تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الانشراح

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤))

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) استفهام بمعنى إنكار انتفاء الشرح ليفيد ثبوته ، أي : شرحنا لك صدرك وذلك لأن الموحد في مقام الفناء محجوب بالحق عن الخلق لفنائه وضيق الفاني عن كل شيء إذ العدم لا يقبل الوجود كما كان قبل الفناء محجوبا بالخلق عن الحق لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبول وجود التجلي الذاتي الإلهي ، فإذا ردّ إلى الخلق بالوجود الحقاني الموهوب ورجع إلى التفصيل وسع صدره الحق والخلق لكونه وجودا حقيا وذلك انشراح الصدر أي : شرحناه بنورنا للدعوة والقيام بحقائق الأنباء والوزر الذي يحمل ظهره على النقيض وهو صوت الكسر ، أي : يكسره بثقله هو وزر النبوّة والقيام بأعبائها لأنه في مقام الشهود لم يجد للخلق وجودا فضلا عن الفعل ولم يفرق بين فعل وفعل لشهوده لأفعاله تعالى ، فكيف يثبت خيرا وشرّا ويأمر وينهى وهو لا يرى إلا الحق وحده فإذا ردّ إلى مقام النبوة عن مقام الولاية وحجب بحجاب القلب ثقل ذلك عليه وكاد أن يقصم ظهره لاحتجابه عن الشهود الذاتي حينئذ ، فوهب التمكين في مقام البقاء حتى لم يحتجب بالكثرة عن الوحدة وشاهد الجمع في عين التفصيل ، ولم يغب عن شهوده بالدعوة وذلك هو شرح الصدر وهو بعينه وضع الوزر المذكور ورفع الذكر لأن الفاني في الجمع لا يكون شيئا فضلا عن أن يكون مذكورا ، ولو بقي في عين الجمع لما صح محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد قولنا : لا إله إلا الله لفنائه ولما تمّ الإسلام لصحته بهما.

[٥ ـ ٦] (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦))

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أي : الاحتجاب الأول بالخلق عن الحق (يُسْراً) وأيّ يسر هو كشف الذات ومقام الولاية (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أي : الاحتجاب الثاني بالحق عن الخلق (يُسْراً) وأيّ يسر هو شرح الصدر بالوجود الموهوب الحقاني ومقام النبوة.

[٧ ـ ٨] (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

٤٤١

(فَإِذا فَرَغْتَ) عن السير بالله وفي الله وعن الله (فَانْصَبْ) في طريق الاستقامة والسير إلى الله واجتهد في دعوة الخلق إليه (فَارْغَبْ) خاصة في الدعوة إليه ، أي : لا ترغب إلا إلى ذاته دون ثواب أو غرض آخر لتكون دعوتك وهدايتك به إليه وإلا لما كنت قائما به مستقيما إليه به بل زائغا عنه قائما بالنفس ، والله تعالى أعلم.

٤٤٢

سورة والتين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣))

(وَالتِّينِ) أي : المعاني الكلية المنتزعة عن الجزئيات التي هي مدركات القلب ، شبّهها بالتين لكونها غير مادية معقولة صرفة مطابقة لجزئياتها مقوية للنفس لذيذة كالتين الذي لا نوى له بل هو لبّ كله مشتمل على حبات كالجزئيات التي هي في ضمن الكليات ، مسمن للبدن فيه غذائية وتفكه (وَالزَّيْتُونِ) أي : المعاني الجزئية التي هي مدركات النفس شبهها بالزيتون لكونها مادية معدّة للنفس لإدراك الكليات كالزيتون الذي له نوى وهو دابغ لآلات الغذاء مثله (وَطُورِ سِينِينَ) أي : الدماغ الذي هو معدن الحس والتخيل المرتفع من أرض البدن كالجبل (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أي : القلب الحافظ ما فيه من المعاني الكلية أو المأمون فساده وفناؤه لتجرّده عن اختلاف الاشتقاق من الأمانة والأمن.

أقسم بما يحصل به كمال الإنسان ووجوده من المعاني الكلية والجزئية والقلب والنفس أي : المدركين ومدركاتهما تعظيما للإنسان وإظهارا لشرفه وتكريما على أنه خلق الإنسان.

[٤] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤))

(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي : تعديل من جمع الظلمة والنور فيه والجمع بين الأضداد والموافقة بينها وجعله واسطة بين العالمين جامعا لهما ، وتسوية خلقه وخلقه وتحسين صورته ومعناه : في أعدل مزاج وأكمل نوع وأفضل مخلوق.

[٥] (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥))

(ثُمَّ رَدَدْناهُ) لاحتجابه بالظلمة عن النور والوقوف مع رذائل الأخلاق والإعراض عن الفضائل (أَسْفَلَ) من سفل خلقا ورتبة من أهل الدركات ، وأقبح من قبح صورة وتركيبا وأشوهه خلقة وشكلا ومنظرا وهم أصحاب النار في سجين الطبيعة.

[٦ ـ ٧] (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧))

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بتغليب نور القلب على ظلمة النفس والكلي عن الجزئي ، وكسبوا

٤٤٣

الفضائل والخيرات أي : حصلوا الكمال العملي والعملي فإنهم في درجات عالية من عالم القدس (فَلَهُمْ أَجْرٌ) من ثواب جنات القلوب والنفوس (غَيْرُ مَمْنُونٍ) لاتصال مدده من عالم القدس وبراءته عن الكون والفساد وأبدية وجوده ، فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء أيها الإنسان بأن تكذب به فتكون كاذبا بعد وقوفك على هذا الخلق العجيب الجامع لمراتب الوجود أسفلها وأعلاها الحاصر لكمالات الكونين أشرفهما وأخسّهما.

[٨] (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فيحكم عليه بالوقف في أي مرتبة من المراتب شاء في وأعلاها فيثيبه أو أسفلها فيعاقبه.

٤٤٤

سورة العلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٨] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) نزلت في أول رتبة ردّه عليه‌السلام عن الجمع إلى التفصيل ولهذا قيل : هي أول سورة نزلت من القرآن ، ومعنى الباء في باسم : الاستعانة كما في قوله : كتبت بالقلم ، لأنه إذا رجع إلى الخلق عن الحق كان موجودا بالوجود الحقاني بعد الفناء عن وجوده موصوفا بصفاته ، فكان اسما من أسمائه لأن الاسم هو الذات مع الصفة ، أي : اقرأ بالوجود الذاتي الذي هو اسمه الأعظم فهو الآمر باعتبار الجمع والمأمور باعتبار التفصيل ولهذا وصف الربّ ب (الَّذِي خَلَقَ) أي : احتجب بصورة الخلق ، يعني ظهرت بصورتك فقم بي في صورة الخلق وارجع عن الحقية إلى الخلقية وكن خلقا بالحق. ولما ردّه إلى الخلقية في صورة الجمعية الإنسانية وأمره بالاحتجاب بها لتمكن الوحي والتنزيل والنبوّة خصّ الخلق بعد تعميمه بالإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ) باسم (رَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي : البالغ إلى النهاية في الكرم الذي لا يمكن فوق غايته كرم لجوده بذاته وصفاته وهب لك ذاته وصفاته فهو أكرم من أن يدعك فانيا في عين الجمع فلا يعوّض وجودك بنفسك شيئا ولو أبقاك على حال الفناء لم يظهر له صفة فضلا عن الكرم ، ومن قضية أكرميته أنه الذي آثرك بأشرف صفاته الذي هو العلم وما ادّخر عنك شيئا من كمالاته ، فلهذا وصف الأكرم ب (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي : القلم الأعلى الذي هو الروح الأول الأعظم أي : علم بسببه وواسطته ثم لما كان في أول حال البقاء ولم يصل إلى التمكين أراد أن يمكنه ويحفظه عن التلوين بظهور أنائيته وانتحال صفة الله فقال : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي : لم يكن له علم فعلمه بعلمه ووهب له صفة عالميته لئلا يرى ذاته موصوفة بصفة الكمال فيطغى بظهور الأنانية ولهذا ردعه عن مقام الطغيان بقوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي : بسبب رؤيته نفسه مستغنيا بكماله (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) بالفناء الذاتي فلا ذات لك ولا صفة فارتدع عليه‌السلام متأدّبا بأدب حاله وقال : لست بقارئ ، أي ما أنا بقارئ إنما القارئ أنت.

٤٤٥

[٩ ـ ١٤] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤))

(أَرَأَيْتَ الَّذِي) أي : المحجوب الجاهل المستغني بحاله وماله وقومه عن الحق (يَنْهى عَبْداً) أيّ عبد عن صلاة الحضور والعبادة في مقام الاستقامة بطغيانه (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) في شركه ودعوته إلى الشرك فرضا وتقديرا كما زعم أو (إِنْ كَذَّبَ) بالحق لكفره وأعرض عن الدين المستقيم لعناده وطغيانه كما هو في نفس الأمر (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ) يراه في الحالتين فيجازيه.

[١٥ ـ ١٨] (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨))

(كَلَّا) ردع عن النهي عن الصلاة وإثبات للقسم الثاني من الشرطية بنفي القسم الأول بالوعيد عليه (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عنه وعن نسبة الكذب والخطأ إليه على أبلغ وجه وآكده ، وبيان احتجابه بقومه واتكاله على قوتهم وغفلته عن قهر الحق وسخطه بتسليط الملكوت السماوية والأرضية الفعالة في عالم الطبيعة عليه التي لا يمكن أحدا مقاومتها.

[١٩] (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(كَلَّا لا تُطِعْهُ) أي : لا توافقه ودم على ما أنت عليه من مخالفته بملازمة التوحيد (وَاسْجُدْ) سجود الفناء في صلاة الحضور (وَاقْتَرِبْ) إليه بالفناء في الأفعال ثم في الصفات ثم في الذات أي : دم على حالة فنائك التام في مقام الاستقامة والدعوة حتى تكون في حالة البقاء به فانيا عنك ولا يظهر فيك تلوين بوجود بقية من إحدى الثلاث ، ولهذاقرأ عليه‌السلام في هذه السجدة : «أعوذ بعفوك من عقابك» أي : بفعل لك من فعل لك ، «وأعوذ برضاك من سخطك» أي : بصفة لك من صفة لك ، «وأعوذ بك منك» أي : بذاتك من ذاتك وهو معنى اقترابه بالسجود ، وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه إذا سجد» ، والله تعالى أعلم.

٤٤٦

سورة القدر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ليلة القدر هي البنية المحمدية حال احتجابه عليه‌السلام في مقام القلب بعد الشهود الذاتي لأن الإنزال لا يمكن إلا في هذه البنية في هذه الحالة ، والقدر هو خطره عليه‌السلام وشرفه إذ لا يظهر قدره ولا يعرفه هو إلا فيها ، ثم عظمها بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي : أيّ شيء عرفت كنه قدرها وشرفها.

[٣ ـ ٤] (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤))

(خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قد مرّ أن اليوم يعبر به عن الحادث كقوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) فلكل كائن يوم ، وإذا بنى على هذه الاستعارة كان كل نوع شهرا لاشتماله على الأيام والليالي اشتمال النوع على الأشخاص ، وكل جنس سنة لاشتمالها على الشهور اشتمال الجنس على الأنواع ، والألف هو العدد التام الذي لا كثرة فوقه إلا بالتكرار والإضافة ، فيكنى به عن الكل ، أي : هذا الشخص وحده خير من كل الأنواع. ثم بيّن وجه تفضيله وسبب خيريته فقال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : القوة الروحانية والنفسانية بل الملكوت السماوية والأرضية والروح (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي : من جهة كل أمر هو معرفة جميع الأشياء ووجوداتها وذواتها وصفاتها وخواصها وأحكامها وأحوالها وتدبيرها وتسخيرها.

[٥] (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

(سَلامٌ هِيَ) سلامة عن جميع النقائص والعيوب (حَتَّى) وقت طلوع فجر الشمس الطالعة من مغربها وقرب الموت ، فحينئذ لا تكون سلامة أي سالمة أو سلام في نفسها لكثرة السلام عليها من الله والملائكة والناس أجمعين.

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٥.

٤٤٧

سورة البينة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١))

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا إما عن الدين وطريق الوصول إلى الحق كأهل الكتاب وإما عن الحق أيضا كالمشركين (مُنْفَكِّينَ) عما هم فيه من الضلالة (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي : الحجة الواضحة الموصلة إلى المطلوب وذلك أن الفرق المختلفة المحتجبة بأهوائهم وضلالاتهم من اليهود والنصارى والمشركين كانوا يتخاصمون ويتعاندون ويدعي كل حزب حقية ما عليه ويدعو صاحبه إليه وينسب دينه إلى الباطل ، ثم يتفقون على أنّا لا ننفك عما نحن فيه حتى يخرج النبي الموعود في الكتابين المأمور باتباعه فيهما فنتبعه ونتفق على الحق على كلمة واحدة كما عليه الآن بعينه حال هؤلاء المتعصبين من أهل المذاهب المتفرّقة وانتظارهم خروج المهدي في آخر الزمان ووعدهم على اتباعه متفقين على كلمة واحدة ولا أحسب حالهم إلا مثل حال أولئك إذا خرج ، أعاذنا الله من ذلك ، فحكى الله قولهم وبين أنهم ما تفرّقوا تفرّقا قويا وما اشتدّ اختلافهم وتعاندهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة بخروجه لأن كل فرقة ، بل كل شخص ، توهم أنه يوافق هواه ويصوّب رأيه لاحتجابه بدينه ، فلما ظهر خلاف ذلك ازداد كفره وعناده واشتدّت شكيمته وضغينته.

[٢ ـ ٤] (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤))

(رَسُولٌ) بدل من البينة أي : الحجة القائمة الواضحة رسول (مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً) من ألواح العقول والنفوس السماوية لاتصاله بها بتجرده (مُطَهَّرَةً) من دنس الطبائع وكدر العناصر ودنس المواد وتحريف العباد (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي : مكتوبات ثابتة أبدية مستقيمة ناطقة بالحق والعدل لا تتغير ولا تتبدّل أبدا هي أصول الدين القيم.

[٥ ـ ٨] (وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

٤٤٨

(وَما أُمِرُوا) أي : أهل الكتابين المحجوبون بأهوائهم عن الدين بما أمروا فيهما (إِلَّا) لأن يخصصوا العبادة بالله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عن شوب الباطل والالتفات إلى الغير.

(حُنَفاءَ) عن كل طريق غير موصل إليه وعن كل ما سواه ويتوصلوا إليه بالعبادات البدنية والمالية ، أي : ما أمروا بما أمروا إلا للالتزام بأصول ثلاثة التوحيد على الإخلاص وقطع النظر عن الغير في الطاعة والإعراض عما سواه والقيام بالعبادات البدنية من الأعمال المزكية كالصلاة التي هي العمدة في بابهاكقوله عليه‌السلام : «الصلاة عماد الدين» ، والقيام بحقائق الزهد من الترك والتجريد كالزكاة التي هي أساسها وذلك بعينه دين الكتب القيمة التي يتلوها هذا الرسول. فالملة الحقيقية الحنيفية واحدة من لدن آدم إلى يومنا هذا ، وهي ملازمة التوحيد وسلوك طريق العدالة الشاملة للأصلين الآخرين فلو لم يحتجبوا بأهوائهم ولم يحرفوا كتبهم ويتعصبوا بظهور نفوسهم السبعية ولم يقفوا مع شهواتهم ولم يحتجبوا بتوهماتهم وتصوّراتهم بظواهر أوضاعهم وعاداتهم وأمانيهم ومراداتهم عن حقائق ما في كتبهم لكان دينهم هذا الدين بعينه. فالحاصل أن المحجوبين من أيّ الفرق كانوا هم شرّ البرية في نار جهنم الآثار قعر بئر الطبيعة والموحدين بالتوحيد العلمي العاملين على قانون العدالة في اكتساب الفضائل (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) في جنان الخلد بحسب درجاتهم من جنات الأفعال والصفات وأعلى درجاتهم مقام كمال الصفات الذي هو الرضا (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : ذلك المقام مخصوص بمن علّته الخشية الربانية عند تجليه بصفة العظمة لأنه إذا تجلى الربّ على القلب بصفة العظمة استولت الخشية على العبد وذلك ليس هو الخوف المنافي لمقام الرضا بل هو حكم التجلي وأثره في النفس ، وكما أثبت القدر المشترك للمحجوبين من النار دون النار الكبرى التي للأشقين أثبت القدر المشترك للموحدين من الجنة دون الجنة العليا التي للعارفين الأتّقين فلذلك كان أعلى درجاتها الرضا والسلام.

٤٤٩

سورة الزلزلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) إِذا زُلْزِلَتِ) أرض البدن عند نزع الروح الإنساني باضطراب الروح الحيواني والقوى (زِلْزالَها) الذي استوجبته في تلك الحالة المؤذنة بخرابها وانتقاض بنيتها.

[٢] (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢))

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي : متاعها التي هي بها ذات قدر من القوى والأرواح وهيئات الأعمال والاعتقادات الراسخة في القلب جمع ثقل وهو متاع البيت

[٣] (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣))

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي : ما لها زلزلت واضطربت ما طبّها ، ما داؤها؟ الانحراف المزاج أم لغلبة الأخلاط.

[٤ ـ ٥] (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥))

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) بلسان حالها (بِأَنَّ رَبَّكَ) أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال عند زهوق الروح وتحقق الموت.

[٦] (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) عن مراقدهم ومخارج أبدانهم إلى مواثيقهم ومواطن حسابهم وجزائهم (أَشْتاتاً) متفرّقين سعداء وأشقياء (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي : جزاءها بما أثبت في صحائف نفوسهم من صورها وهيئاتها.

[٧ ـ ٨] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

(فَمَنْ يَعْمَلْ) من السعداء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ) من الأشقياء (مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) والمخصص لعموم من في ، فمن يعمل في الموضعين. قوله أشتاتا لأن خيرات الأشقياء محبطة بالكفر والاحتجاب وشرور السعداء معفوّة بالإيمان والتوبة وغلبة الخيرات وسلامة الفطرة.

٤٥٠

سورة العاديات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١))

(وَالْعادِياتِ) أي : النفوس المجتهدة السائرة في سبيل الله التي تعدو من شدّة سيرها ورياضتها وجدّها في سعيها كالخيل العادية تتنفس الصعداء من برحاء الشوق.

[٢] (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢))

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فتوري نارا بقداح النتائج والاشتغال بنور العقل الفعال بقدح زناد النظر وتركيب المعلومات بالفكر.

[٣] (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣))

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي : التي تغير ما يتعلق بها مما في ظواهرها وخارجها من الماليات ، ومما في بواطنها وداخلها من هيئات صفات النفوس وآثار الأفعال وميول الشهوات واللذات ووساوس الوهم والخيال بنور صبح التجلي الإلهي وأثر الطوالع ومبادئ الوصول تركا وتجريدا.

[٤] (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤))

(فَأَثَرْنَ بِهِ) بنور ذلك التجلي وصبح يوم القيامة الكبرى ونقع تراب البدن بإنهاكه وتلطيفه وتنحيفه بالرياضة ومنع الحظوظ لشدة التوجه إلى الحق والإقبال إليه بالعشق وانزعاج القوى في مشايعة القلب والروح عن جانب البدن واشتغالها عنه بتلقي الأنوار كما يقال : أثار عنه الغبار ، أي : أفناه وأهلكه وجعله كالغبار في التلاشي.

[٥] (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥))

(فَوَسَطْنَ بِهِ) أي : بذلك الصبح ونوره أجمع عين الذات فاستغرقن فيه أي : لطفن كثافة تراب البدن حتى يصير كالنقع في اللطافة ، فوسطن بذلك النقع جمع الذات فإن الوصول إنما يكون بالأبدان كمعراجه عليه‌السلام فإنه كان بالبدن ، أي : العالمات العاملات التاركات المجرّدات بنور التجلي المنهمكات للأبدان بالرياضة فالواصلات.

[٦] (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦))

٤٥١

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أقسم بحرمة الشاكرين لأنعمه الواصلين إليه بتوصلها على أن الإنسان لكفور لربّه باحتجابه بنعمه عنه ووقوفه معها وعدم استعماله لها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه.

[٧] (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧))

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) لعلمه باحتجابه وشهادة عقله ونور فطرته أنه لا يقوم بحقوق نعم الله ويقصّر في جنب الله بكفرانه.

[٨] (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨))

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي : وإنه لحب المال لقوي أو لأجل حب المال بخيل ، فلذلك يحتجب به غارزا رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه مشغولا به عن الحق معرضا عن جنابه ، أو أنه لحب الخير الموصل إلى الحق منقبض غير هشّ منبسط.

[٩ ـ ١١] (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

(أَفَلا يَعْلَمُ) أي : أبعد هذا الاحتجاب ومخالفة العقل لا يعلم بنور فطرته وقوة عقله (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم وظواهرهم فيجازيهم على حسبها (إِذا بُعْثِرَ) أي : بعث ما في قبور أبدانهم من النفوس والأرواح (وَحُصِّلَ) ما في صدورهم أي : أظهر ما في قلوبهم من هيئات أعمالهم وصفاتهم وأسرارهم ونياتهم المكتومة فيها.

٤٥٢

سورة القارعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))

(الْقارِعَةُ) الداهية التي تقرع الناس وتهلكهم وهي إما القيامة الكبرى أو الصغرى ، فإن كانت الكبرى فمعناها الحالة التي تفني المقروع من تجلي الذات الأحدية وإفناء البشرية بالكلية وهي حالة لا يعرف كنهها ولا يقدر قدرها ، تقرعهم.

[٤ ـ ٥] (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥))

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ) أي : يكونون في ذلك الشهود في الذلة وتفرّق الوجهة كالفراش المنتثر وأحقر وأذلّ لأنه لا قدر ولا وقع لهم في عين الموحد كقوله : لن يكمل إيمان المرء حتى يكون الناس عنده كالأباعر أو كالفراش (الْمَبْثُوثِ) إذا احترق وانبثّ بالنار لنظره إليهم بعين الفناء.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ) أي : الأكوان ومراتب الوجود على اختلاف أصنافها وأنواعها (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) لصيرورتها هباء منبثّا وانتقاعها وتلاشيها بالتجلي وإن كان المراد بالناس المقروعين من أهل الكبرى فمعناها : كالفراش المبثوث المحترق بنور التجلي المتلاشي لا غير ، وتكون الجبال أي : ذواتهم وصفاتهم مع اختلاف مراتبها وألوانها كالعهن المنفوش في التلاشي ، إلا أن قوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)) لا يساعده لانتفاء التفصيل هناك. واعلم أن ميزان الحق بخلاف ميزان الخلق ، إذ صعود الموزونات وارتفاعها فيه هو الثقل وهبوطها وانحطاطها هو الخفّة لأن ميزانه تعالى هو العدل والموزونات الثقيلة أي : المعتبرة الراجحة عند الله التي لها قدر ووزن عنده هي الباقيات الصالحات ولا ثقل أرجح من البقاء الأبديّ ، والخفيفة التي لا وزن لها ولا قدر ولا اعتبار عند الله هي الفانيات الفاسدات من اللذات الحسية والشهوات. ولا خفّة أخفّ من الفناء الصرف.

[٦ ـ ٧] (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧))

٤٥٣

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بأن كانت من العلوم الحقيقية والفضائل النفسانية والكمالات القلبية والروحانية (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ) ذات رضا ، أي : حياة حقيقية في جنان الصفات فوق جنان الأفعال.

[٨ ـ ١١] (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بأن كانت من الأعمال السيئة والرذائل النفسانية (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي : مأواه قعر بئر جهنم الطبيعة الجسمانية التي تهوي فيها أهلها (وَما أَدْراكَ) حقيقتها وكنه حالها إنها (نارٌ) آثارية (حامِيَةٌ) بالغة إلى نهاية الإحراق. ويكون معنى : أمّه هاوية ، إنه هالك ، وما أدراك ما الداهية التي يهلك بها نار حامية وإن كانوا من أهل الصغرى فمعناها الحالة التي تقرع الناس بشدّتها وهي الموت يوم يكون الناس بفراقهم عن الأبدان وانبعاثهم من مراقدها وقصدهم إلى ضوء عالم النور وذلّتهم وخشوعهم وتفرّق مقاصدهم وتحيرهم بحسب تفرّق عقائدهم وأهوائهم كالفراش المبثوث وتكون جبال الأعضاء في اختلاف ألوانها وأصنافها وتفرّق أجزائها وتفتتها وصيرورتها هباء كالعهن المنفوش والباقي بحاله كما ذكر ، والله أعلم.

٤٥٤

سورة التكاثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي : شغلتكم اللذات الحسيّة والخيالية الفانية من نعيم الحياة الدنيا التي احتجبتم بها وحبستم كمالكم فيها وأذهبتم طيباتكم من نور الاستعداد وصفاء الفطرة والعقل والمعقولات فيها عن اللذات العقلية والكمالات المعنوية الباقية من نعيم الآخرة وذهب بكم المفاخرة والمباهاة بهذه الأمور الفانية من كثرة الأموال والأولاد وشرف الآباء والأجداد كل مذهب (حَتَّى) ما اكتفيتم بالموجودات منها وارتكبتم المفاخرة بالمعدومات السالفة من العظام البالية لشدة الحجاب وغلبة لذة الخيال وسلطنة شيطان الوهم أو حتى متم وأفنيتم عمركم فيها وما تنبهتم طول عمركم على ما هو سبب نجاتكم.

[٣ ـ ٤] (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤))

(كَلَّا) ردع عن الاشتغال بها وتنبيه على وخامة عاقبتها (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند خراب الأبدان وكشف غطاء الأكوان حين لا ينفعكم العلم لانعدام الأسباب والآلات التي يمكن بها الاستكمال بالموت وخامة عاقبة الاشتغال بهذه الحسيّات والوهميات السريعة الزوال العظيمة الوبال لبقاء تبعاتها وتعذبكم بهيئاتها واستيلاء نار آثارها (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تكرار للوعيد.

[٥ ـ ٦] (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦))

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي : لو ذقتم اللذات الحقيقية من العلوم اليقينية والإدراكات النوانية المستعلية على هذه الحسيات والخياليات الفانية لكان ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر على فوات العمر العزيز فيها والذهول عنها بها (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي : والله لترونّ بسبب احتجابكم بهذه المحسوسات نار جحيم الطبيعة الآثارية.

[٧ ـ ٨] (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

(ثُمَ) لتذوقنها عيانا يقينيا بالذوق والوجدان فوق العلم (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي : شيء هو الدنيوي ولذاته الفانية الذي هذه عاقبته ومآله وتبعته ، أم الأخروي الباقي أبدا

٤٥٥

على حاله الذي كنتم تنكرونه. ويجوز أن يكون قوله : لترونّ الجحيم ، سادّا مسدّ جواب لولا أنّ القسم والشرط إذا اجتمعا اتحد جوابهما معنى وخصّ بالقسم لفظا سادّا مسدّ جواب الشرط كقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١) أي : والله لو علمتم علم اليقين ووصلتم إلى مرتبته لرأيتم نار جحيم الطبيعة المخصوصة بالمحجوبين بهذه الرذائل من الانغماس في الشهوات واللذات الوهمية والخيالية والكمالات الحسيّة والبدنية التي غرزتم لأرؤسكم فيها وتهالكتم عليها فانتهيتم عنها الانتهاء البالغ ثم ما وقفتم على مرتبة العلم اليقيني لوجدانكم ذوقه ومعرفتكم لذته وبقاءه وحسنه وشرفه وبهاءه وبقاء تبعة ما أنتم الآن فيه وفنائه وقبحه وخسّته ووباله ، فترقيتم إلى رتبة العيان والمشاهدة ، فعاينتم الحقائق على ما هي عليه من الأنوار القدسية والصفات الإلهية فشاهدتم بنور العيان حقيقة الجحيم ووبال هذه اللذات وما لها من آلام الهيئات وعذاب النيران والحرمان. ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم أي شيء هو ، أهذا الذي أنتم الآن فيه من النعيم الأخروي أم ذاك النعيم الدنيوي؟ أو لو تعلمون العلم اليقيني أيها المحجوبون بهذه الزخارف والخرافات لترون الجحيم من شدة الشوق واستيلاء نار العشق ، ثم لترقون بذلك الشوق إلى رتبة عين اليقين والمشاهدة فترون حقيقة نار العشق عيانا ، ثم لتسألنّ بعد هذا الذوق عن النعيم الذي هو حق اليقين ما هو ، أي : ثم لتجدنّ ذوق الوصول وأثر مرتبة حق اليقين فيمكنكم الإخبار عنها ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٢١.

٤٥٦

سورة والعصر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)) أقسم بالعصر أي : بامتداد بقاء الزمان وما فيه وما يحدث معه بمبدعه وعلّته الذي هو الدهر الناس يضيفون تغيرات الأمور والأحوال إليه ويجعلونه مؤثرا فيه كقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١). والمؤثر بالحقيقة هو الله تعالى كماقال عليه‌السلام : «لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر» ، تعظيما له لظهوره تعالى بصفاته وأفعاله في مظهره على أن المحجوب به عنه في خسر وهو الإنسان لخسارته برأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية من الاستعداد الأزليّ باختيار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر وإضاعة الباقي في الفاني.

[٣] (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله الإيمان العلمي اليقيني وعرفوا أن لا مؤثر إلا الله وبرزوا عن حجاب الدهر (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الباقيات من الفضائل والخيرات ، أي : اكتسبوها فربحوا بزيادة النور الكمالي على النور الاستعدادي الذي هو رأس مالهم (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي : الثابت الدائم الباقي على حاله أبدا من التوحيد والعدل ، أي : التوحيد الذاتي والوصفي والفعلي فإنه الحق الثابت فحسب (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) معه وعليه عن كل ما سواه بالتمكين والاستقامة ، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة في العبودية فأعزّ من الكبريت الأحمر والغراب الأبيض ، فالفحوى أن نوع الإنسان في خسر إلا الكاملين في العلم والعمل ، المكملين بهما. ويجوز أن يؤخذ العصر بمعنى المصدر من عصر يعصر أي : وعصر الله الإنسان بالبلاء والمجاهدة والرياضة حتى تصفو نقاوته ، إن الإنسان الباقي مع الثفل الواقف مع حجاب البشرية في خسر إلا الذين اتصفوا بالعلم والعمل وتواصوا بالحق الثابت الذي هو الاعتقاد اليقيني اللازم للصفاوة الباقية بعد ذهاب الثفل وتواصوا بالصبر على العصر والانعصار بالبلاء والرياضة ، ولهذاقال عليه‌السلام : «البلاء موكل بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ، وقال : «البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه».

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٤.

٤٥٧

سورة الهمزة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي : الذي تعوّد بالرذيلتين وضري بهما ، فإن هذه الصيغة للعادة. والهمز أي : الكسر من أعراض الناس ، واللمز أي : الطعن فيهم ، رذيلتان مركبتان من الجهل والغضب والكبر لأنهما يتضمنان الإيذاء وطلب الترفع على الناس وصاحبهما يريد أن يتفضل على الناس ولا يجد في نفسه فضيلة يترفع بها فينسب العيب والرذيلة إليهم ليظهر فضله عليهم ولا يشعر أن ذلك عين الرذيلة وأن عدم الرذيلة ليس بفضيلة ، فهو مخدوع من نفسه وشيطانه موصوف برذيلتي القوة النطقية والغضبية. ثم أبدل منه الوصف برذيلة القوة الشهوانية بقوله : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) وفي عدّده إشارة أيضا إلى الجهل لأن الذي جعل المال عدّة للنوائب لا يعلم أن نفس ذلك المال يجرّ إليه النوائب لاقتضاء حكمة الله تفريقه بالنائبات فكيف يدفعها وكذا في قوله : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي : لا يشعر أن المقتنيات المخلّدة لصاحبها هي العلوم والفضائل النفسانية الباقية لا العروض والذخائر الجسمانية الفانية ولكنه مخدوع بطول الأمل مغرور بشيطان الوهم عن بغتة الأجل ، والحاصل أن الجهل الذي هو رذيلة القوة الملكية أصل جميع الرذائل ومستلزم لها فلا جرم أنه يستحق صاحبها المغمور فيها العذاب الأبدي المستولي على القلب المبطل لجوهره.

[٤ ـ ٧] (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧))

(كَلَّا) ردع عن حسبان وقوع الممتنع (لَيُنْبَذَنَ) أي : ليسقطنّ عن مرتبة فطرته إلى رتبة الطبيعة الغالبة وهي الحطمة التي عادتها كسر كل ما وقع في رتبتها باستيلاء قوّتها عليه وهي النار الروحانية المنافية لجوهر القلب المؤلمة له إيلاما لا يوصف كنهه المستعلية عليه النافذة في أشرف وجهه وباطنه ، وأعلاه الذي هو الفؤاد المتصل بالروح.

[٨ ـ ٩] (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

٤٥٨

(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي : مطبقة مغلقة الأبواب لاحتجاب القلب في محلها بالمواد الجسمانية واستحكام الهيئات المظلمة واللواحق الهيولانية والصور البهيمية والسبعية والشيطانية فيه ، وامتناع تخلصه منها إلى عالم القدس (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) من محيط فلك القمر إلى المركز وهي الطبائع العنصرية التي صار مربوطا بها بالتعلق وسلاسل الميل والمحبة ، والله أعلم.

٤٥٩

سورة الفيل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم كانت قريبة من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إحدى آيات قدرة الله وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر ، ومن اطلع على عالم القدرة وكشف له حجاب الحكمة عرف لمية أمثال هذه ، وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة ابيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شطّ جيحون وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شطّ نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر وهي لا تقبل التأويل كأحوال القيامة وأمثالها. وأما التطبيق فاعلم أن أبرهة النفس الحبشية لما قصد تخريب كعبة القلب الذي هو بيت الله بالحقيقة والاستيلاء عليها وأراد أن يصرف حجاج القوى الروحانية إلى قلس الطبيعة الجسمانية التي بناها وأراد تعظيمها فخرا فيها قرشي العاقلة العملية بإلقاء فضلة الغذاء العقلي فيها من صور التأديب المخصوص بالأمور الطبيعية كالعادات الجميلة والآداب المحمودة أوقع فيها شرارا من نار الشوق التي أوقدها عير قريش القوى الروحانية فأحرقها بالرياضة فساق جنوده وعبى جيوشه من جنس القوى النفسانية وصفاتها الظلمانية بالطبع كالغضب والشهوة وأمثال ذلك ، وقدّم فيل شيطان الوهم الذي لا ينهزم عن جنود العقل ويعارضه في الحرب والشيطان أكثر ما يتشكل يكون بصورة الفيل كما رآه معاذ في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذاقال عليه‌السلام : «إن الشيطان ليضع خرطومه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس». جعل الله كيدهم في تضييع.

[٣ ـ ٥] (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) طيور الأفكار والأذكار بيضاء منوّرة بنور الروح (أَبابِيلَ) أي : خرابق جماعات كصور القياسات وكثرة الأذكار (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي : رياضة مما سجل وخص بكل واحد منهم كتب على كل واحد منها اسم المرمي بها بقلم الشرع والعقل وعين

٤٦٠