تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) إلى آخره ، تقريره لقوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)) (١) لأن الإفك والإثم من لوازم النفوس الكدرة الخبيثة المظلمة السفلية المستمدة من الشياطين بالمناسبة ، المستدعية لإلقائهم وتنزّلهم بحسب الجنسية ومن جملتهم الشعراء الذين يركبون المخيلات والمزخرفات من القياسات الشعرية والأكاذيب الباطلة سواء كانت موزونة أم لا ، فيتبعهم الغاوون الضالون في ذلك ويأخذون منهم التزويرات والمفتريات دون الذين ينظمون المعارف والحقائق والآداب والمواعظ والأخلاق والفضائل وما ينفع الناس ويفيد ويهيج أشواقهم في الطلب ويزيد ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٢١١.

١٠١

سورة النمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) طس) أي : (تِلْكَ) الصفات العظيمة المذكورة في طسم التي أصلها الطهارة من صفات النفس وسلامة الاستعداد في الأصل عن النقص هي (آياتُ الْقُرْآنِ) أي : العقل القرآني وهو الاستعداد الحمدي الجامع لجميع الكمالات باطنا فإذا ظهرت وبرزت إلى الفعل في القيامة الكبرى كانت فرقانا ، وقوله : (هُدىً وَبُشْرى) قائم مقام (م) في طسم لأنالهداية إلى الحق والبشارة بالوصول لا يكونان إلا بعد الكمال العلمي ، إذ الهداية للغير التي هي التكميل ملزومة العلم الذي هو الكمال ، فيحصل الاكتفاء بها عنه وهما حالان معمولان لتلك المشار بها إلى الصفات المذكورة في (طسم) كما ذكر ، أي : هاديا ومبشّرا للمؤمنين ، أي : الموقنين بعلم التوحيد.

[٣ ـ ٥] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ) صلاة الحضور والمراقبة (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عن صفات النفوس ، أي : يزكون بالتجريد والمجاهدة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : مقام المشاهدة (يُوقِنُونَ) يعني في حال المكاشفة يوقنون بالمعاينة والرسول يهديهم إليها ويبشّرهم بجنة الذات والفوز الأعظم (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) من المحجوبين بتزين نفوسهم بكمالاتها وهيئات أعمالها (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) يعمون بصائرهم عن إدراك صفات الحق وتجليات أنوارها وإلا لم يحجبوا بصفاتهم وأفعالهم بل فنوا عنها.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) بنيران الحجاب والحرمان عن لذات تجليات الصفات (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ومقام كشف الذات في القيامة الكبرى (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لتكاثف حجابهم بصفاتهم وذواتهم فلا خلاق لهم من الجنتين ولذاتهما.

[٦ ـ ٧] (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

١٠٢

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي : العقل القرآني (مِنْ لَدُنْ) أي : من عين جمع الوحدة في الصفات الأول الذي لا حجاب بينه وبين الحضرة الأحدية بل هو نفسه الحجاب الأقدس المفيض لكل الاستعدادات من العقول الفرقانية على أربابها من الأعيان الثابتة الإنسانية (حَكِيمٍ) ذي حكمة بالغة تامّة وعلم محيط شامل.

اذكر من جملة علوم الحق وحكمه وقت قول موسى القلب (لِأَهْلِهِ) من النفس والحواس الظاهرة والباطنة (امْكُثُوا) واثبتوا ولا تشوّشوا وقتي بالحركات (إِنِّي آنَسْتُ) بعين البصيرة (ناراً) أي : نار وما أعظمها هي نار العقل الفعال (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي : علم بالطريقة إلى الله ، وكان حاله أنه ضلّ الطريقة إلى الله برعاية أغنام القوى البهيمية وزوجه النفس الحيوانية (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) أي : بشعلة نورية تشرق عليكم حين اتصالي بالنار وتنوّري بها (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) عن برد الركون إلى البدن والسكون إليه وهوى لذاته فتشتاقوا بحركة تلك النار إلى جناتي وتسيرون بمحبتي إلى مقام الصدر.

[٨ ـ ١٠] (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠))

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي : كثر خير (مَنْ فِي النَّارِ) أي : هو موسى القلب الواصل إلى النار بتجليّات الصفات الإلهية ووجدان الكمالات الحقيقية ومقام المكالمة عن النبوّة (وَمَنْ حَوْلَها) من القوى الروحانية والملائكة السماوية بأنوار المكاشفة وأسرار العلوم والحكم والتأييدات القدسية والأحوال السريّة والذوقية (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ونزّه ذات الله بتجرّدك عن الصفات النفسانية والغواشي الجسدانية والنقائص والمعائب.

(أَنَا اللهُ) القوي الذي قهر نفسك وكل شيء بالفناء فيه (الْحَكِيمُ) الذي علمك الحكمة وهداك بها إلى مقام المكالمة (وَأَلْقِ) عصا نفسك القدسية المؤتلفة بشعاع القدس ، أي : خلفا عن الضبط بالرياضة وأرسلها ولا تمنعها عن الحركة فإنها تنوّرت (فَلَمَّا رَآها) تضطرب وتتحرّك (كَأَنَّها) حيّة غالبة بالظهور (وَلَّى) إلى جناب الحق (مُدْبِراً) خوف ظهور النفس (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : لم يرجع وبقي مشتغلا بتدارك البقية (لا تَخَفْ) من استيلاء النفس وظهور الحجاب ، فإن النفس إذا حييت بعد موتها بالإرادة وفنائها بالرياضة إن استقلت بنفسها واستبدت بأمر كانت حجابا وابتلاء ، وإذا تحرّكت بأمري حيّة بنور الروح والمحبة الحقانية لا بهواها لم تكن حجابا (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الذين أرسلتهم بالبقاء بعد الفناء وأحييت نفوسهم بحياتي.

١٠٣

[١١] (إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) بظهور النفس قبل وقت الاستقامة واستحكام مقام البقاء ، فإنه ذنب حاله تجب عنه التوبة بالاستغفار والخوف بالابتلاء (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً) بالخوف والتدارك بقمعها والالتجاء إلى جناب الحق من شرّها (بَعْدَ سُوءٍ) أية صفة ظهرت بها من صفاتها (فَإِنِّي غَفُورٌ) أستر بنوري ظلمتها (رَحِيمٌ) أرحم بعد الغفران بصفتي القائمة صفتها الظاهرة هي بها.

[١٢] (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ) العاقلة العلمية (فِي جَيْبِكَ) تحت لباس النفس متصلة بالقلب في إبطك الأيسر موضع الصدر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نورانية ذات قدرة (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : التلوين والظهور بصفة من صفاتها بل بالتنوّر بالنور (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي : اذهب بهاتين الآيتين بين النفس القدسية والعاقلة العلمية الحيّة إحداهما بحياة القلب ، والمتنوّرة ثانيتهما بنوره ، في جملة تسع آيات هما ثنتان منها والباقية هي السبع المشار إليها في قول المتكلمين بالقدماء السبعة : وهي الصفات الإلهية التي تجلى بها الحق تعالى على القلب فقامت مقام صفاته ، وهي الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والتكلم. (إِلى فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة بالسوء المحجوبة بالأنائية (وَقَوْمِهِ) من قواها كلما ظهرت بتفرعنها على أية صفة في أي مظهر ظهرت وأينما وجدت اذهب بهذه الصفات (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن دين الحق وطاعته بدين الهوى ، منكرين للتوحيد بظهورهم.

[١٣ ـ ١٦] (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) منه نورانية تحيّروا فيها (وَجَحَدُوا بِها) بظهورهم بصفاتها ومخالفتها (ظُلْماً وَعُلُوًّا) وإن استيقنتها أنفسهم من طريق العلم والعقل لتفرعنها وتعوّدها بالاستعلاء وعدم ملكية العدل (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ) عاقبتهم من الغرق في يمّ القطران لإفسادهم في أرض البدن بالطغيان (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ) الروح (وَسُلَيْمانَ) القلب (عِلْماً) واتّصفا بالصفات الربانية العامة وذلك قولهما : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

١٠٤

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ) القلب (داوُدَ) الروح الملك بالسياسة والنبوّة بالهداية (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : نادى القوى البدنية وقت الرياسة عليها ، وقال : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) القوى الروحانية (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من المدركات الكلية والجزئية والكمالات الكسبية والعطائية (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الكمال الظاهر الراجح صاحبه على غيره.

[١٧] (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) من جنّ القوى الوهمية والخيالية ودواعيها ، وإنس الحواس الظاهرة ، وطير القوى الروحانية بتسخيره ريح الهوى وتسليطه عليها بحكم العقل العمليّ ، جالسا على كرسيّ الصدر ، موضوعا على رفوف المزاج المعتدل (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّلهم على آخرهم ويوقفون على مقتضى الرأي العقلي لا يتقدّم بعضهم بالإفراط ولا يتأخر البعض بالتفريط.

[١٨ ـ ١٩] (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي : نمل الحرص في جمع المال والأسباب في السير على طريق الحكمة العملية وقطع الملكات الرديّة (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي ملكة الشره ، ملكة دواعي الحرص. وكانت على ما قيل : عرجاء ، لكسر العاقلة رجلها ومنعها بمخالفة طبعها عن مقتضاه من سرعة سيرها (يا أَيُّهَا النَّمْلُ) أي : الدواعي الحرصية الفائتة الحصر (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) أي : اختبئوا في مقارّكم ومحالكم ومباديكم لا يكسرنكم القلب والقوى الروحانية بالإماتة والإفناء. وهذا هو السير الحكمي باكتساب الملكات الفاضلة وتعديل الأخلاق وإلا لما بقيت للنملة الكبرى ولصغارها عين ولا أثر في الفناء بتجليات الصفات (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) أي : استبشر بزوال الملكات الرديئة وحصول الملكات الفاضلة ودعا ربّه بالتوفيق لشكر هذه النعمة التي أنعم بها عليه بالاتصاف بصفاته وأفعاله والفناء عن أفعال نفسه وصفاتها. وعلى والديه ، أي : الروح والنفس بكمال الأول وتنوّره وقبول الثانية وتأثرها بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) بالاستقامة في القيام بحقوق تجليات صفاتك والعبادات القلبية لوجهك ونور ذاتك (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي : بكمال ذاتك في زمرة الكمل الذين هم سبب صلاح العالم وكمال الخلق.

١٠٥

[٢٠ ـ ٢١] (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

(وَتَفَقَّدَ) حال طير القوى الروحانية ففقد هدهد القوة المفكرة لأن القوة المفكرة إذا كانت في طاعة الوهم كانت متخيلة والمفكرة غائبة بل معدومة ، ولا تكون مفكرة إلا إذا كانت مطيعة للعقل (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بالرياضة القوية ومنعها عن طاعة الوهمية وتطويعها للعاقلة (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بالإماتة (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أو تصير مطواعة للعقل لصفاء جوهرها ونورية ذاتها فتأتي بالحجة البينة في حركتها.

[٢٢] (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢))

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : لم يطل زمان رياضتها لقدسيتها وما احتاجت إلى الإماتة لطهارتها حتى رجعت بسلطان مبين ، وتمرّنت في تركيب الحجج على أصح المناهج (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) من أحوال مدينة البدن وإدراك الجزئيات وتركيبها مع الكليات ، فإن القلب لا يدرك بذاته إلا بالكليات ولا يضمها إلى الجزئيات في تركيب القياس ، واستنتاج واستنباط الرأي إلا الفكر وبواسطته يحيط بأحوال العالمين ويجمع بين خيرات الدارين (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) مدينة الجسد (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) عيانيّ مشاهد بالحسّ.

[٢٣] (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣))

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) هي الروح الحيوانية ، المسمّاة باصطلاح القوم : النفس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من الأسباب التي يدبرها البدن ويتم بها تملكه (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) هو الطبيعة البدنية التي هي متكؤها بهيئة ارتفاعها من طبائع البسائط العنصرية التي هي المزاج المعتدل ، أو تؤوّل مدينة سبأ بالعالم الجسماني ، والعرش بالبدن.

[٢٤] (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ) لشمس عقل المعاش المحجوب عن الحق بانقيادها له وإذعانها لحكمه دون الانقياد لحكم الروح والانخراط في سلك التوحيد ، والإذعان لأمر الحق وطاعته (وَزَيَّنَ لَهُمُ) شيطان الوهم (أَعْمالَهُمْ) من تحصيل الشهوات واللذات البدنية والكمالات الجسمانية (فَصَدَّهُمْ عَنِ) سبيل الحق وسلوك طريق الفضيلة بالعدل (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إلى التوحيد والصراط المستقيم.

[٢٥] (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥))

١٠٦

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ينقادوا ويذعنوا في إخراج كمالاتهم إلى العقل (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) أي : المخبوء من الكمالات الممكنة في سموات الأرواح وأرض الجسم (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) مما فيهم بالقوة من الكمالات بالأعمال الحاجبة والمانعة لخروج ما في الاستعداد إلى العقل (وَما تُعْلِنُونَ) من الهيئات المظلمة والأخلاق المردية.

[٢٦ ـ ٢٧] (اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا يجوز التعبّد والانقياد إلا له (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) المحيط بكل شيء ، فما أصغر عرش بلقيس النفس في جنب عظمته ، فكيف لا تطيعه وتحتجب بمحبة عرشها عن طاعته (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في تضليلهم والإحاطة بأحوالهم بالطريق العقلي (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) بموافقة الوهم وتركيب التخيلات الفاسدة.

[٢٨ ـ ٣٠] (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠))

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) أي : الحكمة العملية والشريعة الإلهية (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أيقبلون الطاعة والانقياد أم يأبون (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) لصدوره من القلب بواسطة الفكر إلى النفس (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : باسم الذات الموصوفة بإفاضة الاستعداد وما يخرج به ما فيه إلى العقل من الآلات وإفاضة الكمال المناسب له من الأخلاق والصفات.

[٣١ ـ ٣٤] (أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤))

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) ألا تغلبوا ولا تستعلوا (وَأْتُونِي) منقادين مستسلمين. وقولها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي) إلى آخره ، إشارة إلى قابلية النفس ونجابة جوهرها ومخالفتها لأمر قواها في الاستعلاء والغرور بهيئة الشوكة والاستيلاء ، وإن لم يمكنها القبول إلا بمظاهرتهم ومشاورتهم. وإفساد القرية وإذلال أعزّتها إشارة إلى منعها عن الحظوظ واللذات ، وقمع ما يغلب ويستولي على القوى بالرياضات.

[٣٥ ـ ٣٦] (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦))

١٠٧

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) من أموال المدركات الحسيّة والشهوات النفسية ، واللذات الوهمية والخيالية ، وإمداد المواد الهيولانية بتزيينها عليهم وتسويلها لهم على أيدي الهواجس والدواعي والبواعث (فَناظِرَةٌ) هل يقبلها فيلين ويميل إلى النفس أو يردّها فيتصلب في الميل إلى الحق (فَما آتانِيَ اللهُ) من المعارف اليقينية والحقائق القدسية واللذات العقلية والمشاهدات النورية (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من المزخرفات الحسيّة والخيالية والوهمية (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) لا نحن ، وإنما فرحنا بما هو من عند الله لا بما ذكر.

[٣٧ ـ ٤٠] (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) خطاب للمتخيل المرسل العارض للهدايا عليهم بالتسويل (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) من القوى الروحانية وأمداد الأنوار الإلهية (لا) طاقة (لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) بالقهر والاستيلاء والقمع (أَذِلَّةً وَهُمْ) أذلاء بالطبع والرتبة لدنوّ مرتبتهم في الأصل والطينة وتنويرها بالآداب (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : قبل قرب النفس وقواها بالأخلاق والطاعة ، فإن تسخير القوى الطبيعية بالأعمال والآداب أسهل وأقرب من تسخير النفس الحيوانية وقواها بالأخلاق والملكات. والعفريت هو الوهم لأنه يسخرها بالخوف والرجاء ويبعثها على الأعمال بالدواعي الوهمية والأماني الموافقة.

(قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي : ما دمت في مقام الصدر قبل الترقي إلى مقام السرّ ، فإنّ الوهم حينئذ ينعزل عن فعله بالهداية والمشايعة. والذي عنده علم من الكتاب هو العقل العملي الذي عنده بعض العلم وهو الحكمة العملية والشريعة من كتاب اللوح المحفوظ يسخرها ويقرّبها ويبعثها على الطاعات بتحبيب الكمال وحصول الشرف والذكر الجميل والكرامة إليها (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : نظرك إلى ذاتك وما ينبغي لها من الترقي إلى عالمك في عالم القدس لإدراك الحقائق والمعارف الكلية ، والمشاهدات الحقّة العينية ، فإنّ الكمال العمليّ مقدّم على الكمال الذوقيّ والكشفيّ (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) ثابتا على حالة اتصاله به ، متمرّنا في الطاعة غير متغير بالدواعي الشهوانية والنوازع الشيطانية (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) بالطاعة والعمل بالشريعة (أَمْ أَكْفُرُ) بالمعصية ومخالفة الشريعة ، أو أشكر عند التوفيق للطاعة بالسلوك في الطريقة والإقبال على الحضرة ، وتبديل الصفات ،

١٠٨

ومراقبة التجليات ، أم أكفر بالاحتجاب برؤية الأعمال ، والإدبار عن الحق بالغرور والعجب ، والوقوف مع المعقول والعقل.

[٤١] (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١))

(نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) بتغيير العادات وترك المذمومات ، ونهك القوى الطبيعية بالرياضات ، وتنكيسه بجعل ما كان أعلى رتبة منه عندها وهي الهيئات البدنية وراحات البدن ولذاته ، وما كان في جهة الإفراط من الأكل والشرب والنوم وأمثالها ، والقوى الطبيعية المستعلية أسفل ، وما كان أسفل من أنواع التعب والرياضة والتقليل والسهر ، وكل ما مال إلى التفريط من الأمور البدنية والقوى الروحانية المستضعفة أعلى (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى الفضائل وطرق الكمالات بالرياضة لنجاة جوهرها وشرف أصلها وحسن استعدادها وقبولها (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إليها لعكس ما ذكر.

[٤٢ ـ ٤٤] (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

(فَلَمَّا جاءَتْ) مترقية إلى مقام القلب متنوّرة بأنواره ، متخلّقة بأخلاقه ، منقادة مستسلمة بجنودها (قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) أي : على هذه الصورة المغيرة عرشك أم على الصورة الأولى؟أي : أهذا صورته المستوية التي ينبغي أن يكون عليها أم تلك ، وتلك منكوسة أم هذه (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) أي : كأنّ هذا بالنسبة إلى حالي هو بالنسبة إلى الحالة الأولى ، أي : إذا كنت متوجهة إلى جهة السفل كان عرشي على تلك الصورة مطابقا لحالي ، وإذا توجهت إلى جهة العلو كان على هذه الصورة مستويا وموافقا لحالي (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من قبل هذه الحالة ، أي : أوتيناه في الأزل عند ميثاق الفطرة (وَكُنَّا) منقادين قبل هذه النشأة إلا أننا نسينا فتذكرنا الساعة (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ) من شمس عقل المعاش بصرفها إلى التوحيد (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ) محجوبين عن الحق (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) أي : مقام الصدر الذي هو صرح ممرّد مملس عن تقابل الأضداد وتخالف الطباع مستويا بالتجرّد عن الموادّ من قوارير أنوار القلب الصافي المشبّه بالزجاجة في الصفاء والتنوّر (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) بحر الوحدة لكونه غاية رتبتها في التجرّد والترقي ونهاية كمالها في التداني والتلقي ، ولا يتجاوز نظرها إلى أعلى منه وكل ما لا يمكن فوقه من الكمال لشيء فيه نهايته في التوحيد ومعظم ما يستغرق فيه من جمال المعبود والمطلوب (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) يعني : جرّدت جهتها السفلية التي تلي البدن وتسعى بها فيه

١٠٩

المنقسمة إلى القوة الغضبية والشهوية عن الغواشي البدنية والملابس الهيولانية بقطع التعلقات لكن كان عليها شعر الهيئات الباقية من أعمالها والآثار المسودة من كدوراتها ، ومن هذا قيل : يدخل سليمان الجنة بعد الأنبياء بخمسمائة خريف ويحبو حبوا (ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالاحتجاب واتخاذ العقل المشوب بالوهم ، المشرّب بالهوى ، إلها ومعبودا (وَأَسْلَمْتُ) بالانقياد لأمر الحق والانخراط في سلك التوحيد (مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وعلى تأويل العرش بالبدن يستقيم هذا أيضا ويتجه وجه آخر وهو أن يراد أنها كانت محجوبة بمعقولها ما بقي عرشها ، وما انقادت لسليمان القلب إلا في النشأة الثانية ، فعلى هذا يكون الذي عنده علم من الكتاب هو العقل الفعّال وإيتاؤه به قبل ارتداد الطرف إيجاد البدن الثاني في آن واحد ، ومعنى : قبل أن يأتوني مسلمين تقدّم مادة البدن على تعلق النفس به. وقال ابن الأعرابي رحمه‌الله : إن الإتيان كان بإفنائه ثمة وإيجاده بحضرة سليمان والتنكير تغيير الصورة. ومعنى : كأنه هو أنه يشابه صورته ، والصرح هو مادة البدن الثاني ، فيكون دخول الصرح على هذا مقدّما على تنكير الصورة ، وكشف الساقين قطع تعلق البدن الأول دون زوال الهيئات البدنية التي هي بمثابة الشعر ، وهذا بناء على أن النفوس المحجوبة الناقصة لا بد لها من التعلق والله أعلم.

[٤٥ ـ ٤٦] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي : أهل الماء القليل الذي هو المعاش صالح القلب بالدعوة إلى التوحيد (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) فريقالقوى الروحانية وفريق القوى النفسانية (يَخْتَصِمُونَ). تقول الأولى : ما جاء به صالح حق ، وتقول الثانية : بل باطل ، وما نحن عليه حق (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) أي : الاستيلاء على القلب بالرذيلة (قَبْلَ) الإتيان بالفضيلة (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) بالتنوّر بنور التوحيد ، والتنصل عن الهيئات البدنية المظلمة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بإفاضة الكمال.

[٤٧ ـ ٥٨] (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ

١١٠

تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

(اطَّيَّرْنا بِكَ) لمنعك إيانا من الحظوظ والترفه (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) سبب خيركم وشرّكم من الله. والرهط المفسدون الحواس : الغضب والشهوة والوهم والتخيل ، وتبييته : إهلاكه في ظلمة ليل النفس ، والوليّ : الروح ، ومكر الله بهم : إهلاكهم بهدّ جبال الأعضاء عليهم وتدميرهم في غارّ محلهم وتدمير قومهم بالصيحة التي هي النفخة الأولى ، وفاحشة قوم لوط في هذا التطبيق وهي إتيان الذكور ، إتيان القوى النفسانية أدبار القوى الروحانية واستنزالهم عن رتبة التأثير بتأثرهم عن تأثير هذه من الجهة السفلية واستيلاؤها عليهم في تحصيل اللذات والشهوات البدنية بهم.

[٥٩] (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بظهور كمالاته وتجليات صفاته على مظاهر مخلوقاته (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) بصفاء استعداداتهم وبراءتهم من النقص والآفة ، فالحمد مطلقا مخصوص به لكون جميع الكمالات الظاهرة على مظاهر الأكوان صفاته الجمالية والجلالية ليس لغيره فيها نصيب ، وصفاء ذوات المصطفين من عباده ونزاهة أعيانهم عن نقص الاستعداد ، وآفة الحجاب سلامه عليهم وحصول الأمرين للمظهر التام النبويّ بالفعل هو قوله ذلك مأمورا به من عين الجمع في مقام التفصيل ، منتقلا من مقام التفصيل لعين الجمع ، مبتدئا منه وراجعا إليه الله الذي له الحمد المطلق والسلام المطلق ، خير مطلق محض في ذاته (أَمَّا يُشْرِكُونَ) من الأكوان التي أثبتوا لها وجودا وتأثيرا إذ لا يبقى بعد الكمال المطلق والقبول المطلق الذي هو اسم السلام المطلق باعتبار الفيض الأقدس إلا العدم البحت ، والشرّ الصرف المطلق الذي يقابل الخير المحض المطلق فكيف يكون خيرا.

[٦٠ ـ ٦٣] (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))

١١١

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : المؤثر المطلق الموجد للكل من الأعيان الممكنة وصفاتها خير في التأثير والإيجاد ، أم ما لا وجود له ، فكيف بالتأثير والإيجاد. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في التأثير والإيجاد (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق ، فيثبتون الباطل بالتوهم. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) إلى نور ذاته (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) أي : حجب الأكوان والأفعال (وَالْبَحْرِ) أي : حجب الصفات (وَمَنْ يُرْسِلُ) رياح النفحات محيية للقلوب من يدي رحمة التجليات.

[٦٤ ـ ٨١] (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) باختفائه بأعيانهم واحتجابه بذواتهم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بإفنائهم في عين الجمع وإهلاكهم في ذاته بالطمس أو بإظهارهم في النشأة وإعادتهم إلى الفطرة (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) الغذاء الروحاني (وَ) من (الْأَرْضِ) الجسماني إذ من السماء المعارف والحقائق ومن الأرض الحكم والأخلاق.

[٨٢ ـ ٨٧] (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي : وإذا تحقق وقوع ما سبق في القضاء حكمنا به من

١١٢

الشقاوة الأبدية عليهم (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً) من صورة نفس كل شقيّ مختلفة الهيئات والأشكال هائلة ، بعيدة النسبة بين أطرافها وجوارحها على ما ذكر من قصتها بحسب تفاوت أخلاقها وملكاتها من أرض البدن قدّام القيامة الصغرى التي هي من أشراطها (تُكَلِّمُهُمْ) بلسان حياتها وصفاتها (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا) قدرتنا على البعث (لا يُوقِنُونَ). (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) النفخة الأولى نفخة الإماتة في القيامة الصغرى (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من العقلاء المجرّدين والجهال البدنيين ، أو من القوى الروحانية والجسمانية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الموحدين الفانين في الله ، والشهداء القائمين بالله (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) إلى المحشر للبعث ، صاغرين ، أذلاء ، لا قدرة لهم ولا اختيار ، أو أتوه منقادين قابلين لحكمه بالموت.

[٨٨ ـ ٩٠] (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

(وَتَرَى) جبال الأبدان (تَحْسَبُها جامِدَةً) ثابتة في مكانها (وَهِيَ تَمُرُّ) وتذهب وتتلاشى بالتحليل كالسحاب لتجتمع أجزاؤها عند البعث في اليوم الطويل (صُنْعَ اللهِ) أي : صنع هذا النفخ والإماتة والإحياء لمجازاة العباد بالأعمال صنعا متقنا يليق به (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) أي : بمحو صفة من صفات نفسه بالتوبة إلى الله عنها من قيام صفة إلهية مقامها.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) باحتجابه بصفة من صفات نفسه (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) بتنكيس بنائهم لشدّة ميلهم إلى الجهة السفلية في نار الطبيعة (هَلْ تُجْزَوْنَ) إلا بصور أعمالكم وجعل هيئاتها صوركم.

[٩١ ـ ٩٣] (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ) لا ألتفت إلى غير الحق و (أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) أي : القلب (الَّذِي حَرَّمَها) حماها عن استيلاء صفات النفس ومنعها من دخول أهل الرجس وآمنها وآمن من فيها لئلا ينكبّ وجهي في نار الطبيعة (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي : تحت ملكوته وربوبيته يعطي عابده ما شاء أن يعطيه ويمنعه ما شاء أن يمنعه ويدفع من غالبه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا وجوههم بالفناء فيه (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أفصل الكمالات المجموعة في إبرازها وإخراجها إلى الفعل في مقام البقاء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالاتّصاف بصفاته الحميدة (سَيُرِيكُمْ)

١١٣

صفاته في مقام القلب (فَتَعْرِفُونَها) أو آيات أفعاله وآثارها بالقهر في مقام النفس فتعرفونها عند التعذب بها أو يوم ينفخ في الصور بتجلي الذات في القيامة الكبرى ، ففزع من في السموات ومن في الأرض بصعقة الفناء والقهر الكليّ إلا من شاء الله من أهل البقاء الذين أحيوا لحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء به (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١) ساقطين عن درجة الحياة والوجود ، مقهورين. وترى جبال الوجودات تحسبها جامدة ثابتة على حالها ظاهرا وهي تمرّ مرّ السحاب في الحقيقة زائلة.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٨٧.

١١٤

سورة القصص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤))

(إِنَّ فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة استعلى وطغى في أرض البدن (وَجَعَلَ أَهْلَها) فرقا مختلفة متخالفة متعادية لاتباعهم السبل المتفرّقة وتجافيهم عن طريق العدل والتوحيد والصراط المستقيم (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) هم أهل القوى الروحانية (يُذَبِّحُ) من ناسب الروح في التأثير والتعلي من نتائجها بإماتته وعدم امتثال داعيته وقهره (وَيَسْتَحْيِي) ما ناسب النفس في التأثر والتسفل بتقويته وإطلاقه في فعله.

[٥ ـ ٦] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بالإذلال والإهانة والاستعمال في الأعمال الطبيعية والاستخدام في تحصيل اللذات البهيمية والسبعية وذبح الأبناء واستحياء النساء ، فننجيهم من العذاب (وَنَجْعَلَهُمْ) رؤساء مقدّمين (وَنَجْعَلَهُمْ) ورّاث الأرض وملوكها بإفناء فرعون وقومه (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالتأييد (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ) النفس الأمّارة (وَهامانَ) العقل المشوب بالوهم المسمّى عقل المعاش (وَجُنُودَهُما) من القوى النفسانية (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) من ظهور موسى القلب وزوال ملكهم ورئاستهم على يده.

[٧] (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) أي : النفس الساذجة السليمة الباقية على فطرتها وهي اللوّامة (أَنْ أَرْضِعِيهِ) بلبان الإدراكات الجزئية والعلوم النافعة الأولية (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من استيلاء النفس الأمّارة وأعوانها (فَأَلْقِيهِ) في يمّ العقل الهيولاني والاستعداد الأصليّ أو في يمّ الطبيعة البدنية بالإخفاء (وَلا تَخافِي) من هلاكه (وَلا تَحْزَنِي) من فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) بعد ظهور

١١٥

التمييز ونور الرشد (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى بني إسرائيل.

[٨] (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨))

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) من القوى النفسانية الظاهرة عليه ، الغالبة على أمره ، فإنه لا يصل إلى التمييز والرشد ولا يتوقى إلا بمعاونة التخيل والوهم وسائر المدركات الظاهرة والباطنة وإمدادها (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) في العاقبة ويعلم أن أعدى عدوّه النفس التي بين جنبيه فيقهرها وأعوانها بالرياضة ويفنيها بالقمع والكسر والإماتة.

[٩] (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) أي : النفس المطمئنة العارفة بنور اليقين والسكينة حالة المحبة لصفائها له التي تستولي عليها الأمّارة وتؤثر فيها بالتلوين (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) بالطبع للتناسب (وَلَكَ) بالتوسط ورابطة الزوجية والتواصل. وقيل ، قال فرعون : لك لا لي. وعالجوا التابوت فلم ينفتح ، ففتحته آسية بعد ما رأت نورا في جوفه فأحبّته (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) في تحصيل أسباب المعاش ورعاية المصالح وتدبير الأمور بالرأي (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) بأن يناسب النفس دون الروح ، ويتبع الهوى ، ويخدم البدن بالإصلاح ، فيقوينا (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) على أن الأمر على خلاف ذلك.

[١٠] (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠))

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى) أي : النفس الساذجة اللوّامة (فارِغاً) عن العقل من استيلاء فرعون عليها وخوفها منه لمقهوريتها له (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي : كادت تطيع النفس الأمّارة باطنا وظاهرا فلا تخالفها بسرها وما أضمرته من نور الاستعداد وحال موسى المخفي لكونه بالقوّة بعد (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي : صبّرناها وقوّيناها بالتأييد الروحي والإلهام الملكي (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالغيب لصفاء الاستعداد.

[١١] (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) القوّة المفكرة (قُصِّيهِ) أي : اتبعيه وتفقدي حاله بالحركة في تصفح معانيه المعقولة وكمالاته العلمية والعملية (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أدركت حاله عن بعد لأنها لا ترتقي إلى حدّه ولا تطلع عن مكاشفته وأسراره وما يحصل له من أنوار صفاته (وَهُمْ لا

١١٦

يَشْعُرُونَ) أي : لا يطلعون على اطلاع أخته عليه لقصور جميع القوى النفسانية عن حدّ المفكرة وبلوغ شأوه.

[١٢] (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢))

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي : منعناه من التقوي والتغذي بلذات القوى النفسانية وشهواتها وقبول أهوائها وإعدادها (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل استعمال الفكر بنور الاستعداد وصفاء الفطرة (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) بالقيام بتربيته بالأخلاق والآداب ويرضعونه بلبان المبادئ من المشاهدات والوجدانيات والتجربيات ، وما طريقة الحس والحدس من العلوم (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) يشدونه بالحكم العملية والأعمال الصالحة ، ويهذّبونه ولا يغوونه بالوهميات والمغالطات ، ويفسدونه بالرذائل والقبائح.

[١٣] (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) النفس اللوّامة بالميل نحوها والإقبال (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بالتنوّر بنوره (وَلا تَحْزَنَ) بفوات قرّة عينها وبهائها وتقويتها به (وَلِتَعْلَمَ) بحصول اليقين بنوره (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بإيصال كل مستعدّ إلى كماله المودع فيه وإعادة كل حقيقة إلى أصلها (حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فلا يطلبون الكمال المودع فيهم لوجود الحجاب وطريان الشك والارتياب.

[١٤ ـ ١٦] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي : مقام الفتوّة وكمال الفطرة (وَاسْتَوى) استقام بحصول كماله ثم بتجرّده عن النفس وصفاته (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : حكمة نظرية وعملية (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) المتّصفين بالفضائل ، السائرين في طريق العدالة (وَدَخَلَ) مدينة البدن (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي : في حال هدوّ القوى النفسانية وسكونها حذرا من استيلائها عليه وعلوّها (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) أي : العقل والهوى (هذا) أي : العقل (مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا) أي : الهوى (مِنْ عَدُوِّهِ) من جملة أتباع شيطان الوهم وفرعون النفس الأمّارة (فَاسْتَغاثَهُ) العقل

١١٧

واستنصره على الهوى (فَوَكَزَهُ) ضربه بهيئة من هيئات الحكمة العملية بقوة من التأييدات ملكية بيد العاقلة العملية فقتله (قالَ هذا) الاستيلاء والاقتتال (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) الباعث للهوى على التعدّي والعدوان (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أو هذا القتل من عمل الشيطان ، لأن علاج الاستيلاء بالإفراط لا يكون بالفضيلة التي هي العدالة الفائضة من الرحمن بل إنما يكون بالرذيلة التي يقابلها من جانب التفريط كعلاج الشره بالخمود وعلاج البخل بالتبذير والإسراف بالتقتير وكلاهما من الشيطان (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالإفراط والتفريط (فَاغْفِرْ لِي) استر لي رذيلة ظلمي بنور عدلك (فَغَفَرَ لَهُ) صفات نفسه المائلة إلى الإفراط والتفريط بنوره ، فحصلت له العدالة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) الساتر هيئات النفس بنوره (الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمال عند زكاء النفس عن الرذائل.

[١٧ ـ ١٩] (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) أي : اعصمني بما أنعمت عليّ من العلم والعمل (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) معاونا (لِلْمُجْرِمِينَ) المرتكبين الرذائل من القوى النفسانية (فَأَصْبَحَ) في مدينة البدن (خائِفاً) من استيلاء القوى النفسانية بإشارة الدواعي والهواجس وإلقاء أحاديث النفس والوساوس في مقام المراقبة (يَسْتَصْرِخُهُ) أي : يستنصره العقل على أخرى من قوى النفس وهي الوهم والتخيل لأنهما يفسدان في مقام الترقب ، ويثيران الوساوس والهواجس ويبعثان النوازع والدواعي ولا ينكسران ولا يفتران في حال ما من أحوال وجود القلب إلا عند الفناء في الله ، ألا ترى إلى معارضته ومماراته له في قوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وإنما نسب صاحبه الذي هو العقل بقوله : إنك لغويّ ، لافتتانه بالوهم وعجزه عن دفعه واحتياجه في معارضته إلى القلب ، وإنما أراد أن يبطش ولما تيسر له البطش ، ومانعه وأنكر فعله ، بقوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ، لأن القلب ما لم يصل إلى مقام الروح ولم يفن في مقام الولاية ، ولم يتصف بالصفات الإلهية لم يذعن له شيطان الوهم لأنه من المنظرين إلى يوم القيامة الكبرى ، فما دام القلب في مقام الفتوّة متصفا بكمالاته في القيامة الوسطى يطمع هو في إغوائه ولا ينقهر ولا يمتنع بمجرّد الكمال العلمي والعملي عن استعلائه.

[٢٠ ـ ٢١] (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

١١٨

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو الحبّ الباعث على السلوك في الله الذي يسمونه الإرادة ، وإتيانه من أقصى المدينة : انبعاثه من مكمن الاستعداد عند قتل هوى النفس (يَسْعى) إذ لا حركة أسرع من حركته يحذره عن استيلائهم عليه وينبهه على تشاورهم وتظاهرهم عند ظهور سلطان الوهم عليه ومقابلته ومماراته ومجادلته له على هلاكه بالإضلال (فَاخْرُجْ) عن مدينتهم حدود سلطنتهم إلى مقام الروح (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ) بالأخذ في المجاهدة في الله ودوام الحضور والمراقبة (خائِفاً) من غلبتهم ، ملتجأ إلى الله في طلب النجاة من ظلمهم.

[٢٢] (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢))

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) مقام الروح ، غلب رجاؤه على الخوف لقوّة الإرادة وطلب الهداية الحقانية بالأنوار الروحية والتجليات الصفاتية إلى سواء سبيل التوحيد وطريقة السير في الله.

[٢٣ ـ ٢٤] (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي : مورد علم المكاشفة ومنهل علم السرّ والمكالمة (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) من الأولياء والسالكين في الله والمتوسطين الذين مشربهم من منهل المكاشفة (يَسْقُونَ) قواهم ومريديهم منه ، أو العقول المقدّسة والأرواح المجرّدة من أهل الجبروت فإنها في الحقيقة أهل ذلك المنهل ، يسقون منه أغنام النفوس السماوية والإنسية وملكوت السموات والأرض (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) من مرتبة أسفل من مرتبتهم (امْرَأَتَيْنِ) هما العاقلتان النظرية والعملية (تَذُودانِ) أغنام القوى عنه لكون مشربها من العلوم العقلية والحكمة العملية قبل وصول موسى القلب إلى المناهل الكشفية والموارد الذوقية ولا نصيب لها من علوم المكاشفة (لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) أي : شربنا من فضلة رعاء الأرواح والعقول المقدّسة عند صدورها عن المنهل متوجهة إلينا ، مفيضة علينا فضلةالماء (وَأَبُونا) الروح (شَيْخٌ كَبِيرٌ) أكبر من أن يقوم بالسقي (فَسَقى لَهُما) من مشرب ذوقه ومنهل كشفه بالإفاضة على جميع القوى من فيضه ، لأن القلب إذا ورد منهلا ارتوى من فيضه في تلك الحالة جميع القوى وتنوّرت بنوره (ثُمَّ تَوَلَّى) من مقامه (إِلَى الظِّلِ) أي : ظل النفس في مقام الصدر

١١٩

مستحقرا لعلمه المعقول بالنسبة إلى العلوم الكشفية مستمدّا من فضل الحق ومقامه القدسي والعلم اللدني الكشفي.

(فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) أي : محتاج سائل لما أنزلت إليّ من الخير العظيم الذي هو العلم الكشفي وهو مقام الوجد والشوق ، أي : الحال السريع الزوال وطلبه حتى يصير ملكا.

[٢٥] (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) هي النظرية المتنوّرة بنور القدس التي تسمى حينئذ القوّة القدسية (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) لتأثرها منه وانفعالها بنوره (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) أشار به إلى الجذبة الروحية بنور القوّة القدسية واللمة الملكية (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) أي : ثواب ارتواء القوى الشاغلة الحاجبة من استفاضتك وتنوّرها بنورك فإنها إذا انفعلت بالبارق القدسي ، وارتوت بالفيض السريّ ، سهل الترقي إلى جناب القدس وقوى استعداد القلب للاتصال بالروح لزوال الحجب أو زوال ظلمتها وكثافتها.

(فَلَمَّا جاءَهُ) واتصل به وترقى في مقامه ، وأطلع الروح على حاله (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهو صورة حاله.

[٢٦] (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦))

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي : استعمله بالمجاهدة في الله والمراقبة لحاله في رعاية أغنام القوى حتى لا تنتشر فتفسد جمعيتنا وتشوّش فرقتنا ، وبالذكر القلبي في مقام تجليات الصفات والسير فيها بأجره ثواب التجليات وعلوم المكاشفات (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) لهذا العمل (الْقَوِيُ) على كسب الكمال (الْأَمِينُ) الذي لا يخون عهد الله بالوفاء بإبرازها في الاستعداد من وديعته أو لا يخون الروح بالميل إلى بناته فيحتجب بالمعقول. وقد قيل : إن الرعاء كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال ، وقيل عشرة ، فأقله وحده وذلك قوته. وفيها إشارة إلى أن العلم اللدني لا يحصل إلا بالاتّصاف بالصفات السبع الإلهية أو العشر.

[٢٧] (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

١٢٠