تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

لله ودينه وطريقته اللذان هو عليهما دين الله وطريقته إذ لا يرى غيره موجودا (حَنِيفاً) مائلا منحرفا عن الأديان الباطلة التي هي طرق الأغيار والأنداد لمن أثبت غيره فأشركه بالله (فِطْرَتَ اللهِ) أي : الزموا فطرة الله ، وهي الحالة التي فطرت الحقيقة الإنسانية عليها من الصفاء والتجرّد في الأزل وهي الدين القيّم أزلا وأبدا ، لا يتغير ولا يتبدّل عن الصفاء الأول ، ومحض التوحيد الفطري. وتلك الفطرة الأولى ليست إلا من الفيض الأقدس الذي هو عين الذات ، من بقي عليها لم يمكن انحرافه عن التوحيد واحتجابه عن الحق ، إنما يقع الانحراف والاحتجاب من غواشي النشأة وعوارض الطبيعة عند الخلقة أو التربية والعادة. أما الأولفلقوله عليه‌السلام في الحديث الرباني : «كل عبادي خلقت حنفاء فاحتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري». وأما الثانيفلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرّانه» ، لا أن تتغير تلك الحقيقة في نفسها عن الحالة الذاتية فإنه محال ، وذلك معنى قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) تلك الحقيقة (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) حال من الضمير المتصل في : الزموا المقدّر ، أي : الزموا تلك الفطرة المخصوصة بالله منيبين إليه من جميع الأغيار المتوهم وجودها من قبل شياطين الوهم والخيال وأديانها الباطلة بالتجرّد عن الغواشي الجبلية والعوارض البدنية والهيئات الطبيعية والصفات النفسانية إلى الحق ودينه (وَاتَّقُوهُ) بعد الإنابة إليه بتجريد الفطرة بالفناء فيه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الشهود الذاتي (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ببقية الفطرة وظهور الأنانية في مقامها (مِنَ الَّذِينَ) فارقوا دينهم الحقيقي بسقوطهم عن الفطرة واحتجابهم بحجب النشأة والعادة (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا مختلفة لوقوف كل أحد مع حجابه واختلاف حجبهم وتفريق الشيطان إياهم في أودية صفات النفس ، فبعضهم على دين البهائم ، وبعضهم على دين السباع ، وبعضهم على دين الهوى ، وبعضهم على دين الشيطان خاصة ، وأنواع الشياطين لا تنحصر فكذا الأديان.

[٣٢ ـ ٦٠] (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ

١٤١

يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : من المفارقين الدين الحقيقيّ المتفرّقين شيعا مختلفة كل حزب عند تكدّر الفطرة وتكاثف الحجاب يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب لكونه مقتضى طبيعة حجابه ، فيناسب حاله من الاستعداد الغالب والفرح إنما يكون بإدراك الملائم من حيث هو ملائم وذلك ملائم في الحال بحسب الاستعداد العارضي وإن لم يلائم في الحقيقة بحسب الاستعداد الأصليّ ، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.

١٤٢

سورة لقمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢٨] (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

١٤٣

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي : وجوده إلى الله بالفناء في أفعاله أو صفاته أو ذاته (وَهُوَ مُحْسِنٌ) عابد له على مشاهدته بحسب مقامه يعمل في الأول بأعمال التوكل على مشاهدة أفعاله تعالى ، وفي الثاني بأعمال مقام الرضا على مشاهدة صفاته ، وفي الثالث بالاستقامة في التحقق به على شهود ذاته (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) بدين التوحيد الذي هو أوثق العرى (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) بالفناء فيه وإليه انتهاء الكل.

[٢٩ ـ ٣١] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١))

(أَلَمْ تَرَ) أن فلك البدن تجري في بحر الهيولى بإفاضة آثار صفاته من الحياة والقدرة والإدراك عليه وإعداده بالآلات (بِنِعْمَتِ اللهِ) أي : لقبول الكمالات عليه (لِيُرِيَكُمْ) بهذا الجري والاستعداد من آيات تجليات أفعاله وصفاته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) من تجليات أفعاله وصفاته ، إذ لا تظهر إلا على هذا المظهر (لِكُلِّ صَبَّارٍ) يصبر مع الله في المجاهدة عن ظهور أفعال نفسه وصفاتها لأحكام مقام التوكل والرضا (شَكُورٍ) يشكر نعم التجليات بالقيام بحقها والعمل بأحكام مقام التوكل في تجليات الأفعال وأحكام مقام الرضا في تجليات الصفات ليكون على مزيد من جلاله.

[٣٢] (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) من غلبات صفات النفس ومقتضيات الطبع (كَالظُّلَلِ) كالحجب الساترة لأنوار التجليات (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) التجؤوا إلى الله بالإخلاص والقيام بحقه في مقامهم لتنكشف الحجب ببركة الثبات على العمل بالإخلاص ، فإن السالك إذا حجب بالتلوين عن المقام الأعلى وجب عليه التثبيت في المقام الذي دونه مما هو ملك له كالإخلاص بالنسبة إلى التوكل (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) بالتجلي الفعلي إلى برّ مقام التوكل والأمن من الغرق في بحر الهيولى بغلبات النفس (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) ثابت على العدل في القيام بحقوق التوكل والسير في أفعاله تعالى على التمكين (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) بإضافة حقوق مقامه في التجليات واحتجابه عنها في التلوينات (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) يغدر في الوفاء بعقد العزيمة وعهد

١٤٤

الفطرة مع الله عند الابتلاء بالفترة (كَفُورٍ) لا يستعمل نعم الله في مراضيه ولا يقضي حقوق مقامه في التجليات ، ولا يعمل بأعمال أهل التوكل والرضا عند ظهور أنوار الأفعال والصفات ، أو تلك الشريعة تجري مراكبها في هذا البحر إلى ساحل برّ النجاة وجنّة الآثار ليريكم من آيات تجليات الأفعال.

[٣٣] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) احذروه في الظهور بأفعالكم وصفاتكم وذواتكم بالفناء فيه عنها (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) لانقطاع الوصل عند بروزكم لله المتجلي بالوحدة والقهر ولا يبقى وجود للوالد والولد ، فلا يجزي بعضهم عن بعض شيئا (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) من الحياة القلبية التي هي أقرب إليكم بأنها حقيقية دائمة فإنه لا حياة لأحد حينئذ (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) فتظهروا بالأنائية وتحتجبوا بوسوسته فتقعوا في الطغيان.

[٣٤] (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الكبرى لفناء الكل فيه حينئذ فكيف بعلومهم (وَيُنَزِّلُ) غيث ذلك بحسب الاستعدادات قبل الفناء (وَيَعْلَمُ ما فِي) أرحام الاستعداد من الكمالات أهي تامّة أم لا؟ أو في أرحام النفوس من أولاد القلوب أهي رشيدة كاملة أم لا؟ ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ) من العلوم والمقامات في الزمان المستقبل لاحتجابها عما في استعدادها (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ) من أراضي المقامات (تَمُوتُ) ويفنى استعدادها لانقضاء ما فيها من الكمالات ، لأن علم الاستعدادات وحدودها مما استأثر به الله تعالى لذاته في غيب الغيب ، والله تعالى أعلم.

١٤٥

سورة السجدة

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

(الم) أي : ظهور الذات الأحديّة والصفات والحضرات الأسمائية هو (تَنْزِيلُ) كتاب العقل الفرقاني المطلق على الوجود المحمدي (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) بظهوره في مظهره بصورة الرحمة التامة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) باحتجابه بها في الأيام الستة الإلهية التي هي مدة دور الخفاء من لدن آدم عليه‌السلام إلى دور محمد عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ اسْتَوى) على عرش القلب المحمدي للظهور في هذا اليوم الأخير الذي هو جمعة تلك الأيام بالتجلي بجميع صفاته ، فإن استواء الشمس هو كمال ظهورها في الإشراق ونشر الشعاع ، ولهذاقال عليه‌السلام : «بعثت في نسم الساعة» ، فإن وقت بعثته طلوع صبح الساعة ووسط نهار هذا اليوم وقت ظهور المهدي عليه‌السلام ، ولأمر ما استحبّ قراءة هذه السورة في صبح يوم الجمعة. (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ) عند ظهوره (مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) لفناء الكل فيه (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) العهد الأول من ميثاق الفطرة عند ظهور الوحدة.

[٥ ـ ١٠] (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بالإخفاء والخلاقية من سماء ظهور الوحدة إلى أرض خفائها وغروبها في الأيام الستة (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) بالظهور في هذا اليوم السابع الذي كان (مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذلِكَ) المدبّر (عالِمُ الْغَيْبِ) وحكمة الخفاء في الستة (وَالشَّهادَةِ) أي : الظهور في هذا اليوم (الْعَزِيزُ) المنيع بستور الجلال في الاحتجاب (الرَّحِيمُ) بكشفها وإظهار الجمال

١٤٦

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بأن جعله مظاهر صفاته ، فإن الحسن مختصّ بالصفات والأكوان كلها مظاهر صفاته إلا الإنسان الكامل فإنه مختصّ بجمال الذات ولهذا خصّه بالتسوية أي : التعديل بأعدل الأمزجة وأحسن التقويم ليستعدّ بذلك لقبول الروح المخصوص به تعالى (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وبهذا النوع أنهى الخلق وظهر الحق.

[١١ ـ ١٢] (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢))

(مَلَكُ الْمَوْتِ) أي : النفس الإنسانية الكلية التي هي معاد النفوس الجزئية ما لم تسقط عن الفطرة بالكلية وإن احتجبت الهيئات الظلمانية والصفات النفسانية فإنها ما لم تبلغ إلى حدّ الرين وانغلاق باب المغفرة تتوفاها النفس التي هي بمثابة القلب للعالم ، وإن بلغت فرقتها ملائكة العذاب فحسب ، ولما لم يبلغوا إلى هذا الحدّ وإن احتجبوا عن لقاء الربّ وصفهم مع ميلهم إلى الجهة السفلية المنكسة لرؤوسهم بسبب رسوخ هيئات الأجرام بالبصر والسمع وتمنى الرجوع إذ لو لم يبق فيهم نور الفطرة وطمسوا بالكلية لم يقولوا : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) ولم يتمنوا الرجوع ، وهؤلاء هم الذين لا يتخلدون في النار بل يعدّلون بحسب رسوخ الهيئات ثم يرجعون.

[١٣ ـ ١٤] (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

(لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) بالتوفيق للسلوك مع المساواة في الاستعداد ، ولكنه ينافي الحكمة لبقائهم حينئذ على طبيعةواحدة وبقاء سائر الطبقات الممكنة في حيز الإمكان مع عدم الظهور أبدا ، وخلوّ أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها فلا تمشي الأمور الخسيسة والدنيئة المحتاج إليها في العالم التي تقوم بها أهل الحجاب والذلّة والقسوة والظلمة ، البعداء عن المحبة والرحمة والنور والعزّة ، فلا ينضبط نظام العالم ولا يتم صلاح المهتدين أيضا لوجوب الاحتياج إلى سائر الطبقات ، فإنّ النظام ينصلح بالمخافي وبالمظاهر فلو كانوا مظاهر كلهم أنبياء وسعداء لاختلّ بعدم النفوس الغلاظ والشياطين الإنس القائمين بعمارة العالم. ألا ترى إلىقوله تعالى : إني جعلت معصية آدم سببا لعمارة العالم ، فوجب في الحكمة الحقّة التفاوت في الاستعداد بالقوة والضعف والصفاء والكدورة والحكم بوجود السعداء والأشقياء في القضاء ليتجلى بجميع الصفات في جميع المراتب ، وهذا معنى قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ

١٤٧

مِنِّي) أي : في القضاء السابق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) الطبيعة (مِنَ الْجِنَّةِ) أي : النفوس الأرضية الخفيّة عن البصر (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) لاحتجابكم بالغشاوات الطبيعية والملابس البدنية (إِنَّا نَسِيناكُمْ) بالخذلان عن الرحمة لعدم قبولكم إياها وإدباركم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) بسبب أعمالكم ، فعلى هذا التأويل المذكور تكون الخلد مجازا وعبارة عن الزمان الطويل ، أو يكون الخطاب بذوقوا لمن حقّ عليهم القول في القضاء السابق من الجنّة والناس.

[١٥] (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

(إِنَّما يُؤْمِنُ) على التحقيق بآيات صفاتنا (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا) لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم (سُجَّداً) فانين فيها (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : جرّدوا ذواتهم متّصفين بصفات ربّهم فذاك هو تسبيحهم وحمدهم له بالحقيقة (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) بظهور صفات النفس والأنانية.

[١٦ ـ ١٧] (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) بالتجرّد عن الغواشي الطبيعية والقيام (عَنِ الْمَضاجِعِ) البدنية والخروج عن الجهات بمحو الهيئات (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) بالتوجه إلى التوحيد في مقام القلب خوفا من الاحتجاب بصفات النفس بالتلوين (وَطَمَعاً) في لقاء الذات (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من المعارف والحقائق (يُنْفِقُونَ) على أهل الاستعداد (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) شريفة منهم (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) من جمال الذات ولقاء نور الأنوار الذي تقرّ به أعينهم فيجدون من اللذة والسرور ما لا يبلغ كنهه ولا يمكن وصفه (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من التجريد والمحو في الصفاء والعمل بأحكام التجليات (مُؤْمِناً) بالتوحيد على دين الفطرة.

[١٨ ـ ٢٠] (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠))

(كَمَنْ كانَ فاسِقاً) بخروجه عن ذلك الدين القيم بحكم دواعي النشأة (جَنَّاتُ الْمَأْوى) بحسب مقاماتهم من الجنان الثلاث (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) بالميل الفطريّ (أُعِيدُوا فِيها) لاستيلاء الميل السفلي وقهر الملكوت الأرضية بسبب رسوخ الهيئات الطبيعية.

١٤٨

[٢١ ـ ٢٢] (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) الذي هو عذاب الآثار ونيران مخالفات النفوس والطباع في البليّات والشدائد والأهوال (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) الذي هو الاحتجاب بالظلمات عن أنوار الصفات والذات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدّة العذاب الأدنى قبل الرين بكثافة الحجاب.

[٢٣ ـ ٣٠] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى) كتاب العقل الفرقاني (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) من لقاء موسى عند بلوغك إلى مرتبته في معراجك كما ذكر في قصة المعراج أنه لقيه في السماء الخامسة وهو عند ترقّيه عن مقام السرّ الذي هو مقام المناجاة إلى مقام الروح الذي هو الوادي المقدّس (يَوْمَ الْفَتْحِ) المطلق يوم القيامة الكبرى بظهور المهدي لا ينفع إيمان المحجوبين حينئذ لأنه لا يكون إلا باللسان ، ولا يفنى عنهم العذاب ، والله تعالى أعلم.

١٤٩

سورة الأحزاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) بالفناء عن ذاتك بالكلية دون بقاء البقية (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) بموافقتهم في بعض الحجب لظهور الأنانية (وَالْمُنافِقِينَ) بالنظر إلى الغير فتكون ذا وجهين وبالانتهاء بحكم هذا النهي وصف بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧)) (١) ، (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) يعلم ذنوب الأحوال (حَكِيماً) في ابتلائك بالتلوينات فإنها تنفع في الدعوة وإصلاح أمر الأمة إذ لو لم يكن له تلوين لم يعرف ذلك من أمّته فلا يمكنه القيام بهدايتهم (وَاتَّبِعْ) في ظهور التلوينات (ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من التأديبات وأنواع العتاب والتشديدات بحسب المقامات كما ذكر غير مرة في قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) (٢) وأمثاله (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) يعلم مصادر الأعمال وأنها من ـ أي الصفات ـ تصدر من الصفات النفسانية أو الشيطانية أو الرحمانية فيهديك إليها ويزكيك منها ويعلمك سبيل التزكية والحكمة في ذلك (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في دفع تلك التلوينات ورفع تلك الحجب والغشاوات (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فإنها لا ترتفع ولا تنكشف إلا بيده لا بنفسك وعلمك وفعلك ، أي : لا تحتجب برؤية الفناء في الفناء فإنه ليس من فعلك سواء كان في الأفعال أو الصفات أو الذات أو إزالة التلوينات فإنها كلها بفعل الله لا مدخل لك فيها وإلا لما كنت فانيا.

[٦] (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٧.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٧٤.

١٥٠

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لأنه مبدأ وجوداتهم الحقيقية ومبدأ كمالاتهم ومنشأ الفيضين الأقدس الاستعدادي أولا والمقدس الكمالي ثانيا ، فهو الأب الحقيقي لهم ولذلك كانت أزواجه أمّهاتهم في التحريم ومحافظة الحرمة مراعاة لجانب الحقيقة وهو الواسطة بينهم وبين الحق في مبدأ فطرتهم فهو المرجع في كمالاتهم ولا يصل إليهم فيض الحق بدونه لأنه الحجاب الأقدس واليقين الأول ، كماقال : «أول ما خلق الله نوري» ، فلو لم يكن أحبّ إليهم من أنفسهم لكانوا محجوبين بأنفسهم عنه ، فلم يكونوا ناجين ، إذ نجاتهم إنما هي بالفناء فيه لأنه المظهر الأعظم.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بعضهم أولى ببعض من غيرهم للاتصال الروحاني والجسماني والأخوة الدينية والقرابة الصورية ولا تخلو القرابة من تناسب ما في الحقيقة لاتصال الفيض الروحاني بحسب الاستعداد المزاجي ، فكما تتناسب أمزجة أولي الأرحام وهياكلهم الصورية فكذلك أرواحهم وأحوالهم المعنوية (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) المحبوبين في الله للتناسب الروحي والتقارب الذاتي (مَعْرُوفاً) إحسانا بمقتضى المحبة والاشتراك في الفضيلة زائدا عما بين الأقارب (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ) أي : اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً).

[٧ ـ ٢٠] (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)

١٥١

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) وخصوصا الخمسة المذكورة لاختصاصهم بمزيد المرتبة والفضيلة ميثاق التوحيد والتكميل والهداية بالتبليغ عند الفطرة وهو الميثاق الغليظ المضاعف بالكمال والتكميل ولذلك أضافه إليهم بقوله : ميثاقهم ، أي : الميثاق الذي ينبغي لهم ويختص بهم ، وقدّم في الاختصاص بالذكر نبينا عليه‌السلام بقوله منك ، لتقدّمه على الباقين في الرتبة والشرف (لِيَسْئَلَ) الله بسبب عهدهم وميثاقهم وبواسطة هدايتهم (الصَّادِقِينَ) الذين صدّقوا العهد الأول والميثاق الفطري في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (١) ، (عَنْ صِدْقِهِمْ) بالوفاء والوصول إلى الحق بإخراج ما في استعدادهم من الكمال بحضور الأنبياء كما قال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٢) فالسؤال إنما كان مسببا عن ميثاق الأنبياء لأنه يسألهم على ألسنتهم وهم الشاهدون لهم آخرا كما كانوا شاهدين عليهم أولا.

[٢١ ـ ٢٧] (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وجب على كل مؤمن متابعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطلقا حتى يتحقق رجاؤه ويتم عمله لكونه الواسطة في وصولهم والوسيلة في سلوكهم للرابطة النفيسة بينه وبينهم بحكم الجنسية. وذكر الرجاء اللازم للإيمان بالغيب في مقام النفس وقرن به الذكر الكثير الذي هو عمل ذلك المقام ليعلم أن من كان في بدايته يلزمه متابعته في الأعمال والأخلاق والمجاهدة والمواساة بالنفس والمال ، إذ لو لم يحكم البداية لم يفلح

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٢) سورة الأحزاب ، الآية : ٢٣.

١٥٢

بالنهاية. ثم إذا تجرّد وتزكّى عن صفات نفسه فليتابعه في موارد القلب ، أي : الصدق والإخلاص ، والتسليم والتوكل ، كما تابعه في منازل النفس ليحتظي ببركة متابعته بالمواهب والأحوال وتجلّيات الصفات في مقامه كما احتظى بالمكاسب والمقامات وتجلّيات الأفعال في مقام النفس ، وكذا في مقام السرّ والروح حتى الفناء. ومن صحة المتابعة تصديقه في كل ما أخبر به بحيث لا يعتوره الشك في شيء من أخباره وإلا فترت العزيمة وبطلت المتابعة ، فإن الأصل والعمدة في العمل الاعتقاد الجازم ، ولهذا مدحهم بقوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) إذ وعدهم الابتلاء والزلزال حتى ينخلعوا عن أبدانهم ويتجرّدوا في التوجه إليه عن نفوسهم في قوله : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) (١).

(وَما زادَهُمْ) أي : وقوع البلاء بالأحزاب (إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) لقوّة اعتقادهم في البداية وصحة متابعتهم في التسليم ففازوا بمقام الفتوة والانخلاع بالبلاء وعن قيود النفس لسلامة الفطرة ، فوصفهم بالوفاء الذي هو كمال مقام الفتوة ، وسماهم رجالا على الحقيقة بقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أي : رجال أيّ رجال ، ما أعظم قدرهم لكونهم صادقين في العهد الأول الذي عاهدوا الله عليه في الفطرة الأولى بقوة اليقين وعدم الاضطراب عند ظهور الأحزاب ، فلم يتنحوا بكثرتهم وقوّتهم عن التوحيد وشهود تجلي الأفعال فيقعوا في الارتياب ويخافوا سطوتهم وشوكتهم (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) بالوفاء بعهده والبلوغ إلى كمال فطرته (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) في سلوكه بقوة عزيمته (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) بالاحتجاب بغواشي النشأة وارتكاب مخالفات الفطرة بمحبة النفس والبدن ولذاتهما والميل إلى الجهة السفلية وشهواتها فيكونوا كاذبين في العهد ، غادرين (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) جنات الصفات (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) الذين وافقوا المؤمنين بنور الفطرة وأحبوهم بالميل الفطريّ إلى الوحدة ، وأحبوا الكافرين بسبب غواشي النشأة والانهماك في الشهوة ، فهم متذبذبون بين الجهتين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وبهيئات نفوسهم المظلمة (إِنْ شاءَ) لرسوخها (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لعروضها وعدم رسوخها (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يستر هيئات النفوس بنوره (رَحِيماً) يفيض الكمال عند إمكان قبوله.

[٢٨ ـ ٣٥] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١٤.

١٥٣

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى آخره ، اختبر النساء هو إحدى خصال التجريد وأقدام الفتوة التي يجب متابعته فيها ، فإنه عليه‌السلام مع ميله إليهنّلقوله : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» ، إذ شوّشنّ وقته بميلهنّ إلى الحياة الدنيا وزينتها خيرهنّ وجرّد نفسه عنهنّ وحكمهنّ بين اختيار الدنيا ونفسه ، فإن اخترنه لقوة إيمانهن بقينّ معه بلا تفريق لجمعيته وتشويش لوقته بطلب الزينة والميل إليها ، بل على التجرد والتوجه إلى الحق كقوى نفسه ، وإن اخترن الدنيا وزينتها متعهنّ وسرّحهنّ وفرّغ قلبه عنهنّ بمثابة إماتة القوى المستولية.

[٣٦] (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦))

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) الآية ، من جملة الخصال التي تجب طاعته ومتابعته فيها وهو مقام الرضا والفناء في الإرادة لكونه عليه‌السلام إذا فنى بذاته وصفاته في ذات الله وصفاته تعالى أعطى صفات الحق بدل صفاته عند تحققه بالحق في مقام البقاء بالوجود الموهوب وكان حكمه وإرادته حكم الله وإرادته تعالى كسائر صفاته. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)) (١) فمن لوازم متابعته الفناء في إرادة الحق ، فإرادته إرادة الحق فيجب الفناء في إرادته وترك الاختيار مع اختياره وإلا لكان عصيانا و (ضَلالاً مُبِيناً) لكونه مخالفة صريحة للحق.

[٣٧ ـ ٤٠] (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٣ ـ ٤.

١٥٤

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) إلى قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أحد التأديبات الإلهية النازلة في تلوينه عند ظهور نفسه للتثبيت وتلك التلوينات هي موارد التأديبات ، ولهذا كان خلقه القرآن.

[٤١ ـ ٤٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) باللسان في مقام النفس ، والحضور في مقام القلب ، والمناجاة في مقام السرّ ، والمشاهدة في مقام الروح ، والمواصلة في مقام الخفاء ، والفناء في مقام الذات ، (وَسَبِّحُوهُ) بالتجريد عن الأفعال والصفات والذات (بُكْرَةً) وقت طلوع فجر نور القلب وإدبار ظلمة النفس وليل غروب شمس الروح بالفناء في الذات ، أي : دائما من ذلك الوقت إلى الفناء السرمدي.

[٤٣] (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بحسب تسبيحكم بتجليات الأفعال والصفات دون الذات لاحتراقهم هناك بالسبحات ، كماقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت».

(لِيُخْرِجَكُمْ) بالإمداد الملكوتي والتجلي الأسمائيّ من ظلمة أفعال النفوس إلى نور تجلّيات أفعاله في مقام التوكل ، ومن ظلمة صفات النفوس إلى نور تجليات صفاته ومن ظلمة الأنانية إلى نور الذات (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) يرحمهم بما يستدعيه حالهم ويقتضيه استعدادهم من الكمالات.

[٤٤] (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

(تَحِيَّتُهُمْ) أي : تحية الله إياهم وقت اللقاء بالفناء فيه تكميلهم وتسليمهم عن النقص بجبر كسرهم بأفعاله وصفاته وذاته ، أو تحيته لهم بإفاضة هذه الكمالات وقت لقائهم إياه بالمحو والفناء هي سلامتهم عن آفات صفاتهم وأفعالهم وذواتهم أو بسلامتهم ، لأن التحية بالتجليات والسلامة عن الآفات تكونان معا والأول يناسب إطلاق اسم السلام على الله تعالى. (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) بإثابة هذه الجنات عن أعمالهم في التسبيحات والمذاكرات.

١٥٥

[٤٥ ـ ٤٧] (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) للحق في الإرسال إلى الخلق غير محتجب بالكثرة عن الوحدة مطلقا على أحوالهم وكمالاتهم بنور الحق (وَمُبَشِّراً) للمستعدّين السالمين فيه بالفوز بالوصول (وَنَذِيراً) للمحجوبين والواقفين مع الغير بالعقاب والحرمان والحجاب (وَداعِياً إِلَى اللهِ) كل مستعدّ بحسب حاله ومقامه (بِإِذْنِهِ) وما يسر الله بحسب استعداده (وَسِراجاً مُنِيراً) بنور الحق النفوس المظلمة بغشاوات الجهل وهيئات البدن والطبع (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) المستبصرين بنور الفطرة (بِأَنَّ لَهُمْ) بحسب صفاء استعداداتهم (مِنَ اللهِ فَضْلاً) بإفاضة الكمالات بعد هبة الاستعدادات (كَبِيراً) من جنات الصفات.

[٤٨ ـ ٥٥] (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) في التلوينات كما ذكر في أول السورة فيتكدّر نور

١٥٦

سراجك (وَدَعْ أَذاهُمْ) بنفسك لتنجو من آفة التلوين ورؤية فعل الغير فإنهم لا يفعلون ما يفعلون بالاستقلال بأنفسهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) برؤية أفعالهم وأفعالك منه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) يفعل بك وبهم ما يشاء ، فإن آذاهم على مظهرك فهو القادر على ذلك مع براءتك عن ذنب التلوين كما فعل عند التمكين وإلا فهو أعلم بشأنه.

[٥٦ ـ ٦٥] (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) بالأمداد والتأييدات والإفاضة للكمالات فالمصلي في الحقيقة هو الله تعالى جمعا وتفصيلا بواسطة وغير واسطة ، ومن ذلك تعلم صلاة المؤمنين عليه وتسليمهم له فإنها من حيز التفصيل وحقيقة صلاتهم عليه قبولهم لهدايته وكماله ومحبتهم لذاته وصفاته فإنها إمداد له منهم وتكميل وتعميم للفيض إذ لو لم يمكن قبولهم لكمالاته لما ظهرت ، ولم يوصف بالهداية والتكميل فالإمداد أعمّ من أن يكون من فوق بالتأثير أو من تحت بالتأثر ، وذلك كقبول المحبة. والصفاء هو حقيقة الدعاء في صلاتهم بقولهم : اللهمّ صلّ على محمد. وتسليمهم جعلهم إياه بريئا من النقص والآفة في تكميل نفوسهم والتأثير فيها وهو معنى دعائهم له بالتسليم (لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لأن النبي في غاية القرب منه بحيث يتحقق به بفناء آنيته ولم تبق اثنينية هناك لخلوص محبته ، فالمؤذي له يكون مؤذيا لله ، والمؤذي لله هو الظاهر بآنية نفسه لعداوة الله له فهو في غاية البعد الذي هو حقيقة اللعن في الدارين ظاهرا وباطنا وهو مقابل لحضرة العزّة فيكون في غاية الهوان في عذاب الاحتجاب (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) لمن استعدّ لها (لَعَنَ الْكافِرِينَ) لبعدهم عنه بالاحتجاب.

[٦٦ ـ ٦٩] (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

١٥٧

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) بتغيير صورهم في أنواع العذاب وبراز الحجاب.

[٧٠ ـ ٧١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١))

(اتَّقُوا اللهَ) بالاجتناب عن الرذائل والسداد في القول الذي هو الصدق والصواب ، والصدق هو مادة كل سعادة وأصل كل كمال لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي قبول جميع الكمالات وأنوار التجليات ، وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها لأنه اجتناب من رذيلة الكذب مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى لكنه أفرد بالذكر للفضيلة كأنه جنس برأسه كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) بإفاضة الكمالات والفضائل ، أي : زكّوا أنفسكم لقبول التحلية من الله بفيض الكمالات عليكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب صفاتكم بتجليات صفاته (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في التزكية ومحو الصفات (فَقَدْ فازَ) بالتحلية والاتصاف بالصفات الإلهية وهو الفوز العظيم.

[٧٢] (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢))

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) بإيداع حقيقة الهوية عندها واحتجابها بالتعينات بها (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) بأن تظهر عليهنّ مع عظم إجرامها لعدم استعدادها لقبولها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لعظمها عن أقدارها وضعفها عن حملها وقبولها (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) لقوة استعداده واقتداره على حملها فانتحلها لنفسه بإضافتها إليه (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) بمنعه حق الله حين ظهر بنفسه وانتحلها (جَهُولاً) لا يعرفها لاحتجابه بأنانيته عنها.

[٧٣] (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الذين ظلموا بمنع ظهور نور استعدادهم بظلمة الهيئات البدنية والصفات النفسانية ووضعوه في غير موضعه فجهلوا حقه (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) الذين جهلوا لاحتجابهم بالأنائية والوقوف مع الغير بغلبة الرين وكثافة الحجب الخلقية فعظم ظلمهم لانطفاء نورهم بالكلية وامتناع وفائهم بالأمانة الإلهية.

١٥٨

(وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الذين تابوا عن الظلم بالاجتناب عن الصفات النفسانية المانعة عن الأداء وعدلوا بإبراز ما أخفوه من حق الله عند الوفاء وعن الجهل بحقه إذ عرفوه وأدّوا أمانته إليه بالفناء (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ستر ذنوب ظلمهم وجهلهم عن التزكية والتصفية والتجريد والمحو والطمس بأنوار تجلياته (رَحِيماً) رحمهم بالوجود الحقاني عند البقاء بأفعاله وصفاته وذاته أو عرضنا الأمانة الإلهية بالتجلي عليها وإيداع ما تطيق حملها فيها من الصفات بجعلها مظاهر لها. أو : فأبين أن يحملنها بخيانتها وإمساكها عندها والامتناع عن أدائها ، وأشفقن من حملها عندها فأدّينها بإظهار ما أودع فيها من الكمالات وحملها الإنسان بإخفائها بالشيطنة وظهور الأنانية والامتناع عن أدائها بإظهار ما أودع فيه من الكمال وإمساكها بظهور النفس بالمظلمة والمنع عن الترقي في مقام المعرفة ، والله أعلم.

١٥٩

سورة سبأ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بجعله مظاهر لصفاته الظاهرة وكمالاته الباهرة وظهوره فيها بالحجب الجلالية (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) بتجليه على الأرواح بالكمالات الباطنة والصفات الجمالية ، أي : له الحمد بالصفات الرحمانية في الدنيا ظاهرا ، وله الحمد بالصفات الرحيمية في الآخرة باطنا (وَهُوَ الْحَكِيمُ) الذي أحكم ترتيب عالم الشهادة بمقتضى حكمته (الْخَبِيرُ) الذي نفذ علمه في بواطن عالم الغيب للطافته.

[٢ ـ ٥] (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥))

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من الملكوت الأرضية والقوى الطبيعية (وَما يَخْرُجُ مِنْها) بالتجريد من النفوس الإنسانية والكمالات الخلقية (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من المعارف والحقائق الروحانية (وَما يَعْرُجُ فِيها) من هيئات الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة (وَهُوَ الرَّحِيمُ) بإفاضة الكمالات السماوية النورانية (الْغَفُورُ) بستر الهيئات الأرضية الظلمانية.

[٦ ـ ٩] (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)

١٦٠