تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

وهي السماء الدنيا باعتبار دنوّها من القلب الذي به الإنسان إنسانا في يومين في شهرين آخرين ، فتمّ مدة الحمل ستة أشهر أو مدة خلق الإنسان ، ولهذا إذا ولد بعد تمام الستة على رأس الشهر السابع عاش مستوي الخلق أو في طورين مجرّدة وغير مجرّدة أو حادثين روح وجسد والله أعلم. وأوحى في كل سماء من الطبقات المذكورة أمرها وشأنها المخصوص بها من الأعمال والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات والمواصلات والمناغيات والتجليات. وزيّنا السماء الدّنيا : أي العقل بمصابيح الحجج والبراهين وحفظناها من استراق شياطين الوهم والخيال ، كلام الملأ الأعلى من الروحانيات بالترقي إلى الأفق العقلي واستفادة الصور القياسية لترويج أكاذيبها وتخيلاتها بها.

[٢٠ ـ ٢٩] (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) أي : غيّرت صور أعضائهم وصوّرت أشكالها على هيئة الأعمال التي ارتكبوها ، وبدّلت جلودهم وأبشارهم ، فتنطق بلسان الحال ، وتدل بالأشكال على ما كانوا يعملون. ولنطقها بهذا اللسان قالت : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) إذ لا يخلو شيء ما من النطق ، ولكنّ الغافلين لا يفهمون (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي : قدّرنا لهم أخدانا وأقرانا من شياطين الأنس والجنّ من الوهوم والتخيل لتباعدهم من الملأ الأعلى ، ومخالفتهم بالذات للنفوس القدسية والأنوار الملكوتية بانغماسهم في الموادّ الهيولانية ، واحتجابهم بالصفات النفسانية ، وانجذابهم إلى الأهواء البدنية والشهوات الطبيعية ، فناسبوا النفوس الأرضية الخبيثة ، والكدرة المظلمة ، وخالفوا الجواهر القدسية والذوات المجرّدة ، فجعلت الشياطين أقرانهم وحجبوا عن نور الملكوت (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ما بحضرتهم من اللذات البهيمية والسبعية والشهوات الطبيعية (وَما خَلْفَهُمْ)

٢٢١

من الآمال والأماني التي لا يدركونها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) في القضاء الإلهيّ بالشقاء الأبديّ كائنين (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ) المكذبين بالأنبياء والمحجوبين عن الحق من الباطنيين والظاهريين (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لخسرانهم نور الاستعداد الأصلي ، وربح الكمال الكسبي ، ووقوعهم في الهلاك الأبديّ والعذاب السرمديّ.

(رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) أي : حنق المحجوبون واغتاظوا على من أضلّهم من الفريقين عند وقوع العذاب وتمنوا أن يكونوا في أشدّ من عذابهم وأسفل من دركاتهم لما لقوا من الهوان وألم النيران وعذاب الحرمان والخسران بسببهم وأرادوا أن يشفوا صدورهم برؤيتهم في أسوأ أحوالهم وأنزل مراتبهم ، كما ترى من وقع في البليّة بسبب رفيق أشار إليه بما أوقعه فيها يتجرّد عليه ويتغيظ ويكاد أن يقع فيه مع غيبته ويتحرّق.

[٣٠] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : وحدوه بنفي غيره وعرفوه بالإيقان حق معرفته (ثُمَّ اسْتَقامُوا) إليه بالسلوك في طريقه والثبات على صراطه مخلصين لأعمالهم عاملين لوجهه ، غير ملتفتين بها إلى غيره (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي والإيمان اليقيني والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه ، غير ناكثين في عزيمة ولا منحرفين عن وجهه ولا زائغين في عمل كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة فتنزّلت عليهم (أَلَّا تَخافُوا) من العقاب لتنوّر ذواتكم بالأنور وتجرّدها عن غواسق الهيئات (وَلا تَحْزَنُوا) بفوات كمالاتكم التي اقتضاها استعدادكم (وَأَبْشِرُوا) بجنّة الصفات (الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) حال الإيمان بالغيب أو قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) بالفناء فيه ثم استقاموا به بالبقاء بعد الفناء عند التمكين (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) للتعظيم عند الرجوع إلى التفصيل ، إذ في حال الفناء لا وجود للملائكة ولا لغيرهم ، ألّا تخافوا من التلوين ولا تحزنوا على الاستغراق في التوحيد ، فإن أهل الوحدة إذا ردّوا إلى التفصيل ورؤية الكثرة غلب عليهم الحزن والوجد في أول الوهلة لفوات الشهود الذاتي في عين الجمع والاحتجاب بالتفصيل حتى يتمكنوا في التحقق بالحق حال البقاء وانشراح الصدر بنور الحق فلا تحجبهم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة ، شاهدين في تفاصيل الصفات عين الذات بالذات ، كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام في هذه الحال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣)) (١) وأبشروا بجنّة الذات

__________________

(١) سورة الشرح ، الآيات : ١ ـ ٣.

٢٢٢

الشاملة لجميع مراتب الجنان التي كنتم توعدونها في مقام تجلّيات الصفات.

[٣١ ـ ٣٣] (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣))

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) وأحباؤكم في الدارين للمناسبة الوصفية والجنسية الأصلية بيننا وبينكم ، كما أن الشياطين أولياء المحجوبين لما بينهم من الجنسية والمشاركة في الظلمة والكدورة (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) من المشاهدات والتجليات والروح والريحان والنعيم المقيم أي : إذا بلغتم الكمال الذي هو مقتضى استعدادكم فلا شوق لكم إلى ما غاب عنكم ، بل كل ما تشتهون وتتمنون فهو مع الاشتهاء والتمني حاضر لكم في الجنان الثلاث (نُزُلاً) معدّا لكم (مِنْ غَفُورٍ) ستر لكم بنوره ذنوب آثاركم وأفعالكم وصفاتكم وذواتكم (رَحِيمٍ) رحمكم بتجليّات أفعاله وصفاته وذاته وإبدالكم بها إياها (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) أي : حالا إذ كثيرا ما يستعمل القول بمعنى الفعل والحال منه ، قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) أي : جعلوا دينهم التوحيد ، ومنهالحديث : «هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا ...» أي : أعطى. (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : ممن أسلم وجهه إلى الله في التوحيد وعمل بالاستقامة والتمكين ، ودعا الخلق إلى الحق للتكميل ، فقدّم الدعوة إلى الحق والتكميل لكونه أشرف المراتب ولاستلزامه الكمال العلمي والعملي ، وإلا لما صحت الدعوة وإن صحت ما كانت إلى الله ، أي : إلى ذاته الموصوفة بجميع الصفات ، فإن العالم الغير العامل إن دعا كانت دعوته إلى العليم ، والعامل الغير العالم إلى الغفور الرحيم ، والعالم العامل العارف الكامل صحّت دعوته إلى الله.

[٣٤ ـ ٣٥] (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥))

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) لكون الأولى من مقام القلب تجرّ صاحبها إلى الجنّة ومصاحبة الملائكة ، والثانية من مقام النفس تجرّ صاحبها إلى النار ومقارنة الشياطين (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إذا أمكنك دفع السيئة من عدوّك بالحسنة التي هي أحسن ، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها ، فكيف بالسيئة؟! ، فإن السيئة لا تندفع بالسيئة بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب ، فإن قابلتها بمثلها كنت منحطا إلى مقام النفس ، متّبعا للشيطان ، سالكا طريق النار ، ملقيا لصاحبك في الأوزار وجاعلا له ولنفسك من جملة الأشرار ، متسببا لازدياد الشرّ معرضا

٢٢٣

عن الخير. وإن دفعتها بالحسنة سكنت شرارته وأزلت عداوته وتثبت في مقام القلب على الخير ، وهديت إلى الجنة وطردت الشيطان ، وأرضيت الرحمن وانخرطت في سلك الملكوت ومحوت ذنب صاحبك بالندامة. وإن دفعتها بالتي هي أحسن ناسبت الحضرة الرحيمية بالرحموت وصرت باتصافك بصفاته تعالى من أهل الجبروت وأفضت من ذاتك فيض الرحمة على صاحبك فصار (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ولأمر ماقال النبي عليه‌السلام : «لو جاز أن يظهر البارئ لظهر بصورة الحلم» ، ولا يلقى هذه الخصلة الشريفة والفضيلة العظيمة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) مع الله ، فلم يتغيروا بزلّة الأعداء لرؤيتهم منه تعالى وتوكلهم عليه واتّصافهم بحلمه أو طاعتهم لأمره (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الله بالتخلّق بأخلاقه.

[٣٦] (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ينخسنك نخس بالمقابلة بالسيئة وداعية بالانتقام وهيجان من غضبك (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) بالرجوع إلى جنابه واللجوء إلى حضرته من شرّه ووسوسته ونزغه بالبراءة عن أفعالك وصفاتك والفناء فيه عن حولك وقوّتك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما هجس ببالك من أحاديث نفسك وأقوالك (الْعَلِيمُ) بنياتك وما بطن من أحوالك.

[٣٧ ـ ٣٩] (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

(وَمِنْ آياتِهِ) ليل ظلمة النفس بظهور صفاتها الساترة للنور لتقعوا في السيئات وتستعدّوا لقبول الوساوس الشيطانية ونهار نور الروح بإشراق أشعتها من القلب إلى النفس ، فتباشروا الحسنات وتدفعوا السيئات بها وتمتنعوا عن قبول الوساوس وتتعرّضوا للنفحات وشمس الروح وقمر القلب (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) بالفناء فيه والوقوف معه والاحتجاب به عن الحق (وَلا لِلْقَمَرِ) بالوقوف مع الفضائل والكمالات والنبوّ إلى جنّة الصفات (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) بالفناء في الذات (إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، مخصصين العبودية به دون غيره لا مشركين ولا محجوبين (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن الفناء فيه بظهور الأنانية والطغيان والاستعلاء بصفات النفس والعدوان (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ) بالتجريد والتنزيه عن حجب ذواتهم وصفاتهم دائما بليل الاستتار في مقام التفصيل ونهار التجلي في مقام الجمع (لا يَسْأَمُونَ) لكونهم قائمين بالله ذاكرين بالمحبة الذاتية.

[٤٠ ـ ٤٣] (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ

٢٢٤

مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣))

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي : يميلون ويزيغون فيها من طريق الحق إلى الباطل فينسبونها إلى غير الحق لاحتجابهم عنه ويتلونها بأنفسهم فيفهمون منها ما يناسب صفاتهم (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) وإن خفينا عنهم (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) منيع محميّ عن أن يمسّه ويفهمه النفوس الخبيثة المحجوبة فتغيره ويطلع عليه المبطلة فتبطله لبعده عن مبالغ عقولهم وما اعتقدوه من باطلهم إذ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ) جهة من الجهات لا من جهة الحق فيبطله بما هو أبلغ منه وأشدّ إحكاما في كونه حقا وصدقا ولا من جهة الخلق فيبطلونه بالإلحاد في تأويله ويغيّرونه بالتحريف لكونه ثابتا في اللوح محفوظا من جهة الحق ، كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) (١).

[٤٤ ـ ٥٢] (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي : هو للمؤمنين بالغيب هداية تهديهم إلى الحق وتبصرهم بالمعرفة وشفاء يزيل أمراض قلوبهم من الرذائل كالنفاق والشك أي : تبصرهم بطريق النظر والعمل فتعلمهم وتزكّيهم (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من المحجوبين لا يسمعونه ولا يفهمونه بل يشتبه عليهم ويلتبس لاستيلاء الغفلة عليهم وسدّ الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية طرق

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٩.

٢٢٥

أسماع قلوبهم وأبصارها فلا ينفذ فيها ولا يتنبهوا بها ولا يتيقظوا كالذي ينادي من مكان بعيد لبعدهم عن منبع النور الذي يدرك به الحق ويرى ، وانهماكهم في ظلمات الهيولى.

[٥٣] (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣))

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي : نوفقهم للنظر في تصاريفنا للممكنات وأحوالها (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ) بطريق الاستدلال واليقين البرهاني (أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) للذين شاهدوه من أهل العيان (أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر مطلع ، أي : لم يكف شهوده على مظاهر الأشياء في معرفته وكونه الحق الثابت دون غيره حتى تحتاج إلى الاستدلال بأفعاله أو التوسل بتجليات صفاته وهذا هو حال المحبوب المكاشف بالجذب قبل السلوك ، والأول حال المحبّ السالك المجاهد لطلب الوصول.

[٥٤] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) لاحتجابهم بالكون عن المكوّن والمخلوق عن الخالق (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) لا يخرج عن إحاطته شيء وإلا لم يوجد ، إذ حقيقة كل شيء عين علمه تعالى ووجوده به ، وعلمه عين ذاته وذاته عين وجوده ، فلا يخرج شيء عن إحاطته إذ لا وجود لغيره ولا عين ولا ذات (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) (٢).

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨٨.

(٢) سورة الرحمن ، الآيات : ٢٦ ـ ٢٧.

٢٢٦

سورة حم عسق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣))

(حم* عسق) أي : الحق ظهر بمحمد ظهور علمه بسلامة قلبه ، فالحق محمد ظاهرا وباطنا ، والعلم سلامة قلبه عن النقص والآفة أي : كماله وبروزه عن الحجاب إذ تجرّد القلب ظهور العلم (كَذلِكَ) مثل ذلك الظهور على مظهرك وظهور علمه على قلبك (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) من الأنبياء (اللهُ) الموصوف بجميع صفاته (الْعَزِيزُ) المتمنع بسرادقات جلاله وستور صفاته (الْحَكِيمُ) الذي يظهر كماله بحسب الاستعدادات ويهدي بالوسائط والمظاهر جميع العباد على وفق قبول الاستعداد.

[٤ ـ ٧] (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلها مظاهر صفاته وصور مملكته ومحالّ أفعاله (وَهُوَ الْعَلِيُ) عن التقيّد بصورها والتعين بأعيانها (الْعَظِيمُ) الذي تضاءلت وتصغّرت في سلطانه وتلاشت وتفانت في عظمته (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) لتأثرهنّ من تجليات عظمته ويتلاشين من علوّ قهره وسلطنته (وَالْمَلائِكَةُ) من العقول المجرّدة والنفوس المدّبرة (يُسَبِّحُونَ) ذاته بتجرّد ذواتهم حامدين له بكمالات صفاتهم (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) بإفاضة الأنوار على أعيانهم ووجوداتهم بعد استفاضتهم إياها من الحضرة الأحدية (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ) بستر ظلمات ذوات الكل من الملائكة والناس بنور ذاته (الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمالات بتجليات صفاته على وجوداتهم لا غيره.

[٨ ـ ١٢] (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ

٢٢٧

شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) كلهم على الفطرة موحدين بناء على القدرة ولكن بنى أمره على الحكمة فجعل بعضهم موحدين عادلين وبعضهم مشركين ظالمين كما قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١) لتتميز المراتب وتتحقق السعادة والشقاوة وتمتلئ الدنيا والآخرة والجنة والنار ويحصل لكل أهل ويستتب النظام ويحدث الانتظام (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) لا ولاية لهم في الحقيقة إذ لا قدرة ولا قوة ولا وجود (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) دون غيره لتوليه كل شيء وسلطانه وحكمه (وَهُوَ) المحيي القادر ، فكيف تستقيم ولاية غيره (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) بفناء الأفعال ، فلا أقابل أفعالكم بفعلي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) بفناء صفاتي ، فلا أظهر بصفة من صفاتي في مقابلة صفات نفوسكم.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : كل الأشياء فانية فيه هالكة ، فلا شيء يماثله في الشيئية والوجود (وَهُوَ السَّمِيعُ) الذي يسمع به كل من يسمع (الْبَصِيرُ) الذي يبصر به كل من يبصر جمعا وتفصيلا يفني الكل بذاته ويبدئهم بصفاته ، بيده مفاتيح الأرزاق وخزائن الملك والملكوت ، يبسط ويقدّر بمقتضى علمه على من يشاء من خلقه بحسب مصالحهم في الغنى والفقر.

[١٣ ـ ١٤] (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) المطلق الذي وصى جميع الأنبياء بإقامته واجتماعهم عليه وعدم تفرّقهم فيه ، وهو أصل الدين ، أي : التوحيد والعدل وعلم المعاد المعبّر عنه بالإيمان بالله واليوم الآخر دون فروع الشرائع التي اختلفوا فيها بحسب المصالح كأوضاع الطاعات والعبادات والمعاملات ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (٢) ، فالدين القيم

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١٨.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤٨.

٢٢٨

هو المتعلق بما لا يتغير من العلوم والأعمال ، والشريعة هي المتعلقة بما يتغير من القواعد والأوضاع (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ) المحجوبين عن الحق بالغير (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من التوحيد لكونهم أهل المقت ومظاهر الغضب والقهر ، ليسوا من المحجوبين الذين اجتباهم الله بمحض عنايته ومجرد مشيئته ولا من المحبين الذين وفّقهم الله للإنابة إليه بالسلوك والاجتهاد والسير فيه بالشوق والافتقار ، فهداهم إليه بنور وجهه وجمال ذاته ، فجذب المحبوبين إليه قبل السلوك والرياضة بسابقة الاجتباء ، وخصّ المحبين بعد التوفيق بالسلوك فيه والرياضة بالاصطفاء وطرد المحجوبين عن بابه وأبعدهم عن جنابه بسابقة كلمة القضاء عليهم بالشقاء.

[١٥] (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))

(فَلِذلِكَ) التفرّق في الدين (فَادْعُ) إلى التوحيد (وَاسْتَقِمْ) في التحقق بالله والتعبّد حق العبودية وأنت على التمكين ولا تظهر نفسك بصفة عند إنكارهم واستمالتهم إياك في موافقتهم (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) المتفرّقة بالتلوين فيضلك عنالتوحيد.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي : اطلعت على كمالات جميع الأنبياء وجمعت في علومهم ومقاماتهم وصفاتهم وأخلاقهم ، فكمل توحيدي وصرت حبيبا لكمال محبتي ، ورسخت في نفسي ، فتمت عدالتي وهذا معنى قوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) هو التثبيت في مقام التوحيد والتحقيق (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) صورة الاستقامة والتمكين في العدالة (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) كمال المحبة والصفاء لاقتضاء مقام التوحيد النظر إليهم بالسواء (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) في القيامة الكبرى والفناء (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) في العاقبة للجزاء.

[١٦] (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) لاحتجابهم بنفوسهم (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) بالاستسلام والانقياد لدينه وقبول التوحيد بسلامة الفطرة (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) لكونها ناشئة من عند أنفسهم لا أصل لها عند الله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) لاستحقاقهم لذلك بظهور غضبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لحرمانهم.

[١٧ ـ ١٨] (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

٢٢٩

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : العلم التوحيدي بالمحبة التي اقتضت استحقاقه لذلك فكان حقا له (وَالْمِيزانَ) أي : العدل ، وإذا حصل العلم والتوحيد في الروح والمحبة في القلب والعدل في النفس قرب الفناء في الله ووقوع القيامة الكبرى.

[١٩] (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يلطف بهم في تدبير إيصال كمالاتهم إليه وتهيئة أسبابه وتوفيقهم للأعمال المقرّبة لهم إليها (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) العلم الوافر بحسب عنايته به في هيئة استعداده له ، (وَهُوَ الْقَوِيُ) القاهر (الْعَزِيزُ) الغالب ، يمنع من يشاء بمقتضى عدله وحكمته ولكل أحد نصيب من اللطف والقهر لا يخلو أحد منهما وإنما تتفاوت الأنصباء بحسب الاستعدادات والأسباب والأعمال والأحوال.

[٢٠ ـ ٢٢] (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) بقوة إرادته وشدّة طلبه لزيادة نصيب اللطف وتوجهه وإقباله إلى الحق لحيازة القرب (نَزِدْ لَهُ) في نصيبه ، فنصلح حال آخرته ودنياه لأن الدنيا تحت الآخرة وظلها ومثالها وصورتها تتبعها (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) وأقبل بهواه إلى جهة السفل وتعلق همّه بزيادة نصيب القهر وبعد عن الحق (نُؤْتِهِ مِنْها) ما هو نصيبه وما قسم له وقدر لا مزيد عليه (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) لإعراضه عنها وعقد همّه بالأدون ووقوفه معه وجعله حجابا للاشراف وإدباره عن النصيب الأوفر ، فلا يتهيأ لقبوله ولا يستعد لحصوله إذ الأصل لا يتبع الفرع.

[٢٣ ـ ٣٦] (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)

٢٣٠

وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦))

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) استثناء منقطع وفي القربى متعلق بمقدر أي : المودة الكائنة في القربى. ومعناه : نفي الأجر أصلا لأن ثمرة مودّة أهل قرابته عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم ، إذ المودة تقتضي المناسبة الروحانية المستلزمة لاجتماعهم في الحشر ، كماقال عليه الصلاة والسلام : «المرء يحشر مع من أحبّ» فلا تصلح أن تكون أجرا له ولا يمكن من تكدّرت روحه وبعدت عنهم مرتبته محبتهم بالحقيقة ، ولا يمكن من تنوّرت روحه وعرف الله وأحبه من أهل التوحيد أن لا يحبهم لكونهم أهل بيت النبوّة ومعادن الولاية والفتوة محبوبين في العناية الأولى ، مربوبين للمحل الأعلى فلا يحبهم إلا من يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ولو لم يكونوا محبوبين من الله في البداية لما أحبّهم رسول الله إذ محبته عين محبته تعالى في صورة التفصيل بعد كونه في عين الجمع وهم الأربعة المذكورون في الحديث الآتي بعد ، ألا ترى أن له أولادا آخرين وذوي قرابات في مراتبهم كثيرين لم يذكرهم ولم يحرض الأمّة على محبتهم تحريضهم على محبة هؤلاء وخص هؤلاء بالذكر.

روي أنها لما نزلت قيل : يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟قال : «عليّ وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما». ثم لما كانت القرابة تقتضي المناسبة المزاجية المقتضية للجنسية الروحانية كان أولادهم السالكون لسبيلهم ، التابعون لهديهم في حكمهم ، ولهذا حرّض على الإحسان إليهم ومحبتهم مطلقا ونهى عن ظلمهم وإيذائهم ووعد على الأول ونهى عن الثاني. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرّمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع ضيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة». وقال عليه‌السلام : «من مات على حبّ آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيدا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب محمد وآل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حب آل محمد

٢٣١

فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنة».

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) بمحبة آل الرسول (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) بمتابعته لهم في طريقتهم لأن تلك المحبة لا تكون إلا لصفاء الاستعداد وبقاء الفطرة ، وذلك يوجب التوفيق لحسن المتابعة وقبول الهداية إلى مقام المشاهدة ، فيصير صاحبها من أهل الولاية ويحشر معهم في القيامة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) بتنويره ظلمة صفات من أحبّ أهله (شَكُورٌ) لسعي من ناسبهم فيحبهم بتضعيف جزاء حسناته وإفاضة كمالاته بتجليات صفاته ليوافقهم (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي : لا يفتري على الله إلا من هو مختوم القلب مثلهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) كلام مبتدأ ، أي : ومن عادة الله أن يمحو الباطل (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وقضائه إن كان افتراء يمحه ويثبت نقيضه وإن كان الافتراء ما يقولون فكذلك (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) لكونه أشرف وأدوم (لِلَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني ولا يتوكلون إلا على ربّهم بفناء الأفعال أي الذين علمهم اليقين وعملهم التوكل بالانسلاخ عن أفعالهم.

[٣٧ ـ ٥٠] (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

٢٣٢

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) التي هي وجوداتهم وهو أخسّ صفات نفوسهم التي تظهر بأفعالها في مقام المحو (وَإِذا ما غَضِبُوا) في تلويناتهم (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : الأخصاء بالمغفرة دون غيرهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) بلسان الفطرة الصافية إذا دعاهم إلى التوحيد بتجلي نور الوحدة (وَأَقامُوا) صلاة المشاهدة ولم يحتجبوا بآرائهم وعقولهم بل (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) لعلمهم أن لله مع كل أحد شأنا وإليه نظرا وفيه سرّا ليس لغيره ذلك الشأن والنظر والسرّ (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) بالتكميل (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) بالعدالة احترازا عن الذلّة والانظلام لكونهم في مقام الاستقامة ، قائمين بالحق والعدل الذي ظله في نفوسهم.

[٥١ ـ ٥٢] (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢))

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي : إلا بثلاثة أوجه ، إما بوصوله إلى مقام الوحدة والفناء فيه ثم التحقق بوجوده في مقام البقاء فيوحي إليه بلا واسطة كما قال الله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)) (١). (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بكونه في حجاب القلب ومقام تجليات الصفات فيكلمه على سبيل المناجاة والمكالمة والمكاشفة والمحادثة دون الرؤية لاحتجابه بحجاب الصفات كما كان حال موسى عليه‌السلام (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) من الملائكة فيوحي إليه على سبيل الإلقاء والنفث في الروع والإلهام أو الهتاف أو المنام كماقال عليه‌السلام : «إنّ روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» ، (إِنَّهُ عَلِيٌ) أن يواجه ويخاطب ، بل يفنى ويتلاشى من يواجهه لعلوه من أن يبقى معه غيره ويحتمل شيء حضوره (حَكِيمٌ) يدبّر بالحكمة وجوه التكليم ليظهر علمه في تفاصيل المظاهر ويكمل به عباده ويهتدوا إليه ويعرفوه.

ومثل ذلك الإيحاء على الطرق الثلاثة : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً) تحيا به القلوب الميتة (مِنْ) عالم (أَمْرِنا) المنزّه عن الزمان المقدّس عن المكان (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) أي العقل الفرقاني الذي هو كمالك الخاص بك (وَلَا الْإِيمانُ) أي : الخفي الذي حصل لك عند البقاء بعد الفناء حال كونك محجوبا بغواشي نشأتك وحال وصولك لفنائك وتلاشي وجودك (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) عند استقامتك (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) المخصوصين بالعناية الأزلية ، إما المحبوبين وإما المحبين (وَإِنَّكَ) أيّها الحبيب (لَتَهْدِي) بنا من تشاء (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٨ ـ ١٠.

٢٣٣

لا يبلغ كنهه ولا يدرى وصفه.

[٥٣] (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

(صِراطِ اللهِ) المخصوص به ، أي : طريق التوحيدي الذاتي الشامل للتوحيد الصفاتي والأفعالي المسمى توحيد الملك ، أعني سير الذات الأحدية مع جميع الصفات الظاهرة والباطنة بمالكية سموات الأوراح وأرض الجسم المطلق (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) بالفناء فيه ، فينادي بذاته : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) (١) ويجيب هو نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢) ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١ ـ ٢) سورة غافر ، الآية : ١٦.

٢٣٤

سورة الزخرف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)) أقسم بأول الوجود وهو الحق وآخره وهو محمد وما أجل قسما بما هو أصل الكل وكماله ، ولهذا كانت الشهادة بهما أساس الإسلام وعماد الإيمان والجمع بينهما هو المذهب الحق والملّة القويمة. فإنّ أحدية الوجود والتأثير هو الجبر وإثبات التفصيل في الوجود والتأثير هو القدر ، والجمع بينهما بقولنا : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، هو الصراط المستقيم ، والدّين المتين. أو بما يناسب الكتاب وهو اللوح والقلم لقوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١)) (١) وقد يكنى عن الكلمة بآخرها كما يكنى عنها بأولها. فعلى الوجه الأول يمكن أن يؤوّل الكتاب بنفس محمد لكونه مبينا للحق جمعا وتفصيلا وكونه منزّلا من عند الله (قُرْآناً) أي : جامعا لجميع تفاصيل الوجود ، حاصرا للصفات الإلهية والمراتب الوجودية والكمالية (عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ما نخاطبكم به.

[٤] (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤))

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي : أصل الوجود في الرتبة الأولى وأول نقطة الوجود الإضافي الممتاز بالتعين الأول عن الوجود المطلق التالي للهوية المحضة المشار إليه بقوله : (لَدَيْنا لَعَلِيٌ) رفيع القدر بحيث لا رفعة وراءها (حَكِيمٌ) ذو الحكمة إذ به ظهرت صور الأشياء وحقائقها أعيانها وصفاتها وترتيب الموجودات ونظامها على ما هي عليه. وأما على الوجه الثاني فلا يستقيم هذا التأويل ، بل هو القرآن المبين للتوحيد والتفصيل الدال عليهما ، المقسم به إجمالا وإنه في أمّ الكتاب أي : الروح الأعظم المشتمل على كل العلوم بل كل الأشياء لدينا قريبا منا أقرب من سائر العلوم الحاصلة في مراتب التنزلات. فإن العلم اللدني هو الذي انتقش في الروح الذي هو أول الأرواح قبل تنزّله في المراتب ، وكون القرآن ذا الحكمة كونه مشتملا على الحكمة النظرية المفيدة للاعتقادات الحقّة من التوحيد والنبوّة وبيان أحوال المعاد وأمثالها ، فالحكمة العملية من بيان أحكام أفعال المكلفين كالشرائع وكيفية السلوك في المراتب وأحوال المكاسب والمواهب.

__________________

(١) سورة القلم ، الآية : ١.

٢٣٥

[٥ ـ ١٤] (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي : أنهملكم ونصرف الذكر عنكم لإسرافكم وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف ، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير بل التذكير يجب عند الإفراط والتفريط ، ولهذا بعث الأنبياء في زمان الفترة. قال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) (١).

[١٥ ـ ١٩] (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي : اعترفوا بأنه خالق السموات والأرض ومبدعهما وفاطرهما وقد جسموه وجزءوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع لكونهم ظاهريين جسمانيين لا يتجاوزون عن رتبة الحسّ والخيال ولا يتجرّدون عن ملابس الجسمانيات ، فيدركون الحقائق المجردة والذوات المقدّسة فضلا عن ذوات الله تعالى ، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئا جسمانيا ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد ، إذ لا يتعدّى إدراكهم الحياة الدنيا وعقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش فلا مناسبة أصلا بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية ، فلا حاجة إلى ما وراءها. ولما سمعوا من أسلافهم قول الأوائل من الحكماء في إثبات النفوس الملكية وتأنيثهم إياها إما باعتبار اللفظ ، وإما باعتبار تأثرها وانفعالها عن الأرواح المقدسة العقلية مع وصفهم إياها بالقرب من الحضرة الإلهية توهموا أنوثتها في الحقيقة التي هي بإزاء الذكورة في الحيوان مع اختصاصها بالله فجعلوها بنات ، وقلما يعتقدها العامي إلا صور إنسية لطيفة في غاية الحسن.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٣.

٢٣٦

[٢٠ ـ ٣٠] (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠))

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى افترضوه وجعلوه ذريعة في الإنكار ، وقالوا ذلك لا عن علم وإيقان بل على سبيل العناد والإفحام ، ولهذا ردّهم الله تعالى بقوله : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين لا ينسبون التأثير إلا إلى الله فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره إذ لا يرون حينئذ لغيره نفعا ولا ضرا (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل حين عظموهم وخافوهم وخوّفوا أنبياءهم من بطشهم كما قال قوم هود : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (١) ، ولما خوّفوا إبراهيم عليه‌السلام كيدهم أجاب بقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) (٢) إلى قوله : (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) (٣).

[٣١ ـ ٣٥] (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ) إلى آخره ، لما لم يكونوا أهل معنى ولا حظ لهم إلا من الصورة لم يتصوروا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا يعظمونه به إذ لا مال له ولا حشمة ولا جاه عندهم ، وعظم في أعينهم الوليد بن المغيرة وأضرابه كأبي مسعود الثقفي وغيره لمكان حشمتهم ومالهم وخدمهم ، فاستخفوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : لا يناسب حاله اصطفاء الله إياه

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٥٤.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٨٠.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٨١.

٢٣٧

وكرامته عنده ، ولو كان هذا القرآن من عند الله لاختار له رجلا عظيما كالوليد وأبي مسعود فأنزل عليه لتناسب حاله عظمة الله ، فردّهم الله لأنهم ليسوا بقاسمي رحمة الدين والهداية التي لا حظ لهم منها ولا معرفة لهم بها ، بل ليسوا بقاسمي ما هم يعرفونه ويتصرّفون فيه من المعيشة والحطام الدنيوي الذي يتهالكون على كسبه ولا يقصدون إلا إيّاه ، فكيف بما لم يشموا عرفه ولم يعرفوا حاله.

[٣٦] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) قرئ : يعش بضم الشين وفتحها ، والفرق أن عشا يستعمل إذا نظر نظر العشي لعارض أو متعمدا من غير آفة في بصره ، وعشي إذا أيف بصره. فعلى الأول معناه : ومن كان له استعداد صاف وفطرة سليمة الإدراك ذكر الرّحمن أي : القرآن النازل من عنده وفهم معناه وعلم كونه حقا فتعامى عنه لغرض دنيوي وبغى وحسد أو لم يفهمه ولم يعلم حقيقته لاحتجابه بالغواشي الطبيعية واشتغاله باللذات الحسيّة عنه ، أو لاغتراره بدينه وما هو عليه من اعتقاده ومذهبه الباطل نقيض له شيطانا جنيّا فيغويه بالتسويل والتزيين لما انهمك فيه من اللذات وحرص عليه من الزخارف أو بالشبه والأباطيل المغوية لما اعتكف عليه بهواه من دينه ، أو إنسيا يغويه ويشاركه في أمره ويجانسه في طريقه ويبعده عن الحق. وعلى الثاني معناه : ومن أيف استعداده في الأصل وشقي في الأزل بعمى القلب عن إدراك حقائق الذكر وقصر عن فهم معناه نقيض له شيطانا من نفسه أو من جنسه يقارنه في ضلالته وغوايته.

[٣٧ ـ ٣٨] (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨))

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) وإنّ الشياطين يصدّون قرناءهم عن طريق الوحدة وسبيل الحق (وَيَحْسَبُونَ) الهداية فيما هم عليه (حَتَّى إِذا جاءَنا) أي : حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق وزين له ما وقع بسببه في العذاب واستوحش من قرينه واستذمه لعدم الوصلة الطبيعية أو انقطاع الأسباب بينهما بفساد الآلات البدنية.

[٣٩ ـ ٦٥] (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا

٢٣٨

أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥))

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ) التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذ ثبت وصح ظلمكم لاشتراككم في سببه ، أو : ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدّته وإيلامه (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي : أنّ عيسى عليه‌السلام مما يعلم به القيامة الكبرى وذلك أن نزوله من أشراط الساعة. قيلفي الحديث : «ينزل على ثنية من الأرض المقدسة اسمها أفيق وبيده حربة يقتل بها الدجال ويكسر الصليب ويهدم البيع والكنائس ويدخل بيت المقدس والناس في صلاة الصبح ، فيتأخر الإمام فيقدّمه عيسى عليه‌السلام ويصلي خلفه على دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم». فالثنية المسماة أفيق إشارة إلى مظهره الذي يتجسد فيه ، والأرض المقدسة إلى المادة الطاهرة التي يتكون منها جسده ، والحربة إشارة إلى صورة القدرة والشوكة التي تظهر فيها. وقتل الدجال بها إشارة إلى غلبته على المتغلب المضلّ الذي يخرج هو في زمانه. وكسر الصليب وهدم البيع والكنائس إشارة إلى رفعه للأديان المختلفة. ودخوله بيت المقدس إشارة إلى وصوله إلى مقام الولاية الذاتية في الحضرة الإلهية الذي هو مقام القطب. وكون الناس في صلاة الصبح إشارة إلى اتفاق المحمديين على الاستقامة في التوحيد عند طلوع صبح يوم القيامة الكبرى بظهور نور شمس الوحدة. وتأخر الإمام إشارة إلى شعور القائم بالدين المحمدي في وقته بتقدّمه على الكل في الرتبة لمكان قطبيته وتقديم عيسى عليه‌السلام إياه واقتداؤه به على

٢٣٩

الشريعة المحمدية إشارة إلى متابعته للملّة المصطفوية وعدم تغييره للشرائع وإن كان يعلمهم التوحيد العياني ويعرفهم أحوال القيامة الكبرى وطلوع الوجه الباقي ، هذا إذا كان المهدي عيسى بن مريم على ماروي في الحديث : «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» ، وإن كان المهدي غيره فدخوله بيت المقدس وصوله إلى محل المشاهدة دون مقام القطب والإمام الذي يتأخر هو المهدي ، وإنما يتأخر مع كونه قطب الوقت مراعاة لأدب صاحب الولاية مع صاحب النبوة ، وتقديم عيسى عليه‌السلام إياه لعلمه بتقدمه في نفس الأمر لمكان قطبيته وصلاته خلفه على الشريعة المحمدية اقتداؤه به تحقيقا للاستفاضة منه ظاهرا وباطنا والله أعلم.

وإنما قال : (وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) لأن الطريقة المحمدية هي صراط الله لكونه باقيا به بعد الفناء فدينه دين الله وصراطه صراط الله واتباعه اتباع الله ، فلا فرق بين قوله : (وَاتَّبِعُونِ) ، وقوله : واتبعوا رسولي. ولهذا كان متابعته تورث محبة الله إذ طريقه هي طريق الوحدة الحقيقية التي لا استقامة إلا لها ولهذا لم يسع عيسى إلا اتباعه عند الوصول إلى الوحدة وارتفاع الاثينية يوجب المحبة الحقيقية.

[٦٦ ـ ٧٦] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦))

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) أي : ظهور المهدي دفعة وهم غافلون عنه (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الخلة ، إما أن تكون خيرية أو لا ، والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ، والغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقلي. والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل لقربها من الحضرة الأحدية وتساويها في الحضرة الواحدية التي قال فيها : فما تعارف منها ائتلف ، فهم إذا برزوا في هذه النشأة واشتاقوا إلى أوطانهم في القرب وتوجهوا إلى الحق وتجردوا عن ملابس الحس ومواد الرجس ، فلما تلاقوا تعارفوا وإذا تعارفوا تحابوا لتجانسهم الأصلي وتماثلهم الوضعي وتوافقهم في الوجهة والطريقة ، وتشابههم في السيرة والغريزة وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية التي هي سبب العداوة ، وانتفع كل منهم بالآخر في

٢٤٠