تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سورة القلم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١] (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ن) هو النفس الكليّة (وَالْقَلَمِ) هو العقل الكلي والأول من باب الكناية بالاكتفاء من الكلمة بأول حروفها ، والثاني من باب التشبيه إذ تنتقش في النفس صور الموجودات بتأثير العقل كما تنتقش الصور في اللوح بالقلم (وَما يَسْطُرُونَ) من صور الأشياء وماهياتها وأحوالها المقدّرة على ما يقع عليها ، وفاعل ما يسطرون الكتبة من العقول المتوسطة والأرواح المقدّسة وإن كان الكاتب في الحقيقة هو الله تعالى ، لكن لما كان في حضرة الأسماء نسب إليها مجازا ، أقسم بهما وبما يصدر عنهما من مبادئ الوجود وصور التقدير الإلهي ومبدأ أمره ومخزن غيبه لشرفهما وكونهما مشتملين على كل الوجود في أول مرتبة التأثير والتأثر ومناسبتهما للمقسم عليه.

[٢] (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢))

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي : ما أنت بمستور العقل مختلّ الإدراك في حالة كونك منعما عليك بنعمة الاطلاع على هذا المسطور بهما فإنه لا أعقل ممن اطلع على سرّ القدر وأحاط بحقائق الأشياء في نفس الأمر.

[٣] (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣))

(وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً) من أنوار المشاهدات والمكاشفات من هذين العالمين (غَيْرَ) مقطوع لكونه سرمديا غير مادي فلا يتناهى وهم مادّيون محجوبون عنه ، متضادّون إياك في الحال والوجهة ، فلهذا ينسبونك إلى الجنون لانحصار عقولهم وأفكارهم في المادّيات.

[٤] (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤))

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لكونك متخلقا بأخلاق الله متأيدا بالتأييد القدسي فلا تتأثر بمفترياتهم ولا تتأذى بمؤذياتهم إذ بالله تصبر لا بنفسك كما قال : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (١).

[٥ ـ ٦] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦))

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١٢٧.

٣٦١

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) عند كشف الغطاء بالموت أيكم المجنون بالحقيقة ، أأنت الذي كوشفت بأسرار القدر وأوتيت بجوامع الكلم أم هم الذين حجبوا عما في أنفسهم من آيات الله والعبر وفتنوا بعبادة الصنم.

[٧ ـ ١٥] (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥))

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ) جنّ في الحقيقة ف (ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) واحتجب عن الدين وبمن عقل فاهتدى إليه ، أي : لا يعلم أحد كنه جنونهم وضلالهم إلا الله لكونه في الغاية وكذا كنه اهتدائك واهتداء من اهتدى بهداك فلا توافقهم في الظاهر كما لا توافقهم في الباطن. فإن موافقة الظاهر أثر موافقة الباطن وكذا المخالفة وإلا كان نفاقا سريع الزوال ومصانعة وشيكة الانقضاء ، وأما هم فلانهماكهم في الرذائل وتعمقهم في التلوين والاختلاف لتشعب أهوائهم وتفرّق أمانيهم وميول قواهم وجهات نفوسهم يصانعون ويضمون تلك الرذيلة إلى رذائلهم طمعا في مداهنتك معهم ومصانعتك إياهم ، فلا يفتننك كثرة أموال من كان أغناهم وكثرة قومه وتبعه فتطيعه وتصانعه مع كثرة رذائله ، ودم على توافق الظاهر والباطن مستعينا بالله مستظهرا به مصادقا لمن صدقك مصافيا لمن وافقك مصاحبا لصعاليك المؤمنين الزاهدين في الدنيا.

[١٦ ـ ٤١] (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١))

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي : نغير وجهه في القيامة الصغرى ونجعل آلة حرصه مشاكلا لهيئة نفسه كخرطوم الفيل مثلا ، ونبدّل أعز أعضائه بما فيه علامة غاية الذل لخسّة نفسه المنجذبة إلى ما في جهة السفل الجاذبة لمواد الرجس.

٣٦٢

[٤٢ ـ ٤٧] (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧))

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) أي : اذكر يوم يشتدّ الأمر وتتفاقم شدته بحيث لا يمكن وصفها بمفارقة المألوفات البدنية والملاذ الحسية وظهور الأهوال والآلام النفسية بالهيئات الموحشة والصور المؤذية (وَيُدْعَوْنَ) على لسان الملكوت للجنسية الأصلية والمناسبة الفطرية (إِلَى) سجود الإذعان والانقياد لقبول الأنوار الإلهية والإشراقات السبوحية (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) الانقياد والإذعان لقبولها لزوال استعدادهم الأصلي بالهيئات المظلمة واحتجابهم بالغواشي الجسمانية والملابس الهيولانية (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) ذليلة متحيرة لذهاب قوتها النورية وعدم قدرتها على النظر إلى عالم النور وبعدها عن إدراك الشعاع مفيد السرور (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) الركون إلى السفليات والركود إلى خساسة الانفعاليات وملازمة الطبيعيات (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ) عند بقاء الاستعداد ووجود الآلات (إِلَى) سجود الانقياد بتهيئة الاستعداد لقبول الإمداد من عالم الأنوار (وَهُمْ سالِمُونَ) الاستعداد متمكنون على إحراز السعادة في المعاد.

[٤٨ ـ ٥٢] (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بسعادة من سعد وشقاوة من شقي ونجاة من نجا وهلاك من هلك وهداية من اهتدى وضلال من ضلّ (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) في استيلاء صفات النفس عليه وغلبة الطيش والغضب والاحتجاب عن حكم الربّ حتى ردّ عن جناب القدس إلى مقر الطبع (فَالْتَقَمَهُ) حوت الطبيعة السفلية في مقام النفس وابتلى بالاجتنان في بطن حوت الرحم (إِذْ نادى) ربّه لقهر قومه وإهلاكهم لفرط الغضب عن مقام النفس لا بإذن الحق (وَهُوَ) ممتلئ غيظا (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ) كاملة (مِنْ رَبِّهِ) بالهداية إلى الكمال لبقاء سلامة الاستعداد وعدم رسوخ الهيئة الغضبية والتوبة عن فرطات النفس والتنصل عن صفاتها (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ) أي : بظاهر عالم الحسّ وطرد من جناب القدس بالكلية وترك في وادي النفس (وَهُوَ مَذْمُومٌ) موصوف بالرذائل مستحق للإذلال والخذلان ، محجوب عن الحق ، مبتلى بالحرمان ، ولكنه اجتباه (رَبُّهُ) برحمته لمكان سلامة فطرته وبقاء نوره الأصلي فقرّبه إليه وجمعه إلى ذاته بإلقاء كلمة التوحيد إليه وإيصاله إلى مقام الجمع (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) لمقام النبوّة بالاستقامة حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع ، والله تعالى أعلم.

٣٦٣

سورة الطاغية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥))

(الْحَاقَّةُ) هي الساعة الواجبة الوقوع التي لا ريب فيها إن أريد بها القيامة الصغرى أو التي تحقّ فيها الأمور ، أي : تعرف ، وتحقق إن أريد بها الكبرى. والمعنى : أنّ الساعة ما هي وما أعلمك أي شيء هي ، أي : لا يعرف شدّتها وهولها وما يظهر فيها من الأحوال على المعنى الأول ، أو لا يعرف حقيقتها وارتفاع شأنها وإنارة برهانها وما يبدو فيها أحد إلا الله. وكلتا القيامتين تقرع الناس وتهلكهم وتفنيهم وتستأصلهم بالشدة والقهر ، وأما تكذيبهم بالأولى فلإقبالهم من الدنيا وترك العمل لها وغفلتهم وغرورهم بالحياة الحسية. وأما بالثانية فلعدم وقوفهم عليها وإنكارهم لها واحتجابهم عنها ، وقد يطابق مثل المكذبين بمثل المفرطين أي : المقصرين والغالين بأن يقال : (فَأَمَّا ثَمُودُ) وهم أهل الماء القليل أي : أهل العلم الظاهر المحجوبون عن العلوم الحقيقية (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي : الحالة الكاشفة عن الباطن وعالم التجرد التي تطغى على علومهم فتفنيها وهي خراب البدن.

[٦] (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦))

(وَأَمَّا عادٌ) الغالون المجاوزون حدّ الشرائع بالتزندق والإباحة في التوحيد (فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ) هوى النفس الباردة بجمود الطبيعة وعدم حرارة الشوق والعشق العاتية أي : الشديدة الغالبة عليهم الذاهبة بهم في أودية الهلاك.

[٧ ـ ٨] (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨))

(سَخَّرَها) الله (عَلَيْهِمْ) في مراتب الغيوب السبعة التي هي لياليهم لاحتجابهم عنها. والصفات الثمانية الظاهرة لهم كالأيام وهي الوجود والحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلم ، أي : على ما ظهر منهم وما بطن تقطعهم وتستأصلهم (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) موتى لا حياة حقيقية لهم لأنهم قائمون بالنفس لا بالله كما قال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ

٣٦٤

مُسَنَّدَةٌ) (١) ، (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ) أي : أقوياء بحسب الصورة لا معنى فيهم ولا حياة ، ساقطون عن درجة الاعتبار والوجود الحقيقي إذ لا يقومون بالله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي : بقاء أو نفس باقية لأنهم فانون من أسرهم.

[٩] (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩))

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ) النفس الأمارة (وَمَنْ قَبْلَهُ) من قواها وأعوانها (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) من القوى الروحانية المنقلبة عن طباعها بالميل إلى الظاهر والانقلاب عن المعقول إلى المحسوس (بِالْخاطِئَةِ) بالخصلة التي هي خطأ وهي المجاوزة عن البواطن إلى الظواهر.

[١٠] (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠))

(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : العقل الهادي إلى الحق (فَأَخَذَهُمْ) بالغرق في بحر الهيولى ورجفة اضطراب مزاج البدن وخرابه (أَخْذَةً) زائدة في الشدّة.

[١١ ـ ١٢] (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

(إِنَّا لَمَّا طَغَى) ماء طوفان الهيولى (حَمَلْناكُمْ) في جارية الشريعة المركبة من الكمال العلمي والعملي (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) لعالم القدس وحضرة الحق التي هي مقرّكم الأصلي ومأواكم الحقيقي (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : تحفظها أذن حافظة لما سمعت من الله في بدء الفطرة باقية على حالها الفطرية غير ناسية لعهده وتوحيده ، وما أودعها من أسراره بسماع اللغو في هذه النشأة وحفظ الباطل من الشيطان والإعراض عن جناب الرحمن ، ولهذا لما نزلتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» ، إذ هو الحافظ لتلك الأسرار كماقال : «ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة».

[١٣] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣))

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) هي النفخة الأولى التي للإماتة في القيامة الصغرى إذ يمنع حمله على الكبرى قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٢) وما بعده من التفصيل. وهذا النفخ عبارة عن تأثير الروح القدسي بتوسط الروح الإسرافيلي الذي هو موكل بالحياة في الصورة الإنسانية عند الموت لإزهاق الروح فيقبضه الروح العزرائيلي وهو تأثير في آن واحد ، فلذلك وصفها بالوحدة.

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ٤.

(٢) سورة الحاقة ، الآية : ١٩.

٣٦٥

[١٤ ـ ١٥] (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥))

(وَحُمِلَتِ) أرض البدن وجبال الأعضاء (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) وجعلتا أجزاء عنصرية متفرقة.

[١٦] (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦))

(وَانْشَقَّتِ) سماء النفس الحيوانية وانقشعت لزهوق الروح بانفلاقها عنه (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) لا تقدر على الفعل ولا تقوى على التحريك والإدراك حالة الموت.

[١٧] (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧))

(وَالْمَلَكُ) أي : القوى التي تمدّها وتأوي إليها وتعتمد عليها في الإدراك وتجتمع مدركاتها عندها أو تدرك بواسطتها أو تظهر بها مدركاتها (عَلى أَرْجائِها) أي : جوانبها من الروح والقلب والعقل والجسم ، فافترقت عنها وتشعبت إلى جهاتها الناشئة منها أولا (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) أي : القلب الإنساني (فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) منهم هي الأنوار القاهرة أرباب الأصنام العنصرية من الصور النوعية تحمله بالاجتماع من الطرفين العلوي والسفلي الفاعل والحامل عند البعث والنشور من كل طرف أربعة. ولهذاقال النبي عليه الصلاة والسلام : «هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية» ، ولكن تلك الأملاك مختلفة الحقائق بحسب اختلاف أصنافها العنصرية قال بعضهم : إنها مختلفة الصور ولكونها مستولية مستعلية على تلك الأجرام شبّهت بالأوعال ، وقيل : هم على صور الأوعال تشبيها لأجرامها بالجبال ولكونها شاملة لتلك الأجرام بالغة إلى أقصاها حيث ما بلغت. قال بعضهم : ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون والله أعلم بحقائق الأمور.

[١٨ ـ ٢٤] (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) على الله بما في أنفسكم من هيئات الأعمال وصور الأفعال (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي : اللوح البدني الذي فيه صور أعماله (بِيَمِينِهِ) أي : جانبه الأقوى الإلهي الذي هو العقل فيفرح به ويحب الاطلاع على أحواله من الهيئات الحسنة وآثار السعادة وهو معنى قوله : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ) أني تيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لإيماني بالبعث والنشور والحساب والجزاء (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : حياة

٣٦٦

حقيقية أبدية سرمدية (فِي جَنَّةٍ) من جنان القلب والروح (عالِيَةٍ قُطُوفُها) من مدركات القلب والروح من المعاني والحقائق (دانِيَةٌ) كلما شاؤوا نالوها.

[٢٥ ـ ٣٧] (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩))

(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) أي : جانبه الأضعف النفساني الحيواني ، فيتحسر ويتندّم ويتوحش من تلك الصور والهيئات السمجة والقبائح التي نسيها وأحصاها الله ويتنفر منها ويتمنى الموت عندها ويتيقن أن الذي صرف عمره فيه وأكبّ بوجهه عليه من المال والسلطنة والجاه ما كان ينفعه بل يضرّه ، وهو معنى قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) إلى آخره ، وينادى على لسان العزة والقهر الملكوت الموكل بعالم الكون والفساد من النفوس السماوية والأرضية أن (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي : قيدوه بما يناسب هيئات نفسه من الصور واحبسوه في سجين الطبيعة بما يمنع الحركات على وفق الإرادة من الأجرام (ثُمَ) جحيم الحرمان ونيران الآلام (صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) الحوادث الغير المتناهية (فَاسْلُكُوهُ) ليتعذب بأنواع التعذيبات. والسبعون في العرف عبارة عن الكثرة الغير المحصورة لا العدد المعين (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : كل ذلك بسبب كفره واحتجابه عن الله وعظمته وشحه لمحبّة المال (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) لاستيحاشه عن نفسه فكيف لا يستوحش غيره عنه وهو متنفر عن كل أحد حتى عن نفسه؟ ، (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ) غسالات أهل النار وصديدهم وقد شاهدناهم يأكلونها عيانا.

[٣٨ ـ ٥٢] (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

(فَلا أُقْسِمُ) بالظاهر والباطن من العالم الجسماني والروحاني ، الوجود كله ظاهرا وباطنا (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي : محض اليقين وهو الكلام الوارد من عين الجمع ، إذ لو نشأ من مقام القلب لكان علم اليقين ، ولو نشأ من مقام الروح لكان عين اليقين. فلما صدر من

٣٦٧

مقام الوحدة كان حق اليقين ، أي : يقينا حقا صرفا لا شوب له بالباطل الذي هو غيره. نسب القول أولا إلى الرسول ثم إلى الحق ليفيد التوحيد الذاتي ، ثم قال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي : نزّه الله وجرّده عن شوب الغير بذاتك الذي هو اسمه الأعظم الحاوي للأسماء كلها بأن لا يظهر في شهودك تلوين من النفس أو القلب فتحتجب برؤية الاثنينية أو الأنانية وإلا كنت مشبّها لا مسبّحا ، والله تعالى أعلم.

٣٦٨

سورة المعارج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) ذِي الْمَعارِجِ) أي : المصاعد وهي مراتب الترقي من مقام الطبائع إلى مقام المعادن بالاعتدال ، ثم إلى مقام النبات ، ثم إلى الحيوان ، ثم إلى الإنسان في مدارج الانتقالات المرتبة بعضها فوق بعض ، ثم في منازل السلوك كالانتباه واليقظة والتوبة والإنابة إلى آخر ما أشار إليه أهل السلوك من منازل النفس ومناهل القلب ، ثم في مراتب الفناء في الأفعال والصفات إلى الفناء في الذات مما لا يحصى كثرة. فإن له تعالى بإزاء كل صفة مصعدا بعد المصاعد المتقدمة على مقام الفناء في الصفات.

[٤] (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤))

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) من القوى الأرضية والسماوية في وجود الإنسان (وَالرُّوحُ) الإنساني إلى حضرته الذاتية الجامعة في القيامة الكبرى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : في الأدوار المتطاولة والدهور المتمادية من الأزل إلى الأبد لا المقدار المعين. ألا ترى إلى قوله في مثل هذا المقام في عروج الأمر : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

[٥ ـ ٧] (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) فإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة يوم (يَرَوْنَهُ) لاحتجابهم عنه (بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) حاضرا واقعا يتوهمه المحجوبون متأخرا إلى زمان منتظر لغيبتهم عنه ونحن نراه حاضرا.

[٨ ـ ١٤] (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤))

(يَوْمَ تَكُونُ) سماء النفس الحيوانية متذائبة متفانية (كَالْمُهْلِ) على ما مر في قوله :

__________________

(١) سورة السجدة ، الآية : ٥.

٣٦٩

(وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (١) (وَتَكُونُ) جبال الأعضاء هباء منبثا على اختلاف ألوانها (كَالْعِهْنِ* وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لشدّة الأمر وتفاقم الخطب وتشاغل كل أحد بما ابتلي به من هيئات نفسه وأهوال ما وقع فيه مع ترائيهم.

[١٥ ـ ١٨] (كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

(كَلَّا) ردع عن تمني الافتداء والإنجاء فإنه بهيئة أجرامه استحق عذابه وبمناسبة نفسه للجحيم انجرّ إليها.

ألا ترى إلى قوله : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) فإن لظى نار الطبيعة السفلية ما استدعت إلا المدبر عن الحق المعرض عن جناب القدس وعالم النور المقبل بوجهه إلى معدن الظلمة المؤثر بمحبته الجواهر الفاسقة السفلية المظلمة فانجذب بطبعه إلى مواد النيران الطبيعية واستدعته وجذبته إلى نفسها للجنسية فاحترق بنارها الروحانية المستولية على الأفئدة ، فكيف يمكن الإنجاء منها وقد طلبها بداعي الطبع ودعاها بلسان الاستعداد.

[١٩ ـ ٢١] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١))

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) أي : النفس بطبعها معدن الشرّ ومأوى الرجس لكونها من عالم الظلمات ، فمن مال إليها بقلبه واستولى عليه مقتضى جبلته وخلقته ناسب الأمور السفلية واتصف بالرذائل التي أردؤها الجبن والبخل المشار إليهما بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) لمحبته البدن وما يلائمه وتسببه لشهواته ولذاته وإنما كانت أردأ لجذبهما القلب إلى أسفل مراتب الوجود ، قال النبي عليه الصلاة والسلام : «شرّ ما في الرجل شحّ هالع وجبن خالع».

[٢٢ ـ ٢٦] (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦))

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي : الإنسان بمقتضى خلقته وطبيعة نفسه معدن الرذائل إلا الذين جاهدوا في الله حق جهاده وتجرّدوا عن ملابس النفس وتنزّهوا عن صفاتها من الواصلين الذين هم أهل الشهود الذاتي (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) فإن المشاهدة صلاة الروح ، غابوا في دوام مشاهدتهم عن النفس وصفاتها عن كل ما سوى مشهودهم.

والمجرّدين الذين تجرّدوا عن أموالهم الصورية والمعنوية من العلوم النافعة والحقيقية

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٣٧.

٣٧٠

وفرّقوها على المستحق المستعدّ الطالب وعلى القاصر الممنوّ بالشواغل عن الطلب (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ) من أهل اليقين البرهاني والاعتقاد الإيماني بأحوال الآخرة والمعاد وهم أرباب القلوب المتوسطون.

[٢٧ ـ ٣١] (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١))

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي : أهل الخوف من المبتدئين في مقام النفس السائرين عنه بنور القلب لا الواقفين معه أو المشفقين من عذاب الحرمان والحجاب في مقام القلب من السالكين أو في مقام المشاهدة من التلوين فإنه لا يؤمن الاحتجاب ما بقيت بقيته كما قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) من أهل العفة وأرباب الفتوة.

[٣٢ ـ ٣٩] (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥) فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩))

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) التي استودعوها بحسب الفطرة من المعارف العقلية (وَعَهْدِهِمْ) الذي هو أخذ الله ميثاقه منهم في الأزل (راعُونَ) أي : الذين سلمت فطرتهم ولم يدنسوها بالغواشي الطبيعية والأهواء النفسانية (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي : يعملون بمقتضى شاهدهم من العلم فكل ما شهدوه قاموا بحكمه وصدروا عن حكم شاهدهم لا غير (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ) أي : صلاة القلب وهي المراقبة (يُحافِظُونَ) أو صلاة النفس على الظاهر (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) على اختلاف طبقاتهم ، فالفرقة الأولى في جنات من الجنان الثلاث ، والمتوسطون من أرباب القلوب في جنات من جنتين منها والباقون في جنات النفوس دون الباقيتين.

[٤٠ ـ ٤٤] (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) من الموجودات التي أوجدها بشروق نوره عليها وغروبه فيها بتعينه بها أو أعدمها بشروق نوره منها وأوجدها بغروبه فيها (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى) أن نطلع نورنا منهم فنهلكهم ونجعله غاربا في آخرين (خَيْراً مِنْهُمْ) فنوجدهم (يَوْمَ يَخْرُجُونَ) من أجداث الأبدان (سِراعاً) إلى مقارّ ما يناسب هيئاتهم من الصور ، والله تعالى أعلم.

٣٧١

سورة نوح ـ عليه‌السلام ـ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بالمجاهدة والرياضة في سبيله (وَاتَّقُوهُ) بالتجرّد عما سواه حتى صفاتكم وذواتكم (وَأَطِيعُونِ) بالاستقامة (يَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب آثار أفعالكم وصفاتكم وذواتكم (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ) معين لا أجل بعده ، وهو الفناء في التوحيد (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) الذي هو توفيه إياكم بذاته (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) بوجود غيره بل يفنى كل ما عداه (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) في مقام الجمع بين الظلمة والنور إلى التوحيد (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) لأنهم كانوا بدنيين ظاهريين لا يرون النور إلا للضوء الجسماني ولا الوجود إلا للجواهر الجسمانية الغاسقة ، فينفروا عن إثبات نور مجرد أنوارهم بالنسبة إليه ظلمات.

[٧ ـ ٩] (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩))

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) وتسترهم بنورك تصاموا عنه لعدم فهمهم وقصور استعدادهم أو زواله (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتستروا بأبدانهم والتحفوا بها لشدّة ميلهم إليها وتعلقهم بها واحتجابهم (وَأَصَرُّوا) على ذلك ولم يعزموا التجرّد (وَاسْتَكْبَرُوا) لاستيلاء صفات نفوسهم واستعلاء غضبهم (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) نزلت عن مقام التوحيد ودعوتهم إلى مقام العقل وعالم النور (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ) بالمعقولات الظاهرة (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ) في مقام القلب بالأسرار الباطنة ليتوصلوا إليها بالمعقولات.

[١٠ ـ ١٢] (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢))

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : اطلبوا أن يستركم ربّكم بنوره فتتنوّر قلوبكم وتكاشفوا

٣٧٢

بالحقائق الإلهية والأسرار الغيبية (يُرْسِلِ) سماء الروح (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) بأمطار المواهب والأحوال (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) المكاسب والمقامات (وَبَنِينَ) التأييدات القدسية من عالم الملكوت (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) الصفات في مقام القلب وأنهار العلوم.

[١٣ ـ ١٤] (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي : تعظيما يوقركم بالترقي في الدرجات إلى عالم الأنوار (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) كل طور أشرف مما قبله وكان حالكم فيه أحسن وشرفكم أزيد مما تقدمكم ، فما بالكم لا تقيسون الغيب على الشهادة والمعقول على المحسوس والمستقبل على الماضي فترتقون إلى سماء الروح بسلم الشريعة والعلم والعمل كما ارتقيتم بسلم الطبيعة والحكمة والقدرة في أطوار الخلقة.

[١٥ ـ ١٦] (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦))

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) من مراتب الغيوب السبعة المذكورة ذات طبقا بعضها فوق بعض (وَجَعَلَ) قمر القلب (فِيهِنَّ نُوراً) زائدا نوره على نور النفس ونجوم القوى (وَجَعَلَ) شمس الروح (سِراجاً) باهرا نوره.

[١٧ ـ ٢٠] (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ) من أرض البدن (نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) بميلكم إليها وتلبسكم بشهواتها ولذاتها وبهيئات نفوسكم الجسمانية وغواشيكم الهيولانية (وَيُخْرِجُكُمْ) بالبعث منه في مقام القلب عند الموت الإرادي (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ) تلك (الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها) سبل الحواس (فِجاجاً) خروقا واسعة أو من جهتها سبل سماء الروح إلى التوحيد ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض» ، أراد الطرق الموصلة إلى الكمال من المقامات والأحوال كالزهد والعبادة والتوكل والرضا وأمثال ذلك ، ولهذا كان معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبدن.

[٢١ ـ ٢٤] (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤))

(وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) من رؤساءهم المتبوعين أهل المال والجاه

٣٧٣

المحجوبين عن الحق الهالكين الذين خسروا نور استعدادهم بالاحتجاب بهما وبالأولاد والأتباع أو المحجوبين بأموال العلوم الحاصلة بالعقل الشيطاني المشوب بالوهم ونتائج فكرهم المقتضية لمحبة البدن والمال (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي : معبوداتكم التي عكفتم بهواكم عليها من ودّ البدن الذي عبدتموه بشهواتكم وأحببتموه وسواع النفس ويغوث الأهل ويعوق المال ونسر الحرص.

[٢٥ ـ ٢٦] (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦))

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) أي : من أجل أعمالهم المخالفة للصواب (أُغْرِقُوا) في بحر الهيولى ، (فَأُدْخِلُوا) نار الطبيعة.

[٢٧] (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧))

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ملّ عن دعوة قومه وضجر واستولى عليه الغضب ودعا ربّه لتدمير قومه وقهرهم وحكم بظاهر الحال أن المحجوب الذي غلب عليه الكفر لا يلد إلا مثله ، فإن النطفة التي تنشأ من النفس الخبيثة المحجوبة وتتربى بهيئتها المظلمة لا تقبل إلا نفسا مثلها ، كالبذر الذي لا ينبت إلا من صنفه وسنخه. وغفل أن الولد سر أبيه ، أي : حاله الغالبة على الباطن فربما كان الكافر باقي الاستعداد ، صافي الفطرة ، نقيّ الأصل بحسب الاستعداد الفطري وقد استولى على ظاهره العادة ودين آبائه وقومه الذين نشأ هو بينهم فدان بدينهم ظاهرا وقد سلم باطنه فيلد المؤمن على حاله النورية كولادة أبي إبراهيم إياه فلا جرم تولد من تلك الهيئة الغضبية الظلمانية التي غلبت على باطنه وحجبته في تلك الحالة عما قال مادة ابنه كنعان ، فكان عقوبة لذنب حاله.

[٢٨] (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

(رَبِّ اغْفِرْ لِي) أي : استرني بنورك بالفناء في التوحيد ولروحي ونفسي اللذين هما أبوا القلب (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ) أي : مقامي في حضرة القدس (مُؤْمِناً) بالتوحيد العلمي ولأزواج الذين آمنوا بي ، أي : ونفوسهم فبلغهم إلى مقام الفناء في التوحيد (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) الذين نقصوا حظهم بالاحتجاب بظلمة نفوسهم عن عالم النور (إِلَّا تَباراً) هلاكا بالغرق في بحر الهيولى وشدّة الاحتجاب ، والله تعالى أعلم.

٣٧٤

سورة الجنّ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢))

قد مرّ أن في الوجود نفوسا أرضية قوية لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ولا في صفاء النفوس المجرّدة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرّد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء : الصور المعلقة ، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي : النفوس المجرّدة ، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرحمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم ، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل ، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان ، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء خصوصا أكملهم نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإن شئت التطبيق ، فاعلم : أن القلب إذا استعدّ لتلقي الوحي وكلام الغيب استمع إليه القوى النفسانية من المتخيلة والوهم والفكر والعاقلة النظرية والعملية وجميع المدركات الباطنة التي هي جنّ الوجود الإنساني ، ولما لم يكن الكلام الإلهي الوارد على القلب بواسطة روح القدس من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل أو المستنتج من القياسات العقلية والمقدّمات الوهمية والتخيلية ، قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي : الصواب وذلك هو تأثرها بنور الروح وانتعاشها بمعاني الوحي وتنوّرها بنوره وتأثيرها في سائر القوى من الغضبية والشهوية وجميع القوى البدنية (فَآمَنَّا بِهِ) تنوّرنا بنوره واهتدينا إلى جناب القدس (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي : لن نمثله بمثال من جنس مدركاتنا فنشبه به غيره ، بل نشايع السرّ في التوجه إلى جناب الوحدة ، ولن ننزوي إلى عالم الكثرة لنعبد الشهوات بهوى

٣٧٥

النفس وتحصيل مطالبها من عالم الرجس فنعبد غيره.

[٣ ـ ٥] (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥))

(وَأَنَّهُ تَعالى) عظمة (رَبِّنا) من أن نتصوّره مدركة فتكيفه فيدخل تحت جنس فيتخذ (صاحِبَةً) من صنف تحته أو ولدا من نوع يماثله (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) الذي هو الوهم (عَلَى اللهِ شَطَطاً) بأن كان يتوهمه في جهة ويجعله من جنس الموجودات المحفوفة باللواحق المادية فيماثل المخلوقات صنفا أو نوعا (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ) إنس الحواس الظاهرة ولا جنّ القوى الباطنة (عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما أدركوا منه فتوهمنا أن البصر يدرك شكله ولونه والأذن تسمع صوته والوهم والخيال يتوهمه ويتخيله حقا مطابقا لما هو عليه قبل الاهتداء والتنوّر ، فعلمنا من طريق الوحي أن ليست في شيء من إدراكه بل هو يدركها ويدرك ما تدركه ولا تدركه.

[٦] (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦))

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ) أي : تستند القوى الظاهرة إلى القوى الباطنة وتتقوّى بها (فَزادُوهُمْ) غشيان المحارم وإتيان المناهي بالدواعي الوهمية والنوازغ الشهوية والغضبية والخواطر النفسانية.

[٧] (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ) قبل التنوّر بنور الهدى (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) عليهم العقل المنوّر بنور الشرع فيهذبهم ويزكيهم ويؤدّبهم بالآداب الحسنة فيأتون ما يشتهون بمقتضى طباعهم ويعملون على حسب غرائزهم وأهوائهم ويتركون سدى بلا رياضة ويهملون هملا بلا مجاهدة.

[٨ ـ ٩] (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

(وَأَنَّا لَمَسْنَا) أي : طلبنا سماء العقل لنستفيد من مدركاته ما نتوصل به إلى لذاتنا ونسترق من مدركاته ما يعين في تحصيل مآربنا كما كان قبل التأدّب بالشرائع (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) معاني حاجزة عن بلوغنا مقاصدنا وحكما مانعة لنا عن مشتهياتنا قوية (وَشُهُباً) وأنوارا قدسية وإشراقات نورية تمنعنا من إدراك المعاني التي صفت عن شوب الوهم والوصول إلى طور العقل المنوّر بنور القدس ، فإن العقل قبل الهداية كان مشوبا بالوهم ، قريبا من أفق

٣٧٦

الخيال والفكر ، مقصورا على تحصيل المعاش مناسبا للنفس وقواها ، فلما تنوّر بنور القدس بعد عن منازل القوى ومبالغ علمها وإدراكها. وهذا معنى قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي : نورا ملكوتيا وحجة عقلية تطردنا عن الأفق العقلي وتحفظ العقل عن أن يميل إلى النفس فتختلط بنا وتنزل إلى ما ارتقينا إليه من المقاعد فنكتسب منه الآراء القياسية المؤدّية إلى موافقات البدن وأمان النفس.

[١٠] (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أرض البدن من القوى فتبقى في المجاهدة والرياضة ، ممنوعة من لذاتها ، محجوبة عن مشتهياتها وما تهواها (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) بالأحكام الشرعية والمناهي الدينية والأوامر التكليفية (رَشَداً) استقامة وصوابا وما يوجب صلاحها ، فإن مقصد الشرع وكمال النفس أمر وراء مبالغ إدراك هذه القوى.

[١١ ـ ١٣] (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) كالقوى المدّبرة لنظام المعاش وصلاح البدن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) من المفسدات كالوهم والغضب والشهوة العاملة بمقتضى هوى النفس والمتوسطات كالقوى النباتية الطبيعية (كُنَّا) ذوي مذاهب مختلفة لكل طريقة ووجهة مما عيّنه الله ووكله به (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : تيقنا أن الله غالب علينا لن نعجزه ، كائنين في أرض البدن ولا هاربين إلى سماء الروح لعجز كل أحد منا عن فعل الآخر ، فكيف عن فعل مبدأ القوى والقدر (الْهُدى) أي : القرآن تنوّرنا (بِهِ) وصدّقناه بامتثالنا أوامره ونواهيه كماقال عليه‌السلام : «لكل أحد شيطان ، إلّا أن شيطاني أسلم على يديّ». (فَلا يَخافُ) بخس حق من حقوقه وكمالاته التي أمكنت له وحظوظه أيضا ، فإن النفس وإن اطمأنت وتنوّرت قواها بحيث لا تزاحم السرّ ولا تعلو القلب لم تمنع من الحظوظ بل وفرّت عليها لتتقوّى بها هي وقواها على الطاعة وتنشط على الأفعال الإلهية حالة الاستقامة كتمتيع نفسه عليه‌السلام بنكاح تسع نسوة وغيره من التمتعات ، ولا رهق ذلّة وقهر بالرياضة أو بخس كمال ورهق رذيلة من الرذائل أو لحوق هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد.

[١٤ ـ ١٦] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦))

(مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) المذعنون لطاعة القلب وأمر الربّ بالطبع كالعاقلة (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ)

٣٧٧

الجائرون عن طريق الصواب كالوهم (فَمَنْ) انقاد وأذعن (فَأُولئِكَ) قصدوا الصواب والاستقامة (وَأَمَّا) الجائرون (فَكانُوا) حطبا لجهنم الطبيعة الجسمانية (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) من جملة الموحى لا من كلام الجنّ ، أي : لو استقام الجن كلهم على طريقة التوجه إلى الحق والسلوك في متابعة السرّ السائر إلى التوحيد (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي : لرزقناهم علما جمّا كما ذكر في إنباء آدم للملائكة.

[١٧] (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنمتحنهم هل يشكرون بالعمل به وصرفه فيما ينبغي من مراضي الله أم لا؟ كما قال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) (١) (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) فيبخل بنعمته أو يصرفها فيما لا ينبغي من الأعمال وينسى حق نعمته (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) بالرياضة الصعبة والحرمان عن الحظ حتى يتوب ويستقيم أو بالهيئة المنافية المؤلمة ليتعذب عذابا شديدا شاقّا غالبا عليه.

[١٨] (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨))

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ) أي : مقام كمال كل قوة وهو هيئة إذعانها وانقيادها للقلب الذي هو سجودها أو كمال كل شيء حتى القلب والروح (لِلَّهِ) أي : حق الله على ذلك الشيء ، بل صفة الله الظاهرة على مظهر ذلك الشيء (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) بتحصيل أغراض النفس وعبادة الهوى وطلب اللذات والشهوات بمقتضى طباعكم ، فتشركوا بالله وعبادته.

[١٩] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩))

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي : القلب المتوجه إلى الحق الخاشع المطيع (يَدْعُوهُ) بالإقبال إليه وطلب النور من جنابه ويعظمه ويبجله (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) يزدحمون عليه بالاستيلاء ويحجبونه بالظهور والغلبة.

[٢٠] (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أوحده ولا ألتفت إلى ما سواه فأكون مشركا.

[٢١ ـ ٢٤] (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي : غيّا وهدى ، إنما الغواية والهداية من الله

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٦٨.

٣٧٨

إن سلطني عليكم تهتدوا بنوري وإلا بقيتم في الضلال ليس في قوّتي أن أقسركم على الهداية.

(إِلَّا بَلاغاً) أي : أن أبلغكم بلاغا صادرا من الله (وَ) أبلغكم (رِسالاتِهِ) من معاني الوحي وأحكام الحق ، أي : لا أملك إلّا التبليغ والرسالات فهو استثناء من معمول أملك. وقوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة والقدرة عليهم ، أي : لن يجيرني أيضا (مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أرادني الله بضرّ أو غواية فيسلطكم أو غيركم عليّ (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملجأ وملاذا ومهربا ومحيصا إن أهلكني أو عذّبني على أيديكم أو غيركم ، وإذ لا أملك النفع والضرّ والهداية والغواية لنفسي فكيف أملك لكم شيئا منها؟.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) منكم فلم يقبل نوره ولم يسمع ما يبلغه رسول العقل (فَإِنَّ لَهُ نارَ) الطبيعة المحرقة باستيلائها عليه أبدا (حَتَّى إِذا رَأَوْا) أي : يكونون عليه لبدا يستولون عليه بالازدحام حتى إذا رأوا (ما يُوعَدُونَ) في الرسالات من وقوع القيامة الصغرى بالموت أو الوسطى بظهور نور الفطرة واستيلاء القلب عليها ، أو الكبرى بظهور نور الوحدة فسيظهر ضعفهم وقلّة عددهم وخمود نارهم وانطفاؤها وكلالة حدّهم وشوكتهم بإحدى الأحوال الثلاث ولا ينصر بعضهم بعضا لانقهارهم وعجزهم وفنائهم فيعلمون أنهم (أَضْعَفُ ناصِراً) من القلب (وَأَقَلُّ عَدَداً) وإن كادوا أن يقهروه بالكثرة واستقلّوه بالنسبة إلى عددهم فإن الواحد المؤيد من عند الله أقوى وأكثر (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢)) (١) ، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (٢).

[٢٥ ـ ٢٧] (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧))

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) في القيامة الصغرى من الفناء والدخول في نار الطبيعة عند البعث لعدم الوقوف على قدر الله أو في الأخريين من الموت الإرادي والفناء الحقيقي لعدم الوقوف على قوة الاستعداد وضعفه فيقع عاجلا ، أم ضرب الله له غاية وأجلا هو (عالِمُ الْغَيْبِ) وحده (فَلا) يطلع (عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي : أعدّه في الفطرة الأولى وزكّاه وصفّاه من رسول القوة القدسية (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : من جانبه الإلهي (وَمِنْ خَلْفِهِ) وجهته البدنية (رَصَداً) حفظة أما من جهة الله التي إليها وجهه فروح القدس والأنوار الملكوتية والربانية ، وأما من جهة البدن فالملكات الفاضلة

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٠.

٣٧٩

والهيئات النورية الحاصلة من هياكل الطاعات والعبادات يحفظونه من تخبيط الجنّ وخلط كلامهم من الوساوس والأوهام والخيالات بمعارفها اليقينية ومعانيها القدسية والواردات الغيبية والكشوف الحقيقية.

[٢٨] (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) ليظهر علمه تعالى في مظاهر الرسل مما كان مكنونا في استعدادهم فيكملوا ويكملوا بما أمكنهم حمله من رسالاته وإبلاغه (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) من العقل الفرقاني والمعاني المكنونة في فطرتهم أزلا فأظهرها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ) أي : ضبط كل شيء بالعقل الفرقاني وإبراز الكمال التام جملة وتفصيلا كليا وجزئيا ، أو ضبط عدد كل شيء مطلقا في القضاء والقدر كليا وجزئيا ، والله تعالى أعلم.

٣٨٠