تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولهذا أرسله ولم يستنبئه بالوحي هنا ، وأمره بالرياضة والحضور والمراقبة ووعده وقوع القيامة الكبرى عن قريب. فهذا الاختيار قريب من الاجتباء الأصلي المشار إليه بقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)) (١) متوسط بينه وبين الاصطفاء. وكرر (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بالتأكيد ، وتبديل الربّ بالله لئلا يقف مع الصفات في الحضرة الأسمائية فيحتجب عن الذات إذ الرب هو الاسم الذي تجلى به له ، إذ لا يربه عند طلب الهداية والقبس إلا بذلك الاسم العليم الهادي الذي هو جبريل ، أي : إنني الواحد الموصوف بجميع الصفات (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لم أتكثر ولم يتعدد أنائيتي وأحديتي بكثرة المظاهر وتعدّد الصفات (فَاعْبُدْنِي) خصّص عبادتك بذاتي دون أسمائي وصفاتي بالعبادة الذاتية وتهيئة استعداد فناء الآنية في حقيقتي والتسبيح المطلق الذاتي (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) أي : صلاة الشهود الروحي لذكر ذاتي فوق صلاة الحضور القلبي لذكر صفاتي.

[١٥] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))

(إِنَّ السَّاعَةَ) القيامة الكبرى بالفناء المحض في عين الأحدية (آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) باحتجابي بالصفات لتنفصل المراتب وتظهر النفوس والأعمال (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) بحسب سعيها من الخير والشرّ ، ويتميز الكمال والنقصان والسعادة والشقاوة فلا أظهرها إلا لأفراد خواصّي واحدا بعد واحد لأني إن أظهرتها ظهر فناء الكل فلا نفس ولا عمل ولا جزاء ولا غير ذلك.

[١٦] (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) فتبقى في حجاب الصفات (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) لقصور استعداده فيقف في بعض المراتب محجوبا إما بالصفات أو الأفعال أو الآثار أو الأنداد ، أي : الشرك الخفيّ والجليّ (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في مقام النفس أو القلب ، فإن الهوى باق ببقاء الأنانية فتهلك أنت كما هلك من صدّك.

[١٧ ، ١٨] (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨))

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) إشارة إلى نفسه ، أي : التي هي في يد عقله إذ العقل يمين يأخذ به الإنسان العطاء من الله ويضبط به نفسه.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي : أعتمد في عالم الشهادة وكسب الكمال والسير إلى الله والتخلق بأخلاقه عليها ، أي : لا يمكن هذه الأمور إلا بها (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) أي :

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ١٢٢.

٢١

أخبط أوراق العلوم النافعة والحكم العملية من شجرة الروح بحركة الفكر بها على غنم القوى الحيوانية (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) من كسب المقامات وطلب الأحوال والمواهب والتجليات. وإنما سأله تعالى لإزالة الهيبة الحاصلة له بتجلي العظمة عنه وتبديلها بالأمن ، وإنما زاد الجواب على السؤال لشدّة شغفه بالمكالمة واستدامة ذوق الاستئناس.

[١٩ ، ٢٠] (قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠))

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى) أي : خلها عن ضبط العقل (فَأَلْقاها) أي : خلاها وشأنها مرسلة بعد احتظائها من أنوار تجليات صفات القهر الإلهي (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي : ثعبان يتحرّك من شدّة الغضب ، وكانت نفسه عليه‌السلام قوية الغضب ، شديدة الحدّة ، فلما بلغ مقام تجليات الصفات كان من ضرورة الاستعداد حظه من التجلي القهري أوفر كما ذكر في (الكهف) ، فبدل غضبه عند فنائه في الصفات بالغضب الإلهي والقهر الرباني فصور ثعبانا يتلقف ما يجد.

[٢١] (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

(قالَ خُذْها) أي : اضبطها بعقلك كما كانت (وَلا تَخَفْ) من استيلائها عليك وظهورها فيكون ذنب حالك بالتلوين ، فإن غضبك قد فنى ، فيكون متحرّكا بأمري وليس هو مستورا بنور القلب في مقام النفس حتى يظهر بعد خفائه (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي : ميتة ، فانية ، صائرة إلى رتبة القوّة النباتية التي لا شعور لها ولا داعية ، ولإماتته عليه‌السلام إياها في تربية شعيب صلوات الله عليه وجعله إياها كالقوى النباتية سميت عصا ، ولهذا قيل : وهبها له شعيب عليه‌السلام.

[٢٢ ، ٢٣] (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي : اضمم عقلك إلى جانب روحك الذي هو جناحك الأيمن لتتنوّر بنور الهداية الحقانية ، فإن العقل بموافقة النفس وانضمامه إليها وإلى جانبها الذي هو الجناح الأيسر لتدبير المعاش يتكدر ويختلط بالوهم فيصير كدرا جاسيا لا يتنوّر ولا يقبل المواهب الربانية والحقائق الإلهية ، فأمر بضمه إلى جانب الروحليتصفى ويقبل نور القدس (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) منورة بنور الهداية الحقانية وشعاع النور القدسي (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : آفة ونقص ومرض من شوب الوهم والخيال (آيَةً أُخْرى) صفة منضمة إلى الصفة الأولى (لِنُرِيَكَ) من آيات تجليات صفاتنا الآية (الْكُبْرى) التي هي الفناء في الوحدة ، أي : لتكون ببصرك في مقام تجليات الصفات ، فنريك من طريقها وجهتها ذاتنا عند التجلي الذاتي ، فتبصرنا بنا في القيامة الكبرى.

٢٢

[٢٤] (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) بظهور الأنانية ، فاحتجب بها فتعدّى عن حدّ العبودية. وذلك يدل على أن النبوّة والرسالة غير موقوفة على الفناء الذاتي لأن الدخول في الأربعينية التي تجلى فيها له بالذات كان بعد هلاك فرعون ، وهذه الرسالة والدعوة إنما كانت في مقام تجلي الصفات. ويقوي هذا ما قلنا مرارا : إن أكثر سير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعد النبوّة والوحي والاهتداء بالتنزيل.

[٢٥ ـ ٣٥] (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) بنور اليقين والتمكين في مقام تجلي الصفات لئلا يضيق بإيذائهم ، ولا تتأذى وتتألم نفسي بطعنهم وسفاهتهم ، فكما أتكلم بكلامك معهم أسمع بسمعك كلامهم وأجده كلامك ، وأرى ببصرك إيذاءهم وأجده فعلك ، فلا أرى ولا أسمع ما يقابلونني به إلا منك ، فأصبر على بلائك بك ولا تظهر نفسي برؤيتها منهم ، فتحتجب بصفاتها وصفاتهم عن صفاتك (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي : أمر الدعوة بتوفيقهم لقبول دينك وإمدادي على المعاندين من نصرك وتأييد قدسك (وَاحْلُلْ عُقْدَةً) من عقد العقل والفكر المانعين عن إطلاق لساني بكلامك والجراءة والشجاعة على تصريح الكلام في تبليغ رسالتك وإعلاء كلمتك وإظهار دينك على دينهم بالحجة والبينة في مقابلة جبروتهم وفرعنتهم رعاية لمصلحة خوف السطوة (يَفْقَهُوا قَوْلِي) لتليينك قلوبهم والخشوع والخشية فيها وتأييدك إياي من عالم القدس والأيد. وباقي القصة لا يقبل التأويل فإن أردت التطبيق فاعلم أن موسى القلب يسأل الله تعالى بلسان الحال أن يجعل هارون العقل الذي هو أخوه الأكبر من أبيه روح القدس له وزيرا يتقوّى به ويستوزره في أموره ويعتضد برأيه مشاركا معاونا له في اكتساب كمالاته معللا طلبه بقوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ) أي : بالتجريد عن صفات النفس وهيئاتها (كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ) باكتساب المعارف والحقائق والحضور في المكاشفات ومقام تجليات الصفات (كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا) أي : باستعدادنا لقبول الكمال وأهليتنا له (بَصِيراً) فأعنا واجعلنا متعاونين على ما ترى منا وتريد.

[٣٦ ـ ٣٩] (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩))

(قَدْ أُوتِيتَ) أعطيت (سُؤْلَكَ) ووفقت لتحصيل مطلوبك. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً

٢٣

أُخْرى) قبل إرادتك وطلبك بمحض عنايتنا (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ) النفس الحيوانية (ما يُوحى) أي : أشرنا إليها (أَنِ اقْذِفِيهِ) في تابوت البدن أو الطبيعة الجسمانية (فَاقْذِفِيهِ) في يمّ الطبيعة الهيولانية (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ) عند ظهور نور التمييز والرشد بساحل النجاة (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ) النفس الأمّارة الجبارة الفرعونية (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي : أحببتك وجعلتك محبوبا إلى القلوب وإلى كل شيء حتى النفس الأمّارة والقوى ، ومن أحببته يحبه كل شيء (وَلِتُصْنَعَ) وتربى على كلاءتي وحفظي فعلت ذلك.

[٤٠ ، ٤١] (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) العاقلة العملية عند ظهورها وحركتها (فَتَقُولُ) للنفس الأمّارة والقوى المنعطفة عليه (هَلْ أَدُلُّكُمْ) بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة على أهل بيت من النفس اللوّامة وقواها الجزئية بفوات قرّة عينها (عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لكم بالتربية بالفكر والإرضاع بلبان الحكمة العملية والعلوم النافعة وهم له ناصحون معاونون على كسب الكمال ، مرشدون إلى الأعمال الصالحة ، معدّون للترقي إلى المرتبة الرفيعة (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) المشفقة عليك التي هي النفس اللوّامة اللائمة لنفسها بتضييع قرّة عينها ليحصل اطمئنانها بنور اليقين وتتهذب بالحكمة العملية وترضع منها اللبن المذكور وتتربى في حجر تربيتها بالمدركات الجزئية والآلات البدنية والأعمال الزكية (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي : تتنوّر بنورك (وَلا تَحْزَنَ) على فوات قرّة عينها ونقصها.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) أي : الصورة الغضبية المسوّلة لك بالرياضة والإماتة (فَنَجَّيْناكَ) من غمّ استيلاء النفس الأمّارة وإهلاكها إياك (وَفَتَنَّاكَ) ضروبا من الفتن بظهور النفس وصفاتها والرياضة والمجاهدة في دفعها وقمعها وإماتتها وتزكيتها (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) العلم من القوى الروحانية عند شعيب العقل الفعال (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) على حد من الكمال المقدّر بحسب استعدادك أو على شيء مما قدّرته لك ، أي : بعض ما قدر لك من الكمال التام الذي هو التجلي الذاتي الذي سيوهب لك بعد كمال الصفات (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي : استخلصتك لنفسي وجعلتك من جملة خواصي من بين أهل مدينة البدن ، ولما فيك من الخصال الشريفة والأهلية لخلافتي.

[٤٢ ـ ٤٧] (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ

٢٤

يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧))

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) إلى آخر القصة ، إن أريد تطبيقها قيل : اذهب يا موسى القلب أنت وأخوك العقل (بِآياتِي) حججي وبيناتي والاستيلاء ولا تفترا (فِي ذِكْرِي إِلى فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة الطاغية المجاوزة حدّها بالاستعلاء والاستيلاء على جميع القوى الروحانية (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) بالرفق والمداراة في دعوتها إلى الاستسلام لأمر الحق والانقياد لحكم الشرع. لعلها تلين فتتعظ وتنقاد. ولما خافا طغيانها وتفرعنها لتعوّدها بالاستعلاء ، شجعهما الله بالتأييد والإعانة والمحافظة والكلاءة والإحاطة بما يقاسيانه ويكابدانه منها ، وأمرهما بتبليغ الرسالة في تطويعها وتسخيرها وإلزامها الامتناع عن استعباد القوى الحيوانية والكفّ عن تسخيرها ، وأن يرسلها معهما في التوجه إلى الحضرة الإلهية واستفاضة الأنوار الروحية القدسية والمعارف الحقيقية ولا يعذبها في تحصيل اللذات الحسيّة والزخارف الدنيوية (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) ببرهان دال على وجوب متابعتك إيانا.

(وَالسَّلامُ) أي : السلامة من النقائص والنجاة من العلائق والفيض النوري من العالم الروحي (عَلى مَنِ اتَّبَعَ) البرهان وتمسك بالنور الإلهي.

[٤٨ ـ ٥٢] (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) في جحيم الطبيعة وهاوية الهيولى على من خالفه وأعرض عنه (فَمَنْ رَبُّكُما) إشارة إلى احتجاب النفس من جناب الربّ ، وقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى) هداية له بالدليل وتبصيرا بالحجة ، أي : أعطاه خلقا على وفق مصالح ذاته وآلات تناسب خواصه ومنافعه ومقاصده وهداه إلى تحصيلها (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) إشارة إلى احتجابها عن المعاد والأحوال الأخروية من السعادة والشقاوة وعن إحاطة علم الله تعالى لها. ولما كان الواجب الأول معرفة الله تعالى بصفاته وكانت معرفة المعاد موقوفة عليها أجاب بإحاطة علمه بها وبأحوالها مع كثرتها وكون ذلك العلم مثبتا في اللوح المحفوظ باقيا أزلا وأبدا ، لا يجوز عليه الخطأ والنسيان.

[٥٣ ـ ٥٥] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

٢٥

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) أيها القوى البدنية أرض البدن (مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) من الأعضاء والجوارح كالعين والأذن والأنف وغيرها (وَأَنْزَلَ) من سماء الروح ماء الإدراك والمدد الروحاني (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أصنافا من الإدراكات والأفاعيل والخواص والهيئات والملكات المخصوصة بكل قوة منكم (كُلُوا) اغتذوا وتقووا بما يختص بكم من الأحوال والأخلاق والأمداد والمواهب كالرضا والصبر وعلم الأسماء والخواص والأعداد وسائر الإدراكات والإرادات والمقامات (وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) القوى الحيوانية بما يختص بها من الأخلاق والآداب (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أنشأناكم على حسب اختلاف أمزجة الأعضاء التي هي مظاهرها (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) بإماتة عند الرياضة حتى يلازم كل محله ويندس فيه لا حراك به ولا يتطلب التجاوز عن حدّه والاستيلاء على غيره بمحو صفات النفس حتى الفناء (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) عند البقاء بالحياة الموهوبة الحقيقية فتعتدل حركاتها وتفضل ملكاتها.

[٥٦ ـ ٦٣] (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) أَرَيْناهُ آياتِنا) من الحجج والبينات الدالة على التجرّد عن المواد ووجود الأنوار (فَكَذَّبَ) لكونها مادة (وَأَبى) القبول لامتناع إدراكها للمجرّدات وأنكر إزعاجها عن وكرها البدني بقوله : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) ونسب البرهان إلى السحر لقصورها عن إدراكه وعجزها عن قبوله وأغرى القوى التخيلية والوهمية على المعارضة والمجادلة وقلما أذعنت النفس للبرهان النير والحق البين بدون الرياضة والإماتة ، وكلما أورد عليها حرّضت الوهم والتخيل على التشكيك والقدح. والموعد هو وقت تركيب الحجة وترتيب المقامات وذلك وقت زينة النفس الناطقة بالمدركات وحشر القوى العقلية والروحانية لاستحضار المعلومات والمخزونات (ضُحًى) إشراق نور شمس العقل الفعال إذ هناك تعرض النفس عن قبولها ويجمع كيدها من أنواع المغالطات والوهميات ويقمعها القلب باليقينيات وإظهار أكاذيبها المفتريات. والتنازع الواقع بين القوى النفسانية هو عدم مسالمتها في طاعة القلب وانجذاب كل منها إلى لذته متمانعة متخالفة. وإسرارها النجوى استبطان الكل الدواعي المخالفة للقلب مع تخالفها في أنفسها. ونسبتها إلى السحر إشارة إلى عجزها عن إدراك معانيها وخفاء براهينها

٢٦

عليها. والطريق المثلى ، أي : الفضلى عندها هي تحصيل اللذات الحسيّة والانهماك في الشهوات البدنية. وإلقاؤها أولا إشارة إلى تقدّم الوهميات والخياليات في الوجود الإنساني على العقليات واليقينيات عند السلوك وإلا ما احتيج إلى البرهان القاطع والدليل الواضح وإلى أن الواجب على الداعي إلى الحق أولا نقض الباطل ودفع الشبهة بالحجة ليزول الاعتقاد الفاسد ويتمكن استقرار الحق. والحبال والعصيّ هي المغالطات والسفسطات من الشبهة الجدلية التي تكاد تتمشى وتغلب على القلب لو لا تأييد الحق بنور الروح والعقل وهو معنى قوله : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) (١) العاقلة النظرية من البرهان المعتمد عليه يفن مصنوعاتهم المزخرفة وأباطيلهم المموّهة ، فتضمحلّ وتتلاشى. إنما صنعوا كيد تزوير ومكر لا حقيقة له لا ما صنعت كما زعموا ، فألقي السحرة سجدا فانقادت حينئذ القوى الوهمية والخيالية والتخييلية والحسية عند ظهور عجزها والنفس الأمارة ثابتة في تفرعنها وعتوّها لعدم ارتياضها واعتيادها بمألوفاتها وترأسها على القوى وتجبرها ، باقية على عنادها وشدّة شكيمتها. ولأقطعنّ إشارة إلى إبعادها وتخويفها للقوى عند إذعانها بمنع تصرّفاتها في المعايش وترك سعيها في تحصيل الملاذ والمشتهيات الجسمانية من جهة مخالفتها إياها بموافقة القلب. وصلبها في جذوع النخل : إيقافها بالإماتة عند الرياضة في حدّ القوى النباتية وإثباتها في مقارّها ومبادئ نشأتها من أعالي مراتب القوى النباتية دون التصرّف في سائر المراتب والاستعلاء على المناصب والاستيلاء في المكاسب ، أو من الأعضاء التي هي معادنها ومظاهرها. وهذا التخويف على هذا التأويل من قبيل أحاديث النفس وهواجسها بسبب اللمات الشيطانية المثبطة عن المجاهدة لقوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٢) ليفيد إعراضها عن مطاوعة القلب وقيامها بخدمتها وتسخرها لها ولو حمل على المباحثة الظاهرة المستفادة من قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) بعد التصديق بالظاهر والإيمان بالإعجاز الباهر لأجرى قوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) (٤) على ظاهره إلى قوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) (٥) أي : تباحثوا فيما بينهم في السر ، متنازعين فيما يعارضونه به من ضروب الجدل. وقيل في قوله : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٦) مفلقان في البيان والفصاحة والاحتجاج لا يكاد يعارضهما أحد فيحجّهما.

__________________

(١) سورة طه ، الآيات : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٥.

(٣) سورة النحل ، الآية : ١٢٥.

(٤) سورة طه ، الآية : ٤٢.

(٥) سورة طه ، الآية : ٦٢.

(٦) سورة طه ، الآية : ٦٣.

٢٧

[٦٤ ـ ٦٧] (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧))

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) أي : اتّفقوا فيما تبارزونهما به فتكونوا متفقيّ الكلمة متعاضدين (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) أي : تخيلاتهم ووهمياتهم (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) في التركيب والبلاغة وحسن التقرير وتمشية المغالطة والسفسطة وهيئة ترتيب القياس الجدلي كأنها تسعى ، أي : تمشي (خِيفَةً) عن غلبة الجهّال ودولة الضلال ، كماقال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : «لم يوجس موسى خيفة على نفسه ، إنما خاف من غلبة الجهّال ودولة الضلال».

[٦٨ ـ ٧١] (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))

(قُلْنا لا تَخَفْ) شجعناه وأيّدناه بروح القدس (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) أي : ما في ضبط عقلك من النفس المؤتلفة بشعاع القدس المضيئة بنور الحق (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ما زخرفوا وزوّروا من الشبهات والتمويهات الباطلة والأباطيل المزخرفة بالحجج النيرة والبراهين الواضحة (إِنَّما صَنَعُوا) وتلقفوا (كَيْدُ ساحِرٍ) أي : تمويه وتزوير (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) منصفين مذعنين مقرين بكونه على الحق لما عرفوا من صدق البينة وظهور المعجزة وقيام الحجة وجلية البرهان (قالُوا آمَنَّا) الإيمان اليقيني لأنهم كوشفوا بالحق فعرفوا ربوبيته للكل ، وإنما أضافوا الربّ إليهما مع تعميم الإضافة إلى العالمين لزيادة اختصاصهما به وفضل ربوبيته إياهما ، فإنه يربّ كل شيء باسم يناسبه ويقتضيه استعداده ويربهما بأكبر أسمائه الحسنى على حسب كمال استعدادهما ولظهوره فيهما بكمالات صفاته وتجليه عليهم فيهما بآياته ، فعلموا أنهم من شكوتهما عرفوا ما عرفوا ، وبوسيلتهما وصلوا إلى ما وصلوا ، وبتبعيتهما وجدوا ما وجدوا ، لا على سبيل الاستقلال. واعلم أن الساحر أقرب الناس استعدادا من النبي لأن مبادئ خوارق العادات أمور ثلاثة : إما خواص التركيب وتمزيجات المواد العنصرية والصور وجمع الأخلاط المختلفة المزاج والجوهر وهو من باب النيرنجات. وإما جمع القوى السماوية والأرضية بإعداد الصور السفلية والمواد العنصرية لاستجلاب فيض النفوس السماوية واتصالها بقوى الأجرام الأرضية وهو من باب الطلسمات ، وأما تأثير النفوس وهيئاتها المستفادة من العالم العلوي وهو من الكامل المبعوث للنبوّة القائم بالدعوة إعجاز ومن الواصل المحق المترقي إلى

٢٨

ذروة الولاية غير المبعوث للنبوّة كرامة. والفرق بينهما أن الإعجاز مقارن للتحدّي والمعارضة دون الكرامة ومن المقبل على الدنيا المعرض عن العالم الأعلى سحر ، فكانت نفس الساحر في بدء فطرتها قوية مخصوصة بهيئات مؤثرة في هذا العالم وأجرامه إلا أنها أعرضت عن مبدئها بالركون إلى العالم السفلي وانقطعت عن أصل القوى والقدر ومنبع التأثير والقهر بالميل إلى عالم الطبع ، فلا يزال يضعف ما فيها من الهيئة النورية والشعاع القدسي كما لا يزال يزداد في نفس النبيّ والوليّ بالإقبال على الحق والائتلاف بنور القدس والتأييد بالقوة الملكوتية والتوجه إلى الحضرة الإلهية ولا جرم ينكسر من النبيّ حين عارضه وينقمع بنفسه إذا قابله ، فهو أعرف الناس بالنبيّ عند عجزه وإنكاره وأقبل الخلق لدعوته وأنواره ، وأسبقهم إلى الإقرار به لكونه أقربهم في الاستعداد إليه ما لم يبطل استعداده الأول بالكلية ولم يغلب عليه دين الطبيعة السفلية.

[٧٢ ـ ٧٤] (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤))

(لَنْ نُؤْثِرَكَ) كلام صادر من عظم الهمة الحاصلة للنفس بقوة اليقين ، إذ قوة اليقين في القلب تورث النفس عظم الهمة وهو عدم مبالاتها بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسيّة في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية العقلية ، ولهذا استخفوا بها واستحقروها بقولهم : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا). (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي : يستر بنوره الهيئات المظلمة والصفات الرديئة التي عرضت لنفوسنا بسبب الميل إلى اللذات الطبيعية ومحبة الزخارف الدنيوية (وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي : معارضة موسى لأنهم لما عرفوه بنور استعدادهم وعلموا كونه على الحق ، فاستعفوا عن معارضته فأكرههم اللعين (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ) في القيامة الصغرى مجرما مثّقلا بالهيئات البدنية المميلة إلى الأجرام الطبيعية (لا يَمُوتُ فِيها) بالموت الطبيعي ، فلا يشعر بالآلام (وَلا يَحْيى) بالحياة الحقيقية فينجو من تبعات الآثام.

[٧٥ ، ٧٦] (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً) بالإيمان اليقيني (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) من الفضائل النفسانية المزكية للنفوس (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) من جنات الصفات بحسب درجات ترقيهم في الكمالات.

٢٩

[٧٧ ـ ٧٩] (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

(أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) في ظلمة صفات النفوس وليل الجسمانية (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) من التجريد في بحر عالم الهيولى (يَبَساً) لا تصل إليه نداوة الهيئات الهيولانية ورطوبة المواد الجسمانية (لا تَخافُ دَرَكاً) لحوقا من البدنيين المنغمسين في غواشي الطبيعة الظلمانية (وَلا تَخْشى) غلبتهم عليكم واستيلاءهم ، فإنهم مقيدون محبوسون فيها ، قاصرون عن شأنكم (فَأَتْبَعَهُمْ) لإهلاكهم دينهم بالانغماس في الطبيعيات فغشيهم من يم القطران ما غشيهم من الهلاك السرمدي والعذاب الأبدي ، والتطبيق قد مرّ غير مرة.

[٨٠ ، ٨١] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١))

(وَواعَدْناكُمْ جانِبَ) طور القلب (الْأَيْمَنَ) الذي يلي روح القدس وهو محل الوحي الذي يسمونه الروع والفؤاد (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ) من الأحوال والمذاهب من الذوقيات وسلوى العلوم والمعارف من اليقينيات (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : تغذوا تلك المعارف الطيبة وتقبلوها بقلوبكم فإنها سبب حياتها (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) بظهور النفس وإعجابها بنفسها عند استشراقها ورؤيتها بهجتها وكمالها وزينتها (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ) غضب الحرمان وآفة الخذلان (فَقَدْ هَوى) سقط عن مقام القرب في جحيم النفس واحتجب عن نور تجلي صفات الجمال في ظلمات الاستتار وأستار الجلال.

[٨٢] (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) لستّار صفات النفس الطاغية الظاهرة بتزييناتها واستغنائها بأنوار صفاتي (لِمَنْ تابَ) عن تظاهرها واستيلائها ، واستغفر بانكسارها وانقماعها ولزومها ذلّ فاقتها وافتقارها (وَآمَنَ) بأنوار الصفات القلبية وتجليات الأنوار الإلهية (وَعَمِلَ صالِحاً) في اكتساب المقامات كالتوكل والرضا والملكات المانعة من التلوينات بالحضور والصفاء (ثُمَّ اهْتَدى) إلى نور الذات وحال الفناء.

[٨٣ ـ ٩٩] (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ

٣٠

يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩))

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) ـ إلى قوله ـ (فِي الْيَمِّ نَسْفاً) معناه على التحقيق : أنّ موسى عليه‌السلام لما شرّف بمقام المكالمة وأوتي كشف الصفات وبعث لإنقاذ بني إسرائيل وإرشادهم إلى الحق وعد شريعة يسوس بها قومه ، فاستخلف هارون على قومه وتخلى للمراقبة قبل تثبتهم على الإيمان وتقريرهم على الحق بالإيقان ، فعوقب على تلك العجلة وإن كانت من غاية الشوق إلى المشاهدة. واقتضاء المقام عدم التفرّغ إلى تكميل الغير لأن في تكميلهم بالمعرفة اليقينية والكمال العلمي ثبات قدمه في الطاعة وامتثال الأمر المستلزم للترقي في الحال ، فاعتذر بكونهم على متابعته في الدين وإن لم تبن معاملتهم على أساس اليقين والتعجيل ، إنما بدر منه لطلب مقام الرضا الذي هو كمال الفناء في الصفات وهو استحكام مقام التجلي الصفاتي الذي منه المكالمة ، وإنما ابتلاهم الله بالسامري ليتميز المستعدّ القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في الموادّ الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبّه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا : (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي : بأن ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا ، فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين بل مطبوعون مسوسون مقودون بدنيون لا طريق لهم إلا التقليد والعمل ، لا التحقيق والعلم. وإنما استعبدهم بالطلسم المفرع من الحلي لرسوخ محبة الذهب في طباعهم لكون نفوسهم سفلية منجذبة إلى الطبيعة الذهبية ، وتجلي تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية بالقوى الأرضية ولذلك قال : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) من العلم الطبيعي والرياضي الذين يبتنى عليهما علم الطلسمات والسيميات.

٣١

(فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) وهي على ما قيل : تراب موطئ حافر الحيزوم الذي وفرس الحياة مركب جبرائيل ، أي : مما اتصل به أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المسخّرة للعقل الفعال ، المتأثرة منه ، الحاملة لصفائه التي هي بمثابة مركبه لاستعلائه عليها ووصول تأثيره إلى الطبائع العنصرية والأجرام السفلية بواسطتها من الأوضاع التي تفيض بسببها الآثار على المواد ، فتنفعل منها بحسب الاستعداد وتقبل الأحوال الغريبة التي هي بمثابة تراب موطئ مركبه (فَنَبَذْتُها) فطرحتها على الجرم المذاب عند الإفراغ في صورة العجل وذلك من تسويل النفس الشيطانية الشريرة.

وقوله : (فَاذْهَبْ) صادر عن غضبه عليه‌السلام وطرده إياه ، وإنما يجب حلول العذاب من غضب الأنبياء والأولياء لأنهم مظاهر صفات الله تعالى ، فكل من غضبوا عليه وقع في قهره تعالى وشقي في الدنيا والآخرة ، وعذّب بعذاب الأبد ، وذاق وبال العمل ، وكانت صورة عذابه في التحرّز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل. وأثر لعن موسى عليه‌السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره. وعلى التطبيق : إنّ القلب إذا سبق له كشف وجذبه الاجتهاد والسلوك وحصل عنده الكمال العلمي الكشفي دون العلمي الكسبي ، يكون في معرض عتاب الحق عند التعجل إلى الشهود والحضور ، ذاهلا عن أمر الشريعة والمجاهدة ، ويجب أن يردّ إلى العمل والرياضة لسياسة القوى واكتساب مقام الاستقامة ، إذ لا يقوى هارون العقل الذي هو خليفته على قومه القوى الروحانية والجسمانية على تدبيرهم وتقويمهم وتسديدهم بدون الرياضة والمجاهدة والمواظبة على الطاعة والمعاملة ، فينبعث سامريّ القوى النفسانية من الحواس ويوقد عليها نار حبّ الشهوات ، ويطرح عليها شيئا من أمداد الطالع بحسب الأوضاع المخصوصة ، أي : التي تأثرت من تأثير النفس الحيوانية التي هي فرس الحياة ، فيمثل الطبيعة بصورة العجل المفرغ في قالب الموادّ الذي همّه الأكل والشرب ودأبه اللذة والشهوة دون العمل والسعي بالإثارة والتعب كما أشير إليه ، وينتفخ فيه روح الهوى فيحيا ويتقوّى ويصيح ذا خوار ، فيعبده جميع القوى ويتخذه إلها ، وكلما نبهها العقل المؤيد بنور القلب على ضلالها وفتنتها ودعاها إلى الحق ومتابعة الرأي العقلي وطاعته ، خالفته حتى يرجع إليها القلب المنوّر بنور الحق ، المؤيد بتأييد القدس ، غضبان لله تعالى أسفا على ضلالها وتفرّقها في الدين ، ويعيرها ويعنفها بلسان النفس اللوّامة ، ويأخذها بالوعد والوعيد ، ويذكرها طول العهد من قرب الربّ بمقتضى الخلقة والنشأة والسقوط عن الفطرة ، ويخوّفها باستحقاق الغضب والسخطة عن نسيان العهد وإخلاف الوعد حين الإقرار بالربوبية عند ميثاق الفطرة ، فلا ينجع فيها القول إذا صارت مأسورة في أسر الهوى ، منقادة لسلطان التخيّل ، مستسلمة للردى ، ولا طريق إلا خرق الطبيعة الجسدانية بمبرد المجاهدة وإحراقها بنار

٣٢

الرياضة ونسفها برياح نفحات الرحمة الإلهية التي إذا هبّت بها لاشت في يمّ الهيولى الجرمية لا حياة بها ولا حراك بعد تغير القوّة العاقلة بعد متابعتها للقلب ومشايعتها للسر في التوجه ، وبوجود موافقتها للقوى في الميل إلى الطبيعة والأخذ برأسها إلى جهتها العادية التي تلي الروح بتأثير النور فيه حتى تنفعل وتتأثر بشعاع القدس ونور الهداية الحقانية ولحيتها التي هي الهيئة الذكورية وصورة التأثير فيما تحت ، أي : جهتها السفلية التي تلي القوى النفسانية. وجرها إليه ، أي : الجهة العلوية وجناب الحق وعالم القدس الذي هو فيه ، فيتقوى بالأيد الإلهي والقدرة الربانية وجولانها فتؤثر فيها وتطوعها بأمر الحق لها وللقلب ، ويستخلصها من قهر التخيّل والوهم. واعتذار هارون إشارة إلى أن العقل غير المتنوّر بنور الهداية ، المتأيد بأمر الشريعة ، لا يقدر أن يحافظ القوى ويعاند التخيّل والهوى ، ولا يزيدها إلا التفرقة الموقعة في الردى. وعند استيلاء نور القلب والعقل وقهر الطبيعة بالكلية وحصول الاستقامة في الطريقة ، ينخزل التخيّل وينعزل ولا يقدر أن يماس شيئا من القوى بتخييله ولا يقاربه قوّة منها بقبول تسويله فيصير ملعونا ، مطرودا ، فيقول : لا مساس. وله موعد ، أي : حدّ ورتبة لا يجد خلفا فيه ولا يتجاوز ، فيترأس ، ويستولي ، ويروج أكاذيبه وغلطه بالمعقولات ، ويتفقه في المرادات وذلك مقام الاستقامة إلى الله والقيام بحقائق العبودية لله ، ولا تتجلى ناصية التوحيد ولا يحصل مقام التجرّد والتفريد إلا به ، ولذلك عقبه بقوله :

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ يكون السالك قبل ذلك مصليا إلى قبلتين ، متردّدا في العبادة بين جهتين ، متخذا لإلهين (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : يتحقق هناك التوحيد بالفعل ، وتظهر إحاطة علمه بكل شيء وحدوده وغاياته فتقف كل قوّة بنور الحق وقدرته على حدّها في عبادته وطاعته عائذة به عن حولها وقوّتها ، عابدة له بحسب وسعها وطاقتها ، شاهدة إياه ، مقرّة بربوبيته بقدر ما أعطاها من معرفته. مثل ذلك القصص (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) من أحوال السالكين الذين سبقوا ، ومقاماتهم لتثبيت فؤادك وتمكينك في مقام الاستقامة كما أمرت (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي : ذكرا ما أعظمه وهو : ذكر الذات الذي يشمل مراتب التوحيد.

[١٠٠ ، ١٠١] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١))

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) بالتوجه إلى جانب الرجس وحيز الطبع والنفس (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى وزر الهيئات المثقلة الجرمانية ، وآثام تعلقات المواد الهيولانية.

[١٠٢ ـ ١٠٤] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ

٣٣

لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

(يَوْمَ يُنْفَخُ) الحياة (فِي الصُّورِ) الجسمانية ، بردّ الأرواح إلى الأجساد (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) الملازمين للإجرام (زُرْقاً) عميا ، بيض سواد العيون ، أو شوها في غاية قبح المناظر ، يحسن عندها القردة والخنازير ، يسرون الكلام لشدّة الخوف أو عدم القدرة على النطق ، ويستقصرون مدة اللبث في الحياة الدنيوية لسرعة انقضائها وكل من كان أرجح عقلا منهم كان أشدّ استقصارا إياها.

[١٠٥ ـ ١٠٧] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧))

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي : وجودات الأبدان (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي) برياح الحوادث رميما ورفاتا ثم هباء منثورا ، فيسوّيها بالأرض لا بقية منها ولا أثر. أو حوادث الأشياء فقل : ينسفها ربّي برياح النفحات الإلهية الناشئة عن معدن الأحدية (فَيَذَرُها) في القيامة الكبرى (قاعاً صَفْصَفاً) وجودا أحديا صرفا (لا تَرى فِيها) اثنينية ولا غير ، فتقدح في استوائها.

[١٠٨ ـ ١١١] (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١))

(يَوْمَئِذٍ) يوم إذ قامت القيامة الكبرى (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) الذي هو الحق ، لا حراك بهم ولا حياة لهم إلا به (لا عِوَجَ لَهُ) أي : لا انحراف عنه ولا زيغ عن سمته إذ هو آخذ بناصيتهم وهو على صراط مستقيم ، فهم يسيرون بسيرة الحق على مقتضى إرادته (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) انخفضت كلها لأن الصوت صوته فحسب (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) خفيّا ، باعتبار الإضافة إلى المظاهر. أو يوم إذ قامت القيامة الصغرى يتبعون الداعي الذي هو إسرافيل مدبّر الفلك الرابع ، المفيض للحياة ، لا ينحرف عنه مدعوّ إلى خلاف ما اقتضته الحكمة الإلهية من التعلق به. وخشعت الأصوات في الدعاء إلى غير ما دعا إليه الرحمن فلا تسمع إلا همس الهواجس والتمنيات الفاسدة و (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي : شفاعة من تولّاه وأحبّه في الحياة الدنيا ممن اقتدى به وتمسك بهدايته (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) باستعداد قبولها ، فإنّ فيض النفوس الكاملة التي تتوجه إليها النفوس الناقصة بالإرادة والرغبة موقوفة على استعدادها لقبوله بالصفاء وذلك هو الإذن (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي : رضي له تأثيرا يناسب المشفوع له ، فتتوقف الشفاعة على أمرين : قدرة الشفيع على التأثير ، وقوة المشفوع له للقبول والتأثر. وهو (يَعْلَمُ)

٣٤

الجهتين (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من قوّة القبول بالاستعداد الأصلي وتأثير الشفيع بالتنوير (وَما خَلْفَهُمْ) من الموانع العارضة من جهة البدن وقواه ، والهيئات الفاسقة المزيلة للقبول الأصلي أو المعدات الحاصلة من جهتها بالتزكية على وفق العقل العملي (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) أي : الذوات الموجودات بأسرها (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وكلها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته ، لا تحيا ولا تقوم إلا به لا بأنفسها ولا بشيء غيره. (وَقَدْ خابَ) عن نور رحمته وشفاعة الشافعين من ظلم نفسه بنقص استعداده وتكدير صفاء فطرته ، فزال قبوله للتنوّر باسوداد وجهه وظلمته.

[١١٢ ـ ١١٣] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣))

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) بالتزكية والتحلية (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالإيمان التحقيقي (فَلا يَخافُ) أن ينقص شيء من كمالاته الحاصلة ولا أن يكسر من حقه الذي يقتضيه استعداده الأصلي في المرتبة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) بالتزكية (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) بالتحلية.

[١١٤ ـ ١٢٣] (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣))

(فَتَعالَى اللهُ) تناهى في العلوّ والعظمة بحيث لا يقدر قدره ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته (وَلا تَعْجَلْ) عند هيجان الشوق لغاية الذوق بتلقي العلم اللدني عن مكمن الجمع (مِنْ قَبْلِ) أن يحكم بوروده عليك ووصوله إليك ، فإن نزول العلم والحكمة مترتب بحسب ترتب مراتب ترقيك في القبول. ولا تفتر عن الطلب والاستفاضة فإنه غير متناه ، واطلب الزيادة فيه بزيادة التصفية والترقي والتحلية ، إذ الاستزادة إنما تكون بدعاء الحال ولسان الاستعداد ، لا بتعجيل الطلب والسؤال قبل إمكان القبول. وكلما علمت شيئا زاد قبولك لما هو أعلى منه وأخفى. وقصة آدم وتأويلها مرّت غير مرة (أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إذ في التجرّد عن ملابسة الموادّ في العالم الروحاني لا يمكن تزاحم الأضداد ولا يكون التحليل

٣٥

المؤدّي إلى الفساد بل تلتذ النفس بحصول المراد آمنة من الفناء والنفاد.

[١٢٤ ـ ١٢٨] (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨))

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) بالتوجه إلى العالم السفلي بالميل النفسي ، ضاقت معيشته لغلبة شحه وشدّة بخله ، فإنّ المعرض عن جناب الحق ركدت نفسه وانجذبت إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياها ، واشتدّ حرصه وكلبه عليها ونهمه وشغفه بها لقوّة محبته إياها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية ، فيشحّ بها عن نفسه وغيره ، وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحّه بها وذلك هو الضنك في المعيشة. ولهذا قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر ربّه إلا أظلم عليه وتشوّش عليه رزقه. بخلاف الذاكر المتوجّه إليه فإنه ذو يقين منه وتوكل عليه في سعة من عيشه ورغد ، ينفق ما يجد ويستغني بربّه عما يفقد (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى على عماه من نور الحق كقوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) (١) وإنكاره لعماه إنما يكون بلسان الاستعداد الأصلي والنور الفطري المنافي لعماه من رسوخ هيئة الحبّ السفلي والعشق النفسي الاستعداد الأصلي والنور الفطري المنافي لعماه من رسوخ هيئة الحبّ السفلي والعشق النفسي بالفسق الجرمي ونسيان الآيات البينات والأنوار المشرقات الموجب لإعراضه تعالى عنه وتركه فيما هو فيه (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) من ضنك العيش في الدنيا لكونه روحانيا دائما.

[١٢٩] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) أي : قضاء سابق أن لا يستأصل هذه الأمّة بالدمار والعذاب في الدنيا لكون نبيهم نبيّ الرحمة ، وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٢) لكان الإهلاك لازما لهم (فَاصْبِرْ) بالله.

[١٣٠] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠))

(عَلى ما يَقُولُونَ) فإنك تراهم جارين على ما قضى الله عليهم ، مأسورين في أسر قهره ومكره بهم (وَسَبِّحْ) أي : نزّه ذاتك بتجريدها عن صفاتها متلبسا بصفات ربّك ، فإن ظهورها

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٢.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٣٣.

٣٦

عليك هو الحمد الحقيقي (قَبْلَ طُلُوعِ) شمس الذات حال الفناء (وَقَبْلَ غُرُوبِها) باستتارها عند ظهور صفات النفس ، أي : في مقام القلب حال تجلي الصفات ، فإن تسبيح الله هناك محو صفات القلب (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) أي : أوقات غلبات صفات النفس المظلمة والتلوينات الحاجبة (فَسَبِّحْ) بالتزكية (وَأَطْرافَ) نهار إشراق الروح على القلب بالتصفية (لَعَلَّكَ) تصل إلى مقام الرضا الذي هو كمال مقام تجلي الصفات وغايته.

[١٣١ ـ ١٣٥] (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) في التلوينات النفسية وظهور النفس بالميل إلى الزخارف الدنيوية ، فإنها صور ابتلاء أهل الدنيا (وَرِزْقُ رَبِّكَ) من الحقائق والمعارف الأخروية والأنوار الروحانية (خَيْرٌ وَأَبْقى) أفضل وأدوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) القوى الروحانية والنفسانية بصلاة الحضور والمراقبة والانقياد والمطاوعة (وَاصْطَبِرْ) على تلك الحالة بالمجاهدة والمكاشفة (لا نَسْئَلُكَ) لا نطلب منك (رِزْقاً) من الجهة السفلية كالكمالات الحسيّة والمدركات النفسية (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) من الجهة العلوية المعارف الروحانية والحقائق القدسية (وَالْعاقِبَةُ) التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة للتجرّد عن الملابس البدنية والهيئات النفسانية (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) من الحقائق والحكم والمعارف اليقينية الثابتة في الألواح السماوية والأرواح العلوية ، والله تعالى أعلم.

٣٧

سورة الأنبياء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٧] (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧))

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) في القيامة الصغرى ، بل لو عرفوا القيامة لعاينوا حسابهم الآن. أي : لو أردنا أن نتخذ موجودات تحدث وتفنى كما قيل : (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) لأمكننا من جهة القدرة لكنه ينافي الحكمة والحقيقة فلا نتخذها (بَلْ نَقْذِفُ)

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

٣٨

باليقين البرهاني والكشفي على الاعتقاد الباطل (فَيَدْمَغُهُ) فيقمعه (فَإِذا هُوَ) زائل (وَلَكُمُ) الهلاك (مِمَّا تَصِفُونَ) من عدم الحشر أو نقذف بالتجلي الذاتي في القيامة الكبرى الذي هو الحق الثابت الغير المتغير على باطل هذه الموجودات الفانية فيقهره ويجعله لا شيئا محضا ، فإذا هو فان صرف ، فيظهر أنّ الكل حق وأمره جد ، لا باطل ولا لهو ، ولكم الهلاك والفناء الصرف مما تصفون من إثبات وجود الغير واتصافه بصفة وفعل وتأثير (لَفَسَدَتا) لأن الوحدة موجبة لبقاء الأشياء ، والكثرة موجبة لفسادها. ألا ترى أن كل شيء له خاصية واحدة يمتاز بها عن غيره هو بها هو ولو لم تكن لم يوجد ذلك الشيء ، وهي الشاهدة بوحدانيته تعالى كما قيل :

ففي كل شيء له آية

تدل على أنه الواحد

والعدل الذي قامت به السموات والأرض هو ظل الوحدة في عالم الكثرة ، ولو لم يوجد هيئة وحدانية في المركبات كاعتدال المزاج لما وجدت ، ولو زالت تلك الهيئة لفسدت في الحال (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : نزّه للفيض على الكل بربوبيته للعرش الذي ينزل منه الفيض على جميع الموجودات عما تصفونه من إمكان التعدّد.

[٢٨ ـ ٢٩] (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : ما تقدّمهم من العلم الكليّ الثابت في أمّ الكتاب المشتمل على جميع علوم الذوات المجرّدة من أهل الجبروت والملكوت (وَما خَلْفَهُمْ) من علوم الكائنات والحوادث الجزئية الثابتة في السماء الدنيا ، فكيف يخرج علمهم عن إحاطة علمه ويسبق فعلهم أمره وقولهم قوله (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ) علمه أهلا للشفاعة بقبوله لصفاء استعداده ومناسبة نفسه للنور الملكوتي (وَهُمْ) في الخشية من سبحات وجهه والخشوع والإشفاق والانقهار تحت أنوار عظمته.

[٣٠] (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَ) المحجوبون عن الحق (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا) مرتوقتين من هيولى واحدة ومادة جسمانية (فَفَتَقْناهُما) بتباين الصور ، أو أن سموات الأرواح وأرض الجسد كانتا مرتوقتين في صورة نطفة واحدة ففتقناهما بتباين الأعضاء والأرواح.

[٣١] (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

٣٩

(وَجَعَلْنا) أي : خلقنا من النطفة كل حيوان (وَجَعَلْنا) في أرض الجسد (رَواسِيَ) العظام كراهة أن تضطرب وتجيء وتذهب وتختلف بهم فلا تقوم بهم وتستقل (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً) مجاري ، طرقا للحواس وجميع القوى (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) بتلك الحواس والطرق إلى آيات الله فيعرفوه.

[٣٢] (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢))

(وَجَعَلْنَا) سماء العقل (سَقْفاً) مرتفعا فوقهم (مَحْفُوظاً) من التغير والسهو والخطأ (وَهُمْ) عن حججها وبراهينها (مُعْرِضُونَ).

[٣٣ ـ ٣٨] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ) ليل النفس ونهار العقل الذي هو نور شمس الروح وقمر القلب (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي : مقرّ علوي وحدّ ومرتبة من سموات الروحانيات يسيرون إلى الله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) إذ النفس التي هي أصل الخلقة دائمة الطيش والاضطراب لا تثبت على حال فهو مجبول على العجل ولو لم يكن كذلك لم يكن له السير والترقي من حال إلى حال إذ الروح دائم الثبات وبتعلقه بالنفس يحصل وجود القلب ويعتدل بهما في السير ، فما دام الإنسان في مقام النفس ولم يغلب عليه نور الروح والقلب المفيد للسكينة والطمأنينة يلزمه العجلة بمقتضى الجبلة.

[٣٩ ـ ٤٥] (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

(لَوْ يَعْلَمُ) المحجوبون عن الرحمن العامّ الفيض وعن المعاد الشامل للكل وقت إحاطة العذاب بهم جميع الجهات بأمر الرحمن المحيط العلم الوحداني الأمر فلا يقدرون أن يمنعوه

٤٠