومشاهدة الإرادة في حضرة تجلي اسم المريد ، والظهور بعلمه بالاعتراض في مقام التسليم بحضرة العليم وبالتجلّد في مقام العجز ، ومشاهدة القادر وتحديث النفس في مقام المراقبة وشهود المتكلم ، وبالفعل في مقام التوكل والانسلاخ عن الأفعال في حضرة الفعال ، وهذه كلها إخلال بأدب الباطن مع الله تعالى. وأما الإخلال بأدب الظاهر معه ، ف : كترك العزائم إلى الرخص والإقدام على الفضول المباحة من الأقوال والأفعال وأمثالهما. وأما التقدمة بين يدي الرسول بإخلال أدب الظاهر فهو : كالتقدم عليه في الكلام ، والمشي ، ورفع الصوت ، والنداء من وراء الحجرات ، والجلوس معه واللبث عنده للاستئناس بالحديث ، والدخول عليه والانصراف عنه بغير الاستئذان وأمثاله. وأما إخلال أدب الباطن معه ف : كالطمع في أن يطيعه الرسول في أمر ، وظن السوء في حقه وأمثال ذلك. وأما المخالفات التي تتعلق بالأوامر والنواهي والإقدام على الشيء قبل معرفة حكم الله تعالى وحكم

٢٧٣

الرسول فيه فهي من سوء أدب أهل الغيبة لا الحضور الذي نحن فيه.

(وَاتَّقُوا اللهَ) في هذه التقدمات كلها فإن من اتّقى الله حق تقاته لا يصدر عنه أمثال هذه التقدمات في المواقع المذكورة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) للتقدمات القولية في باب أدب الظاهر ، ولأحاديث النفس في باب أدب الباطن (عَلِيمٌ) بالفعليات والوصفيات وبظهور البقيات.

[٧ ـ ٨] (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) الآية ، لما كان تمني المؤمنين طاعة الرسول إياه معربا عن ظهور نفسه بصفاته ، محتجبا عن فضل الرسول وكماله ، وذلك لا يكون إلا لضعف الإيمان وكدورة القلب بهوى النفس ، واستيلاء النفس على القلب بالميل إلى الشهوات واللذات لغلبة الهوى عليها ، أورد لفظه (وَلكِنَ) بين قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) وبين قوله : (اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) لصفاء الروح وبقاء الفطرة على النور الأصلي (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) بإشراق أنوار الروح على القلب وتنويرها إياه واستعدادها للإلهامات الملكية المفيدة للاستسلام والانقياد لأحكامه (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) أي : الاحتجاب عن الدين (وَالْفُسُوقَ) أي : الميل إلى اتباع الشهوات بالهوى ومتابعة الشيطان بالعصيان لتنوّر النفس بنور القلب وانقيادها له واستفادتها ملكة العصمة بالاستسلام لأمره. والعصمة هيئة نورية في النفس يمتنع معها الإقدام على المعاصي كل ذلك لقوة الروح واستيلائه على القلب والنفس بنوره الفطري كما أن أضداد ذلك في الذين تمنوا طاعة الرسول إياهم لقوة النفس واستيلائها على القلب وحجبها إياه عن نور الروح (أُولئِكَ) الموصوفون بمحبة الإيمان وتزيينه في قلوبهم وكراهتهم المعاصي (هُمُ الرَّاشِدُونَ) الثابتون على الصراط المستقيم دون من يخالفهم (فَضْلاً مِنَ اللهِ) بعنايته بهم في الأزل المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد (وَنِعْمَةً) بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال استعداداتهم ، (حَكِيمٌ) يفيض عليها ما يليق بها ويناسبها بحكمته.

[٩ ـ ١٤] (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا

٢٧٤

تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إلى آخره ، الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا والركون إلى الهوى والانجذاب إلى الجهة السفلية والتوجه إلى المطالب الجزئية ، والإصلاح إنما يكون من لوازم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة ، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له كما خرج عمار رضي الله عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية. وقيد الإصلاح في القسم الثاني وهو أن الباغية إحداهما بالعدل لأن بغي الطرفين يوغر الصدور ويهيج النفوس على الظلم فنهاهم عن ذلك إذ الإصلاح إنما يكون فضيلة معتبرة إذا لم يكن بالنفس بل بالقلب على مقتضى العدالة المحضة لإزالة الجور لا لغرض آخر كالحماية والحمية ورعاية المصلحة الدنيوية وغير ذلك ، ولذلك قال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي : المحبة الإلهية إنما تترتب على العدالة ، فالإصلاح إذا لم يكن عن عدالة لم يكن عن محبة ، وإذا لم يكن عن محبة فلا يحبهم الله لوجوب اقتضاء محبة الله إياهم محبتهم له ، واقتضاء محبتهم له العدالة ومحبة المؤمنين فلو أحبهم لأحبوه كما قال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) ولو أحبوه لأحبوا المؤمنين ولزموا العدالة. ثم بيّن أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين للمناسبة الأصلية والقرابة الفطرية التي تزيد على القرابة الصورية والنسبة الولادية بما لا يقاس لاقتضائه المحبة القلبية اللازمة للاتصال الروحاني في عين جمع الوحدة لا المحبة النفسانية المسببة عن التناسب في اللحمة فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة وإحدى خصالها إذ لو لم يعدوا عن الفطرة ولم يتكدّروا بغواشي النشأة لم يتقاتلوا ولم يتخالفوا فوجب على أهل الصفاء بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى الصفاء.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

٢٧٥

(وَاتَّقُوا اللهَ) في تكدّر الفطرة والبعد عن النور الأصلي بمقتضيات النشأة والرضا بالمفسدة وترك الإصلاح لضعف المحبة الدال على الاحتجاب عن الوحدة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بإفاضة نور الكمال المناسب لصفاء الاستعداد والمناهي المذكورة بعدها إلى قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) كلها من باب الظلم المقابل للعدالة اللازمة للإيمان التوحيدي.

قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) معناه : لا كرامة بالنسب لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب لا للتفاخر فإنه من الرذائل ، والكرامة لا تكونإلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى.

ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة كان صاحبها أكرم عند الله وأجلّ قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها وعن نسبة التأثير والفعل إلى الغير بالتوكل ، ومشاهدة أفعال الحق أكرم من الفاضل المتدرب بالفضائل الخلقية المعتدّ بتأثير الغير ، المحجوب برؤية أفعال الحق عن تجليات أفعال الحق وعن الحجب الصفاتية بالانسلاخ عنها في مقام الرضا ومحو الصفات أكرم من المتوكل في مقام توحيد الأفعال المحجوب بالصفات عن تجليات صفات الحق وعن وجوده المخصوص أي : أنيته التي هي أصل الذنوب بالفناء أكرم الجميع (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمراتب تقواكم (خَبِيرٌ) بتفاضلكم.

[١٥ ـ ١٨] (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إلى آخره ، لما فرق بين الإيمان والإسلام وبين أنّ الإيمان باطني قلبي والإسلام ظاهري بدني. أشار إلى الإيمان المعتبر الحقيقي وهو اليقين الثابت في القلب المستقرّ الذي لا ارتياب معه لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ونوّرتها بأنوارها فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح فلم يمكنها إلا الجري بحكمها والتسخر لهيئتها وذلك معنى قوله : (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد نفي الارتياب عنهم لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ وأثره في الظاهر (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الإيمان لظهور أثر الصدق على جوارحهم وتصديق أفعالهم وأقوالهم بخلاف المدّعين المذكورين.

٢٧٦

سورة ق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١٦] (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦))

(ق) إشارة إلى القلب المحمدي الذي هو العرش الإلهي المحيط بالكل كما أن (ص) إشارة إلى صورته على ما رمز إليه ابن عباس في قوله : (ص) جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل ولا نهار ، ولكونه عرش الرحمن ، قال : «قلب المؤمن عرش الله» ، وقال : «لا يسعني أرضي ولا سمائي ويسعني قلب عبدي المؤمن».

قيل : (ق) جبل محيط بالعالم وراءه العنقاء لإحاطته بالكل وكونه حجاب الربّ لا يعرفه من لم يصل إلى مقام القلب وإنما يطلع عليه من طلع هذا الجبل. أقسم به وبالقرآن المجيد أي : العقل القرآني الكامل فيه الذي هو الاستعداد الأولي الجامع لتفاصيل الوجود كله ، فإذا برز وصار إلى الفعل كان عقلا فرقانيا ولا يخفى مجده وشرفه بهذا المعنى ، أو القرآن المجيد النازل عليه الذي هو بعينه الفرقان البارز الذي أشرنا إليه جمعهما في القسم لتناسبهما وجواب القسم محذوف كما في (ص) وغيرها من السور ، وهو : إنه لحق أو إنه لمعجز مدلول عليه بقوله : (بَلْ عَجِبُوا) إلخ ، وبقوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي : أما اهتدينا إلى إبداع الحقائق وإيجاد الأشياء الأولية كالأرواح والسموات وأمثالها ، بل اعترفوا بذلك إنما هم في شبهة والتباس من خلق حادث يتجدد كل وقت ، لبس عليهم الشيطان حتى قالوا : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) ونسبوا التأثير إلى الزمان واحتجبوا عن معنى قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، ولو

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة الرحمن ، الآية : ٢٩.

٢٧٧

عرفوا الله حق معرفته وكان اعترافهم بإيجاده للخلق الأول عن علم ويقين لشاهدوا الخلق الجديد في كل آن فلم ينكروا البعث وكانوا عبادا مخلصين ليس للشيطان عليهم سلطان.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة ، وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ، لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والإثنينية الرافعة للاتحاد الحقيقي ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود من حيث هو وجود ولولاه لكان عدما صرفا ولا شيئا محضا. فحبل غاية القرب الصوري أي : الاتصال بالجزئية الذي لا اتصال أشدّ منه في الأجسام مع كونه سبب حياة الشخص ، هذا أتم منه لبقائه. ثم بين أقربيته لينتفي القرب بمعنى الاتصال والمقارنة ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هو مع كل شيء» ، لا بمقارنة إذ الشيء به ذلك الشيء وبدونه ليس شيئا حتى يقارنه.

[١٧ ـ ١٨] (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨))

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي : يعلم حديث نفسه الذي يوسوس به نفسه وقت تلقي المتلقيين مع كونه أقرب إليه منهما ، وإنما تلقيهما للحجة عليه وإثبات الأقوال والأعمال في الصحائف النورية للجزاء ، والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المنتقشة بصور الأعمال الخيرية المرتسمة بالأقوال الحسنة الصائبة ، وإنما قعد عن يمينه لأن اليمين هي الجهة القوية الشريفة المباركة وهي جهة النفس التي تلي الحق ، والمتلقي القاعد عن الشمال هو القوة المتخيلة التي تنتقش بصور الأعمال البشرية البهيمية والسبعية والآراء الشيطانية الوهمية والأقوال الخبيثة الفاسدة. وإنما قعد عن الشمال لأن الشمال هي الجهة الضعيفة الخسيسة المشؤومة وهي التي تلي البدن ، ولأن الفطرة الإنسانية خيّرة بالذات لكونها من عالم الأنوار مقتضية بذاتها وغريزتها الخيرات والشرور إنما هي أمور عرضت لها من جهة البدن وآلاته وهيئاته ، يستولي صاحب اليمين على صاحب الشمال ، فكلما صدرت منه حسنة كتبها له في الحال وإن صدرت منه سيئة منع صاحب الشمال عن كتابتها في الحال انتظارا للتسبيح أي : التنزيه عن الغواشي البدنية والهيئات الطبيعية بالرجوع إلى مقره الأصلي وسنخه الحقيقي وحاله الغريزي لينمحي أثر ذلك الأمر العارضي بالنور الأصلي والاستغفار ، أي : التنوّر بالأنوار الروحية والتوجه إلى الحضرة الإلهية لينمحي أثر تلك الظلمة العرضية بالنور الوارد كماقال عليه الصلاة والسلام : «كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكتاب السيئات على يساره ، وكاتب

٢٧٨

الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب اليسار : دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر».

[١٩ ـ ٢٠] (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠))

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي : شدّته المحيرة الشاغلة للحواس المذهلة للعقل (بِالْحَقِ) بحقيقة الأمر الذي غفل عنه من أحوال الآخرة والثواب والعقاب ، أي : أحضرت السكرة التي منعت المحتضر عن الإدراكات الخارجية أحواله الباطنة وأظهرت عليه (ذلِكَ ما كُنْتَ) أيها المحتضر (مِنْهُ تَحِيدُ) أي : تميل إلى الأمور الظاهرة وتذهل عنها (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) للإحياء ، أي : أحيى كل منهم في صورة تناسبه في الآخرة (ذلِكَ) النفخ وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخّر.

[٢١] (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١))

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ) من علمه (وَشَهِيدٌ) من عمله لأن كل أحد ينجذب إلى محل نظره وما اختاره بعلمه ، والميل الذي يسوقه إلى ذلك الشيء إنما نشأ من شعوره بذلك الشيء وحكمه بملائمته له سواء كان أمرا سفليا جسمانيا بعثه عليه هواه وأغراه عليه وهمه وقواه ، أو أمرا علويا روحانيا بعثه عليه عقله ومحبته الروحانية وحرّضه عليه قلبه وفطرته الأصلية. فالعلم الغالب عليه سائقه إلى معلومه ، وشاهده بالميل الغالب عليه والحب الراسخ فيه والعمل المكتوب في صحيفته يشهد عليه بظهوره على صور أعضائه وجوارحه وينطق عليه كتابه بالحق وجوارحه بهيئات أعضائه المتشكلة بأعماله.

[٢٢ ـ ٢٣] (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣))

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) لاحتجابك بالحس والمحسوسات وذهولك عنه لاشتغالك بالظاهر عن الباطن (فَكَشَفْنا عَنْكَ) بالموت (غِطاءَكَ) المادي الجسماني الذي احتجبت به (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي : إدراكك لما ذهلت عنه ولم تصدق بوجوده يقينا قوي تعاينه (وَقالَ قَرِينُهُ) من شيطان الوهم الذي غرّه بالظواهر وحجبه عن البواطن (هذا ما لَدَيَ) مهيأ لجهنم ، أي : ظهر تسخير الوهم إياه في التوجه إلى الجهة السفلية وإنه ملكه واستعبده في طلب اللذات البدنية حتى هيأه لجهنم في قعر الطبيعة.

[٢٤ ـ ٢٦] (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦))

٢٧٩

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) الخطاب للسائق والشهيد اللذين يوبقانه ويلقيانه ويهلكانه في أسفل غياهب مهواة الهيولى الجسمانية وغيابة جب الطبيعة الظلمانية في نيران الحرمان أو لمالك.

والمراد بتثنية الفاعل تكرار الفعل كأنما قال : ألق ، لاستيلائه عليهم في الإبعاد والإلقاء إلى الجهة السفلية ، ويقوّي الأول أنه عدد الرذائل الموبقة التي أوجبت استحقاقهم لعذاب جهنم ووقوعهم في نيران الجحيم وبين أنها من باب العلم والعمل والكفران ومنع الخير كلاهما من إفراط القوة البهيمية الشهوانية لانهماكها في لذاتها واستعمالها نعم الله تعالى في غير مواضعها من المعاصي والاحتجاب عن المنعم بها ومن حقها أن تذكره وتبعث على شكره وشدّة حرصها ومكالبتها عليها لفرط ولوعها بها فتمنعها عن مستحقيها. وذكرهما على بناء المبالغة ليدل على رسوخ الرذيلتين فيه وغلبتهما عليه وتعمقه فيهما الموجب للسقوط عن رتبة الفطرة في قعر بئر الطبيعة ، والعتود والاعتداء كلاهما من إفراط القوة الغضبية واستيلائها لفرط الشيطنة والخروج عن حد العدالة ، والأربعة من باب فساد العمل والريب والشرك كلاهما من نقصان القوة النطقية وسقوطها عن الفطرة بتفريطها في جنب الله وقصورها عن حدة القوة العاقلة وذلك من باب فساد العلم.

[٢٧ ـ ٢٩] (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال ، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية ، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه كالغضبية والشهوية مثلا ، ولهذا قال : (لا تَخْتَصِمُوا). ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية كان أصل التخاصم بينهما وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر لتوقع نفع أو لذة يتوافقان ما دام مطلوبهما حاصلا ، فإذا حرما أو وقعا بسعيهما في خسران وعذاب ، أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر لاحتجابهما عن التوحيد وتبرئ كل منهما عن ذنبه لمحبة نفسه ، ولذلكقال حارثة رضي الله عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورأيت أهل النار يتعاورون» (١). وصوّب عليه‌السلام قوله وقول الشيطان : (ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ، كقوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢)

__________________

(١) قوله : يتعاورون ، هكذا في النسخ ، وليحرر الحديث. اه.

(٢) سورة ق ، الآية : ٢٢.

٢٨٠