تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية لم يقبل وسوسة الشيطان وقبل إلهام الملك ، فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب عن نور الفطرة واكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة ، والنهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاؤهما بل عدم فائدته والاستماع إليه كأنه قال : لا اختصام مسموع عندي.

وقد ثبت وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد ، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأسا حتى ترسخت الهيئات المظلمة في نفوسكم ورانت على قلوبكم وتحقق الحجاب وحق القول بالعذاب ، ف (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) حينئذ لوجوب العذاب حال وقوعه (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ) حيث وهبت الاستعداد وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكتسابه ، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة واستبدل ما يفنى بما يبقى.

[٣٠] (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) أي : يوم يتكثر أهل النار حتى تستبعد الزيادة عليهم ولا تنتقص سعتها بهم ولا يسكن كلبها. وفي الحديث : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟! حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فتقول : قط قط بعزتك وكرمك» ، أي : لا يزال الخلق يميلون إلى الطبيعة بالشهوة والحرص والطبيعة باقية على حالها ، جاذبة لما يناسبها ، قابلة لصورها الملاءمة لها ، ملقية لما قبلت إلى أسفل الدركات إلى ما لا يتناهى حتى يصل إليها أثر نور الكمال الوارد على القلب فتتنور به وتنتهي عن فعلها. وعبر عن تشعشع النور الإلهي من القلب على النفس بقدم ربّ العزة القوي على قهرها ومنعها عن فعلها وإجبارها على موافقة القلب ، فتقول : قطني ، قطني.

[٣١ ـ ٣٣] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣))

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي : جنة الصفات للذين اتقوا صفات النفس بدليل قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) لأن الخشية تختص بتجلي العظمة ولقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : مكانا غير بعيد لكون جنة الصفات أقرب من جنة الذات في الرتبة دون الظهور ، إذ الذات أقرب في الظهور لأن في عالم الأنوار كل ما كان أبعد في العلوّ والمرتبة من الشيء كان أقرب إليه في الظهور لشدة نوريته ولقوله : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي : رجّاع إلى الله بفناء الصفات (حَفِيظٍ) أي : محافظ على صفاء فطرته ونوره الأصلي كي لا يتكدّر بظلمة النفس من اتصف

٢٨١

بالخشية وصارت الخشية مقامه عند تجلي الحق في صفة الرحمة الرحمانية إذ هي أعظم صفاته لدلالتها على إفاضة جميع الخيرات والكمالات الظاهرة على الكل وهي جلائل النعم وعظائمها (بِالْغَيْبِ) أي : في حالة كونه غائبا عن شهود الذات ، إذ المحتجب بتجلي الصفات غائب عن جمال الذات (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) إلى الله عن ذنوب صفات النفس في معارج صفات الحق دون الساكن في مقام الخشية الذي لا يقصد التوقي.

[٣٤ ـ ٣٥] (ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

(ادْخُلُوها) بسلامة عن عيوب صفات النفس آمنين عن تلوينها (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) من نعم التجليات الصفاتية وأنوارها بحسب الإرادة (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) من نور تجلي الذات الذي لا يخطر على قلوبهم.

[٣٦ ـ ٣٧] (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧))

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) قبل هؤلاء المتقين بالإفناء والإحراق بسبحات تجلي الذات (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : أولياء أقوى منهم في صفات نفوسهم لأن الاستعداد كلما كان أقوى كانت صفات النفس في البداية أقوى (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي : مفاوز الصفات ومقاماتها (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) عن الفناء بالاحتجاب ببعضها والتواري بها عند إشراق أنوار سبحات الوجه الباقي ، وكيف المحيص ولا تبقى صفة هناك فضلا عن تواريه بها (إِنَّ فِي ذلِكَ) المعنى المذكور لتذكيرا (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) كامل بالغ في الترقي إلى حد كماله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) في مقام النفس إلى القلب لفهم المعاني والمكاشفات للترقي ، وهو حاضر بقلبه ، متوجه إليه ، مفيض لنوره ، مترقّ إلى مقامه.

[٣٨] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨))

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي : ست جهات إن فسرنا السموات والأرض على الظاهر وإن أوّلنا السموات بالأرواح والأرض بالجسم ، فهي صور الممكنات الستّ من الجبروت والملكوت والملك التي هي مجموع الجواهر والإضافيات والكميات والكيفيات التي هي مجموع الأعراض ، فهذه الستة تحصر المخلوقات بأسرها ، والستة الآلاف المذكورة التي هي مدة دور الخفاء على ما ذكر في (الأعراف).

[٣٩ ـ ٤٠] (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠))

٢٨٢

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) بالنظر إليهم بالفناء وعدم تأثير أقوالهم بالانسلاخ عن الأفعال وحبس النفس عن الظهور بأفعالها إن لم تحبسها عن الظهور بصفاتها (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) بالتجريد عن صفات النفس حامدا لربّك بالاتصاف بصفاته وإبراز كمالاته المكتوبة فيك في مقام القلب (قَبْلَ طُلُوعِ) شمس الروح ومقام المشاهدة (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) غروبها بالفناء في أحدية الذات (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي : في بعض أوقات ظلمة التلوين فنزّهه عن صفات المخلوقين بالتجرّد عن الصفة الظاهرة بالتلوين (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) وفي أعقاب كل فناء ، فإن عقيب فناء الأفعال يجب الاحتراز عن تلوين النفس وعقيب الفناء عن الصفات يجب التنزّه عن تلوين القلب ، وعقيب فناء الذات يجب التقدّس عن ظهور الأنانية.

[٤١ ـ ٤٣] (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣))

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ) الله بنفسه من أقرب الأماكن إليك كما نادى موسى من شجرة نفسه ، يوم يسمع أهل القيامة الكبرى صيحة القهر والإفناء بالحق من الحق (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من وجوداتهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي : شأننا الإحياء والإماتة نحيي أولا بالنفس ثم نميت عنها ثم نحيي بالقلب ثم نميت عنه ثم نحيي بالروح ثم نميت عنه بالفناء (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) بالبقاء بعد الفناء بل في كل فناء إذ لا غير يصيرون إليه.

[٤٤ ـ ٤٥] (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

(يَوْمَ تَشَقَّقُ) أرض البدن (عَنْهُمْ سِراعاً) إلى ما يجانسهم من الخلق (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) نحشرهم مع من يتولّونه بالمحبة بانجذابهم إليه دفعة بلا كلفة من أحد (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) لإحاطة علمنا بهم وتقدمه عليهم وعلى أقوالهم (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تجبرهم على خلاف ما اقتضى استعدادهم وحالهم التي هم عليها ، (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (١) فاصبر بشهود ذلك مني واحبس النفس عن الظهور بالتلوين وذكر بالقرآن بما نزل عليك من العقل الجامع بجميع المراتب (مَنْ) يتأثر بالتذكير ف (يَخافُ وَعِيدِ) لكونه قابلا للوعظ مجانسا لك في الاستعداد قريبا مني دون المردودين الذين لا يتأثرون به والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة الغاشية ، الآية : ٢١.

٢٨٣

سورة الذاريات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣))

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) أي : النفحات الإلهية والنسائم القدسية التي تذرو غبار الهيئات الظلمانية وتراب الصفات النفسانية ذروا (فَالْحامِلاتِ) أي : الواردات النورانية التي تحمل أوقار الحقائق اليقينية والعلوم الكشفية الحقيقية التي لها ثقل في الميزان لبقائها دون التي تخف من الأمور الفانية إلى قلوب أهل العرفان والنفوس القابلة المستعدة الحاملة لتلك الحقائق والمعاني (فَالْجارِياتِ يُسْراً) أي : النفوس التي تجري في ميادين المعاملات ومنازل القربات بواسطة تلك النفحات والواردات يسرا بلا كلفة كما للمحرومين عن ذلك أو القلوب التي تجري في أبحر الصفات بتلك النفحات يسرا.

[٤ ـ ٦] (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦))

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي : الملائكة المقرّبين من أهل الجبروت والملكوت التي تقسم بكل واحدة قسطا من السعادة والرزق الحقيقي على حسب الاستعدادات (إِنَّما تُوعَدُونَ) من حال القيامة الكبرى وحصول الكمال المطلق (لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ) أي : الجزاء الذي هو الفيض الوارد بحسب السعي في السلوك والعمل المعدّ للقبول أو الحرمان والتعذب بالحجاب والتأذي بالهيئات المؤذية المظلمة بسبب الركون إلى الطبيعة (لَواقِعٌ) كما قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١) ، وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)) (٢). أقسم بالمعدّات والقوابل والمفيضات على أن مقتضى اجتماعها واجب الوقوع.

[٧ ـ ٩] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩))

(وَالسَّماءِ) أي : الروح (ذاتِ) الطرائق من الصفات ، فإن من كل صفة طريقا إلى سماء الروح يصل إليها من يسلكها وكل مقام وحال بابا إليها (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) من

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩.

(٢) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٦.

٢٨٤

حديث النفس وشجونه المتنوّعة المانعة عن اتحاد الوجهة في السلوك أو الاعتقادات الفاسدة والمذاهب الباطلة المانعة عن الكمال من أنواع الجهل المركب (يُؤْفَكُ عَنْهُ) أي : بسبب ذلك القول المختلف الذي هو حديث النفس أو الاعتقاد الفاسد (مَنْ أُفِكَ) أي : المحجوب المحكوم عليه في القضاء السابق بسوء الخاتمة دون غيره أو يصرف عما توعدون من الكمال من صرف بالشقاوة الأزلية في علم الله.

[١٠ ـ ١٣] (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣))

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي : لعن الكذابون بالأقوال المختلفة (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي : جهل يغمرهم ، غافلون عن الكمال والجزاء (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) لبعدهم عن ذلك المعنى واستبعادهم لذلك وتعجبهم منه لمكان الاحتجاب ، أي : متى وقوع هذا الأمر المستبعد (يَوْمَ هُمْ) أي : يقع يوم هم يعذبون على نار الحرمان في ظلمات الهيئات بفساد الأبدان والوقوع في الهلاك والخسران مقولا لهم.

[١٤] (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي : عذابكم (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة والكمالات البهيمية والسبعية.

[١٥ ـ ١٦] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين تجرّدوا عن هيئات الطبيعة وصفات النفس في جنات الصفات وعلومها (آخِذِينَ) أي : قابلين (ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من أنوار تجليات الصفات راضين بها (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي : قبل الوصول إلى مقام تجليات الصفات (مُحْسِنِينَ) بشهود الأفعال في مقام العبادات والمعاملات كماقال عليه‌السلام : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».

[١٧ ـ ٤٩] (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١))

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ

٢٨٥

هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩))

(كانُوا قَلِيلاً) من ليل الاحتجاب في مقام النفس ما يغفلون عن السلوك (وَبِالْأَسْحارِ) أي : أوقات طلوع أنوار التجليات وانقشاع ظلمة صفات النفس (هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يطلبون التنوّر بالأنوار وتستر صفات النفس وهيئات السوء بها ومحوها (وَفِي أَمْوالِهِمْ) أي : علومهم الحقيقية والنافعة (حَقٌّ لِلسَّائِلِ) أي : المستعدّ الطالب (وَالْمَحْرُومِ) القاصر الاستعداد ، أو المحجوب عن نور فطرته بالغواشي البدنية والرسوم العادية بإفاضة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية على الأول ، والعلوم النافعة الباعثة على الرياضة والمجاهدة على الثاني (وَفِي الْأَرْضِ) أي : ظاهر البدن (آياتٌ) من ظواهر الأسماء والصفات الإلهية (لِلْمُوقِنِينَ) الذين يشاهدون صفات الله في مظاهرها (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) من أنوار تجلياتها. (أَفَلا تُبْصِرُونَ) وفي سماء الروح (رِزْقُكُمْ) المعنوي من العلوم كما في سماء العالم رزقكم الصوريّ (وَما تُوعَدُونَ) من الأنوار وأحوال القيامة الكبرى (إِنَّهُ لَحَقٌ) أي : ما ذكر من آيات الأرض والأنفس ووجوه الرزق وما وعد في السماء حق (مِثْلَ) نطقكم فإنه صفة من صفات المتكلم الحقيقي ظهر على لسانكم وفي أرض أبدانكم وتجلى بها المتكلم الحقيقي على قلوبكم إن حضرتم وشهدتم ونزل بها الرزق المعنوي الذي يندرج في صورة الألفاظ من سماء روحكم عليكم إن كان نطقا حقيقيا لا صوتا كأصوات الحيوانات ، فإنه لا يسمى نطقا إلا مجازا ، وحصل به كمالكم وأشرق نوره عليكم لتهتدوا به إلى أحوال الآخرة. وأما حديث ضيف إبراهيم وما نزلوا به فقد مرّ تحقيقه في سورة (هود).

[٥٠ ـ ٥٥] (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥))

٢٨٦

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي : انقطعوا إليه واستضيئوا بنوره واستمدّوا من فيضه في محاربة النفس والشيطان ، وتخلصوا إليه من عدوانهما وطغيانهما ولا تلتفتوا إلى غيره ولا تثبتوا لما سواه وجودا وتأثيرا فيستولي عليكم الشيطان ويسوّل عليكم طاعته وعبادته ولا تجعلوا معه بهوى النفس معبودا كالنفس وما تهواه فتشركوا وتحتجبوا به عنه فتهلكوا.

[٥٦] (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦))

(وَما خَلَقْتُ) جنّ النفوس وأنس الأبدان أو الثقلين المشهورين (إِلَّا) ليظهر عليهم صفاتي وكمالاتي فيعرفوني ثم يعبدوني إذ العبادة بقدر المعرفة ومن لم يعرف لم يعبد ، كماقال العارف المحقق عليه‌السلام : «لا أعبد ربّا لم أره» ، أي : لم أخلقهم ليحتجبوا بوجوداتهم وصفاتهم عني فيجعلوا أنفسهم آلهة معبودة غيري أو يحتجبوا بخلقي وما تهوى أنفسهم فيجعلوه إلها غيري ويعبدوه.

[٥٧ ـ ٥٨] (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨))

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : خلقتهم بأن احتجبت بهم بذاتي وصفاتي ليظهروا فيتخلقوا بخلقي فيحتجبوا بي ويستتروا بفناء الأفعال والصفات ولا ينسبوا الرزق والإطعام والتأثير إلى أنفسهم لظهورها بالأفعال والصفات وانتحال أفعالي وصفاتي لها بالكذب والطغيان (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي : ذاته الموصوفة بجميع الصفات هي مصدر الأفعال اللطيفة كالرزق والقهرية كالتأثير في الأشياء دون غيره.

[٥٩] (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩))

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بنسبة الفعل والتأثير إلى الغير من مخلوقاته سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيرهم نصيبا وافرا من عذاب الله (مِثْلَ) نصيب نظرائهم من المحجوبين بالصفات (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) في الاستمتاع بأفعالهم.

[٦٠] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن الحق في أي مرتبة كانت بأي شيء كان (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) في القيامة الصغرى ، والله أعلم.

٢٨٧

سورة الطور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالطُّورِ) الطور هو الجبل الذي كلم عليه موسى ، وهو الدماغ الإنساني الذي هو مظهر العقل والنطق أقسم به لشرفه وكرامته ولكون الفلك الأعظم الذي هو محدد الجهات بالنسبة إلى العالم بمثابة الدماغ بالنسبة إلى الإنسان ، يمكن أن يكون إشارة إليه ، وأقسم به لشرفه وكونه مظهر الأمر الإلهي ومحل القضاء الأزلي.

والكتاب المسطور هو صورة الكل على ما هو عليه من النظام المعلوم المنتقش في لوح القضاء الذي هو الروح الأعظم المشار إليه هاهنا بالرقّ المنشور وتنكيرهما للتعظيم.

[٤ ـ ٨] (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو قلب العالم أي : النفس الناطقة الكلية ، وهو لوح القدر ، وعمرانه كثرة إطافة الملكوت به (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) هو السماء الدنيا التي تنزل الصور والأحكام من لوح القدر الذي هو اللوح المحفوظ إليه ثم تظهر في عالم الشهادة بحلولها في المواد وهو لوح المحو والإثبات بمثابة محل الخيال في الإنسان (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) هو الهيولى المملوءة بالصور التي يظهر عليها جميع ما أثبت في الألواح المذكورة.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) بظهور القيامة الصغرى. وعلى التأويل الأول وهو تأويل الطور بالدماغ يكون الكتاب المسطور إشارة إلى المعلومات المركوزة في الروح الإنساني المسماة بالعقل القرآني ، والروح هو الرقّ المنشور ونشوره ظهوره وانبثاثه في البدن والبيت المعمور هو القلب الإنساني والسقف المرفوع هو مصعد الخيال المنتقش بالصور الجزئية والبحر المسجور هو مادة البدن المملوءة بالصور والله أعلم.

[٩ ـ ١٢] (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢))

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي : تضطرب الروح وتجيء وتذهب عند السكرات ومفارقة

٢٨٨

البدن (وَتَسِيرُ الْجِبالُ) أي : تذهب العظام وترم وتصير هباء منبثا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين احتجبوا بالدنيا عن الآخرة فكذبوا بالجزاء (الَّذِينَ) يخوضون في باطل الذات الحسيّة والاعتقادات الفاسدة والأقوال المزخرفة ويتعمقون في اللعب الذي هو الحياة الدنيا وزينتها السريعة الزوال.

[١٣ ـ ١٦] (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

(يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي : يجرّون ويسحبون بالعنف (إِلى نارِ) الحرمان والآلام في قعر بئر الطبيعة الفاسقة المنحوسة في سلاسل التعلقات وأغلال الهيئات الجرمانية.

[١٧ ـ ١٨] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين اتّقوا الرذائل وصفات النفوس (فِي جَنَّاتٍ) من جنات الصفات ولذّة وذوق وتنعم فيها (فاكِهِينَ) متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) من أنوار التجليات ومعارف الوجدانيات والكشفيات (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ) جحيم الطبيعيات والاحتجاب بالبهيميات والسبعيات من الهيئات.

[١٩] (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩))

(كُلُوا) من أرزاق الحكم والعلوم الحقيقية التي هي قوت القلوب (وَاشْرَبُوا) من مياه العلوم النافعة وخمور العشق والمحبة أكلا هنيئا وشربا (هَنِيئاً) سائغا غير ذي غصّة (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بسبب أعمالكم في الزهد والعبادة والمجاهدة والرياضة.

[٢٠ ـ ٢٣] (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ) أي : مراتب ومقامات (مَصْفُوفَةٍ) مترتبة كالتسليم والتوكل والرضا أو متقابلة تتساوى في مقاماتهم كقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١).

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : قرناهم بما في درجاتهم من الصور المقدسة والجواهر المجردة من الروحانيات التي لا حسن وراء حسنها (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) من الواردات اللذيذة

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٤٧.

٢٨٩

والمواجيد الذوقية والإشراقات البهيجة (وَلَحْمٍ) من العلوم المقوية للقلوب والحكم المحيية لها (مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي : يشتاقون إليه بمقتضى استعداداتهم وأحوالهم (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون ويتعاورون في مباحثاتهم ومحاوراتهم ومذاكراتهم (كَأْساً) خمرا لذيذا من المعارف والعشقيات والذوقيات (لا لَغْوٌ فِيها) بسقط الحديث والهذيان والكلام بما لا طائل تحته (وَلا تَأْثِيمٌ) ولا قول يأثم به صاحبه وينسب إلى الإثم كالغيبة والفواحش والشتم والأكاذيب.

[٢٤] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) من الملكوت الروحانية أي : تخدمهم الروحانيات أو أهل الإرادة وصفاء الاستعداد من الأحداث الطالبين (كَأَنَّهُمْ) لفرط صفائهم ونوريتهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) محفوظ من تغيرات هوى النفس وغبار الطبائع مخزون من ملامسة ذوي العقائد الرديئة والعادات المذمومة.

[٢٥ ـ ٤٧] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧))

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) عن بداياتهم وأحوال رياضاتهم في عالم النفس ومأوى الحس الذي هو الدنيا (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي : قبل الوصول إلى فضاء القلب وروح الروح في الآخرة (فِي أَهْلِنا) من القوى البدنية وصفات النفس (مُشْفِقِينَ) وجلين من ذكر الله خائفين من العقاب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بتجليات الصفات ونعم المكاشفات (وَوَقانا عَذابَ) سموم هوى النفس وجحيم الطبيعة (إِنَّا كُنَّا مِنْ) قبل هذا المقام (نَدْعُوهُ) نذكره ونعبده (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) المحسن بمن دعاه بإفاضة العلم والتحقيق (الرَّحِيمُ) لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.

٢٩٠

[٤٨ ـ ٤٩] (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

(وَاصْبِرْ) بمنع النفس عن الظهور بالاعتراض على الحكم (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) فإنّا نراك ونرقبك فاحترز عن ذنب ظهور النفس بحضورنا (وَسَبِّحْ) نزّه الله بالتجرد عن ملابس صفات النفس حامدا لربّك بإظهار كمالاتك التي هي صفاته (حِينَ تَقُومُ) في القيامة الوسطى عن نوم غفلة مقام النفس بالرجوع إلى الفطرة (وَمِنَ اللَّيْلِ) ومن بعض أوقات الظلمة عند التلوين بظهور صفة من صفاتها (فَسَبِّحْهُ) بالتجرد عنها والتنوّر بنور الروح (وَإِدْبارَ) نجوم الصفات وغيبتها بظهور نور شمس الذات وطلوع فجر بداية المشاهدة ، والله تعالى أعلم.

٢٩١

سورة النجم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) أقسم بالنفس المحمدية إذا فنيت وغربت عن محل الظهور وسقطت عن درجة الاعتبار في الظهور والحضور (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) بالوقوف مع النفس والانحراف عن المقصد الأقصى بالميل لها (وَما غَوى) بالاحتجاب بالصفات والوقوف معها في مقام القلب (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) بظهور صفة النفس في التلوين (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) إليه من وقت وصوله إلى أفق القلب الذي هو سماء الروح إلى انتهائه إلى الأفق الأعلى الذي هو نهاية مقام الروح المبين (عَلَّمَهُ) روح القدس الذي هو (شَدِيدُ الْقُوى) قاهر لما تحته من المراتب مؤثر فيها تأثيرا قويا (ذُو مِرَّةٍ) ذو متانة وأحكام في علمه لا يمكن تغيره ونسيانه (فَاسْتَوى) فاستقام على صورته الذاتية والنبي بالأفق الأعلى لأنه حين كون النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي وكان من أحسن الناس صورة وأحبهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر لم يفهم القلب كلامه ولم ير صورته. وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي عليه‌السلام إلا مرتين عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام الأول عند سدرة المنتهى في التدلي.

[٨ ـ ٩] (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩))

(ثُمَّ دَنا) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترقى عن مقام جبريل بالفناء في الوحدة والترقي عن مقام الروح ، وفي هذا المقامقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت» ، إذ وراء مقامه ليس إلا الفناء في الذات والاحتراق بالسبحات (فَتَدَلَّى) أي : مال إلى الجهة الإنسية بالرجوع من الحق إلى الخلق حال البقاء بعد الفناء والوجود الموهوب الحقاني (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) أي : كان عليه‌السلام مقدار دائرة الوجود الشاملة للكل المنقسمة بخط موهوم إلى قوسين باعتبار الحق والخلق ، والاعتبار هو الخط الموهوم القاسم للدائرة إلى نصفين. فباعتبار البداية

٢٩٢

والتداني يكون الخلق هو القوس الأول الحاجب للهوية في أعيان المخلوقات وصورها والحق هو النصف الأخير الذي يقرب منه شيئا فشيئا وينمحي ويفنى فيه ، وباعتبار النهاية والتدلي فالحق هو القوس الأول الثابت على حاله أزلا وأبدا والخلق هو القوس الأخير الذي يحدث بعد الفناء بالوجود الجديد الذي وهب له (أَوْ أَدْنى) من مقدار القوسين بارتفاع الاثنينية الفاصلة الموهمة لاتصال أحد القوسين بالآخر وتحقق الوحدة الحقيقية في عين الكثرة بحيث تضمحل الكثرة فيها وتبقى الدائرة غير منقسمة بالحقيقة أحدية الذات والصفات.

[١٠ ـ ١١] (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١))

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) في مقام الوحدة بلا واسطة جبريل عليه‌السلام (ما أَوْحى) من الأسرار الإلهية التي لا يجوز كشفهالصاحب النبوّة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) في مقام الجمع والفؤاد هو القلب المترقي إلى مقام الروح في الشهود المشاهد للذات مع جميع الصفات الموجود بالوجود الحقاني ، وهذا الجمع هو جمع الوجود لا جمع الوحدة الذي لا فؤاد فيه ولا عبد لفناء الكل فيها المسمى باصطلاحهم : عين جمع الذات ، وأما هذا الجمع فيسمى الوجه الباقي أي : الذات الموجودة مع جميع الصفات.

[١٢] (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

(أَفَتُمارُونَهُ) أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوّره ، فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟ وإنما المخاصمة حيث يمكن تصوّر الأمر المختلف فيه ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقية.

[١٣ ـ ١٧] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧))

(وَلَقَدْ رَآهُ) أي : جبريل في صورته الحقيقية (نَزْلَةً أُخْرى) عند الرجوع عن الحق والنزول إلى مقام الروح (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قيل : هي شجرة في السماء السابعة ينتهي إليها علم الملائكة ولا يعلم أحد ما وراءها وهي نهاية مراتب الجنة يأوي إليها أرواح الشهداء فهي الروح الأعظم الذي لا تعين وراءها ولا مرتبة ولا شيء فوقها إلا الهوية المحضة ، فلهذا نزل عندها وقت الرجوع عن الفناء المحض إلى البقاء ورأى عندها جبريل عليه‌السلام على صورته التي جبل عليها (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) التي يأوي إليها أرواح المقرّبين (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ) من جلال الله وعظمته (ما يَغْشى) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يراها عند تحققه بالوجود الحقاني بعين الله فرأى الحق متجليا في صورتها ، فقد غشي السدرة من التجلي الإلهي ما سترها وأفناها فرآها بعين الفناء لم يحتجب بها وبصورتها ولا بجبريل وحقيقته عن الحق ، ولهذا قال : (ما زاغَ الْبَصَرُ)

٢٩٣

بالالتفات إلى الغير ورؤيته (وَما طَغى) بالنظر إلى نفسه واحتجابه بالأنائية.

[١٨ ـ ٢٥] (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥))

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي : الصفة الرحمانية الذي يندرج فيها جميع الصفات بتجليه تعالى فيها بل حضرة الاسم الأعظم الذي هو الذات مع جميع الصفات المعبر عنه بلفظة الله في عين جمع الوجود ، بحيث لم يحتجب عن الذات بالصفات ولا بالصفات عن الذات.

[٢٦ ـ ٣٦] (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦))

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) إلى آخر الآية ، الشفاعة من الملائكة هي إفاضة الأنوار والإمداد على المستشفع عند استفاضته بالتوسل بالشفيع الذي هو الوسيلة والواسطة المناسبة بينهما واتصال فعلي ، هذا شفاعتهم في حق النفوس البشرية لا تكون إلا إذا كانت مستعدّة في الأصل ، قابلة لفيض الملكوت. ثم تزكّوا عن الهيئات البشرية والغواشي الطبيعية بالتوجه إلى جناب القدس والتجرّد عن ملابس الحس ومواد الرجس فتستفيض من نورها وتستمد من فيضها وتتصل بها وتنخرط في سلكها ، فتتقرّب إلى الله بواسطتها. فالاستعداد القابل الأصلي هو الإذن في الشفاعة والرضا بها هو الزكاء والصفاء الحاصل بالسعي والاجتهاد ، فإذا اجتمعا حصلت الشفاعة وإن لم يكن الاستعداد في الأصل أو كان وقد تغير بالعلائق والغواشي ولم تبق على صفائها فلم يكن إذن ولا رضا من الله فلا شفاعة ، فقوله : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) معناه : عدم الشفاعة لا وجودها ، وعدم إغنائها لاستحالة ذلك في عالم الملكوت فهو كقوله :

٢٩٤

ولا ترى الضب بها ينحجر

[٣٧] (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧))

(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) حق الله عليه بتسليم الوجود إليه حال الفناء في التوحيد بالقيام بأمر العبودية وتبليغ الرسالة والنبوة في مقام الاستقامة أو أتم الكلمات التي ابتلاه الله بها وهي ما ذكر من الصفات. وقرئ : وفى ، مخففا ، أي : بعهده المأخوذ ميثاقه عليه في أول الفطرة بأن ثبت عليه حتى بلغ مقام التوحيد المشار إليه بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (١).

[٣٨ ـ ٥٦] (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦))

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لأن العقاب يترتب على هيئات مظلمة رسخت في النفس بتكرار الأفاعيل والأقاويل السيئة التي هي الذنوب وكذلك الثواب إنما يترتب على أضدادها من هيئات الفضائل ، كما قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بخلاف الحظوظ العاجلة المقسومة المقدّرة وإن كانت تلك أيضا مستندة إلى قضاء من الله وقدر ، لكن المعتبر هو السبب القريب الموجب لكل منهما.

النشأة الأخرى تقع على أمور ثلاثة : الأول : إعادة الأرواح إلى الأجساد للحساب والجزاء المرتب على أعمال الخير والشر بالمصير إلى النار أو جنة الأفعال.

والثاني : هو العودة إلى الفطرة الأولى والرجوع إلى مقام القلب.

والثالث : هو العود إلى الوجود الموهوب الحقاني بعد الفناء التام.

والأول لا بد لكل أحد منه سواء كانت الأجساد نورانية أو ظلمانية دون الباقيين.

[٥٧ ـ ٦٢] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٩.

٢٩٥

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) إن حملت على القيامة الصغرى فقربها ظاهر ، والكاشفة إما المبينة لوقتها أو الدافعة وإن حملت على الكبرى فقربها من وجهين : أحدهما القرب المعنوي لأنها أقرب شيء إلى كل أحد لكونه في عين الوحدة وإن كان هو بعيدا عنها لغفلته وعدم شعوره بها ، والثاني : أن وجود محمد وبعثته عليه‌السلام مقدمة دور الظهور وأحد أشراطه ، ولهذاقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» وجمع بين السبابة والوسطى ، وتظهر بوجود المهدي عليه‌السلام (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي : نفس مبينة لامتناع وجود غيره وعلمه عندها (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) بالفناء (وَاعْبُدُوا) بالبقاء بعده ، والله أعلم.

٢٩٦

سورة القمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٦] (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦))

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) إنما كان انشقاق القمر آية قرب القيامة الكبرى ، لأن القمر إشارة إلى القلب لكونه ذا وجهين : وجه مظلم يلي النفس ، وآخر منوّر يلي الروح ، ولاستفادته النور من الروح كاستفادة القمر النور من الشمس وانفلاقه بتأثير نور الروح فيه وظهور شمسه من مغربها أي : بروزها من حجاب القلب بعد كونها فيه علامة قرب الفناء في الوحدة لكونه مقام المشاهدة المؤدية إلى الشهود الذاتي وإن حملت على دور الظهور الذي هو زمان المهدي المبعوث في نسمها. فانشقاق القمر انفلاقه عن ظهور محمد عليه‌السلام لظهوره في دور القمر وإن حملت على الصغرى فالقمر هو البدن لاستفادته نور الشعور والحياة من شمس الروح وظلمته في نفسه ويقويه قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) أي : يظهر مقتضى الموت ويدعو موجبه إلى شيء منكر فظيع تكرهه النفوس.

[٧ ـ ١٠] (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠))

(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) من الذلّة والعجز والمسكنة والحرمان (يَخْرُجُونَ) من أجداث الأبدان (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) شبهها بالجراد لكثرة النفوس المفارقة وذلتها وضعفها وحرصها وتهالكها على حضرة الذات الحسية والشهوات الطبيعية وميلها إلى الجهة السفلية كما شبهها بالفراش لتهالكها إلى نور الحياة. وعلى الأول يوم يدعو داعي الروح والقلب النفوس إلى شيء منكر عندها من ترك الحظوظ العاجلة واللذات البدنية والحسيّة الذي هو الموت الإرادي بالرياضة ومشايعة السرّ في التوجه إلى جناب الحق خشعا أبصارهم ، ذليلة منكسرة لقهر الداعي لها واستيلائه عليها يخرجون من أجداث الأبدان بالتجرد والانخلاع عنها كأنهم جراد لضعفها

٢٩٧

وطيرانها في شعاع نور شمس الروح (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) على كلا التأويلين لانقيادها طوعا وكرها (يَقُولُ الْكافِرُونَ) أي : المحجوبون عن الدين أو الحق (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) لنزوعهم إلى اللذات والشهوات الحسيّة وشوقهم إليها وضراوتهم بها ، فأما غير المحجوب فأيسر شيء عليه الموت الطبيعي والإرادي جميعا.

[١١] (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١))

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ) سماء العقل بعلم منصب إلى العالم السفلي بقوة ، أي : نكسنا عقولهم بالميل إلى الدنيا والاشتغال بتدابير الأمور الجزئية وترتيب اللذات الحسية والانهماك في أمر المعاش وصرف عملها فيه ووقوفها معها واحتجابها بها عن الأمور الأخروية المؤدّي إلى هلاكهم ، فهو كقوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) (١).

[١٢ ـ ١٤] (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤))

(وَفَجَّرْنَا) أرض النفس (عُيُوناً) علوما جزئية حسيّة متعلقة بكسب الحطام وجمعه والتلذذ به والترفه فيه كأن نفوسهم كلها ذلك التدبير لشدة انجذابها إليها وحرصها فيها (فَالْتَقَى) العلمان في طلب الدنيا وجذبها (عَلى أَمْرٍ) قد قدّره الله تعالى وهو : إهلاكهم بسبب التورط في الشهوات بالجهل وحملنا نوحا على شريعة ذات أعمال وعلوم ترتبط بها الأعمال أو أحكام ومعاقد تستند إليها الأحكام (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي : تنفذ على حفظ منا في لجة جهلهم الغالب الغامر إياهم ، فلا يغلبها جهلهم فيبطلها (جَزاءً) لنوح عليه‌السلام الذي كان نعمة مكفورة من قومه بأن لم يعرفوه فيطيعوه ويعظموه فينجوا به ، بل أنكروه فعصوه فهلكوا بسببه.

[١٥ ـ ٢٦] (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) وَلَقَدْ تَرَكْناها) أي : آثار تلك الشريعة والدعوة إلى يومنا هذا (آيَةً) بينة لمن يعتبر بها

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ١٦.

٢٩٨

(فَهَلْ) من متعظ ، فإنّ طريق الحق واحد والأنبياء كلهم متوافقون في أصول الشرائع (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) لقومه بإهلاكهم في ورطة الجهل وحرمان الحياة الحقيقية واللذة السرمدية وإنذاري على لسان نوح عليه‌السلام.

ووجه آخر وهو : تأوّل فتح السماء بإنزال الرحمة والوحي على نوح ، أي : فتحنا أبواب سماء روح نوح بعلم كلي منصب بقوّة شاملة لجميع الجزئيات وفجرنا أرض نفسه عيونا ، أي : علوما جزئية ، كإن نفسه كلها علوم ، فالتقى العلمان بانضمامها فصارت قياسات وآراء صحيحة بنى عليها شريعته المؤسسة على العمليات والنظريات ، فحملناه عليها بالعمل بها والاستقامة فيها فنجا فيها وبقي قومه في ورطة الجهل ، فغرقوا في تيار بحر الهيولى وأموال الجهالات وهلكوا.

[٢٧ ـ ٣٦] (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦))

(إِنَّا مُرْسِلُوا) ناقة نفسه ابتلاء (لَهُمْ) ليتميز المستعدّ القابل السعيد ، من الجاهل المنكر الشقي (فَارْتَقِبْهُمْ) لتنظر نجاة الأول وهلاك الثاني (وَاصْطَبِرْ) على دعوتهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَ) ماء العلم (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) لها علم الروح الفائض عليها ولهم علم النفس ، أي : لها المعقولات ولهم المحسوسات (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) هي تحضر شربها بالتوجه إلى الروح وقبول العلوم الحقيقية والنافعة منها وهم يحضرون شربهم بالأوي إلى منبع الخيال والوهم ، وتلقي الوهميات والخياليات منه.

[٤٦] (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) أي : القيامة الصغرى ووقوعهم في العذاب الأبدي بزوال الاستعداد وقلب الوجوه إلى أسفل ، وهي أشدّ وأمرّ من عذاب القتل والهزيمة.

[٤٧] (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧))

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) الذين أجرموا بكسب الهيئات المظلمة الرديئة الجسمانية (فِي ضَلالٍ) عن طريق الحق لعمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم (وَسُعُرٍ) أي : جنون ووله لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم وحيرتها في الباطل.

٢٩٩

[٤٨ ـ ٥٣] (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢))

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) بحشرها في صور وجوهها إلى الأرض وتسخيرها في قهر الملكوت الأرضية فيقهرها في أنواع العذاب ويعذبها بنيران الحرمان يقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وَما أَمْرُنا إِلَّا) كلمة (واحِدَةٌ) أي : تعلق المشيئة الأزلية الموجبة لوجود كل شيء في زمان معين على وجه معلوم ثابت في لوح القدرية المسمى في الشرع : كن ، فيجب وجوده في ذلك الزمان على ذلك الوجه دفعة (فِي الزُّبُرِ) أي : ألواح النفوس.

[٥٤ ـ ٥٥] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) على الإطلاق (فِي جَنَّاتٍ) من مراتب الجنان الثلاث عالية رفيعة (وَنَهَرٍ) علوم مرتبة بحسب مراتب الجنان المذكورة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي : خير وأي خير هو مقام الوحدة (عِنْدَ مَلِيكٍ) في حضرة الأسماء حال البقاء بعد الفناء ومقام الفرق بين الذات والصفات كائنين بالذات في مقعد صدق وبالصفات عند مليك مدبر مملكة الوجود على حسب الحكمة ومقتضى العناية على أحسن وجه وأتمّ نظام (مُقْتَدِرٍ) يقدر على تصريف جميع ما في ملكه على حكم مشيئته وتسخيره على مقتضى إرادته لا يمتنع عليه شيء.

٣٠٠