تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سورة الرحمن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) الرَّحْمنُ) اسم خاص من أسماء الله تعالى باعتبار إفاضة أصول النعم كلها من الأعيان وكمالاتها الأولية بحسب البداية ، وإنما أورد هاهنا لعموم وصفيته الشاملة للأوصاف التي تحت معناه في المبدئية ليسند إليه الأصول المختلفة الواردة بعده.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي : الاستعداد الكامل الإنساني المسمى بالعقل القرآني الجامع للأشياء كلها ، حقائقها وأوصافها وأحكامها إلى غير ذلك مما يمكن وجوده ويمتنع بإيداعه في الفطرة الإنسانية وركزه فيها ولأن ظهوره وبرزوه إلى الفعل بتفصيل ما جمع فيه. وصيرورته فرقانا إنما تكون بحسب النهاية ما ذكر الفرقان كما ذكره في قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) (١) لأنه من باب الرحمة الرحيمية لا الرحمانية.

[٣ ـ ٤] (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤))

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : لما أبدع فطرته وأودع العقل القرآني فيها أبرزه في هذه النشأة بخلقه في هذه الصورة العجيبة (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي : النطق المميز إياه عن جميع ما سواه من المخلوقات ليخبر به عما في باطنه من العقل القرآني.

[٥ ـ ٦] (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦))

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي : الروح والقلب يجريان فيه ويسيران بحساب ، أي : قدر معلوم من منازلهما ومراتبهما مضبوط لا يجاوز أحدهما قدره ومرتبته التي عينت له ، فلكل منهما كمالات ومراتب محدودة القدر معلومة الغاية ينتهي إليها (وَالنَّجْمُ) أي : النفس الحيوانية النورانية بالشعور الحسي في ليل الجسم (وَالشَّجَرُ) أي : النفس النباتية المنمية له. (يَسْجُدانِ) بتوجههما إلى أرض الجسد ووضع جبهتهما عليها بالميل والإقبال الكلي نحوها لتربيتها وإنمائها وتكميلها.

[٧] (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧))

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ١.

٣٠١

(وَالسَّماءَ) أي : سماء العقل (رَفَعَها) إلى محل شمس الروح وثمر القلب (وَوَضَعَ) أي : خفض ميزان العدل إلى أرض النفس والبدن. فإن العدالة هيئة نفسانية لولاها لما حصلت الفضيلة الإنسانية ومنه الاعتدال في البدن الذي لو لم يكن لما وجد ولم يبق ولما استقام أمر الدين والدنيا بالعدل ، واستتب كمال النفس والبدن بحيث لولاه لفسدا. أمر بمراعاته ومحافظته قبل تعديد الأصول بتمامها لشدة العناية به وفرط الاهتمام بأمره ، فوسط بينه وبين قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠)) (١).

[٨ ـ ٩] (أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩))

قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) بالإفراط عن حدّ الفضيلة والاعتدال ، فيلزم الجور الموجب للفساد (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) بالاستقامة في الطريقة ، وملازمة حدّ الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) بالتفريط عن حد الفضيلة. قال بعض الحكماء : العدل ميزان الله تعالى ، وضعه للخلق ونصبه للحق.

[١٠ ـ ١٢] (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢))

(وَالْأَرْضَ) أي : أرض البدن (وَضَعَها) لهذه المخلوقات المذكورة (فِيها فاكِهَةٌ) أي : ما تفيد اللذات الحسية من إدراكات الحواس والمحسوسات (وَالنَّخْلُ) أي : القوى المثمرة للذات الخيالية والوهمية الباسقة من أرض الجسد في هوى النفس (ذاتُ الْأَكْمامِ) أي : غلف اللواحق المادية (وَالْحَبُ) أي : القوة الغاذية التي منها لذة الذوق والأكل والشرب (ذُو الْعَصْفِ) أي : الشعب والأوراق الكثيرة المنبسطة على أرض البدن من الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والمغيرة والمصورة الملازمة للبدن ، المقتضية لخواصها وأفعالها وما تعدّها وتهيئها وتصلحها لحفظ القوة والإنماء مما يصير بدل ما يتحلل ويزيد في الأقطار (وَالرَّيْحانُ) أي : المولدة ، الموجبة لذّة الوقاع التي هي أطيب اللذات الجسمانية وأسلاف البذر بتوليد مادة النوع.

[١٣] (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) من هذه النعم المعدودة أيها الظاهريون والباطنيون من الثقلين أبالنعم الظاهرة أم الباطنة.

[١٤ ـ ١٦] (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦))

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ١٠.

٣٠٢

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : ظاهره وجسده الذي يؤنس ، أي : يبصر (مِنْ صَلْصالٍ) من أكثف جواهر العناصر المختلطة الذي تغلب عليه الأرضية واليبس (كَالْفَخَّارِ) الصلب الذي يناسب جوهر العظم الذي هو أساس البدن ودعامته (وَخَلَقَ الْجَانَ) أي : باطنه وروحه الحيواني الذي هو مستور عن الحسّ وهو أبو الجنّ ، أي : أصل القوى الحيوانية التي أقواها وأشرفها الوهم أي : الشيطان المسمّى إبليس الذي هو من ذريته (مِنْ مارِجٍ) من لهب لطيف صاف (مِنْ نارٍ) أي : من ألطف جواهر العناصر المختلطة الذي يغلب عليه الجوهر الناري والحرّ ، والمارج هو اللهب الذي فيه اضطراب ، وهذه الروح دائمة الاضطراب والتحرّك.

[١٧ ـ ١٨] (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨))

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي : مشرقي الظاهر والباطن ومغربيهما بإشراق نور الوجود المطلق على ماهيات الأجساد الظاهرة وغروبه فيها باحتجابه بماهياتها وتعينها به فله في ربوبيته لكل موجود شروق بإيجاده بنور الوجود وظهوره به وغروب باختفائه فيه وتستره به يربّه بهما.

[١٩ ـ ٢١] (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١))

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) بحر الهيولى الجسمانية الذي هو الملح الأجاج وبحر الروح المجرد الذي هو العذب الفرات (يَلْتَقِيانِ) في الوجود الإنساني (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الأرواح المجردة ولطافتها ولا في كدورة الأجساد الهيولانية وكثافتها (لا يَبْغِيانِ) لا يتجاوز حدّهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته فلا الروح يجرّد البدن ويمزج به ويجعله من جنسه ولا البدن يجمد الروح ويجعله ماديا ، سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء.

[٢٢ ـ ٢٣] (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣))

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا) بتركيبهما والتقائهما لؤلؤ العلوم الكلية ومرجان العلوم الجزئية ، أي : لؤلؤ الحقائق والمعارف ومرجان العلوم النافعة كالأخلاق والشرائع ٨

[٢٤ ـ ٢٨] (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))

(وَلَهُ الْجَوارِ) أي : أوضاع الشريعة ومقامات الطريقة التي يركبها السالكون ، السائرون إلى الله في لجّة هذا البحر المريح ، فينجون ويعبرون إلى المقصد. وتشبيهها بالأعلام إشارة إلى شهرتها وكونها معروفة كما تسمى شعائر الله ومعالم الدين. (الْمُنْشَآتُ) أي : المرفوعات

٣٠٣

الشرع وشرعها الأشواق والإرادات التي تجري عند ارتفاعها وتعلقها بالعالم العلوي بقوة رياح النفحات الإلهية سفينة الشريعة والطريقة براكبها إلى مقصد الكمال الحقيقي الذي هو الفناء في الله ، ولهذا قال عقيبه : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) أي : كل من على الجواري السائرة واصل إلى الحق بالفناء فيه ، أو كل من على أرض الجسد من الأعيان المفصلة كالروح والعقل والقلب والنفس ومنازلها ومقاماتها ومراتبها ، فان عند الوصول إلى المقصود (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) الباقي بعد فناء الخلق ، أي : ذاته مع جميع صفاته (ذُو الْجَلالِ) أي : العظمة والعلوّ بالاحتجاب بالحجب النورانية والظلمانية والظهور بصفة القهر والسلطنة (وَالْإِكْرامِ) بالقرب والدنو في صور تجليات الصفات وعند ظهور الذات بصفة اللطف والرحمة.

[٢٩ ـ ٣٢] (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢))

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من أهل الملكوت والجبروت (وَالْأَرْضِ) من الجنّ والأنس ، والمراد : يسأله كل شيء فغلب العقلاء وأتى بلفظ من أي كل شيء يسأله بلسان الاستعداد والافتقار دائما.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) بإفاضة ما يناسب كل استعداد ويستحقه فله كل وقت في كل خلق شأن بإفاضة ما يستحقه ويستأهله باستعداده ، فمن استعدّ بالتصفية والتزكية للكمالات الخيرية والأنوار يفيضها عليه مع حصول الاستعداد ، ومن استعدّ بتكدير جوهر نفسه بالهيئات المظلمة والرذائل ولوث العقائد الفاسدة والخبائث للشرور والمكاره وأنواع الآلام والمصائب والعذاب والوبال يفيضها عليه مع حصول الاستعداد. وهذا معنى قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) لأنه تهديد وزجر عن الأمور التي بها يستحق العقاب ، وسميا ثقلين لكونهما سفليين مائلين إلى أرض الجسم.

[٣٣ ـ ٣٤] (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤))

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي : الباطنيين والظاهريين (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالتجرّد عن الهيئات الجسمانية والتعلقات البدنية (فَانْفُذُوا) لتنخرطوا في سلك النفوس الملكية والأرواح الجبروتية ، وتصلوا إلى الحضرة الإلهية (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) بحجة بينة هي التوحيد والتجريد والتفريد بالعلم والعمل والفناء في الله.

[٣٥ ـ ٣٦] (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

٣٠٤

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) أي : يمنعكما عن النفوذ من أقطارهما والترقي من أطوارهما لهب صاف عن ممازجة الدخان ، أي : سلطان الوهم وأحكامه ومدركاته بإرساله الوهميات إلى حيز العقل والقلب وممانعته إياهما عن الترقي دائما (وَنُحاسٌ) دخان ، أي : هيئة ظلمانية ترسلها النفس الحيوانية بالميل إلى الهوى والشهوات ، فالشواظ مانع من جهة العلم والنحاس من جهة العمل (فَلا تَنْتَصِرانِ) فلا تمتنعان عنهما وتغلبان عليهما فتنفذان إلا بتوفيق الله وسلطان التوحيد.

[٣٧ ـ ٣٨] (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨))

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي : السماء الدنيا وهي النفس الحيوانية ، وانشقاقها انفلاقها عن الروح عند زهوقه إذ الروح الإنساني نسبته إلى النفس الحيوانية كنسبته إلى البدن. فكما أن حياة البدن بالنفس فحياتها بالروح فتنشق عنه عند زهوقه بمفارقة البدن (فَكانَتْ وَرْدَةً) أي : حمراء لأن لونها متوسط بين لون الروح المجرّد وبين لون البدن ، ولون الروح أبيض لنوريته وإدراكه اللذات ولون البدن أسود لظلمته وعدم شعوره باللذات ، والمتوسط بين الأبيض والأسود هو الأحمر ، وإنما وصفها في سورة (البقرة) بالصفرة وهاهنا بالحمرة لأن هناك وقت الحياة والصفاء وغلبة النورية عليها وطراوة الاستعداد وهاهنا وقت الممات والتكدّر وغلبة الظلمة عليها وزوال الاستعداد (كَالدِّهانِ) كدهن الزيت في لونه ولطافته وذوبانه لصيرورتها إلى الفناء والزوال.

[٣٩ ـ ٤٠] (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠))

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ) من الظاهريين (وَلا جَانٌ) من الباطنيين لانجذاب كل إلى مقرّه ومركزه وموطنه الذي يقتضيه حاله وما هو الغالب عليه باستعداده الأصلي أو العارضي الراسخ الغالب. وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) (١) ونظائره ، ففي مواطن أخر من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة وهو في حال عدم غلبة إحدى الجهتين واستيلاء أحد الأمرين. ففي زمان غلبة النور الأصلي وبقاء الاستعداد الفطري أو حصول الكمال والترقي في الصفات ، وفي وقت استيلاء الهيئات الظلمانية وترسخ الغواشي الجسمانية وزوال الاستعداد الأصلي بحصول الرين لا يسئلون ، وفي وقت عدم رسوخ تلك الهيئات إلى حدّ الرين وبقائها في القلب مانعة ، حاجزة إياها عن الرجوع إلى مقرّها ، يوقفون ويسئلون حتى يعذبوا بحسب سيئاتهم على قدر

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٤.

٣٠٥

رسوخها ، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم على الأمر الأكثر كما ذكر وقد يكون بعده ، وذلك عند حبط الأعمال وغلبة الأمر العارضي واستيلائه على الذاتي إلى حد إبطال الاستعداد بالكلية فيدافعه الاستعداد الأصلي قليلا قليلا ويتجلى بصور التعذّبات والبليّات شيئا فشيئا ، حتى يتساوى الأمران كتبرّد الماء المسخّن حين بلوغه إلى كونه فاترا ، فهذا الشخص مطرود في أول الأمر عند قرب الاستعداد إلى الزوال ثم قد يوقف ويسئل عند قرب رجوع الاستعداد إلى الحالة الأولى وإمكان اتصاله بالملكوت. وأما الأشقياء المردودون ، المخلّدون في العذاب ، والسعداء المقرّبون الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، فلا يسئلون قط ولا يوقفون للسؤال. فقوله : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤)) (١) ونظائره مخصوص ببعض المعذبين ، وهم الأشقياء الذين عاقبتهم النجاة من العذاب.

[٤١ ـ ٤٢] (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢))

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ) الذين غلبت عليهم الهيئات الجرمانية باكتساب الرذائل ورسوخها (بِسِيماهُمْ) أي : بعلامات تلك الهيئات الظاهرة الغالبة عليهم (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي) فيعذبون من فوق ويحجبون ويحبسون مقيدين أسراء من جهة رذيلة الجهل المركب ورسوخ الاعتقادات الفاسدة (وَالْأَقْدامِ) أي : يعذبون من أسفل ، ويجرّون ويسحبون على وجوههم ، ويردّون إلى قعر جهنم كما قيل : يهوي أحدهم فيها سبعين خريفا لرسوخ الهيئات البدنية والرذائل العملية من إفراط الحرص والشره والبخل والطمع وارتكاب الفواحش والآثام من قبيل الشهوة والغضب.

[٤٣ ـ ٤٥] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

(هذِهِ جَهَنَّمُ) قعر بئر أسفل سافلين من الطبيعة الجسمانية (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ) قد انتهى حره وإحراقه من الجهل المركب ولهذا قيل : يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم ، لأن العذاب المستحق من جهة العمل هو نار جهنم من تحت والمستحق من جهة العلم هو الحميم من فوق.

[٤٦ ـ ٥١] (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١))

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٢٤.

٣٠٦

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : خاف قيامه على نفسه بكونه رقيبا ، حافظا ، مهيمنا عليه كما قال : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١) كما يقال : خدمت حضرة فلان أي : نفسه (جَنَّتانِ) إحداهما جنة النفس ، والثانية جنة القلب لأن الخوف من صفات النفس ومنازلها عند تنوّرها بنور القلب (ذَواتا أَفْنانٍ) لتفنن شعبهما من القوى والصفات المورقة للأعمال والأخلاق المثمرة للعلوم والأحوال ، فإن الأفنان هي المغصنات التي تشعبت عن فروع الشجر عليها الأوراق والثمار (فِيهِما عَيْنانِ) من الإدراكات الجزئية والكلية (تَجْرِيانِ) إليهما من جنة الروح تنبتان فيهما ثمرات المدركات وتجليات الصفات.

[٥٢ ـ ٥٧] (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦))

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) من مدركاتها اللذيذة (زَوْجانِ) أي : صنفان ، صنف جزئي معروف مألوف وصنف كلي غريب لأن كل ما يدركه القلب من المعاني الكلية فله صورة جزئية في النفس وبالعكس (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ) هي مراتب كمالاتها ومقاماتها (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي : جهتها التي تلي السفل ، أعني : النفس من هيئات الأعمال الصالحة من فضائل الأخلاق ومكارم الصفات ومحاسن الملكات ، وظهائرها التي تلي الروح من سندس تجليات الأنوار ولطائف المواهب والأحوال الحاصلة من مكاشفات العلوم والمعارف كما هو في سورة (الدخان).

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) ثمراتها ومدركاتها (دانٍ) قريب ، كلما شاؤوا حيث كانوا على أي وضع كانوا قياما أو قعودا أو على جنوبهم أدركوها واجتنوها ونبت في الحال مكانها أخرى من جنسها كما ذكر في وصفها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) مما يتصلون بها من النفوس الملكوتية التي في مراتبها وما تحتها سماوية كانت أو أرضية ، مزكاة صافية مطهرة لا يجاوز نظرها مراتبهم ولا تطلب كمالا وراء كمالاتهم لكون استعدادتها مساوية لاستعدادهم أو أنقص منها ، وإلا جاوزت جناتهم وارتفعت عن درجاتهم ، فلم تكن قاصرات الطرف ولم تقنع بوصالهم ولذات معاشراتهم ومباشراتهم (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ) من النفوس البشرية لاختصاصها بهم في النشأة ولتقدّس ذواتها وامتناع اتصال النفوس المنغمسة في الأبدان بها (وَلا جَانٌ) من القوى الوهمية والنفوس الأرضية المحجوبة بالهيئات السفلية.

[٥٨ ـ ٥٩] (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩))

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٣٣.

٣٠٧

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) شبهت اللواتي في جنّة النفس من الحور بالياقوت لكون الياقوت مع حسنه وصفائه ورونقه وبهائه ذا لون أحمر يناسب لون النفس ، واللواتي في جنة القلب بالمرجان لغاية بياضه ونوريته ، وقيل : صغار الدرّ أصفى وأبيض من كبارها.

[٦٠ ـ ٦١] (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) في العمل وهو العبادة مع الحضور (إِلَّا الْإِحْسانُ) في الثواب بحصول الكمال والوصول إلى الجنّتين المذكورتين.

[٦٢ ـ ٦٥] (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥))

(وَمِنْ دُونِهِما) أي : من ورائهما من مكان قريب منهما كما تقول : دونك الأسد ، لا من دونهما بالنسبة إلى أصحابهما فيكون بمعنى قدّامهما بل بمعنى بعدهما أو من غيرهما ، كقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (١).

(جَنَّتانِ) للمقرّبين السابقين ، جنة الروح وجنة الذات في عين الجمع عند الشهود الذاتي بعد المشاهدة في مقام الروح (مُدْهامَّتانِ) أي : في غاية البهجة والحسن والنضارة.

[٦٦ ـ ٦٧] (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧))

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي : علم توحيد الذات وتوحيد الصفات أعني علم الفناء وعلم المشاهدة فإنهما ينبعان فيهما ، بل العلمان المذكوران الجاريان في الجنتين المذكورتين منبعهما من هاتين الجنّتين ينبعان منهما ويجريان إلى تينك.

[٦٨ ـ ٦٩] (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩))

(فِيهِما فاكِهَةٌ) وأيّ فاكهة؟! فاكهة لا يعلم كنهها ولا يعرف قدرها من أنواع المشاهدات والأنوار والتجليات والسبحات (وَنَخْلٌ) أي : ما فيه طعام وتفكه ، وهو مشاهدة الأنوار وتجليات الجمال والجلال في مقام الروح وجنّته مع بقاء نوى الإنية المتقوتة منها المتلذذة بها (وَرُمَّانٌ) أي ما فيه تفكه ودواء في مقام الجمع وجنة الذات أي : الشهود الذاتي بالفناء المحض الذي لا أنية فيه فتطعم بل اللذة الصرفة ودواء مرض ظهور البقية بالتلوين ، فإن في الرمان صورة الجمع مكنونة في قشر الصورة الإنسانية.

[٧٠ ـ ٧١] (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٨.

٣٠٨

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) أي : أنوار محضة وسبحات صرفة لا شائبة للشر والإمكان ، فيها حسان من تجليات الجمال والجلال ومحاسن الصفات.

[٧٢ ـ ٧٥] (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥))

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) أي : مخدّرات في حضرات الأسماء بل حضرة الوحدة والأحدية لا تبرز منها بالانكشاف لمن دونها وليس وراءها حد ومرتبة ترتقي إليها وتنظر إلى ما فوقها فهي مقصورة فيها.

[٧٦ ـ ٧٧] (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧))

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف نوع من الثياب عريض ، لطيف في غاية اللطافة ، والمراد : نور الذات الذي هو في غاية البهجة واللطافة أو نور الصفات حال البقاء بعد الفناء والاستناد إلى صمدية الوجود المطلق والتحقق به (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقريّ في اللغة : ثوب غريب منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد الجنّ ، أي : الوجود الموهوب الحقاني الغريب الموصوف بصفاته المتجلية في غاية الحسن الذي هو منسوب إلى عالم الغيب بل غيب الغيب الذي لا يعلم أحد أين هو.

[٧٨] (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

(تَبارَكَ) أي : تعالى وتعاظم (اسْمُ رَبِّكَ) أي : الاسم الأعظم الذي به تزيد وترتقي مرتبة السالكين من البداية إلى النهاية حتى الوصول إليه والفوز به (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : الجلال في صورة الجمال والجمال في صورة الجلال اللذان لا يحجب أحدهما عن الآخر عند البقاء بعد الفناء للمحبوبين المحبين السابقين إلى غاية الدرجات بخلاف الجلال والإكرام المذكورين قبل ، فإنهما هناك يحجب أحدهما عن الآخر لعدم تحقق الفاني بالوجود الحقاني والرجوع إلى تفاصيل الصفات وشهودها في عين الجمع.

٣٠٩

سورة الواقعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : القيامة الصغرى (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) نفس تكذب على الله أن البعث وأحوال الآخرة لا تكون ، لأن كل نفس تشاهد أحوالها من السعادة والشقاوة (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات.

[٤ ـ ٩] (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨))

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) إِذا رُجَّتِ) أي : حركت وزلزلت أرض البدن بمفارقة الروح تحريكا يخرج به جميع ما فيها وينهدم معه جميع أعضائه (وَبُسَّتِ) أي : فتتت جبال العظام بصيرورتها رميما ورفاتا أو سيقت وأذهبت حتى صارت (هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) السعداء الذين هم الأبرار والصلحاء من الناس ، والأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس.

وإنما سمى الأولون أصحاب الميمنة لكونهم أهل اليمن والبركة أو لكونهم متوجهين إلى أفضل الجهتين وأقواهما التي هي الجهة العليا وعالم القدس ، وسمى الآخرون أصحاب المشأمة لكونهم أهل الشؤم والنحوسة أو لكونهم متوجهين إلى أرذل الجهتين وأضعفهما التي هي الجهة السفلى وعالم الحسّ.

[١٠ ـ ١٤] (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤))

(وَالسَّابِقُونَ) الموحدون الذين سبقوا الفريقين وجاوزوا العالمين بالفناء في الله (السَّابِقُونَ) أي : الذين لا يمكن مدحهم والزيادة على أوصافهم (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) حال التحقق بالوجود الحقاني بعد الفناء (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) من جميع مراتب الجنان (ثُلَّةٌ) أي : جماعة كثيرة (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي : المحبوبين الذين هم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح ، أهل العناية الأولى في الأزل (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي : المحبين الذين تتأخر مرتبتهم عن مرتبة المحبوبين أهل الصف الثاني ، ووصفوا بالقليل لأن المحب قلما يدركه شأو

٣١٠

المحبوب ويبلغ غايته في الكمال بل أكثرهم في جنات الصفات واقفين في درجات السعداء ، والمحبوبون كلهم في جنة الذات بالغين أقصى الغايات ، ولهذاقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الثنتان جميعا من أمتي» ، أي : ليس الأولون من أمم المتقدمين والآخرون من أمّته عليه‌السلام ، بل العكس أولى أو ثلة من أوائل هذه الأمة الذين شاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدركوا طراوة الوحي في زمانه أو قاربوا زمانه وشاهدوا من صحبه من التابعين ، والآخرون هم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم في آخر دور الدعوة وقرب زمان خروج المهدي عليه‌السلام لا الذين هم في زمانه ، فإن السابقين في زمانه أكثر لكونهم أصحاب القيامة الكبرى وأهل الكشف والظهور.

[١٥ ـ ١٦] (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦))

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي : متواصلة متراصفة من الوجودات الموهوبة الحقانية المخصوصة بكل أحد منهم ، كقوله عليه‌السلام : «على منابر من نور» أو على مراتب الصفات (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها) متظاهرين فيها لكونها من مقاماتهم (مُتَقابِلِينَ) متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلا في عين الوحدة لتحققهم بالذات وتخيرهم في الظهور بأيّ صفة من الصفات شاءوا بجمعهم المحبة الذاتية لا يحتجبون بالصفات عن الذات ولا بالذات عن الصفات.

[١٧] (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧))

(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) تخدمهم قواهم الروحانية الدائمة بدولة ذواتهم أو الأحداث المستعدّون من أهل الإرادة المتصلون بهم بفرط الإرادة ، كما قال : (بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) أو الملكوت السماوية.

[١٨ ـ ٢٤] (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢))

(كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) من خمور الإرادة والمعرفة والمحبة والعشق والذوق ومياه الحكم والعلوم (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : كلها لذّة لا ألم معها ولا خمار لكونهم واصلين واجدين لذة برد اليقين ، شاربين الشراب الكافوري. فإن محبة الوصول خالصة عن ألم الشوق وخوف الفقدان (وَلا يُنْزِفُونَ) لا يذهب تمييزهم وعقلهم بالسكر ولا يطفحون لكونهم أهل الصحو غير محجوبين بالذات عن الصفات فيلحقهم السكر ويغلب عليهم الحال (وَفاكِهَةٍ) من

__________________

(١) سورة الطور ، الآية : ٢١.

٣١١

مواجيدهم وكشفياتهم الذوقية (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) يأخذون خيره لأنهم واجدون جميعها فيختارون أصفاها وأبهاها وأشرفها وأسناها (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من لطائف الحكم ودقائق المعاني المقويّة لهم (وَحُورٌ عِينٌ) من تجليات الصفات ومجردات الجبروت وما في مراتبهم من الأرواح المجرّدة (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ) الرطب في صفائها ونوريتها (الْمَكْنُونِ) في الأصداف أو المخزون لكونها في بطنان الغيب وخزائنه مستورة عن الأغيار من أهل الظاهر (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في حال الاستقامة من الأعمال الإلهية المقصودة لذاتها المقارنة لجزائها ، أو بما كانوا يعملون في حال السلوك من أعمال التزكية والتصفية.

[٢٥ ـ ٢٦] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) هذيانا وكلاما غير مفيد لمعنى لكونهم أهل التحقيق متأدّبين بين يدي الله بآداب الروحانيين (وَلا تَأْثِيماً) من الفواحش التي يؤثم بها صاحبها كالغيبة والكذب وأمثالهما (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) أي : قولا هو سلام في نفسه منزه عن النقائص مبرأ عن الفضول والزوائد ، وقولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص ويوجب سروره وكرامته ويبين كماله وبهجته لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحايا ولطائف على اختلاف وجهي الإعراب.

[٢٧ ـ ٣٤] (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤))

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي : هم شرفاء عظماء كرماء يتعجب من أوصافهم في السعادة (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أي : في جنة النفس المخضودة عن شوك تضادّ القوى والطبائع وتنازع الأهواء والدواعي لتجرّدها عن هيئات صفاتها بنور الروح والقلب أو موقرة بثمار الحسنات والهيئات الصالحات على اختلاف التفسيرين (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي : في جنة القلب لأن الطلح شجرة الموز وثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها كمدركات القلب ومعانيه المجردة عن المواد والهيئات الجرمية بخلاف السدر التي هي شجرة النبق الكثيرة النوى كمدركات النفس الجزئية المقرونة باللواحق المادية والهيئات الجرمية منضود نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه لا ساق بارزة لها لكثرة تكون مدركاته غير متناهية الكثرة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) من نور الروح المروّح (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) أي : علم يرشح عليهم ويسكب من عالم الروح ، وإنما سكب سكبا ولم يجر جريانا لقلّة علوم السعداء بالنسبة إلى أعمالهم ، إذ ثقل علومهم الروحانية من المواجيد والمعارف والتوحيديات والذوقيات وإن كثرت علومهم النافعة (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)

٣١٢

من المدركات الجزئية والكلية اللذيذة كالمحسوسات والمخيلات والموهومات والمعاني الكلية القلبية (لا مَقْطُوعَةٍ) لكونها غير متناهية (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لكونها اختيارية كلما شاؤوا أين شاؤوا وجدوها (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) من فضائل الأخلاق والهيئات النورانية النفسية المكتسبة من الأعمال الحسنة ، رفعت عن مرتبة الهيئات البدنية والجهة السفلية إلى حيز الصدر الذي هو الجهة العليا من النفس المتصلة بالقلب ، أو حور من النسوان أي : الملكوت المتصلة بهم المساوية في المرتبة على اختلاف التفسيرين.

[٣٥ ـ ٤٠] (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩))

(وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) عجيبا نورانيا مجردة عن المواد ، مطهرة عن أدناس الطبائع وألواث العناصر (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) أي : لم تتأثر بملامسة الأمور الطبيعية ومباشرة الطبيعيين الظاهرين من أهل العادة والمخالطين للمادة من النفوس (عُرُباً) متحببة إليهم محبوبة لصفائها وحسن جوهرها ودوام اتصالها بهم (أَتْراباً) لكونها في درجة واحدة متساوية المراتب أزلية الجواهر (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) لأن المحبوبين يدخلون على أصحاب اليمين جناتهم عند التداني والترقي في الدرجات وعند التدلي والرجوع إلى الصفات فيختلطون بهم وينخرطون في سلكهم (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) لأن المحبين أكثرهم أصحاب اليمين واقفون مع الصفات دون محبة الذات وإن فسرنا الأولين والآخرين بأوائل الأمة المحمدية وأواخرها فظاهر لكثرة أصحاب اليمين في أواخرهم أيضا دون السابقين.

[٤١ ـ ٥٦] (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي : هم الذين يتعجب من أحوالهم وصفاتهم في الشقاوة والنحوسة والهوان والخساسة (فِي سَمُومٍ) من الأهواء المردية والهيئات الفاسقة المؤذية (وَحَمِيمٍ) من العلوم الباطلة والعقائد الفاسدة (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) من هيئات النفوس المسودة بالصفات المظلمة والهيئات السود الردئية لأن اليحموم دخان أسود بهيم (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي : ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح ونفع من يأوي إليه بالراحة

٣١٣

بل له إيذاء وإيلام وضرّ بإيصال التعب واللهب والكرب (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) منهمكين في اللذات والشهوات ، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية ، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلّد والعقاب المؤبّد (وَكانُوا يَقُولُونَ) أي : من جملة عقائدهم إنكار البعث (الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) أي : الجاهلون المصرون على جهالاتهم وإنكار ما يخالف عقائدهم الباطلة من الحق (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) أي : من نفس متعبدة اللذات والشهوات ، منغمسة فيها ، منجذبة إلى السفليات من الطبيعيات لتعوّدكم بها وبفوائدها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) ومن ثمراتها الوبية البشعة المحرقة التي هي الهيئات المنافية للكمال الموجبة للوبال (الْبُطُونَ) لشدّة حرصكم ونهمكم وضراوتكم بها لشرهكم وسقمكم (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) من الوهميات الباطلة والشبهات الكاذبة التي هي من باب الجهل المورّط في المهالك والمعاطب ، المسيغ لتلك الأعمال الشيطانية والأعمال البهيمية الظلمانية (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي : التي بها الهيام من الإبل وهو داء لا ريّ معه لشدّة شغفكم وكلبكم بها.

[٥٧ ـ ٧٤] (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) بإفاضة الصورة الإنسانية عليه (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) بإنزال الصور النوعية عليه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أَفَرَأَيْتُمُ) ماء العلم الذي تشربونه بتعطش استعدادكم (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) من مزن العقل الهيولاني (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) بصرفه في تدابير المعاش وترتيب الحياة الدنيا (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ) نار المعاني القدسية (الَّتِي تُورُونَ) بقدح زناد الفكر (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي : القوة الفكرية (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) تذكير للعهد الأزلي في العالم القدسي (وَمَتاعاً) للذين لا زاد لهم في السلوك من العلم والعمل.

٣١٤

[٧٥ ـ ٧٦] (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦))

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي : أوقات اتصال النفس المحمدية المقدّسة بروح القدس وهي أوقات وقوع نجوم القرآن إليه ، فيا لها أوقاتا شريفة واتصالات نورية ، أو مساقط النجوم وهي أوقات غيبته عن الحواس وأفول حواسه في مغرب الجسد عند تعطيلها بانغماس سرّه في الغيب وانخراطه في سلك القدس بل غيبته في الحق واستغراقه في الوحدة (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وأنى يعلمون ، وأين هم وعلم ذلك؟!.

[٧٧ ـ ٨٠] (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي : علم مجموع له كرم وشرف قديم وقدر رفيع (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) هو قلبه المكنون في الغيب عن الحواس وما عدا المقرّبين من الملائكة المطهرين لأن العقل القرآني مودع فيه كما قال عيسى عليه‌السلام : «لا تقولوا العلم في السماء من ينزل به ، ولا في تخوم الأرض من يصعد به ، ولا من وراء البحار من يعبر ويأتي به ، بل العلم مجعول في قلوبكم تأدّبوا بين يدي الله بآداب الروحانيين يظهر عليكم» ، أو الروح الأول الذي هو محل القضاء ومأوى الروح المحمدي ، بل هو هو (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) من الأرواح المجرّدة المطهرة عن دنس الطبائع ولوث تعلق المواد (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) لأن علمه ظهر على المظهر المحمدي فهو منزل منه على مدرجته منجما.

[٨١ ـ ٨٢] (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) متهاونون ولا تبالون به ولا تتصلبون في القيام بحقه وفهم معناه كمن يلين جانبه ويداهن في الأمر تساهلا وتهاونا به (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي : قوتكم القلبي ورزقكم الحقيقي تكذيبه لاحتجابكم بعلومكم وإنكاركم ما ليس من جنسه كإنكار رجل جاهل ما يخالف اعتقاده كأن علمه نفس تكذيبه ، أو رزقكم الصوري أي : لمداومتكم على التكذيب كأنكم تجعلون التكذيب غذاءكم كما تقول للمواظب على الكذب : الكذب غداؤه.

[٨٣ ـ ٨٧] (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) أي : فلولا ترجعون الروح عند بلوغها الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم غير مسوسين مربوبين مقهورين يعني أنكم مجبرون عاجزون تحت قهر

٣١٥

الربوبية وإلا لأمكنكم دفع ما تكرهون أشدّ الكراهية وهو الموت.

[٨٨ ـ ٩٦] (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢))

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من جملة الأصناف الثلاثة فله روح الوصول إلى جنة الذات وريحان جنة الصفات وتجلياتها البهيجة المبهجة وجنة نعيم الأفعال ولذاتها (وَأَمَّا إِنْ كانَ) من السعداء والأبرار فله السرور والحبور بلقاء أصحاب اليمين وتحيتهم إياه بسلامة الفطرة والنجاة من العذاب والبراءة عن نقائص صفات النفوس في جنة الصفات (وَأَمَّا إِنْ كانَ) من الأشقياء والمعاندين للسابقين المنكرين لكمالاتهم المحجوبين بالجهل المركب فلهم عذاب هيئات الاعتقادات الفاسدة وظلمات الجهالات الموحشة من فوق المشار إليه بقوله : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) وعذاب الهيئات البدنية وتبعات سيئاتهم العملية من تحت المشار إليه بقوله : (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا) المذكور من أحوال الفرق الثلاث وعواقبهم (لَهُوَ) حقيّة الأمر وجلية الحال من معاينة أهل القيامة الكبرى المتحققين بالحق في يقينهم وعيانهم ، والله تعالى أعلم.

٣١٦

سورة الحديد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أظهر كل موجود تنزيهه عن الإمكان وقبول الفناء بوجوده الإضافي وثباته (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي الذي يقهرها ويجبرها (الْحَكِيمُ) الذي يرتب كمالاتها وعن العجز بحدوثه وتغيره وعن جميع النقائص بإظهار كمالات كل موجود ونظامها على ترتيب حكمي.

[٣ ـ ٦] (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

(هُوَ الْأَوَّلُ) الذي يبتدئ منه الوجود الإضافي باعتبار إظهاره (وَالْآخِرُ) الذي ينتهي إليه باعتبار إمكانه وانتهاء احتياجه إليه فكل شيء به يوجد وفيه يفنى ، فهو أوله وآخره في حالة واحدة باعتبارين (وَالظَّاهِرُ) في مظاهر الأكوان بصفاته وأفعاله (وَالْباطِنُ) باحتجابه بماهياته وبذاته (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لأن عين ماهيته صورة من صور معلوماته إذ صور الأشياء كلها في اللوح المحفوظ وهو يعلم اللوح مع تلك الصور بعين ماهية اللوح المنقش بتلك الصور فعلمه بها عين علمه بذاته.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من الأيام الإلهية أي : الآلات الستة التي هي من زمان آدم إلى زمان محمد عليهما‌السلام جميع مدّة دور الخفاء ، أي : احتجب بها فظهر الخلق دونه إذ الخلق احتجاب الحق بالأشياء وهذا الزمان زمان الاحتجاب كما ذكر في (الأعراف).

(ثُمَّ اسْتَوى) على عرش القلب المحمدي بالظهور في جميع الصفات غير محتجب

٣١٧

بعضها ببعض ولا الذات بالصفات ولا الصفات بالذات ، بل استوت كلها في الظهور في اليوم السابع أو في صور المراتب الستّ من الجواهر والأعراض المذكورة في (ق) ، ثم استوى على عرش الروح الأعظم بالتأثير في جميع الأشياء في الصورة الرحمانية بالسوية والظهور باسم الرحمن (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) في أرض العالم الجسماني من الصور النوعية لأنها صور معلوماته (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من الأرواح التي تفارقها والصور التي تزايلها عند الفناء والفساد وهي التي تنزل من السماء وتعرج فيها ، أو ما ينزل من سماء الروح من العلوم والأنوار الفائضة على القلب وما يعرج فيها من الكليات المنتزعة من الجزئيات المحسوسة وهيئات الأعمال المزكية (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) لوجودكم به وظهوره في مظاهركم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لسبق علمه به وكونه منقوشا في أربعة ألواح في عالم ملكوته بحضرته يولج ليل الغفلة في نهار الحضور ويولج نهار الحضور في ليل الغفلة ، ويستر الجمال بالجلال ويحجب الجلال بالجمال (وَهُوَ عَلِيمٌ) بما أودع الصدور من أسراره ودقائق الغفلة والحضور وحكمتهما ولطائف التستر والتجلي وفائدتهما لا يعلمها إلا هو.

[٧] (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

(آمِنُوا بِاللهِ) الإيمان اليقيني بتوحيد الأفعال (وَرَسُولِهِ) أي : لا تحتجبوا بأفعال الحق في إيمانكم بتوحيد الأفعال عن أفعال الخلق فتقعوا في الجبر وحرمان الأجر ، بل شاهدوا أفعال الحق بالإيمان به جمعا في مظاهر التفاصيل بحكم الشرع ليحصل لكم التوكل ويسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي هو في أيديكم وجعلكم مستخلفين فيه بتمكينكم وإقداركم على التصرّف فيه بحكم الشرع إذ الأموال كلها لله واختصاص نسبة التصرّف إنما هو بحكمه في شريعته ، (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بشهود الأفعال (وَأَنْفِقُوا) عن مقام التوكل (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) في جنة الأفعال.

[٨] (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨))

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وقد اعتضد السببان الداخلي والخارجي الموجب اجتماعهما للإيمان إيجابا ذاتيا. أما الخارجي فدعوة الرسول الذي هو السبب الفاعلي ، وأما الداخلي فأخذ الميثاق الأزلي وهو الاستعداد الفطري الذي هو السبب القابلي وقوة الاستدلال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالقوة ، أي : إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم.

[٩ ـ ١٢] (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ

٣١٨

بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) من بيان تجليات الأفعال والصفات والذات (لِيُخْرِجَكُمْ) من ظلمات صفاتالنفس والهيئات البدنية المستفادة من الحس إلى تنوّر القلب ومن ظلمات صفات القلب إلى نور الروح ومن ظلمات وجوداتكم وإنباتكم إلى نور الدين ، وهي الظلمات المشار إليها بقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (١) (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) يدفع آفة النقصان عنكم بهبة الاستعداد وتوفيق الهداية إلى إزالة الحجب ببعث الرسول وتعليمه إياكم ، رحيم بإفاضة الكمالات مع حصول القبول بتزكية النفوس وتصفية الاستعدادات.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي : بذلوا أموالهم وأنفسهم قبل الفتح المطلق الذي كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعراج التام والوصول إلى حضرة الوحدة (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) لقوة استعدادهم وشدّة أنوار باطنهم الأصلية عرفوه وألفوه بتشامّ الروح وظهرت عليهم كمالاتهم من غير واسطة تأثيره فيهم وهم الذين غلبت عليهم القوة القدسية التي (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢) ، وأما الذين أنفقوا من بعد فلضعف استعداداتهم وقلّة نوريتها احتاجوا إلى قوة تأثيره فيهم وإخراج كمالاتهم إلى الفعل (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) لحصول اليقين وظهور الكمال كيف كان مع تفاوت الدرجات بما لا تحصى ، إذ الآخرون هم الذين حازوا الكمال الخلقي في مقام النفس الذين أقرضوا الله أموالهم رغبة في الإضعاف من الثواب وكرامة الأجر ، والأوّلون هم السابقون الذين تجرّدوا عنها ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم في طريق الحق فهم المؤمنون الذين (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لكونهم على الصراط المستقيم متوجهين إلى وجه الله بتوحيد الذات ، والمتأخرون هم الذين يسعى نورهم بإيمانهم لكونهم أصحاب اليمين من المؤمنين والمؤمنات الكائنين في مقام القلب واليقين (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ) خطاب لكلا الفريقين مع تغليب السابقين لذكر الجنات الثلاث ، ووصف الفوز بالعظم إذ عظم الفوز إنما هو للفرقة الثالثة ، وأما فوز من

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة النور ، الآية : ٣٥.

٣١٩

دونهم من أصحاب الجنّتين فموصوف بالكبير والكريم.

[١٣ ـ ١٦] (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦))

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) أي : المستعدّون الأقوياء الاستعداد والضعفاء المحجوبون بصفات النفوس وهيئات الأبدان ، المنغمسون في ظلمات الطبائع وغسق الآثام الذين قد بقي فيهم مسكة من نور الفطرة ولم تنظف بالكلية يشتاقون به إلى نور الكمال الحاصل لفريق المؤمنين ويلتمسونه ويطلبونه في حسرات وزفرات عند بروزهم عن حجاب البدن بالموت وظهور الحرمان محبوسين واقفين في حضيض النقصان ، متندّمين عند تبين الخسران والمؤمنون يمرّون كالبرق الخاطف لا يلتفتون إليهم.

(انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) بجنسية الاستعداد وظاهر الإسلام (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الدنيا ومحل الكسب ، فإن النور إنما يكتسب بالآلات البدنية والقوى الجسمانية من الحواس الظاهرة والباطنة بالأعمال الحسنة والعلوم الحقة (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هو البرزخ الهيولاني الذي يحتجبون به على حسب اقتضاء هيئاتهم الظلمانية (لَهُ بابٌ) هو القلب ، إذ لا يطلع من عالم القدس على عالم الرجس إلا من طريق القلب (باطِنُهُ) وهو عالم القدس (فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي : النور والروح والريحان وجنة النعيم من المراتب المذكورة (وَظاهِرُهُ) الذي يلي النفس وهو عالم الرجس ومقرّ تلك النفوس المظلمة من الأشقياء (مِنْ قِبَلِهِ) أي : من جهته (الْعَذابُ) الذي يستحقونه بحسب هيئاتهم وتنوّعها وهذا الباب لا مفتح له من جهة ظاهره الذي إلى الأشقياء بل هو مسدود مغلق لا ينفتح أبدا. وأما من جهة باطنه فكلما شاء أهل الجنة من السابقين انفتح لهم فاطلعوا على أهل النار وتعذّباتهم ويدخلون عليهم فينطفئ لهب النار من نورهم بل يحرق نورهم النار بالنسبة إليهم دون الجهنميين فتقول جهنم : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي.

(أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الفطرة الأولى وعين جمع الصفات (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) ابتليتموها باللذات الحسية والشهوات البدنية والصفات البهيمية والسبعية (وَتَرَبَّصْتُمْ) باستيلاء التخيلات من الآمال والأماني الغالبة بدواعي الحسد والطمع (وَارْتَبْتُمْ) باستيلاء

٣٢٠