تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي : أأنت مالك أمرهم فمن سبق الحكم بشقاوته فأنت تنقذه ، أي : لا يمكن إنقاذه أصلا (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أفعالهم وصفاتهم وذواتهم في التجريد والتفريد من أهل التوحيد (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) أي : مقامات وأحوال بعضها فوق بعض كالتوكل بفناء الأفعال فوقه ، الرضاء بفناء الصفات فوقه الفناء في الذات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم المكاشفات (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) الروح ماء العلم (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) الحكم في أراضي النفوس بحسب استعداداتها (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ) زرع الأعمال والأخلاق (مُخْتَلِفاً) أصنافه بحسب اختلاف القوى والأعضاء (ثُمَّ يَهِيجُ) فينقطع عن أصله بأنوار التجليات (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) لاضمحلاله وتلاشيه بفناء أصوله ، القائم هو بها من القوى والنفوس والقلوب (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) بذهابه وانكساره وانقشاعه عند ظهور صفاته تعالى واستقرارها بالتمكين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي) الحقائق المجردة من قشر الأنانية.

[٢٢ ـ ٢٨] (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨))

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) بنوره حال البقاء بعد الفناء ونقى قلبه بالوجود الموهوب الحقاني فيسع صدره الحق والخلق من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر فيشاهد التفصيل في عين الوحدة والتوحيد في عين الكثرة ، والإسلام هو الفناء في الله وتسليم الوجه إليه ، أي : شرح صدره في البقاء لإسلامه وجهه حال الفناء (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يرى ربّه (فَوَيْلٌ) للذين قست قلوبهم من قبول ذكر الله لشدّة ميلها إلى اللذات البدنية وإعراضها عن الكمالات القدسية (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) عن طريق الحق (مُتَشابِهاً) في الحق والصدق (مَثانِيَ) لتنزلها عليك في مقام القلب قبل الفناء وبعده فتكون مكرّرة باعتبار الحق والخلق ،

٢٠١

فتارة يتلوها الحق وتارة يتلوها الخلق (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ) أهل الخشية من العلماء بالله لانفعالها بالهيئات النورانية الواردة على القلب النازل أثرها إلى البدن (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) وأعضاؤهم بالانقياد والسكينة والطمأنينة (إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ) بالأنوار اليقينية (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يحجبه عن النور فلا يفهم كلامه ولا يرى معناه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) مع كونه أشرف الأعضاء لكون سائر جوارحه مقيدة بهيئات لا يتأتى له التحرّز بها ولا يتهيأ ، مغلّلة بأغلال لا يتيسر له بها الحركة في الدفع ولا يتسنى كمن أمن العذاب.

[٢٩] (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

(مَثَلاً) في التوحيد والشرك (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) سيّئوا الأخلاق لا يتسالمون في شيء يوجهه هذا في حاجة ويمنعه هذا ويجذبه أحدهما إلى جهة والآخر إلى ما يقابلها ، فيتنازعون ويتجاذبون وهذا صفة من تستولي عليه صفات نفسه المتجاذبة لاحتجابه بالكثرة المتخالفة فهو في عين التفرقة همّه شعاع وقلبه أوزاع (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) لا يبعثه إلا إلى جهته ، وهذا مثل الموحد الذي تسالمت له مشايعة السرّ إلى جناب الربّ ليس له إلا همّ واحد ومقصد واحد في عين الجمعية مجموع ناعم البال خافض العيش والحال.

[٣٠] (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠))

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) معناه : كل شيء هالك إلا وجهه ، أي : فان في الله ، وهم في شهودك هالكون معدومون بذواتهم.

[٣١ ـ ٣٥] (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥))

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) لاختلافكم في الحقيقة والطريقة لكونهم محجوبين بالنفس وصفاتها ، سائرين بها طالبين لشهواتها ولذاتها ، وكونك دائما بالحق سائرا به طالبا لوجهه ورضاه (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) من صفات نفوسهم وهيئات رذائلهم (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) من تجليات صفاته وجنات جماله ، فيمحو ظلمات وجوداتهم بنور وجهه.

٢٠٢

[٣٦ ـ ٤٣] (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣))

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) المتوكل عليه في توحيد الأفعال وهو منبع القوى والقدر (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) لاحتجابهم بالكثرة عنه ، فينسبون التأثير والقدرة إلى ما هو ميت بالذات لا حول له ولا قوة ، فأنت أحق بأن يكفيك ربّك شرّهم (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) يحجبه عنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) إذ لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه.

[٤٤ ـ ٥٢] (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) لتوقفها على إرضائه للمشفوع له بتهيئته لقبولها ، وإذن الشفيع بتمكينه منها والتهيؤ من فيضه الأقدس ، فالقبول والتأثير من جهته له الملك مطلقا إليه الرجوع دائما (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) مما يشاهدون من هيئات أعمالهم وصور أخلاقهم التي ذهلوا عنها لاشتغالهم بالشواغل الحسيّة ، وأحصاه الله بإثباته في كتبهم بل في الكتب

٢٠٣

الأربعة من نفوسهم والسماء الدنيا واللوح المحفوظ وأمّ الكتاب.

[٥٣] (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))

(لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) فإن القنوط علامة زوال الاستعداد والسقوط عن الفطرة بالاحتجاب ، وانقطاع الوصلة من الحق والبعد ، إذ لو بقيت فيه مسكة من النور الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه بالذات فرجا وصول ذلك الأثر إليه ، وإن أسرف في الميل إلى الجهة السفلية وفرط في جنب الحضرة الإلهية لاتصاله بعالم النور بتلك البقية. وإنما اليأس لا يكون إلا مع الاحتجاب الكلي واسوداد الوجه بالإعراض عن العالم العلويّ ، والتغشي بالغطاء الخلقي المادّي.

(إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) بشرط بقاء نور التوحيد في القلب وهو مستفاد من اختصاص العباد لإفاضتهم إلى نفسه في قوله : (يا عِبادِيَ) (١) ، ولهذا قيل : يغفر جميعها للأمة المحمدية الموحدين دون سائر الأمم ، كما قال لأمّة نوح عليه‌السلام : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (٢) أي : بعضها. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لهيئات الرذائل من الإفراط والتفريط (الرَّحِيمُ) بإفاضة الفضائل.

[٥٤ ـ ٥٩] (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩))

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) بالتنّصل عن هيئات السوء (وَأَسْلِمُوا لَهُ) وجوهكم بالتجرّد عن ذنوب الأفعال والصفات من قبل انسداد باب المغفرة بوقوع العذاب الذي تستحقونه بالموت فلا يمكنكم الإنابة والتسليم لفقدان الآلات وانسداد الأبواب (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) بترك السعي في طلب الكمال والتقصير في الطاعة حين كنت في جوار الله ، قريبا منه ، لصفاء استعدادي وتمكّني من السلوك فيه بوجود الآلات البدنية المعدّة لي.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٥٣.

(٢) سورة نوح ، الآية : ٧١.

٢٠٤

[٦٠] (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠))

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى (تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) من المحجوبين الذين يسوّونه بالمخلوقات ، إذ يجسمونه ويجوّزون عليه ما يمتنع عليه من الصفات لاحتجابهم بالموادّ (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) بارتكاب الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ) الطبيعة الهيولانية (مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) الذين احتجبوا بصفات نفوسهم المستولية عليهم.

[٦١] (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الرذائل بتجرّدهم عن تلك الصفات (بِمَفازَتِهِمْ) وأسباب فلاحهم من هيئات الحسنات وصور الفضائل والكمالات (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) لتجرّدهم عن الهيئات المؤلمة المنافية (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات كمالاتهم التي اقتضتها استعداداتهم.

[٦٢] (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢))

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو وحده يملك خزائن غيوبها وأبواب خيرها وبركتها ، يفتح لمن يشاء بأسمائه الحسنى ، إذ كل اسم من أسمائه مفتاح لخزانة من خزائن جوده لا ينفتح بابها إلا به ، فيفيض عليه ما فيها من فيض رحمته العامة والخاصة ونعمته الظاهرة والباطنة.

[٦٣] (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : حجبوا عن أنوار صفاته وأفعاله بظلمات طباعهم ونفوسهم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين لا نصيب لهم من تلك الخزائن لإطفائهم النور الأصلي القابل لها ، وتضييعهم الاستعداد الفطري ، والاسم الذي يفتح به مقاليدها.

[٦٤ ـ ٦٧] (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) بالجهل ، فأحتجب عن فيض رحمته ونور كماله ، فأكون (مِنَ الْخاسِرِينَ) بل خصص العبادة بالله موحدا فانيا فيه عن رؤية الغير إن كنت تعبد شيئا (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) به له ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوه حق معرفته إذ قدروه

٢٠٥

في أنفسهم وصوّروه وكل ما يتصوّرونه فهو مجعول مثلهم (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) أي : تحت تصرّفه وقبضة قدرته وقهر ملكوته (وَالسَّماواتُ) في طيّ قهره ويمين قوته يصرفها كيف يشاء ويفعل بها ما يشاء ، يطويها ويفنيها عن شهود الشاهد يوم القيامة الكبرى ، والفناء في التوحيد لفناء الكل حينئذ في شهود التوحيد ، وكل تصرّف تراه بيمينه وكل صفة تراها صفته ، ويرى عالم القدرة بيمينه ، بل كل شيء عينه فلا يرى غيره بل يرى وجهه ، فلا عين ولا أثر لغيره (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات الغير وتأثيره وقدرته.

[٦٨] (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨))

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) عند الإماتة بسريان روح الحق وظهوره في الكل وشهود ذاته بذاته وفناء الكل فيه (فَصَعِقَ) أي : هلك (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) حال الفناء في التوحيد وظهور الهوية بالنفخة الروحية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من أهل البقاء بعد الفناء الذين أحياهم الله بعد الفناء بالوجود الحقاني فلا يموتون في القيامة كرّة أخرى لكون حياتهم به وفنائهم عن أنفسهم من قبل (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) عند البقاء بعد الفناء والرجوع إلى التفصيل بعد الجمع (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) بالحق (يَنْظُرُونَ) بعينه.

[٦٩ ـ ٧٠] (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

(وَأَشْرَقَتِ) أرض النفس حينئذ (بِنُورِ رَبِّها) واتّصفت بالعدالة التي هي ظلّ شمس الوحدة والأرض كلها في زمن المهدي عليه‌السلام بنور العدل والحق (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي : عرض كتاب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته التي هي نفسه المنتقشة فيها صور أعماله المنطبع منها تلك الصور في بدنه (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) من السابقين المطلعين على أحوالهم الذين قال فيهم : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (١) أي : أحضروا للشهادة عليهم لاطلاعهم على أعمالهم (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) حيث وزن أعمالهم بميزان العدل ووفّى جزاء أعمالهم لا ينقص منها شيء (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) لثبوت صور أفعالهم عنده.

[٧١ ـ ٧٢] (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٦.

٢٠٦

(وَسِيقَ) المحجوبون (إِلى جَهَنَّمَ) بسائق العمل وقائد الهوى النفسيّ والميل السفليّ (فُتِحَتْ أَبْوابُها) لشدّة شوقها إليهم وقبولها لهم لما بينهما من المناسبة (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) من مالك والزبانية ، أي : الطبيعة الجسمانية والملكوت الأرضية الموكلة بالنفوس السفلية.

[٧٣] (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الرذائل وصفات النفوس (إِلَى الْجَنَّةِ) بسائق العمل وقائد المحبة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) قبل مجيئهم لأن أبواب الرحمة وفيض الحق مفتوحة دائما والتخلف من جهة القبول لا من جهة الفيض بخلاف أبواب جهنم ، فإنها مطبقة تنفتح بهم وبمجيئهم إليها لكون المواد غير مستعدّة لقبول النفوس إلّا بآثارها (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) من رضوان والأرواح القدسية والملكوت السماوية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي : تحيتهم الصفات الإلهية والأسماء العليّة بإفاضة الكمال عليهم وتبرئتهم من الآفة والنقص (طِبْتُمْ) عن خبائث الأوصاف النفسانية والهيئات الهيولانية ، فادخلوا جنة الفردوس الروحانية مقدّرين الخلود لنزاهة ذواتكم عن التغيرات الجسمانية.

[٧٤ ـ ٧٥] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالاتّصاف بكمالاته والوصول إلى نعيم تجليات صفاته (الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) بإيصالنا إلى ما وعدنا في العهد الأول وأودع فينا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله (وَأَوْرَثَنَا) جنّة الصفات (نَتَبَوَّأُ) منها (حَيْثُ نَشاءُ) بحسب شرفنا ومقتضى حالنا (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) الذين عملوا بما علموا فأورثوا جنّة القلب والنفس من الأنوار والآثار (وَتَرَى) ملائكة القوى الروحانية في جنّة الصفات (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ) عرش القلب (يُسَبِّحُونَ) بتجرّدهم عن اللواحق المادية ، حامدين ربّهم بالكمالات الروحانية (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) بتسالمهم واتحادهم في التوجه نحو الكمال بنور العدل والتوحيد واختصاص كل بما حكم بالحق في تسبيحه من غير تخاصم وتنازع (وَقِيلَ) على لسان الأحدية (الْحَمْدُ) المطلق في الحضرة الواحدية للذات الإلهية الموصوفة بجميع صفاتها (رَبِّ الْعالَمِينَ) مربيهم على حسب استعدادات الأشياء وأحوالها.

أو ملائكة النفوس والأرواح السماوية حافين في جنة الفردوس من حول عرش الفلك الأعظم ، يسبّحون بحمد ربّهم باتصاف ذواتهم المجرّدة بالكمالات الربانية. وقضى بينهم

٢٠٧

بالحق باختصاص كل بما حكم به الحق من الأفعال والكمالات. وقيل على لسان الكل : الكمال المطلق لله ربّ العالمين ، وإن حملت القيامة على الصغرى فمعناه : وأرض البدن جميعا قبضته ، يتصرّف فيها بقدرته ويقبضها عن الحركة ويمسكها عن الانبساط بالحياة وقت الموت وسموات الأرواح وقواها مطويات بيمينه ونفخ في الصور عند النفس الآخر فصعق من في السموات من القوى الروحانية ومن في الأرض من القوى النفسانية الطبيعية إلا من شاء الله من الحقيقة الروحانية واللطيفة الإنسانية التي لا تموت ، ثم نفخ فيه أخرى في النشأة الثانية بنور الحياة والاعتدال ووضع الكتاب ، أي : لوح النفس المنتقش فيه صور أعماله فتنتشر بظهور تلك النفوس عليه وجيء بالنبيين والشهداء من الذين اطلعوا على استعدادهم وأحوالهم بأن يحشروا معهم فيجازوا على حسب أعمالهم ، وقضي بينهم بالعدل وهم لا يظلمون. وباقي التأويلات بحالها إلى آخر السورة والله تعالى أعلم.

٢٠٨

سورة المؤمن وهي غافر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)) هذه (حم) أي : الحق المحتجب بمحمد فهو حق بالحقيقة ، محمد بالخليقة ، أحبه فظهر بصورته فكان ظهوره به (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) المحمدي (مِنَ اللهِ) أي : ذاته الموصوفة قد تجمع صفاته (الْعَزِيزِ) بستور جلاله حال كون الكتاب قرآنا (الْعَلِيمِ) الظاهر بعلمه ، فيكون فرقانا فقوله : (حم) معناه في الحقيقة : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أي : الحق الباطن حقيقته الظاهر بمحمد هو تنزيل الكتاب الذي هو عين الجمع الجامع للكل المكنون بعزّته في سرادقات جلاله المتنزّل في مراتب غيوبه ومظاهر علية في الصورة المحمدية التي ظهر علمه بها في مظهر العقل الفرقاني.

[٣] (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

(غافِرِ الذَّنْبِ) بظهور نوره وستره لظلمات النفوس والطبائع (وَقابِلِ التَّوْبِ) برجوع الحقيقة المجرّدة من غواشي النشأة إليه (شَدِيدِ الْعِقابِ) للمحجوب الواقف مع الغير بالشرك غير الراجع إليه بالتوحيد (ذِي الطَّوْلِ) أي : الفضل بإفاضة الكمال الزائد على نور الاستعداد الأول على حسب قبوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أولا وآخرا وظاهرا وباطنا معاقبا ومتفضلا (إِلَيْهِ) مصير الكل على كل الأحوال من الراجع التائب والواقف المعاقب إما إلى ذاته أو صفاته أو أفعاله كيف كان لا يخرج عن إحاطته شيء فيكون خارجا عن ذاته موجودا بوجود غير وجوده ، (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

[٤ ـ ٦] (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٥٣.

٢٠٩

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا) المحجوبون عن الحق لأن غير المحجوب يقبلها بنور استعداده من غير إنكار لصفاته. وأما المحجوب فلظلمة جوهره وخبث باطنه لا يناسب ذاته آياته فينكرها ويجادل فيها (بِالْباطِلِ) ليدحض بجداله آياته فيحق له العقاب.

[٧ ـ ١٠] (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠))

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) من النفوس الناطقة السماوية اللاتي أرجلهم في الأرضين السفلى بتأثيرهم فيها وأعناقهم مرقت من السموات العلى لتجرّدهم منها وتدبيرهم إياها أو الأرواح التي هي معشوقاتها (وَمَنْ حَوْلَهُ) من الأرواح المجرّدة القدسية والنفوس الكوكبية (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ينزهونه عن اللواحق المادية بتجرّد ذواتهم حامدين له بإظهار كمالاتهم المستفادة منه تعالى فكأنهم يقولون بلسان الحال : يا من هذه صفاته وهباته (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) الإيمان العياني الحقيقي (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالأمداد النورية والإفاضات السبوحية لمناسبة ذواتهم ذواتهم في الحقيقة الإيمانية (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي : شملت رحمتك وأحاط بالكل علمك (فَاغْفِرْ) بنورك (لِلَّذِينَ تابُوا) إليك بالتجرّد عن الهيئات الظلمانية والظلمات الهيولانية (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) بالسلوك فيك على متابعة حبيبك في الأعمال والمقامات والأحوال يتنصلون عن ذنوب أفعالهم وصفاتهم وذواتهم (وَقِهِمْ) بعنايتك (عَذابَ) جحيمالطبيعة (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ) صفاتك وحظائر قدسك (الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ) بالتجرّد عن الغواشي المادية واستعدّ لذلك بالتزكية والتحلية من أقاربهم المتصلين بهم للمناسبة والقرابة الروحانية (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على التعذيب (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل ما يفعل إلا بالحكمة ومن الحكمة الوفاء بالوعد (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) بتوفيقك وحسن عنايتك وكلاءتك.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) فقد حقّت له رحمتك (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأن المرحوم سعيد ، والمحجوب يمقت نفسه حين تظهر له هيئاتها المظلمة وصفاتها المؤلمة وسواد وجهه الموحش وقبح منظرها المنفر بارتفاع الشواغل الحسيّة التي كانت تشغله عن إدراك ذاته فينادى : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ هو نور الأنوار وكلما كان الشيء أشدّ نورية

٢١٠

وأكثر ضوءا فهو أبعد مناسبة من الجوهر المظلم الكدر ، فيكون أشدّ مقتا له ، ومقته لنفسه أيضا ناشئ من النور الأصلي الاستعدادي لانطباع محبة النور في الأصل الاستعدادي النوري ، بل النور لذاته محبوب والظلمة مبغوضة.

(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي : كبر مقته إياكم وقت احتجابكم عنه وعدم قبولكم للدعوة إلى الإيمان التوحيدي أو لاحتجابكم وإبائكم عن الدعوة الإيمانية.

[١١ ـ ١٢] (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي : أنشأتنا أمواتا مرتين (وَأَحْيَيْتَنَا) في النشأتين (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) عند وقوع العقاب المرتب عليها وامتناع المحيص عنه (ذلِكُمْ) العذاب السرمد والمقت الأكبر بسبب شرككم واحتجابكم عن الحق بالغير (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) بعقابكم الأبدي لا للغير فلا سبيل إلى النجاة لعلوّه وكبريائه فلا يمكن أحدا ردّ حكمه وعقابه.

[١٣ ـ ١٤] (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) آيات صفاته بتجلياته (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ) من سماء الروح (رِزْقاً) حقيقيا ما أعظمه وهو العلم الذي يحيا به القلب ويتقوى (وَما يَتَذَكَّرُ) أحواله السابقة بذلك الرزق (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) إليه بالتجرّد وقطع النظر عن الغير فأنيبوا إليه لتتذكروا بتخصيص العبادة به وإخلاص الدين عن شوب الغيرية وتجريد الفطرة عن النشأة ولو أنكر المحجوبون وكرهوا.

[١٥] (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥))

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي : رفيع درجات غيوبه ومصاعد سماواته من المقامات التي يعرج فيها السالكون إليه (ذُو الْعَرْشِ) أي : المقام الأرفع المالك للأشياء كلها (يُلْقِي الرُّوحَ) أي : الوحي والعلم اللدني الذي تحيا به القلوب الميتة (مِنْ) عالم (أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الخاصة به أهل العناية الأزلية (لِيُنْذِرَ يَوْمَ) القيامة الكبرى الذي يتلاقى فيه العبد والربّ بفنائه فيه أو العباد في عين الجمع.

[١٦ ـ ٣٣] (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)

٢١١

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣))

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) عن حجاب الإنيات أو غواشي الأبدان (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) مما ستروا من أعمالهم واستخفوا بها من الناس توهما أنه لا يطلع عليهم لظهورها في صحائفهم وبروزها من الكمون إلى الظهور ، كما قال : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١) ، وقالوا : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٢) ، ولا يخفى عليه منهم شيء لبروزهم عن حجب الأوصاف إلى عين الذات.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ينادي به الحق سبحانه عند فناء الكل في عين الجمع فيجيب هو وحده (لِلَّهِ الْواحِدِ) الذي لا شيء سواه (الْقَهَّارِ) الذي أفنى الكل بقهره (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لوقوعه دفعة باقتضاء سيئاتهم المكتوبة في صحائف نفوسهم تبعاتها وحسناتها ثمراتها (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) أي : الواقعة القريبة وهي القيامة الصغرى (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) لشدّة الخوف.

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ٦.

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٤٩.

٢١٢

[٣٤ ـ ٤٢] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢))

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) كقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (١) أي : الإضلال والخذلان كل واحد منهما مرتب على الرذيلتين العلمية والعملية.

فإن الكذب والارتياب كلاهما من باب رذيلة القوة النطقية لعدم اليقين والصدق والإسراف عن رذيلة القوتين الأخريين والإفراط في أعمالها.

والصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه هو قاعدة الحكمة النظرية من القياسات الفكرية ، فإن القوم كانوا منطقيين محجوبين بعقولهم المشوبة بالوهم غير المنوّرة بنور الهداية ، أراد أن يبلغ طرق سموات الغيوب ويطلع على الحضرة الأحدية بطريق الفكر دون السلوك في الله بالتجريد والمحو والفناء ولاحتجابه بأنانيته وعلمه قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ) أي : مثل ذلك التزيين والصدّ (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) لاحتجابه بصفات نفسه ورذائله (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) لخطئه في فكره ، أي : فسد علمه ونظره لشدة ميله إلى الدنيا ومحبته إياها بغلبة الهوى بخلاف حال الذي آمن حيث حذر أولا من الدنيا بقوله : (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) لسرعة زوال الأولى وبقاء الأخرى دائما (أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أي : التوحيد والتجريد الذي هو سبب نجاتكم (وَتَدْعُونَنِي) إلى الشرك الموجب لدخول النار (وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي) بوجوده علم إذ لا وجود له (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ) الغالب الذي يقهر من عصاه (الْغَفَّارِ) الذي يستر ظلمات نفوس من أطاعه بأنواره.

[٤٣ ـ ٥٠] (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ٢٨.

٢١٣

مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠))

(لا جَرَمَ) إلى آخره ، أي : وجب وحق (أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لا دعوة له في الدارين لعدمه بنفسه واستحالة وجوده فيهما (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) أي : تصلى أرواحهم بنار الهيئات الطبيعية واحتجاب الأنوار القدسية والحرمان عن اللذات الحسيّة والشوق إليها مع امتناع حصولها.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) بمحشر الأجساد أو ظهور المهدي عليه‌السلام. قيل لهم : ادخلوا (أَشَدَّ الْعَذابِ) لانقلاب هيئاتهم وصورها وتراكم الظلمات وتكاثف الحجب وضيق المحبس وضنك المضجع على الأول ، وقهر المهدي عليه‌السلام إياهم وتعذيبه لهم لكفرهم به وبعدهم عنه ومعرفته إياهم بسيماهم على الثاني.

[٥١ ـ ٥٤] (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤))

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالتأييد الملكوتي والنور القدسي في الدارين.

[٥٥ ـ ٥٩] (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : احبس النفس عن الظهور في مقابلة أذاهم ، واعلم أنك ستغلب حال البقاء والتمكين ، إنّا غالبون (وَاسْتَغْفِرْ) لذنب حالك بالتنصل عن أفعالك

٢١٤

(وَسَبِّحْ) بالتجريد (بِحَمْدِ رَبِّكَ) موصوفا بكماله دائما ، أي : ما دمت في حال الفناء لا تأمن التلوين بظهور النفس وصفاتها ، وجب عليك الصبر والاستغفار والتجريد عن الأوصاف التي تظهر بها النفس ، والتحقق بالله وصفاته ، فإذا حصل لك مقام الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء فذلك وقت الغلبة وظهور النفس والوفاء بالوعد.

[٦٠ ـ ٦١] (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١))

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) هذا دعاء الحال ، لأن الدعاء باللسان مع عدم العلم بأن المدعوّ به خير له أم لا دعاء المحجوبين ، وقال الله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١) أي : ضياع. وأما الدعاء الذي لا تتخلف عنه الاستجابة فهو دعاء الحال بأن يهيئ العبد استعداده لقبول ما تطلبه ولا تتخلف الاستجابة عن هذا الدعاء كمن طلب المغفرة ، فتاب إلى الله وأناب بالزهد والطاعة ، ومن طلب الوصول فاختار الفناء ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي : لا يدعونني بالتضرّع والخضوع والاستكانة بل تظهر أنفسهم بصفة التكبّر والعلوّ (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) لدعائهم بلسان الحال مع القهر والإذلال إذ صفة الاستكبار ومنازعة الله في كبريائه تستدعي ذلك.

[٦٢ ـ ٦٩] (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩))

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي : ذلكم المتجلي بأفعاله وصفاته الله الموصوف بجميع الصفات ربّكم بأسمائه المختصّة بكل واحدة من أحوالكم (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بالاحتجاب به (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود يخلق شيئا ويظهر بصفة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) عن طاعته إلى إثبات الغير وطاعته.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١٤.

٢١٥

مثل ذلك الضرب الذي ضربتم به لاحتجابكم بالكثرة يؤفك الجاحدون بآيات الله حين لم يعرفوها إذ يسترها إلى الغير.

[٧٠ ـ ٧٤] (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) لبعد مناسبتهم له واحتجابهم بظلماتهم عن النور (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وبال أمرهم (إِذِ) أغلال قيود الطبائع المختلفة (فِي أَعْناقِهِمْ) وسلاسل الحوادث الغير المتناهية ممنوعين بها عن الحركة إلى مقاصدهم (يُسْحَبُونَ فِي) حميم الجهل والهوى ثم (يُسْجَرُونَ) في نار الأشواق إلى المشتهيات واللذات الحسيّة مع فقدها ووجدان آلام الهيئات المؤذية بدلها ، فاقدين لما احتجبوا بها ووقفوا معها من صور الكثرة التي عبدوها قائلين (لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) لاطلاعهم على أنّ ما عبدوه وضيعوا أعمارهم في عبادته ليس بشيء فضلا عن إغنائه عنهم شيئا.

[٧٥ ـ ٨٥] (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(ذلِكُمْ) العذاب بسبب فرحكم بالباطل الزائل الفاني في الجهة السفلية بالنفس ونشاطكم به لمناسبة نفوسكم الكدرة الظلمانية البعيدة عن الحق له (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) لرسوخ رذائلكم واستحكام حجابكم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الظاهرين برذيلة

٢١٦

الكبر (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : المحجوبون بالعقول المشوبة بالوهم وبمعقولهم الخالي عن نور الهداية والوحي ، إذ جاءتهم الرسل بالعلوم الحقيقية التوحيدية والمعارف الحقانية الكشفية ، فرحوا بعلومهم وحجبوا بها عن قبول هدايتهم واستهزءوا برسلهم لاستصغارهم بما جاءوا به في جنب علومهم ، فحاق بهم جزاء استهزائهم وهلكوا عن آخرهم ، والله أعلم.

٢١٧

سورة حم السجدة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) حم) ظهور الحق بالصورة المحمدية (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ) الكل الجامع لجميع الحقائق من الذات الأحدية الموصوفة بالرحمة الرحمانية العامّة للكل ، بإفاضة الوجود والكمال عليه ، والرحيمية الخاصة بالأولياء المحمديين ، المستعدّين لقبول الكمال الخاص العرفاني ، والتوحيد الذاتيّ. وهو كتاب العقل الفرقاني الذي (فُصِّلَتْ آياتُهُ) بالتنزيل بعد ما أجملت قبل في عين الجمع حال كونه (قُرْآناً) أي : فصّلت بحسب ظهور الصفات وحدوث الاستعدادات في حال كونه جامعا للكل (عَرَبِيًّا) لوجود نشأته في العرب (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) حقائق آياته لقرب استعداداتهم منه وصفاء فطرهم (بَشِيراً) للقابلين المستعدّين للكمال ، المستبصرين بنوره باللقاء (نَذِيراً) للمحجوبين بظلمات نفوسهم من العقاب (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) لاحتجابهم بالأغيار وبقائهم في ظلمات الاستتار (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) كلام الحق لوقر سمع القلب كما قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) لأنّ غشاوات الطبيعة وحجب صفات النفوس أعمت أبصار قلوبهم وأصمّت آذانها وجعلتها في أغطية وأكنّة وحجبت بينهم وبينه.

[٦] (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦))

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : إني من جنسكم وأناسبكم في البشرية والمماثلة النوعية ، لتوجهه للإنس والخلطة ، وأباينكم بالوحي المنبه على التوحيد المبين لطريق السلوك ، فاتصلوا بي بالمناسبة النوعية ومجانسة البشرية لتهتدوا بنور التوحيد والوحي المفيد لبيان الدين ، وتسلكوا سبيل الحق الذي عرّفنيه بقوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له في الوجود (فَاسْتَقِيمُوا) بالثبات على الإيمان والسكينة والإيقان في التوجه (إِلَيْهِ) من غير انحراف إلى الباطل والطرق المتفرّقة ولا زيغ بالالتفات إلى الغير والميل إلى النفس (وَاسْتَغْفِرُوهُ) بالتنصل

٢١٨

عن الهيئات المادية والتجرّد عن الصفات البشرية ليستر بنور صفاته ذنوب صفاتكم (وَوَيْلٌ) للمحتجبين بالغير.

[٧ ـ ٨] (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

(الَّذِينَ) لا يزكون أنفسهم بمحو صفاتها ليرتفع حجاب الغيرية فتتحقق بالوحدة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) لسترهم النور الفطري المقتضي الشوق إلى عالم القدس ومعدن الحياة الأبدية بظلمات الحسّ وهيئات الطبيعة البدنية.

[٩ ـ ١١] (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١))

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) أي : في حادثين كما ذكر أنّ اليوم معبّر به عن الحادث لنسبته إليه في قولهم : الحوادث اليومية لتشابههما في الظهور والخفاء ، وهما الصورة والمادّة (وَبارَكَ فِيها) أي : أكثر خيرها (وَقَدَّرَ فِيها) معايشها وأرزاقها (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) هي الكيفيات الأربع والعناصر الأربعة التي خلق منها المركبات بالتركيب والتعديل (سَواءً) مستوية بالامتزاج والاعتدال للطالبين للأقوات والمعايش ، أي : قدّرها لهم (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : قصد إلى إيجادها وثم للتفاوت بين الخلقين في الإحكام وعدمه ، واختلافهما في الجهة والجوهر لا للتراخي في الزمان إذ لا زمان هناك (وَهِيَ دُخانٌ) أي : جوهر لطيف بخلاف الجواهر الكثيفة الثقيلة الأرضية (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي : تعلق أمره وإرادته بإيجادهما فوجدتا في الحال معا كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع لم يلبث في امتثاله ، وهو من باب التمثيل إذ لا قول ثمة.

[١٢ ـ ١٩] (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ

٢١٩

بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩))

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي : المادة والصورة كالأرض (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي : أشار إليها بما أراد من حركتها وتأثيرات ملكوتها وتدبيراتها وخواص كوكبها وكل ما يتعلق بها.

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : السطح الذي يلينا من فلك القمر (بِمَصابِيحَ) الشهب (وَ) حفظناها (حِفْظاً) من أن تنخرق بصعود البخارات إليها ووصول القوى الطبيعية الشيطانية إلى ملائكتها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب على أمره كيف يشاء (الْعَلِيمِ) الذي أتقن صنعه بعلمه ، أو أإنكم لتكفرون وتحتجبون بالغواشي البدنية عن الذي خلق أرض البدن وجعلها حجاب وجهه في يومين أي شهرين أو حادثين مادة وصورة ، وتجعلون له أندادا بوقوفكم مع الغير ونسبتكم التأثير إلى ما لا وجود له ولا أثر ، ذلك الخالق هو الذي يربّ العالمين بأسمائه وجعل فيها رواسيالأعضاء من فوقها أو رواسي الطبائع الموجبة للميل السفلي من القوى العنصرية والصور الماديّة التي تقتضي ثباتها على حالها ، وبارك فيها بتهيئة الآلات والأسباب والمزاجات والقوى التي تتم بها لمقته وأفعاله وقدّر فيها أقواتها بتدبير الغاذية وأعوانها وتقدير مجاري الغذاء وأمور التغذية وأسبابها وموادّها في تتمة أربعة أشهر ، أي : جميع ذلك في أربعة أشهر سواء متساوية أو في مواد العناصر الأربعة ، ثم استوى أي : بعد ذلك قصد قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شيء آخر ، إلى سماء الروح وتسويتها وهي دخان أي : مادة لطيفة من بخارية الأخلاط ولطافتها مرتفعة من القلب. وقد جاءفي الحديث : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقيّ أم سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ويعضده». حديث آخر في أنّ نفخ الروح في الجنين يكون بعد أربعة أشهر من وقت الحمل.

فقال لها ولأرض البدن : ائتيا ، أي : تعلقت إرادته بتكوينهما وصيرورتهما شيئا واحدا وخلقا جديدا ، فتكونا على ما أراد من الصورة وهذا معنى خلوّ الأرض قبل السماء غير مدحوّة ودحوها بعده. فإن المادة البدنية وإن تخلقت بدنا قبل اتصال الروح وانتفاخه فيها لكن الأعضاء لم تنبسط ولم ينفتق بعضها من بعض إلا بعده ، فقضاهنّ سبع سموات ، أي : الغيوب السبعة المذكورة من القوى والنفس والقلب والسرّ والروح والخفاء ، والحق الذي أدرج هويته في هوية الشخص الموجود وتنزل بإيجاده في هذه المراتب واحتجب بها وإن جعلت السبعة من المخلوقات حتى تخرج الهوية من جملتها فإحداها وهي الرابعة بين القلب ، والسرّ العقل ،

٢٢٠