تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

عما قدامهم من الجهة التي تلي الروح المعذبة بنار القهر الإلهي والحرمان الكلي من الأنوار الروحانية والكمالات الإنسانية ولا عما خلفهم من الجهة التي تلي الجسد المعذبة بنار الهيئات الجسمانية والعقارب والحيّات السود النفسانية والأقذار الهيولانية والآلام الجسدانية (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من الأمداد الرحمانية لكثافة حجابهم وشدّة ارتيابهم لما استعجلوا.

(أَفَلا يَرَوْنَ) أتمادت غفلتهم فلا يرون (أَنَّا نَأْتِي) أرض البدن بالشيخوخة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) كالسمع والبصر وسائر القوى أو أرض النفس المتيقظة المتوجهة إلى الحق ، الذاكرة بأنوار الصفات ننقصها من صفاتها وقواها (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) أم نحن.

[٤٦] (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) من النفحات الربانية في صورة العذاب أي : من الألطاف الخفيّة كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سبحان من اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته ، واتسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته». فكشف عنهم حجاب الغفلة المتراكمة من طول التمتيع الذي هو النقمة في صورة الرحمة والقهر الخفيّ ليستيقظنّ ويتنبهنّ لظلمهم في إعراضهم عن الحق وانهماكهم في الباطل.

[٤٧] (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ميزان الله تعالى هو عدله الذي هو ظلّ وحدته وصفته اللازمة لها ، به قامت سموات الأرواح وأرض الأجساد واستقامت ولولاه لما استقرّ أمر الوجود على النسق المحدود. ولما شمل الكل أصاب كل موجود قسطه منه بحسب حاله وقدر احتماله فصار بالنسبة إلى كل أحد بل كل شيء ميزانا خاصا وتعدّدت الموازين على حسب تعدّد الأشياء وهي جزئيات الميزان المطلق ولذلك أبدل القسط المطلق منها أو وصفها به ، فإنها كلها هي العدل المطلق الواحد ولا تتعدّد الحقيقة بتعدّد المظاهر. ووضعها عبارة عن ظهور مقتضاها وذلك إنما يكون يوم القيامة الصغرى بالنسبة إلى المحجوب ويوم القيامة الكبرى بالنسبة إلى أهلها (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) لأن كل ما عملت من خير وجد حالة عمله في كفّة الحسنات التي هي جهة الروح من القلب هو كل ما عملت من سوء وضع في كفّة السيئات التي هي جهة النفس منه. والقلب هو لسان الميزان ولهذا قيل : يجعل في كفّة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفّة السيئات جواهر سود مظلمة ، إلا أن الثقل هناك يوجب الصعود والميل إلى العلوّ ، والخفة توجب النزول والميل إلى السفل بخلاف الميزان الجسماني إذ الثقيل ثمة هو الراجح المعتبر الباقي عند الله والخفيف هو المرجوح الفاني الذي لا وزن له عند الله ولا

٤١

اعتبار فلا ينقص مما عملت نفس شيئا (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ومن هذا يعلم ما قيل : إن الله تعالى يحاسب الخلائق في أسرع من فواق شاة.

[٤٨ ـ ٤٩] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

(آتَيْنا مُوسى) القلب (وَهارُونَ) العقل أو على ظاهرهما (الْفُرْقانَ) أي : العلم التفصيلي الكشفي المسمّى بالعقل الفرقاني (وَضِياءً) أي : نورا تاما من المشاهدات الروحانية (وَذِكْراً) أي : تذكيرا وموعظة (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ) تزكت نفوسهم من الرذائل والصفات الحاجبة فأشرقت أنوار طيبات العظمة من قلوبهم على نفوسهم لصفائها وزكائها فأورثت الخشية في حال الغيبة قبل الوصول إلى مقام الحضور القلبي (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي : القيامة الكبرى على إشفاق وتوقع لوقوعها لقوة يقينهم إذ الإشفاق إنما يكون عند التوقع لشيء مترقب الوقوع. أي : آتيناهما في مقام القلب ، العلم الذي به يفرق بين الحق والباطل من الحقائق والمعارف الكلية وفي مقام الروح ومرتبته النور المشاهد الباهر على كل نور ، وفي مقام النفس ورتبة الصدر التذكير بالمواعظ والنصائح والشرائع من العلوم الجزئية النافعة للمستعدّين القابلين السالكين.

[٥٠] (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

(وَهذا ذِكْرٌ) غزير الخير والبركة ، شامل للأمور الثلاثة ، زائد عليها بالكشف الذاتي والشهود الحق في مقام الهوية وعين جمع الأحدية جامع لجوامع الكلم ، حاف بجميع المشاهدات والحكم إذ في البركة معنى النماء والزيادة.

[٥١] (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ) الروح (رُشْدَهُ) المخصوص به الذي يليق بمثله وهو الاهتداء إلى التوحيد الذاتي ومقام المشاهدة والخلة (مِنْ قَبْلُ) أي : قبل مرتبة القلب والعقل متقدّما عليهما في الشرف والعزّ (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي : لا يعلم بكماله وفضيلته غيرنا لعلوّ شأنه.

[٥٢ ـ ٥٨] (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

٤٢

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) النفس الكلية (وَقَوْمِهِ) من النفوس الناطقة السماوية وغيرها (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) أي : الصور المعقولة من حقائق العقول والأشياء وماهيات الموجودات المنتقشة فيها (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) مقيمون على تمثلها وتصوّرها وذلك عند عروجه من مقام الروح المقدّسة وبروزه عن الحجب النورية إلى فضاء التوحيد الذاتي ، كما قال عليه‌السلام : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) (١) ، ومن هذا المقام قوله لجبريل عليه‌السلام : أما إليك فلا.

(وَجَدْنا آباءَنا) عللنا من العوالم السابقة على النفوس كلها من أهل الجبروت (لَها عابِدِينَ) باستحضارهم إياها في ذواتهم لا يذهلون عنها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) في حجاب عن الحق نوريّ ، غير واصلين إلى عين الذات عاكفين في برازخ الصفات لا تهتدون إلى حقيقة الأحدية والغرق في بحر الهوية (أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي : أحدث مجيئك إيانا من هذا الوجه بالحق فيكون القائل هو الحق عزّ سلطانه أم استمر بنفسك كما كان فتكون أنت القائل فيكون قولك لعبا لا حقيقة له. فإن كنت قائما بالحق ، سائرا بسيره ، قائلا به ، صدقت وقولك الجدّ وتفوّقت علينا ، وتخلفنا عنك ، وإن كنت بنفسك فبالعكس (بَلْ رَبُّكُمْ) الجائي والقائل ربكم الذي يربكم بالإيجاد والتقويم والإحياء والتجريد والإنباء والتعليم ربّ الكل الذي أوجده (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) الحكم بأن القائل هو الحق الموصوف بربوبية الكل (مِنَ الشَّاهِدِينَ) وهذا الشهود هو شهود الربوبية والإيجاد وإلا لم يقل أنا وعلى إذ الشهود الذاتي هو الفناء المحض الذي لا أنائية فيه ولا اثنينية ، وتلك الاثنينية بعد الإفصاح بأن الجائي والقائل هو الحق الذي أوجد الكل مشعرة بمقام الكل المتخلف عن مقام (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) لأمحونّ صور الأشياء وأعيان الموجودات التي عكفتم على إيجادها وحفظها وتدبيرها ، وأقبلتم على إثباتها بعد أن تعرضوا عن عين الأحدية الذاتية بالإقبال إلى الكثرة الصفاتية بنور التوحيد (فَجَعَلَهُمْ) بفأس القهر الذاتي والشهود العيني (جُذاذاً) قطعا متلاشية فانية (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) هو عينه الباقي على اليقين الأول الذي به سمى الخليل خليلا (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) يقبلون منه الفيض ويستفيضون منه النور والعلم كما استفاض هو منه أولا.

[٥٩ ـ ٦١] (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

(قالُوا) أي : قالت النفوس العاشقة بالعقول (مَنْ فَعَلَ هذا) الاستخفاف والتحقير (بِآلِهَتِنا) التي هي معشوقاتنا ومعبوداتنا بنسبتها إلى الاحتجاب والنظر إليها بعين الفناء وجعلها

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآيات : ٧٨ ـ ٧٩.

٤٣

بقوّة الظهر كالهباء ، متعجبين منه ، معظمين له ، مستعظمين لأمره (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الناقصين حقوق المعبودات المجرّدة وجميع الموجودات من الوجودات والكمالات بنفيها عنهم وإثباتها للحق ، أو الناقصين حق نفسهم بإفنائها وقهرها (قالُوا سَمِعْنا فَتًى) كاملا في الفتوّة والشجاعة على قهر ما سوى الله من الأغيار والسخاوة ببذل النفس والمال (يَذْكُرُهُمْ) بنفي القدرة والكمال عنهم ونسبة العدم والفناء إليهم (فَأْتُوا بِهِ) أي : استحضروه وأحضروه معاينا لجميع النفوس (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) كماله وفضيلته فيستفيدون منه.

[٦٢ ـ ٦٣] (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣))

(أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) صورة إنكار لما لم يعرفوا من كماله إذ كل ما يمكن للنفوس معرفته فهو دون كمال العقول التي هي معشوقاتها وهي محجوبة عن كماله الإلهي الذي هو به أشرف منها (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) أي : ما فعلته بأنانيتي التي أنا بها أحسن منها ، بل بحقيقتي وهويتي التي هي أشرف وأكبر منها (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) بالاستقلال ، أي : لا نطق لهم ولا علم ولا وجود بأنفسهم بل بالله الذي لا إله إلا هو.

[٦٤ ـ ٦٥] (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) بالإقرار والإذعان معترفين بأن الممكن لا وجود له بنفسه فكيف كماله (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بنسبة الوجود والكمال إلى الغير لا هو (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) حياء من كماله ونقصهم وخضوعا وانفعالا منه (لَقَدْ عَلِمْتَ) بالعلم اللدني الحقاني فناءهم فنفيت النطق عنهم ، وأما نحن فلا نعلم إلا ما علمنا الله فاعترفوا بنقصهم كما اعترفوا به عند معرفتهم لآدم بعد الإنكار ، فقالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١).

[٦٦ ـ ٦٨] (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨))

(أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وتعظمون غيره مما لا ينفع ولا يضر ، إذ هو النافع الضارّ لا غير (أُفٍّ لَكُمْ) أتضجر بوجودكم ووجود معبوداتكم ووجود كل ما سواه تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن لا مؤثر ولا معبود إلا الله (حَرِّقُوهُ) أي : اتركوه يحترق بنار العشق التي أنتم

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٢.

٤٤

أوقدتموها أولا بإلقاء الحقائق والمعارف إليه التي هي حطب تلك النار عند رؤيته ملكوت السموات والأرض بإراءة الله إياه ، كما قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وإشراق الأنوار الصفاتية والأسمائية عند تجليات الجمال والجلال عليه من وراء أستار أعيانكم التي هي منشأ اتقاد تلك النار (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي : معشوقاتكم ومعبوداتكم في الإمداد بتلك الأنوار وإيقاد تلك النار (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بأمر الحق.

[٦٩ ـ ٧١] (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

(يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) بالوصول حال الفناء ، فإن لذّة الوصول تفيد الروح الكامل والسلامة عن نقص الحدثان وآفة النقصان والإمكان في عين نار العشق (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) بإفنائه وإحراقه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الأنقصين منه كمالا ورتبة (وَنَجَّيْناهُ) ولوط العقل بالبقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني الموهوب إلى أرض الطبيعة البدنية (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالكمالات العملية المثمرة والآداب الحسنة المفيدة والشرائع والملكات الفاضلة (لِلْعالَمِينَ) أي : المستعدّين لقبول فيضه وتربيته وهدايته.

[٧٢ ـ ٧٣] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) القلب للردّ إلى مقامه بتكميل الخلق حال الرجوع عن الحق (وَيَعْقُوبَ) النفس المرتاضة الممتحنة بالبلاء ، المطمئنة باليقين والصفاء (نافِلَةً) متنوّرة بنور القلب متولّدة منه (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) بالاستقامة والتمكين في الهداية (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) لسائر القوى والنفوس الناقصة المستعدة (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أما الروح فبالأحوال والمشاهدات والأنوار ، وأما القلب فبالمعارف والمكاشفات والأسرار ، وأما النفس فبالأخلاق والمعاملات والآداب ، وهي المراد بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) بالتوحيد والعبودية الحقّة في مقام التجريد والتفريد ، وهذا هو تطبيق ظاهر إبراهيم على باطنه. وقد يمكن أن يؤول بضرب آخر من التأويل مناسب لماقال النبي عليه‌السلام : «كنت أنا وعليّ نورين نسبّح الله تعالى ونحمده ونهلّله ، وسبّحته الملائكة بتسبيحنا وحمدته بتحميدنا ، وهلّلته. فلما خلق آدم عليه‌السلام انتقلنا إلى جبهته ومن جبهته إلى صلبه ثم إلى شيث» .. إلى آخر الحديث. وهو : أن الروح الإبراهيمي ، قدّسه الله تعالى ، كان كاملا في

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٥.

٤٥

أول مراتب صفوف الأرواح مفيضا على أطوار الملكوت كمالاتهم ، جابرا لنقصهم ، كاسرا لأصنام أعيان الموجودات وآلهة الذوات الممكنات من المادية والمجرّدات بنور التوحيد طاويا لمراتب الكمالات ، ذاويا للواقفين مع الصفات والمحجوبين بالغير عن الذات ، فوضعه نمروذ النفس الطاغية ، العاصية ، وقواها التي هي قومه ، في منجنيق الذكر والقوّة في نار حرارة طبيعة الرحم ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، أي : روحا وبراءة من الآفات ، أي : وضعوا درّة وجوده التي هي مظهر روحه ونجيناه إلى أرض البدن التي باركنا فيها للعالمين بهدايته إياهم وتكميله وتربيته لهم فيها بالعلوم والأعمال التي هي أرزاقهم الحقيقية وأوصافهم الكمالية.

[٧٤ ـ ٧٦] (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

واذكر لوط القلب (آتَيْناهُ) حكمة (وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ) أهل قرية البدن (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ) خبائث الشهوات الفاسدة (فاسِقِينَ) بإتيانهم الأمور لا من جهتنا المأمور بها ومباشرتهم الأعمال لا على ما ينبغي من وجه الشرع والعقل (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) الرحيمية ومقام تجلي الصفات (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) العاملين بالعلم الثابتين على الاستقامة. ونوح العقل (إِذْ نادى) من جهة قدم القلب ، واستدعى الله الكمال اللاحق (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بإفاضة كماله على مقتضى استعداده وإبرازه إلى الفعل (فَنَجَّيْناهُ) فنجينا القوى القدسية والفكرية والحمدية وسائر القوى العقلية (مِنَ الْكَرْبِ) الذي هو كون كمالاتها بالقوة ، إذ كل ما هو كامن في الشيء بالقوة كرب له ، يطلب التنفيس بالظهور والبروز إلى الفعل وكلما كان الاستعداد أقوى والكمال الممكن له ، الكامن فيه ، أتمّ ، كان الكرب أعظم.

[٧٧] (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي : القوى النفسانية والبدنية المكذبين بآيات المعقولات والمحرّمات (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) يمنعونه من الكمال والتجريد ويحجبونه عن الأنوار بالتكذيب (فَأَغْرَقْناهُمْ) في يمّ القطران الهيولاني والبحر العميق الجسماني (أَجْمَعِينَ).

[٧٨ ـ ٧٩] (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

(وَداوُدَ) العقل النظري الذي هو في مقام السرّ (وَسُلَيْمانَ) العقل العلمي الذي هو في

٤٦

مقام الصدر (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي : فيما في أرض الاستعداد من الكمالات المودعة فيه ، المخزونة في الأزل ، والمغروزة في الفطرة الناشئة عند التوجه إلى الظهور والبروز (يَحْكُمانِ) فيه بالعلم والعمل والفكر والرياضة في تثميرها وإيناعها وإدراكها.

(إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ) انتشرت فيه بالإفساد في ظلمة ليل غلبة الطبيعة البدنية والصفات النفسانية (غَنَمُ الْقَوْمِ) أي : القوى البهيمية الشهوانية (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) على مقتضى أحوالهم حاضرين ، إذ كان الحكم بأمرنا وعلى أعيننا ، ومقتضى إرادتنا ، فحكم داود السرّ على مقتضى الذوق بتسليم غنم القوى الحيوانية البهيمية إلى أصحاب الحرث من القوى الروحانية بالملكية ليذبحوها ويميتوها بالاستيلاء والقهر والغلبة ، ويغتذوا بها. وحكم سليمان العقل العلمي على مقتضى العلم بتسليط القوى الروحانية عليها لينتفعوا بألبانها من العلوم النافعة والإدراكات الجزئية والأخلاق والملكات الفاضلة ويروضوها بالتهذيب والتأديب وإقامة أصحاب الغنم من النفس وقواها الحيوانية كالغضبية والمتحرّكة والمتخيلة والوهمية وأمثالها بعمارة الحرث وإصلاح ما في أرض الاستعداد بالطاعات والعبادات والرياضات من باب الشرائع والأخلاق والآداب وسائر الأعمال الصالحات حتى يعود الحرث ناضرا بالغا إلى حدّ الكمال ، لتردّ الغنم إلى أصحابها عند حصول الكمال ، فتصير محفوظة مرعية مسوسة مهذبة في الأعمال البهيمية بفضيلة العفّة ، ويردّ الحرث إلى أربابه من الروح وقواه يانعا مثمرا بالعلوم والحكم ، متزيّنا بأزهار المعارف والحقائق وأنوار التجليات والمشاهدات ، ولهذا قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) فإنّ العمل بالتقوى والرياضة على وفق الشرع والحكمة العملية أبلغ في تحصيل الكمال وإبرازه إلى الفعل من العلم الكلي والفكر والنظر والذوق والكشف (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) إذ كل منهما على الصواب في رأيه والحكمة النظرية والعملية والمكاشفة والمعاملة كلتاهما متعاضدتان في طلب الكمال ، متوافقتان في تحصيل كرم الخصال بهما.

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ) الفؤاد ، جبال الأعضاء (يُسَبِّحْنَ) بألسنة خواصها التي أمرن بها ويسرن معه بسيرتها المخصوصة بها فلا تعصي ولا تمتنع عليه ، فتكلّ وتثقل وتأبى أمره ، بل تسير معه مأمورة بأمره ، منقادة مطواعة لتأدبها وارتياضها وتعوّدها بأمره ، وتمرّنها في الطاعات والعبادات ، وطير القوى الروحانية يسبحنّ بالأذكار والأفكار والطيران في فضاء أرواح الأنوار (وَكُنَّا) قادرين على ذلك التسخير.

[٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) من الورع والتقوى ونعم الدرع الحصين الورع (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ) بأس القوى الغضبية السبعية واستيلاء الحرص والدواعي الطبيعية والقوى الوهمية الشيطانية (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) حق هذه النعمة بالتوجه إلى الحضرة الربانية بالكلية.

٤٧

[٨١] (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

(وَلِسُلَيْمانَ) أي : سخّرنا لسليمان العقل العملي المتمكن على عرش النفس في الصدر ريح الهوى (عاصِفَةً) في هبوبها (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) مطيعة له إلى أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب (الَّتِي بارَكْنا فِيها) بتثمير الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ) من أسباب الكمال (عالِمِينَ).

[٨٢] (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

(وَمِنَ) شياطين الوهم والتخيّل (مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) في بحر الهيولى الجسمانية يستخرجون درر المعاني الجزئية (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) من التركيب والتفصيل والمصنوعات وبهيج الدواعي المكسوبات وأمثالها (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب.

[٨٣ ـ ٨٦] (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

(وَأَيُّوبَ) النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة البالغة كمال الزكاء في المجاهدة (إِذْ نادى رَبَّهُ) عند شدّة الكرب في الكدّ وبلوغ الطاقة والوسع في الجدّ والجهد (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) من الضعف والانكسار والعجز (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بالتوسعة والروح (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بروح الأحوال عن كدّ الأعمال عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) الرياضة بنور الهداية ونفسنا عنه ظلمة الكرب بإشراق نور القلب (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) القوى النفسانية التي ملكناها وأمتناها بالرياضة بإحيائها بالحياة الحقيقية (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية وأحوال العلوم النافعة الجزئية (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).

[٨٧ ـ ٨٨] (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

٤٨

(وَذَا النُّونِ) أي : الروح الغير الواصل إلى رتبة الكمال (إِذْ ذَهَبَ) بالمفارقة عن البدنية (مُغاضِباً) عن قومه ، القوى النفسانية لاحتجابها وإصرارها على مخالفته وإبائها واستكبارها عن طاعته (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نستعمل قدرتنا فيه بالابتلاء بمثل ما ابتلي به ، أو : لن نضيق عليه ، فالتقمه حوت الرحمة لوجوب تعلّقه بالبدن في حكمتنا للاستعمال (فَنادى) في ظلمات المراتب الثلاث من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية بلسان الاستعداد (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) فأقرّ بالتوحيد الذاتي المركوز فيه عند العهد السابق وميثاق الفطرة والتنزيه المستفاد من التجرّد الأول في الأزل بقوله : (سُبْحانَكَ) واعترف بنقصانه وعدم استعمال العدالة في قومه فقال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ) بالتوفيق بالسلوك والتبصير بنور الهداية إلى الوصول (وَنَجَّيْناهُ) من غمّ النقصان والاحتجاب بنور التجلي ورفع الحجاب (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بالإيمان التحقيقي الموقنين.

[٨٩ ـ ٩٠] (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(وَزَكَرِيَّا) الروح الساذج عن العلوم (إِذْ نادى رَبَّهُ) في استدعاء الكمال بلسان الاستعداد ، واستوهب يحيى القلب لتنتعش فيه العلوم ، وشكا انفراده عن معاضدة القلب في قبول العلم وحيازة ميراثه مع علمه بأن الفناء في الله خير من الكمال العملي حيث قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) من القلب وغيره (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) القلب بإصلاح زوجه النفس العاقر لسوء الخلق وغلبة ظلمة الطبع عليها بتحسين أخلاقها وإزالة الظلمة الموجبة للعقر عنها (إِنَّهُمْ) إن أولئك الكمل من الأنبياء (كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : يسابقون إلى المشاهدات التي هي الخيرات المحضة بالأرواح (وَيَدْعُونَنا) لطلب المكاشفات بالقلوب (رَغَباً) إلى الكمال (وَرَهَباً) من النقصان أو رغبا إلى اللطف والرحموت في مقام تجليات الصفات ورهبا من القهر والعظموت (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) بالنفوس.

[٩١] (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) أي : النفس الزكية الصافية المستعدّة العابدة التي أحصنت فرج استعدادها ومحل تأثير الروح من باطنها بحفظه من مسافحي القوى البدنية فيها (فَنَفَخْنا فِيها) من تأثير روح القدس بنفخ الحياة الحقيقية فولدت عيسى القلب (وَجَعَلْناها) مع القلب علامة ظاهرة وهداية واضحة (لِلْعالَمِينَ) من القوى الروحانية والنفوس المستعدّة المستبصرة يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

٤٩

[٩٢ ـ ٩٣] (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

(إِنَّ هذِهِ) الطريقة الموصلة إلى الحقيقة وهي طريقة التوحيد المخصوصة بالأنبياء المذكورين ، طريقتكم أيها المحققون السالكون ، طريقة (واحِدَةً) لا اعوجاج ولا زيغ ولا انحراف عن الحق إلى الغير ولا ميل (وَأَنَا) وحدي (رَبُّكُمْ) فخصصوني بالعبادة والتوجه ولا تلتفتوا إلى غيري (وَتَقَطَّعُوا) أي : تفرق المحجوبون الغائبون عن الحق ، الغافلون في أمر الدين وجعلوا أمر دينهم قطعا يتقسمونه (بَيْنَهُمْ) ويختارون السبل المتفرّقة بالأهواء المختلفة (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) على أي مقصد وأية طريقة وأية وجهة كانوا فنجازيهم بحسب أعمالهم وطرائقهم.

[٩٤ ـ ٩٥] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

(فَمَنْ) يتّصف بالكمالات العملية (وَهُوَ) عالم موقن فسعيه مشكور غير مكفور في القيامة الوسطى والوصول إلى مقام الفطرة الأولى (وَإِنَّا) لصورة ذلك السعي لكاتبون في صحيفة قلبه فيظهر عليه عند التجرد أنوار الصفات وممتنع (عَلى قَرْيَةٍ) حكمنا بإهلاكها وشقاوتها في الأزل رجوعهم إلى الفطرة من الاحتجاب بصفات النفس في النشأة.

[٩٦ ـ ٩٧] (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ) القوى النفسانية (وَمَأْجُوجُ) القوى البدنية بانحراف المزاج وانحلال التركيب (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) من أعضاء البدن التي هي محالها ومقارها (يَنْسِلُونَ) بالذهاب والزوال (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) من وقوع القيامة الصغرى بالموت ، فحينئذ شخصت أبصار المحجوبين لشدّة الهول والفزع ، داعين بالويل والثبور ، معترفين بالظلم والقصور.

[٩٨ ـ ١٠٠] (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) أي : كل عابد منكم لشيء سوى الله محجوب به عن الحق ، مرميّ مع معبوده الذي وقف معه في طبقة من طبقات جهنم ، البعد والحرمان على حسب مرتبة

٥٠

معبوده (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) من ألم الاحتجاب وشدّة العذاب واستيلاء نيران الأشواق وطول مدة الحرمان والفراق (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) كلام الحق والملائكة لتكاثف الحجاب وشدّة طرق مسامع القلب لقوّة الجهل كما لا يبصرون الأنوار لشدّة انطباق الظلمة وعمى البصيرة.

[١٠١ ـ ١٠٣] (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا) السعادة (الْحُسْنى) وحكمنا بسعادتهم في القضاء السابق (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لتجرّدهم عن الملابس النفسانية والغشاوات الطبيعة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) لبعدهم عنها في الرتبة (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ) ذواتهم من الجنات الثلاث وخصوصا المشاهدات في جنة الذات (خالِدُونَ* لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) بالموت في القيامة الصغرى ولا بتجلي العظمة والجلال في القيامة الكبرى (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت بالبشارة أو عند البعث النفساني بالسلامة والنجاة ، أو في القيامة الوسطى والبعث الحقيقي بالرضوان أو عند الرجوع إلى البقاء بعد الفناء حال الاستقامة بالسعادة التامّة.

[١٠٤] (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) أي : لا يحزنهم يوم نطوي سماء النفس بما فيها من صور الأعمال وهيئات الأخلاق في الصغرى (كَطَيِ) الصحيفة للمكتوبات التي فيها ، أي : كما تطوى ليبقى ما فيها محفوظا ، أو سماء القلب بما فيها من العلوم والصفات والمعارف والمعقولات ما فيها محفوظا ، أو سماء القلب بما فيها من العلوم والصفات والمعارف والمعقولات في الوسطى ، أو سماء الروح بما فيها من العلوم من المشاهدات والتجليات في الكبرى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) بالبعث في النشأة الثانية على الأول أو بالرجوع إلى الفطرة الأولى على الثاني أو بالبقاء بعد الفناء على الثالث.

[١٠٥ ـ ١١٢] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي) زبور القلب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) في اللوح أن أرض البدن يرثها القوى

٥١

الصالحة المنوّرة بنور السكينة بعد إهلاك الفواسق بالرياضة. أو : ولقد كتبنا في زبور اللوح المحفوظ من بعد الذكر في أمّ الكتاب (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) من الروح والسرّ والقلب والعقل والنفس وسائر القوى بالاستقامة بعد إهلاك الصالحين بالفناء في الوحدة (لَبَلاغاً) لكفاية (لِقَوْمٍ) عبدوا الله بالسلوك فيه (رَحْمَةً) عظيمة مشتملة على الرحيمية بهدايتهم إلى الكمال المطلق والرحمانية بأمانهم من العذاب المستأصل في زمانه لغلبة رحمته على غضبه.

٥٢

سورة الحج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) احذروا عقابه بالتجرّد عن الغواشي الهيولانية والصفات النفسانية (إِنَ) اضطراب أرض البدن في القيامة الصغرى للمنقسمين فيها (شَيْءٌ عَظِيمٌ* يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) أي : غاذية مرضعة للأعضاء عن إرضاعها (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ) من القوى الحافظة لمدركاتها كالخيال والوهم والذاكرة والعاقلة (حَمْلَها) من المدركات لسكرها وذهولها وحيرتها وبهتها ، أو كل قوة حاملة للأعضاء حملها وتحريكها واستقلالها بالضعف ، أو كل عضو حامل لما فيه من القوة حملها بالتخلي عنها ، أو كل ما يمكن فيها من الكمالات بالقوة حملها بفسادها وإسقاطها ، أو كل نفس حاملة لما فيها من الهيئات والصفات من الفضائل والرذائل بإظهارها وإبرازها (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) من سكرات الموت ، ذاهلين ، مغشيّا عليهم (وَما هُمْ بِسُكارى) في الحقيقة من الشراب ، ولكن من شدّة العذاب.

[٥ ـ ١٧] (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما

٥٣

لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

(وَتَرَى) أرض النفس (هامِدَةً) ميتة بالجهل لا نبات فيها من الفضائل والكمالات. (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا) ماء العلم من سماء الروح (اهْتَزَّتْ) بالحياة الحقيقية (وَرَبَتْ) بالترقي في المقامات والمراتب (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ) صنف (بَهِيجٍ) من الكمالات والفضائل المزينة لها (ذلِكَ) سبب (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الثابت الباقي وما سواه هو المغيّر الفاني (وَأَنَّهُ يُحْيِ) موتى الجهل بفيض العلم في القيامة الوسطى كما يحيي موتى الطبع في القيامة الصغرى (وَأَنَّ السَّاعَةَ) بالمعنيين (آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : قبر البدن من موتى الجهل في الساعة الوسطى بالقيام في موضع القلب والعود إلى الفطرة وحياة العلم كما يبعث موتى الطبع في النشأة الثانية والقيامة الصغرى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : استدلال (وَلا هُدىً) ولا كشف ووجدان (وَلا كِتابٍ) ولا وحي وفرقان (يَدْعُوا) مما سوى الله (ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) كائنا ما كان فإن الاحتجاب الغيري (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) عن الحق وإنما كان ضرّه أقرب من نفعه لأن دعوته والوقوف معه يحجبه عن الحق.

[١٨ ـ ٢٠] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠))

(يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الملكوت السماوية والأرضية وغيرهم مما عدّ ومما لم يعد من الأشياء بالانقياد والطاعة والامتثال لما أراد الله منها من الأفعال والخواص وأجرى عليها شبه تسخيرها لأمره وامتناع عصيانها لمراده وانقهارها تحت قدرته بالسجود الذي هو غاية الخضوع ، ولما لم يمكن لشيء منها إلا للإنسان التابع للشيطان في ظاهر أمره دون باطنه خصّ عموم كثير من الناس الذين حقّ عليهم العذاب وحكم بشقاوتهم في الأزل وهم الذين غلبت عليهم الشيطنة ولزمتهم الزلّة والشقوة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) بأن يجعل

٥٤

أهله قهره وسخطه ومحل عقابه وغضبه (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) جعلت لهم ملابس من نار غضب الله وقهره ، وهي هيئات وأجرام مطابقة لصفات نفوسهم المنكوسة ، معذبة لها غاية التعذيب (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ) حميم الهوى ، وحب الدنيا الغالب عليهم ، أو حميم الجهل المركّب والاعتقاد الفاسد المستعلي على جبهتهم العلوية التي تلي الروح في صورة القهر الإلهي مع الحرمان عن المراد المحبوب المعتقد فيه (يُصْهَرُ بِهِ) أي : يذاب به ويضمحل (ما فِي) بطون استعداداتهم من المعاني القوية وما في ظاهرهم من الصفات الإنسانية والهيئات البشرية ، فتتبدل معانيهم وصورهم ، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها.

[٢١ ـ ٢٤] (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

(وَلَهُمْ مَقامِعُ) أي : سياط (مِنْ حَدِيدٍ) الأثيرات الملكوتية بأيدي زبانية الأجرام السماوية المؤثرة في النفوس المادية ، تقمعهم بها وتدورهم من جناب القدس إلى مهاوي الرجس (كُلَّما أَرادُوا) بدواعي الفطرة الإنسانية وتقاضي الاستعداد الأوّليّ (أَنْ يَخْرُجُوا) من تلك النيران إلى فضاء مراتب الإنسان (مِنْ غَمٍ) تلك الهيئات السود المظلمة وكرب تلك الدركات الموجبة ، ضربوا بتلك المقامع المؤلمة وأعيدوا إلى أسافل الوهدات المهلكة (وَ) قيل لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(جَنَّاتٍ) القلوب (تَجْرِي مِنْ) تحتهم أنهار العلوم (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) الأخلاق والفضائل المصوغة (مِنْ ذَهَبٍ) العلوم العقلية والحكمة العملية (وَلُؤْلُؤاً) المعارف القلبية ، والحقائق الكثيفة (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) شعاع أنوار الصفات الإلهية والتجليات اللطيفة ، وهداهم (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ) ذكر الصفات في مقام القلب (وَهُدُوا إِلى صِراطِ) ذي الصفات ، أي : توحيد الذات الحميدة باتصافها بتلك الصفات ، وتلك بعينها صراط الذات وسلّم الوصول إليها بالفناء.

[٢٥] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

(كَفَرُوا) حجبوا بالغواشي الطبيعية (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الذي هو صدر فناء كعبة القلب (الَّذِي جَعَلْناهُ) لناس القوى الإنسانية مطلقا (سَواءً) المقيم فيه من

٥٥

القوى العقلية الروحانية وبادي القوى النفسانية لإمكان وصولها إليه وطوافها فيه عند ترقي القلب إلى مقام السرّ.

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) من الواصلين إليه مرادا (بِإِلْحادٍ) ميل إلى الطبيعة والهوى (بِظُلْمٍ) وضع شيء من العلوم والعبادات القلبية مكان النفسية كاستعمالها للأغراض الدنيوية وإظهارها لتحصيل اللّذات البدنية من طلب السمعة والمال والجاه أو بالعكس ، كمباشرة الشهوات الحسيّة واللذات النفسية بتوهم كونها مصالح الدارين أو تغير عن وجهها كالرياء والنفاق ، أو ملحدا ظالما (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) في جحيم الطبيعة.

[٢٦] (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

(وَإِذْ بَوَّأْنا) أي : جعلنا (لِإِبْراهِيمَ) الروح مكان بيت القلب وهو المصدر مباءة يرجع إليها في الأعمال والأخلاق. وقيل : أعلم الله إبراهيم مكانه بعد ما رفع إلى السماء أيام الطوفان بريح أرسلها ، فكشف ما حولها ، فبناه على أسّه القديم ، أي : هداه إلى مكانه بعد رفعه إلى السماء. وأيام طوفان الجهل وأمواج غلبات الطبع برياح نفحات الرحمة فكشفت ما حوله من الهيئات النفسانية والألواث الطبيعية والغبارات الهيولانية فبناه على أسّه القديم من الفطرة الإنسانية (أَنْ لا تُشْرِكْ) أي : جعلناه مرجعا في بناء البيت بأحجار الأعمال وطين الحكم وجصّ الأخلاق ، وقلنا : لا تشرك ، أي : أمرناه بالتوحيد ثم بتطهير بيت القلب عن الألواث المذكورة (لِلطَّائِفِينَ) من القوى النفسانية التي تطوف حوله للتنوّر واكتساب الفضائل الخلقية (وَالْقائِمِينَ) من القوى الروحانية التي تقوم عليه بإلقاء المعارف والمعاني الحكمية (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) من القوى البدنية التي تستفيد منه صور العبادات والآداب الشرعية والعقلية ، أو لهداية الطالبين من المستبصرين المتعلمين ، والمجاهدين السالكين ، والمتعبدين الخاضعين.

[٢٧ ـ ٢٨] (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ) بالدعوة إلى مقام القلب وزيارته (يَأْتُوكَ رِجالاً) مجرّدين عن صفات النفوس (وَعَلى كُلِ) نفس ضامرة بطول الرياضة والمجاهدة (يَأْتِينَ مِنْ كُلِ) طريق بعيد العمق في قعر الطبيعة (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) من الفوائد العلمية والعملية المستفادة من مقام القلب (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) بالاتّصاف بصفاته (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) من أنوار التجليات والمكاشفات (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ) أنعام النفوس المذبوحة تقرّبا إلى الله تعالى بحراب

٥٦

المخالفات وسكاكين المجاهدات (فَكُلُوا) استفيدوا من لحوم أخلاقها وملكاتها المعينة المقوّية في السلوك (وَأَطْعِمُوا) أي : أفيدوا (الْبائِسَ) الطالب القوي النفس ، الذي أصابه شدّة من غلبة صفاتها واستيلاء هيئاتها للتهذيب والتأديب ، والفقير الضعيف النفس ، القديم العلم ، الذي أضعفه عدم التعليم والتربية المحتاج إليها.

[٢٩] (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

(ثُمَّ لْيَقْضُوا) وسخ الفضول وفضلات ألواث الهيئات كقصّ شارب الحرص ، وقلم أظفار الغضب والحقد. وفي الجملة : بقايا تلوينات النفس (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) بالقيام بإبراز ما قبلوه في العهد الأول من المعاني والكمالات المودعة فيهم إلى الفعل ، فقضاء التفث التزكية وإزالة الموانع والإيفاء بالنذور والتحلية وتحصيل المعارف (وَلْيَطَّوَّفُوا) بالانخراط في سلك الملكوت الأعلى حول عرش الله المجيد البيت القديم.

[٣٠] (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ذلِكَ) أي : الأمر ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وهي ما لا يحل هتكه وتطهيره والقربان بالنفس وجميع ما ذكر من المناسك كالتحلي بالفضائل ، واجتناب الرذائل ، والتعرّض للأنوار في التجليات ، والاتصاف بالصفات ، والترقي في المقامات (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) في حضرة ربّه ومقعد قربه (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ) أنعام النفوس السليمة بالانتفاع بأخلاقها وأعمالها في الطريقة والتمتع بالحقوق دون الحظوظ (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) في صورة المائدة من الرذائل المشتبهة بالفضائل وهي التي صدرت من النفس لا على وجهها ولا على ما ينبغي من أمرها بالرذائل المحضة ، فإنها محرّمة في سبيل الله على السالكين (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ) أوثان الشهوات المتعبدة ، والأهواء المتبعة ، كقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١). (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) من العلوم المزخرفة والشبهات المموهة من التخيلات والموهومات ، المستعملة في الجدل والخلاف والمغالطة.

[٣١ ـ ٣٢] (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) مائلين عن الطرق الفاسدة ، والعلوم الباطلة ، معرضين عن كل ما يغيره من

__________________

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٣.

٥٧

الكمالات والأعمال ، ولو لنفس الكمال والتزين به فإنه حجاب (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) بالنظر إلى ما سواه والالتفات في طريقه إلى ما عداه. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) بالوقوف مع شيء والميل إليه (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ) سماء الروح (فَتَخْطَفُهُ) طير الدواعي النفسانية والأهواء الشيطانية فتمزقه قطعا جذاذا (أَوْ تَهْوِي بِهِ) ريح هوى النفس في (مَكانٍ) بعيد من الحق ومهلكة عمياء متلفة (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) من النفوس المستعدّة المسوقة نسائق التوفيق في سبيل الله ليهدي بها لوجه الله ، فإنّ تعظيمها بتحصيل كمالها من أفعال ذي القلوب المتّقية المجرّدة عن الصفات النفسانية والهيئات الظلمانية.

[٣٣] (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) من الأعمال والأخلاق والكمالات العلمية والعملية (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الفناء في الله بالحقيقة (ثُمَّ مَحِلُّها) حدّ سوقها وموضع وجوب نحرها بالوصول إلى حرم الصدر عند كعبة القلب إلى مقام السرّ ، وترقي النفس إلى مقامه ، فانية عن حياتها وصفاتها.

[٣٤] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من القوى (جَعَلْنا) عبادة مخصوصة بها (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) بالاتصاف بصفاته التي هي مظاهرها في التوجه إلى التوحيد (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ) الكمال بواسطة (بَهِيمَةِ) النفس التي هي من جملة (الْأَنْعامِ) أي : النفوس السليمة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فوحدوه بالتوجه نحوه من غير التفات إلى غيره ، وخصّصوه بالانقياد والطاعة ولا تنقادوا إلا له (وَبَشِّرِ) المنكسرين المتذللين القابلين لفيضه.

[٣٥] (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) بالحضور (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) انفعلت لقبول فيضه (وَالصَّابِرِينَ) الثابتين (عَلى ما أَصابَهُمْ) من المخالفات والمجاهدات (وَالْمُقِيمِي) صلاة المشاهدة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الفضائل والكمالات (يُنْفِقُونَ) بالفناء في الله والإفاضة على المستعدين.

[٣٦] (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

(وَالْبُدْنَ) أي : النفوس الشريفة العظيمة القدر (جَعَلْناها) من الهدايا المعلمة لله (لَكُمْ

٥٨

فِيها خَيْرٌ) سعادة وكمال (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها) بالاتّصاف بصفاته وإفناء صفاتكم فيه ، وذلك هو النحر في سبيل الله (صَوافَ) قائمات بما فرض الله عليها ، مقيدات بقيود الشريعة ، وآداب الطريقة ، واقفات عن حركاتها واضطراباتها (فَإِذا) سقطت عن هواها الذي هو حياتها وقوّتها التي بها تستقل وتضطرب بقتلها في الله (فَكُلُوا) استفيدوا من فضائلها وأفيدوا المستعدّين والطالبين المتعرّضين للطلب من المريدين (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) بالرياضة (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة الاستعداد والتوفيق باستعمالها في سبيل الله.

[٣٧] (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

(لَنْ يَنالَ اللهَ) لحوم فضائلها وكمالاتها ولا إفناؤها بإزالة أهوائها التي هي دماؤها (وَلكِنْ يَنالُهُ) التجرّد (مِنْكُمْ) عنها وعن صفاتها. فإن سبب الوصول هو التجرّد والفناء في الله ، لا حصول الفضائل مكان الرذائل. مثل ذلك التسخير بالرياضة (سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) بالفناء فيه عنها وعن كل شيء على النحو الذي هداكم إليه بالتجريد والتفريد والسلوك في الطريقة إلى الحقيقة. (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الشاهدين في العبودية عن البقاء والفناء حال الاستقامة والتمكين.

[٣٨] (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨))

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) ظلمة القوى النفسانية بالتوفيق (عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) من القوى الروحانية (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ) من القوى التي لم تؤدّ أمانة الله من كمالها المودع فيها بالطاعة فيها وخانت القلب بالغدر وعدم الوفاء بالعهد (كَفُورٍ) باستعمال نعمة الله في معصيته.

[٣٩ ـ ٤٠] (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) الوهم والخيال وغيرهما من القوى الروحانية المجاهدين مع القوى النفسانية بسبب (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) باستيلاء صفات النفس واستعلائها (الَّذِينَ) أي : المظلومين الذين (أُخْرِجُوا) من مقارّهم ومناصبهم باستخدامها واستعبادها في طلب الشهوات واللذّات البدنية (بِغَيْرِ حَقٍ) لهم عليهم موجب لذلك إلا للتوحيد الموجب للتعظيم والتمكين والتوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل.

٥٩

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) ناس القوى النفسانية (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) كدفع الشهوانية بالغضبية وبالعكس ، أو ناس القوى مطلقا كدفع النفسانية بالروحانية ودفع الوهمية بالعقلية والنفسانية بعضها ببعض كما ذكر (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) رهبان السرّ وخلواتهم (وَبِيَعٌ) نصارى القلب ومحال تجلياتهم (وَصَلَواتٌ) يهود الصدور ومتعبداتهم (وَمَساجِدُ) مؤمني الروح ومقامات مشاهداتهم وفنائهم في الله (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) الأعظم بالتخلق بأخلاقه والاتّصاف بصفاته والتحقق بأسراره والفناء في ذاته (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ) يقهر بنوره من بارزه بوجوده وظهوره (عَزِيزٌ) يغلب من ماثله باستعلائه وجبروته.

[٤١ ـ ٥١] (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالاستقامة بالوجود الحقاني (أَقامُوا) صلاة المراقبة والمشاهدة (وَآتَوُا) زكاة العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية من نصاب المكاشفة مستحقيها من الطلبة (وَأَمَرُوا) القوى النفسانية والنفوس الناقصة (بِالْمَعْرُوفِ) من الأعمال الشرعية والأخلاق المرضية في مقام المشاهدة ، ونهوهم (عَنِ الْمُنْكَرِ) من الشهوات البدنية واللذات الحسيّة والرذائل المردية والمعاملة (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) بالرجوع إليه.

الفرق بين النبيّ والرسول ، أن النبيّ هو الواصل بالفناء في مقام الولاية ، الراجع بالوجود الموهوب إلى مقام الاستقامة متحققا بالحق ، عارفا به ، متنبئا عنه وعن ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه بأمره ، مبعوثا للدّعوة إليه على شريعة المرسل الذي تقدّمه غير مشرّع لشريعة ولا واضع لحكم وملّة ، مظهرا للمعجزات ، منذرا أو مبشّرا للناس كأنبياء بني إسرائيل إذ كلهم كانوا داعين إلى دين موسى عليه‌السلام غير واضعين لملّة وشريعة ، ومن كان ذا كتاب كداود عليه‌السلام كان كتابه حاويا للمعارف والحقائق والمواعظ والنصائح دون الأحكام والشرائع.

٦٠