تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

المهلكة والنوازع المردية الباعثة على الأفعال القبيحة والأعمال السيئة ، فتلك أصول الشيطنة ومبادئ الشرّ والمفسدة ، فكانت رؤوس الشياطين.

[٦٦] (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦))

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) يستمدّون منها ، ويغتذون ويتقوّون ، فإن الأشرار غذاؤهم من الشرور ولا يلتذون إلا بها (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) بالهيئات الفاسقة والصفات المظلمة ، كالممتلئ غضبا وحقدا وحسدا وقت هيجانها.

[٦٧] (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧))

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) الأهواء الطبيعية ، والمنى السيئة الرديئة ، ومحبات الأمور السفلية ، وقصور الشرور الموبقة التي تكسر بعض غلّة الأشرار.

[٦٨ ـ ٨٢] (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢))

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) لغلبة الحرص ، والشره بالشهوة ، والحقد والبغض والطمع وأمثالها ، واستيلاء دواعيها مع امتناع حصول مباغيها.

[٨٣ ـ ١٠١] (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

ويمكن تطبيق قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام على حال الروح الساذج من الكمال (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) بسابقة معرفة الأزل والوصلة الثابتة في العهد الأول (بِقَلْبٍ) باق على الفطرة واستعداد صاف (سَلِيمٍ) عن النقائص والآفات محافظة على عهد التوحيد الفطري ، منكر على

١٨١

المحتجبين بالكثرة عن الوحدة ، ناظر في نجوم العلوم العقلية الاستدلالية والحجج والبراهين النظرية ، مدرك بالاستبصار والاستدلال سقمه من جهة الأعراض النفسانية والشواغل البدنية الحاجبة ، فأعرض عنه قومه البدنيون المدبرون عن مقصده ووجهته لإنكاره عليهم في تقيد الأكوان وطاعة الشيطان إلى عيدهم واجتماعهم على اللذات والشهوات التي يعودون إليها كل وقت (فَراغَ) أي : فأقبل مخفيّا حاله عنهم على كسر آلهتهم بفأس التوحيد والذكر الحقيقي يضربهم (ضَرْباً) بيمين العقل فرجعوا (إِلَيْهِ) غالبين مستولين عند ضعفه ، ساعين في تخريب قالبه (فَأَلْقُوهُ) في نار حرارة الرحم ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، أي : روحا وسلامة من الآفات لبقاء صفاء استعداده ونقاء فطرته ، وبنى عليه بنيان الجسد وجعل الله أعداءه من النفس الأمّارة والقوى البدنية الملقية إياه في النار من الأسفلين لتكامل استعداده ، فتوجه إلى ربّه بالسلوك (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) ودعا ربّه بلسان الاستعداد الكامل الأصلي أن يهب له ولد القلب الصالح ، فبشّره به ورزقه.

[١٠٢ ـ ١٣٨] (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بالسلوك في طريق الكمالات الخلقية والفضائل النفسانية ، أوحى إليه أن يذبحه بالفناء في التوحيد والتسليم لربّه الحق بالتجريد من الصفات الكمالية. فأخبره بذلك ، فانقاد وأسلم وجهه بالفناء في ذاته عن صفاته ، ففدى على يد جبريل العقل الفعّال

١٨٢

بذبح النفس الشريفة ، السمينة العلوم ، العظيمة الأخلاق وكمالات الفضائل ، فذبحت بالفناء فيه ، وأنجى إسماعيل القلب بالفناء الحقاني الموهوب المفدّى من جهة الله ، وترك الله عليه‌السلام في العالمين المتخلفين عن مقامه لاهتدائهم بنوره واقتدائهم بإيمانه وهديه.

[١٣٩ ـ ١٤٢] (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢))

(وَإِنَّ يُونُسَ) القلب (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى أهل النقصان ، المحتجبين بالأبدان ، المتّبعين للشيطان ، المتظاهرين بالطغيان (إِذْ أَبَقَ) إلى فلك البدن (الْمَشْحُونِ) بالقوى البدنية وكمالاتها الحسيّة الجاري في بحر الهيولى (فَساهَمَ) أي : فاقترع معهم في الحظوظ البدنية واختيارها بالأفكار العقلية (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) المحجوبين ، المزلقين بالحجة البرهانية اليقينية لأنهم بدنيون أهل البحر والسفينة ، وهو القدسيّ المجرّد من سكان الحضرة الإلهية ، الآبق من سيده إلى السفينة ، الملقي بيده إلى التهلكة ، فألقي في البحر ، فالتقمه حوت الرحم كلقطه النطفة (وَهُوَ مُلِيمٌ) مستحق للملامة للتعلق بالملابس البدنية الموجبة لوقوعه في تلك البليّة.

[١٤٣ ـ ١٨٢] (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) المنزّهين لربّه بالتقديس حالة التجريد والتوحيد (لَلَبِثَ

١٨٣

فِي بَطْنِهِ) كسائر القوى الطبيعية والنفسانية المنغمسة في بطون حيتان الصور النوعية الجسمانية من الطبائع الهيولانية (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : يوم يبعث المجرّدون عن مراقد أبدانهم مع بقائه في مرقده كسائر الغافلين ، أو يوم يبعث رفقاؤه البدنيون في القيامة الصغرى (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) أي : بالفضاء من عرصة الدنيا بالولادة (وَهُوَ سَقِيمٌ) ضعيف ممنوّ بالأعراض المادية واللواحق الطبيعية (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) لا تقوم على ساق وتنسرح على وجه الأرض تظلل عليه بأوراقها من الغواشي البدنية. وقد قيل في التفاسير الظاهرة : إنه قد ضعف بدنه في بطن الحوت وصار كطفل ساعة يولد (وَأَرْسَلْناهُ) عند الكمال (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) والله أعلم.

١٨٤

سورة ص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١٧] (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))

(ص) أقسم بالصورة المحمدية ، والكمال التامّ المذكور بالشرف والشهرة ، بأنه أتمّ الكمالات ، وهو العقل القرآني الجامع لجميع الحكم والحقائق من الاستعداد التامّ المناسب لتلك الصورة الشريفة ، كما روي عن ابن عباس : «(ص) جبل بمكة ، كان عليه عرش الرحمن عاما» ، دلّ عليه قوله : (فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) وحذف جواب القسم في مثل ذلك غير عزيز ، وهو أنه لحق يجب أن يتّبع ويذعن له ويقبل بخضوع وذلّة (بَلِ الَّذِينَ) حجبوا عن الحق بأنانيتهم وضادّوه في استكبار وعناد ولجّ وخلاف لظهور أنفسهم بباطلها في مقابلة الحق ، وقوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) معناه : داوم استقامتك في التوحيد ، وعارض أذاهم بالصبر في التمكين ، ولا تظهر نفسك في مقابلة أذاهم بالتلوين ، فإنك قائم بالله متحقق بالحق فلا تتحرك إلا به (وَاذْكُرْ) حال أخيك (عَبْدَنا) المخصوص بعنايتنا القديمة (داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي : القوّة والتمكين والاضطلاع في الدين ، كيف زلّ عن مقام استقامته في التلوين فلا يكن حالك في ظهور النفس حاله. ثم وصف قوّة حال داود عليه‌السلام وكماله بقوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى الحق عن صفاته وأفعاله بالفناء فيه.

[١٨ ـ ١٩] (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩))

١٨٥

(إِنَّا سَخَّرْنَا) جبال الأعضاء معه (يُسَبِّحْنَ) بالانقياد والتمرّن في الطاعة أوقات العبادة وقت عشيّ الاستتار واحتجاب نور شمس الروح بظهور النفس وإشراق التجلي وسلطان نور شمس الروح على النفس لا يتفاوت حاله في العبادة بالفترة والعزيمة في الوقتين لكمال تمرين نفسه وبدنه في الطاعة ، وطير القوى بأجمعها (مَحْشُورَةً) مجموعة ، متسالمة بهيئة العدالة والانخراط في سلك الوحدة في تسبيحاتها المخصوصة بكل واحدة منها (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) رجّاع لتسبيحه بتسبيحه.

[٢٠ ـ ٢٦] (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قوّيناه بالتأييد وإيتاء العزّة والهيبة ، وإعطاء العز والقدرة لائتلاف نفسه بأنوار تجليات القهر والعظمة والكبرياء والعزّة واتصافه بصفاتنا الباهرة ، فيها به كل أحد ويجله ويذعن لسلطنته ويبجله (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) لاتصافه بعلمنا (وَفَصْلَ الْخِطابِ) والفصاحة المبينة للأحكام ، أي : الحكمة النظرية والعملية والمعرفة والشريعة. وفصل الخطاب : هو المفصول ، المبين من الكلام المتعلق بالأحكام ، ثم بين تلوينه وظهور نفسه في زلته ، وتبيينه الحق بالعتاب على خطيئته وتأديبه إياه وتداركه بتوبته بقوله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ وَظَنَ) أي : تيقن (داوُدُ أَنَّما) ابتليناه بامرأة أوريا (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) بالتنصل عن ذنبه بالافتقار والالتجاء إليه في المجاهدة وكسر النفس وقمعها بالمخالفة (وَخَرَّ) بمحو صفات النفس (راكِعاً) فانيا في صفات الحق (وَأَنابَ) إلى الله بالفناء في ذاته (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) التلوين بستر صفاته بنور صفاتنا (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) بالوجود الحقانيّ الموهوب حال البقاء بعد الفناء (وَحُسْنَ مَآبٍ) لاتّصافه حينئذ بصفاتنا لا بأنانيته ليلتحق بنا ويحكم بأحكامنا في محل الخلافة الإلهية ، كما قال : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ) بالحكم (بِالْحَقِ) لا بنفسك ليكون عدلا لا جورا (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) بظهور النفس فتجور ضّالا عن سبيل الحق إلى سبيل الشيطان.

١٨٦

[٢٧ ـ ٣٠] (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠))

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) خلقا (باطِلاً) لا حق فيها ، بل حقا محتجبا بصورها لا وجود لها بنفسها فتكون باطلا محضا.

(ذلِكَ ظَنُ) المحجوبين عن الحق بمظاهر الكون (فَوَيْلٌ) لهم من نار الحرمان والاحتجاب والتقلّب في نيران الطبيعة والأنانية بأشدّ العذاب.

بل لم نجعل (الَّذِينَ آمَنُوا) بشهود جماله في مظاهر الأكوان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الأعمال المقصودة بذاتها ، المتعلقة بصلاح العالم ، الصادرة عن أسمائه (كَالْمُفْسِدِينَ) المحجوبين الفاعلين بأنفسهم وصفاتهم الأفعال البهيمية والسبعية والشيطانية في أرض الطبيعة (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ) المجرّدين عن صفاتهم (كَالْفُجَّارِ) المتلبسين بالغواشي النفسانية والشيطانية في أعمالهم (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) بالنظر العقلي ما داموا في مقام النفس ، فينخلعوا عن صفاتهم في متابعة صفاته (وَلِيَتَذَكَّرَ) حال العهد الأول والتوحيد الفطري عند التجرّد (أُولُوا) الحقائق المجرّدة الصافية عن قشر الخلقة.

ثم ذكر تلوين سليمان وابتلاءه تأكيدا لتثبيته ، وتقوية له في استقامته وتمكينه (نِعْمَ الْعَبْدُ) لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني وهو مقام النبوّة (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إليّ بالتجريد.

[٣١ ـ ٣٣] (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) وقت قرب غروب شمس الروح في الأفق الجسماني بميل القلب إلى النفس وظهور ظلمتها بالميل إلى المال واستيلاء محبة الجسمانيات واستحسانها ، كما قال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) (١) إلى قوله : (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) (٢). فإنّ الميل إلى الزخارف الدنيوية والمشتهيات الحسيّة وهوى اللذات الطبيعية والأجرام السفلية يوجب إعراض النفس عن الجهة العلوية ، واحتجاب القلب عن الحضرة الإلهية (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) التي استعرضها وانجذب بهواها وأحبها (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ)

__________________

(١ ـ ٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤.

١٨٧

أي : أحببت منيبا حبّ المال (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) مشتغلا به لمحبتي إياه كما يجب لمثلي أن يشتغل بربّه ذاكرا محبّا له ، فاستبدلت محبة المال بذكر ربّي ومحبته فذهلت عنه (حَتَّى تَوارَتْ) شمس الروح بحجب النفس (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي : يمسح السيف مسحا بسوقها يعرقب بعضها وينحر بعضها ، كسر الأصنام : النفس التي تعبدها بهواها وقمعا لسورتها وقواها ، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق واستغفارا وإنابة إليه بالتجريد والترك.

[٣٤] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ابتليناه مرة أخرى بما هو أشدّ من هذا التلوين وهو إلقاء الجسد على كرسيه ، وقد اختلف في تفسيره على ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه ولد له ابن فهمّ الشياطين بقتله مخافة أن يسخّرهم كأبيه ، فعلم بذلك فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبّه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربّه. والثاني : أنه قال ذات يوم : لأطوفنّ على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف عليهنّ ولم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. فعلى هذين الوجهين يكون ابتلاؤه بمحبة الولد ، فظهور النفس بميله إليه إما بشدّة الاهتمام بحفظه وتربيته وصونه عن شياطين الأوهام والتخيلات في سحاب العقل العملي وتغذيته بالحكمة العقلية واعتماده في ذلك على العقل والمعقول واستحكام أهله لكماله دون تفويض أمره فيه إلى الله واتكاله في شأنه عليه ، فابتلاه الله بموته ، فتنبّه على خطئه في شدّة حبه للغير وغلبة أهله ، وإما بظهور النفس في الاقتراح والتمني وغلبة الحسبان والظنّ والاحتجاب عن الاستيهاب بالعادة والفعل وبالتدبير عن التقدير والذهول عن أمر الحق بغلبة صفات النفس ، فابتلاه الله بالمعلول البعيد عن المراد الذي تصوّره في نفسه وقدّره ، فأناب الرجوع إلى الحق عند التنبّه على ظهور النفس وتدارك التلوين بالاستغفار والاعتذار في التقصير. والوجه الثالث : إنه غزا صيدون مدينة في بعض جزائر البحر ، فقتل ملكها وكان عظيم الشأن ، وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها ، فاصطفاها لنفسه بعد أن أسلمت وأحبها وقد اشتدّ حزنها على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها ، فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه ، فأخبر آصف سليمان بذلك ، فكسر الصورة وعاقب المرأة ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش لنفسه الرماد ، فجلس عليه تائبا إلى الله متضرّعا. وكانت له أمّ ولد يقال لها : أمينة ، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه ، فوضعه عندها يوما وأتاها الشيطان صاحب البحر اسمه صخر على صورة سليمان

١٨٨

فقال : يا أمينة ، خاتمي! فتختم به وجلس على كرسيّ سليمان وغيّر سليمان على هيئته فأنكرته وطردته ، فعرف أن الخطيئة قد أدركته فأخذ يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه. ثم عمد إلى السمّاكين يخدمهم ، فمكث على ذلك أربعين صباحا ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان ، فبقّر بطنها فإذا هو بالخاتم ، فتختم به وخرّ ساجدا ورجع إليه ملكه وجاب صخرة لصخر فجعله فيها وقذفه في البحر.

فإن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع كان قد اشتدّ تلوينه وابتلى بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما‌السلام ، والحكاية من موضوعات حكماء اليهود وعظمائهم كسائر ما وضعت الحكماء في تمثيلاتهم من حكايات إيسال وسلامان وأمثالها ، وتأويلها والله أعلم بصحتها ووضعها : أنّ سليمان قصد مدينة صيدون البدن ، جزيرة في بحر الهيولى ، وقتل ملكها النفس الأمارة العظيم الشأن ظاهر الطغيان بالمجاهدة في سبيل الله ، وأصاب بنتا له اسمها جرادة وهي القوى المتخيلة بالطيارة كالجرادة ، تجرّد أشجار الأجسام والأشياء كلها بنزع صورها عن موادّها مكتوفة بلواحقها حزينة ، وهي من أحسن الناس صورة في تزيينها وتسويلها نفسها وما تخيلته من مدركاتها ، وأسلمت على يده ، أي : انقادت للعقل ورجعت عن دين الوهم ، فصارت مفكرة ، فاصطفاها لنفسه وأحبها لتوقف حصول كماله عليها ، وحزنها على أبيها : ميلها إلى النفس بطبعها وتأسفها على فوات حظوظها. وأمره للشيطان بتمثيل صورة أبيها وكسوتها مثل كسوته هو إشارة إلى منشأ تلوينه وابتلائه بالميل إلى النفس واغتراره بكماله واشتغاله بحظوظ النفس قبل أوانه ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى».

وطاعة الشيطان له : تسخير القوّة الوهمية له في إعادة النفس إلى الهيئة الأولى وإن لم تكن على قوّتها الأولى ، وحياتها من الهوى : لكونه مصونا عن الاحتجاب معنيا به في العناية ، وسجود جرادة وولائدها له كعادتهنّ في ملكه : تعبّد الفكرية وسائر القوى البدنية للنفس بالانقياد والمراعاة والخدمة وإيصال الحظوظ إليها كعادتهنّ في الجاهلية الأولى ، وإخبار آصف سليمان بذلك : تنبيه العقل للقلب على تلوينه عند قرب موته ، وكسر الصورة وعقاب المرأة : ندامته وتوبته عن حاله ، وتنصله متضرّعا إلى الله وكسره للنفس بالرياضة وخروجه وحده إلى الفلاة : تجرّده عن البدن عند سقوط قواه ، وفرش الرماد وجلوسه فيه : تغير المزاج وترمد الأخلاط مع بقاء العلاقة البدنية ، وأمّ الولد المسماة أمينة هي : الطبيعة البدنية أمّ الأولاد القوى النفسانية التي يضع هو خاتم بدنه عندها وقت الاشتغال بالأمور الطبيعية والضروريات البدنية كالدخول في الخلوة وإصابة المرأة وأمثالها ، وهي أمينة على حفظه. وكون ملكه في خاتمه :

١٨٩

إشارة إلى توقف كماله المعنوي والصوري على البدن ، والشيطان الذي جاءها فأخذ منها الخاتم : هو الطبيعة العنصرية الأرضية صاحب بحر الهيولى السفلية سمي صخرا لميله إلى السفل وملازمته كالحجر للثقل ، وتختمه به : لبسه به بانضمامه إلى نفسه ، وجلوسه على كرسي سليمان : هو إلقاء الله تعالى بدنه ميتا على موضعه وسرير سلطنته كما قال تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) وتغيّر سليمان عن هيئته بقاء الهيئات الجسمانية والآثار الهيولانية من بقايا الصفات النفسانية عليه بعد المفارقة البدنية وتغيره عن النورانية الفطرية والهيئة الأصلية ، وإتيانه أمينة لطلب الخاتم : ميله إلى البدن ومحبته له وشوقه إليه ، وإنكارها إياه وطردها له : عبارة عن عدم قبول الطبيعة البدنية الحياة لبطلان المزاج ، ودوره على البيوت متكففا : ميله إلى الحظوظ واللذات الجسمانية وانجذابه إليها بالشوق للهيئات النفسانية ، وحثيهم التراب على وجهه وسبّهم إياه عبارة عن : حرمانه من تلك الحظوظ واللذات وفقدان أسباب تلك الشهوات ، وقصده إلى السمّاكين وخدمته لهم : إشارة إلى الميل إلى قرارة الأرحام المتعلق بالنطفة ، ومكثه أربعين يوما في خدمة السمّاكين : إشارة إلىقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الرباني : «خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا» ، وطيران الشيطان : سريان الطبيعة العنصرية في التركيب ، وإلقاؤه الخاتم في البحر : تلاشي التركيب البدني في البحر الهيولاني ، وابتلاع السمكة إياه : جذب الرحم للمادة البدنية التي هي النطفة ، ووقع السمكة في يد سليمان : تعلقه في الرحم بها واستيلاؤه على الرحم بالاغتذاء منه والتصرّف فيه ، وبقر بطنها وأخذ الخاتم منه وتخّتمه : به فتح الرحم وإخراج البدن منه وتلبسه به وخروره ساجدا ورجوع ملكه : حصول كماله به بالانقياد لأمر الله والفناء فيه ، وجعله لصخر في صخرة وإلقاؤه إياه في البحر : إبقاء الطبيعة الأرضية على حالها منطبعة محبوسة في باطن الجرم ملازمة للثقل ، والميل إلى السفل في بحر الهيولى عند وجود الطبيعة البدنية وتركه إياه فيه غير قادر على استيلاء أمينة وأخذ الخاتم منها إلى حين.

(ثُمَّ أَنابَ) بعد اللتيا والتي إلى الله بالتجريد والتزكية.

[٣٥] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) ذنوب تعلقاتي وهيئاتي الساترة لنوري المظلمة المكدّرة لصفائي بنورك (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي : كمالا خالصا باستعدادي يقتضيه هويتي لا ينبغي لغيري لاختصاصه بي وهو الغاية التي يمكنه بلوغها (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لجميع الاستعدادات وكل ما سئلت من الكمالات كما قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (١).

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤.

١٩٠

[٣٦ ـ ٣٨] (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

(فَسَخَّرْنا لَهُ) ريح الهوى (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً) لينة طيعة منقادة لا تزعزع بالاستيلاء والاستعصاء (حَيْثُ) قصد وأراد (وَالشَّياطِينَ) الجنية الباطنة من القوى النفسانية (كُلَّ بَنَّاءٍ) مقدّر بالهندسة عامل لأبنية الحكم العملية وقواعد القوانين العدلية (وَغَوَّاصٍ) في بحور العوالم القدسية والهيولانية ، مخرج لدرر المعاني الكلية والجزئية والحكم العملية والنظرية (وَآخَرِينَ) من القوى النفسانية والطبيعية (مُقَرَّنِينَ فِي) أصفاد القيود الشرعية وأغلال الرياضات العقلية والإنسية الظاهرة من العمال المسخرين في الأعمال ، والفساق والعصاة المقرّنين في الأغلال.

[٣٩ ـ ٤٠] (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

(هذا عَطاؤُنا) المحض (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) أي : أطلق إرادتك واختيارك في الحل والعقد والإعطاء والمنع عند الكمال التام والعطاء الصرف ، أي : الوجود الموهوب حال البقاء بعد الفناء كما شئت (بِغَيْرِ حِسابٍ) عليك ، فإنك قائم بنا مختار باختيارنا متحقق بذاتنا وصفاتنا ، وذلك معنى قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

[٤١] (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١))

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ) في ابتلائنا إياه عند ظهور نفسه في التلوين بإعجابه بكثرة ماله أو مداهنته لكافر النفس في ظهورها وترك تغذيته إياها بالرياضة والمجاهدة لكون ماشية قواه الطبيعية في ناحيته أو عدم إغاثته لمظلوم العقل النظريّ والقوى القدسية عند استقامته على اختلاف الروايات في التفاسير الظاهرة في سبب ابتلائه ، ويمكن الجمع بينها وابتلاؤه بالمرض والزمانة ، ووقوع ديدان القوى الطبيعية فيه ، واستئكاله وسقوطه على فراش البدن حتى لم يبق منه إلا القلب واللسان ، أي : الفطرة والاستعداد الأصليان دون ما اكتسب من الكمالات (إِذْ نادى رَبَّهُ) بلسان الاضطرار والافتقار في مكمن الاستعداد (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي : استولى عليّ الوهم بالوسوسة فلقيت بسببه هذا المرض والعذاب من الأخلاق الرديئة والاحتجاب.

[٤٢] (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي : اضرب بقوّتك التي تلي أرض البدن من العقل العملي المسمى

١٩١

صدر أرض بدنك تنبع عينان من الحكمة العملية والنظرية (هذا مُغْتَسَلٌ) أي : العملية المزكية للنفوس ، المطهرة من ألواث الطبائع ، المبرئة من أمراض الرذائل (بارِدٌ) ذو روح وسلامة (وَشَرابٌ) من النظرية ، أي : العلم المفيد لليقين الدافع لمرض الجهل ، والزمانة عن السير ، فتغتسل وتشرب منه تبرأ بإذن الله ظاهرك وباطنك وتصح وتقوى.

[٤٣] (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) قيل : كان له سبعة أبناء وسبع بنات ، فانهدم عليهم البيت في الابتلاء فهلكوا فأحياهم الله عند كشف الضرّ وإعادة أموال الكمالات عليه ، وهي إشارة إلى الروحانية والنفسانية الهالكة في التلوين واستيلاء الطبيعة البدنية أو البالغة في التلوين الأعظم وخراب البدن واستئكال الديدان إياه حتى لم يبق منه إلا القلب ولسان الاستعداد الفطري ، فأحياهم عند الإنابة والرجوع إلى حال الصحة والقوة وكشف المرض والزمانة بالشرب والغسل من العينين المذكورتين (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) باكتساب الملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة والصفات الجميلة حتى صارت القوى الطبيعية النفسانية أيضا روحانية في النشأة الثانية وحدوث القوى البدنية الفانية (رَحْمَةً مِنَّا) بإفاضة الكمالات التي سألها استعداده (وَذِكْرى) وتذكيرا (لِأُولِي) الحقائق المجرّدة عن قشور المواد الجسمانية الذين يفهمون بسمع القلب حتى يعتبروا أحوالهم بحاله ويتذكروا ما في فطرهم من العلوم.

[٤٤ ـ ٤٥] (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥))

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) قيل : إنه حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إن برىء ، واختلف في سبب حلفه فقيل : أبطأت ذاهبة في حاجة ، وقيل : أوهمها الشيطان أن تسجد له سجدة ليردّ أموالهم الذاهبة ، وقيل : باعت ذؤابتين لها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عند قيامه. وقيل : أشارت إليه ليشرب الخمرة ، كلها إشارات إلى التلوين المذكور بظهور النفس بإبطائها وتكاسلها في الطاعات أو طاعة شيطان الوهم وانقيادها له في تمني الحظوظ وترك ما يتعلق به القلب في القيام عن مرقد البدن والتجرّد عن الهيئات المنشطة المشجعة من العلوم النافعة والأعمال الفضيلة ، واستبدال الحظوظ القليلة المقدار ، اليسيرة الوقع ، والخطر بها ، أو المراءاة بها ، لاستجلاب حظ النفس أو شرب خمر الهوى والميل إلى ما يخالف العقل. وحلفه إشارة إلى نذره المخالفات والرياضات المتعبة والمجاهدات المؤلمة أو ما ركز في استعداده في محبته التجريد والتزكية بالرياضة وعزيمة تأديب النفس بالأخلاق والآداب بالمخالفات المؤلمة بمقتضى العهد الأول وحكم ميثاق الفطرة وأخذ الضغث. والضرب به إشارة إلى الرخصة

١٩٢

والطريقة السهلة السمحة من تعديل الأخلاق بالاقتصار على الأوساط والاعتدالات من الرياضات والمخالفات لصفاء الاستعداد وشرف النفس ونجابة جوهرها دون الإفراط فيها ، والأخذ بالعزائم الصعبة كماقال عليه الصلاة والسلام : «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة». (وَلا تَحْنَثْ) بترك التأديب بالكلية ونقص العزيمة في طلب الكمال ، وترك الوفاء بالنذر الفطري (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) في بليته وطلبه للكمال ، فرحمناه ، وليس كل طالب صابرا (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ) رجّاع إلى الله بالتجرّد والمحو والفناء (وَاذْكُرْ عِبادَنا) المخصوصين من أهل العناية (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي : العمل والعلم لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.

[٤٦] (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦))

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة الأنانية وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية ليس لغيرنا فيهم نصيب ، ولا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضية لا إلى أنفسهم ولا إلى غيرهم بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهم آخر هي (ذِكْرَى الدَّارِ) الباقية والمقرّ الأصلي ، أي : استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس وإعراضهم عن معدن الرجس مستشرفين لأنوارنا لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.

[٤٧ ـ ٥١] (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١))

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا) أي : في الحضرة الواحدية (لَمِنَ) الذين اصطفيناهم لقربنا من بني نوعهم (الْأَخْيارِ) المنزّهين عن شوائب الشرّ والإمكان والعدم والحدثان (هذا ذِكْرٌ) أي : هذا باب مخصوص بذكر السابقين من أهل الله المخصوصين بالعناية (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) المجرّدين من صفات نفوسهم دون الواصلين إلى بساط القرب والكرامة الناظرين إليه في جنة الروح بالمشاهدة (لَحُسْنَ مَآبٍ) في مقام القلب من جنة الصفات (جَنَّاتِ عَدْنٍ) مخلّدة (مُفَتَّحَةً لَهُمُ) أبوابها بالتجليات يدخلونها من طرق الفضائل الخلقية والكمالات (مُتَّكِئِينَ فِيها) على أرائك المقامات (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) من المكاشفات اللذيذة (وَشَرابٍ) المحبة الوصفية.

[٥٢ ـ ٥٧] (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧))

١٩٣

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) من الأزواج القدسية وما في مراتبهم من النفوس الفلكية والإنسية (أَتْرابٌ) متساوية في الرتب (لِيَوْمِ الْحِسابِ) لوقت جزائكم من الصفات الإلهية على حساب فنائكم من الصفات البشرية (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) لكونه غير مادي فلا ينقطع (هذا) باب في وصف الجنة وأهلها (وَإِنَ) للذين طغوا حدودهم بصفات النفس وظهورها فنازعوا الحق علوّه وكبرياءه باستعلائهم وتكّبرهم (لَشَرَّ مَآبٍ) إلى جهنم الطبيعة الآثارية ونيران الظلمات الهيولانية (يَصْلَوْنَها) بفقدان اللذات ووجدان الآلام (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ) الهوى والجهل (وَغَسَّاقٌ) الهيئات الظلمانية والكدورات الجسمانية.

[٥٨ ـ ٦٤] (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

(وَ) خزي وعذاب (آخَرُ) من نوعه أو مذوقات أخر من مثله ، أصناف من العذاب في الهوان والحرمان (هذا فَوْجٌ) من أتباعكم وأشباهكم أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) في مضايق المذلة ومداخل الهوان. قال الطاغون : (لا مَرْحَباً) بهم لشدّة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك واستيحاش بعضهم من بعض لقبح المناظر وسوء المخابر (قالُوا) أي : الأتباع (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) لتضاعف عذابكم ورسوخ هيئاتكم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) بإضلالنا والتحريض على أعمالنا ، وهذه المقاولات قد تكون بلسان القال وقد تكون بلسان الحال ، والرجال الذين اتخذوهم سخريا هم الفقراء الموحدون والصعاليك المحققون عدوهم من الأشرار في الدنيا لمخالفتهم إياهم في الإغراء عما سوى الله والتوجه إلى خلاف مقاصدهم وترك عاداتهم ومطالبهم بل (زاغَتْ عَنْهُمُ) أبصارهم لكونهم محجوبين بالغواشي البدنية والأمور الطبيعية عن حقائقهم المجرّدة وذواتهم المقدّسة كما حجبوا بالعادات العامية والطرائق الجاهلية عن طرائقهم وسيرتهم على أن أم منقطعة ، وإنما كان تخاصم أهل النار حقا لكونهم في عالم التضاد ومحل العناد ، أسراء في قيود الطبائع المختلفة وأيدي القوى المتنازعة والأهواء الممانعة ، والميول المتجاذبة ، ما أنا إلا منذر لا أدعوكم إلى نفسي ولا أقدر على هدايتكم لأني فان عن نفسي وعن قدري ، قائم في الإنذار بالله وصفاته.

[٦٥ ـ ٧٤] (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤))

١٩٤

(وَما مِنْ إِلهٍ) في الوجود (إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) بذاته (الْقَهَّارُ) الذي يقهر كل من سواه بإفنائه في وحدانيته (رَبُ) الكل الذي يربّ كل شيء في حضرة واحديته باسم من أسمائه (الْعَزِيزُ) الذي يغلب المحجوب بقوّته فيعذبه بما حجب به في سترات جلاله لاستحقاقه فيض الربوبية من حضرة القهّار المنتقم وسطوات العذاب المحتجب (الْغَفَّارُ) الذي يستر ظلمات صفات النفس بأنوار تجليات جماله لمن بقي فيه نور فطرته فيقبل نور المغفرة لبقاء مسكة من نوريته (قُلْ هُوَ) أي : الذي أنذرتكم به من التوحيد الذاتي والصفاتي (نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ثم احتجّ على صحة نبوّته باطلاعه على اختصام الملأ الأعلى من غير تعلم إذ لا سبيل إليه إلا الوحي ، وفرّق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار : إن ذلك لحق ، وفي اختصام الملأ الأعلى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) لأن ذلك حقيقي لا ينتهي إلى الوفاق أبدا ، وهذا عارضي نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه‌السلام الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (١) ، وقوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) على ما ذكر في سورة (البقرة) عند تأويل هذه القصة. وسجودهم لآدم عليه‌السلام : تعظيمهم له وانقيادهم وخضوعهم لانكشاف كماله الذي هو فوق كمالاتهم عليهم‌السلام ، وأباء إبليس واستكباره : عدم انقياد شيطان الوهم وإذعانه لاحتجابه عن حقيقته بانطباعه في المادة ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣).

[٧٥ ـ ٨٥] (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : خلقته بصفتي الجمال والجلال والقهر واللطف وجميع أسمائي المتقابلة المندرجة تحت صفتي القهر والمحبة لتحصل عند الجمعية الإلهية في الحضرة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٢.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٣.

(٣) سورة ص ، الآية : ٧٤.

١٩٥

الواحدية بخلاف حال الملأ الأعلى ، فإنّ من خلق منهم بصفة القهر لا يقدر على اللطف وبالعكس (أَسْتَكْبَرْتَ) أي : أعرض لك التكبر والاستنكاف (أَمْ كُنْتَ) عاليا عليه ، زائدا في المرتبة؟ فأجاب المحجوب : بأني عال خير منه في الأصل لعدم اطلاعه على حقيقته المجرّدة واطلاعه على بشريته ، ولا شك أن الروح الحيواني الناري الذي خلق منه اللعين أشرف من المادة الكثيفة البدنية ولكن الاحتجاب عن الجمعية الإلهية واللطيفة الروحانية بعث اللعين على الآباء حتى تمسك بالقياس وعصى الله في سجود الناس.

والرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية المنزّهة عن المواد الرجسية بالانغماس في الغواشي الطبيعية والاحتجاب بالكوائن الهيولانية ، ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين وحدّد نهايته به ، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرّد الروح عن البدن ومواده ، وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان وينقاد ويذعن له في الوقت المعلوم الذي هو القيامة الكبرى فلا يكون ملعونا كماقال عليه‌السلام : «إلا أن شيطاني أسلم على يدي». والإنظار للإغواء واللعن ينتهيان إلى ذلك الوقت ، لكن الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن شوب الكدورات النفسية وحجب البشرية والأنانية ، وصفّى فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة لا يمكنه إغواؤهم البتة في البداية أيضا ، فكيف في النهاية؟. واللعن إن ارتفع بإسلامه وانقياده هناك لكن لزمه كونه جهنميا لملازمته الطبيعة الهيولانية والمادة الجسمانية فلا يتجرد أصلا وإن كان قد يرتقي إلى سماء العقل والأفق الروحانية بالوسوسة والإلقاء ويتصل في جنة النفس بآدم عند الإغواء ولا يزال يطرد عن ذلك الجناب (فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).

وإنما أقسم على الإغواء بعزّته تعالى لأنه مسبّب عن تعزّزه بأستار الجلال وسرادقات الكبرياء ، وتمنعه عن إدراك إبليس لفنائه بسحب الأنوار. وأقسم الله تعالى في مقابلته بالحق الثابت الواجب الذي لا يتغير على إملائه جهنم منه ومن أتباعه لوجود ذلك التعزز وملازمة هؤلاء جهنم دائما أبدا على حاله لا يتغير ولا يتبدّل ، لأن تجرّد المجرّد بالذات وتعلّق المتعلق بالطبع ، أمر تقتضيه الذوات والأعيان والحقائق في الأزل غير عارض فلا يزال كذلك أبدا.

[٨٦ ـ ٨٨] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ولا غرض لي في ذلك ، فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات غير معلّلة بالغرض (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي : المتصنعين الذين ينتحلون الكمالات ويظهرون بأنفسهم وصفاتها ، ويدعون كمالات الله لأنفسهم ، بل فنيت عن نفسي وصفاتها ، فالله القائل بلساني (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) عند القيامة الصغرى أو الكبرى لظهور تأويله حينئذ.

١٩٦

سورة الزمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢))

هذا (تَنْزِيلُ) كتاب العقل الفرقانيّ بظهوره عليك من غيب الغيوب (مِنَ اللهِ) وحضرته الواحدية (الْعَزِيزِ) المحتجب بسترات الجلال في غيب غيبه (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة الكامنة هناك ، البارزة في مراتب التنزيلات (بِالْحَقِ) أي : أنزلناه بظهور الحق فيك بعد كمونه (فَاعْبُدِ اللهَ) فخصّصه بالعبادة الذاتية حين تجلى لك بذاته ولم يبق أحدا من خلقه (مُخْلِصاً) ممحضا (لَهُ الدِّينَ) عن شوب الغيرية والاثنينية ، أي : أعبده بشهوده لذاته ومطالعة تجليات صفاته بعينه وتلاوة كلامه به ، فيكون سيرك سير الله ودينك دين الله وفطرتك ذات الله.

[٣ ـ ٤] (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) عن شوب الغيرية والأنانية لا لك لفنائك فيه بالكلية ، فلا ذات لك ، ولا صفة ، ولا فعل ، ولا دين ، وإلا لما خلص الدين بالحقيقة فلا يكون لله (وَالَّذِينَ) احتجبوا بالكثرة عن الوحدة واتخذوا الغير وليّا بالمحبة للتقرّب والتوسل به إلى الله (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) عند حشر معبوداتهم معهم فيما اختلفوا فيه من صفاتهم وأقوالهم وأفعالهم فيقرن كلّا منهم مع من يتولّاه من عابد ومعبود ، ويدخل المبطل النار مع المبطلين كما يدخل المحق الجنة مع المحقين ، ويجزى كلّا بوصفه الغالب عليه وما وقف معه واحتجب به مع اختلافهم في الأوصاف وما وقفوا معه (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) إلى النجاة وعالم النور وتجليات الصفات والذوات (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) لبعده عنه واحتجابه بظلمة الرذائل وصفات النفس عن النور وامتناعه عن قبوله (سُبْحانَهُ) أي : نزّهه عن المماثلة والمجانسة واصطفاء الولد لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره ، فلا تماثل في الوجود ، فكيف في الوجوب؟.

١٩٧

[٥] (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥))

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بظهوره في مظاهرها واحتجابه بصورها مصرفا للكل بقدرته وفعله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بسلطانه وملكه فلا ذات ولا صفة ولا فعل لغيره ، وذلك دليل وحدانيته (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) القويّ الذي يقهر الكل بسطوة قهره (الْغَفَّارُ) الذي يسترهم بنور ذاته وصفاته فلا يبقى معه غيره أو العزيز المتمنع باحتجابه عن خلقه بصور مخلوقاته الغفار الذي يستر لمن يشاء ذنوب وجوده وصفاته فيظهر عليه ويتجلى له بصفاته وذاته.

[٦] (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم الحقيقي ، أي : النفس الناطقة الكلية التي تتشعب عنها النفوس الجزئية (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) النفس الحيوانية (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لكون صورها في اللوح المحفوظ ونزول كل ما وجد في عالم الشهادة من عالم الغيب (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) يخلقكم في أطوار الخلقة متقلّبين (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) من الطبيعة الجسمانية والنفس النباتية والحيوانية (ذلِكُمُ) الخالق لصوركم ، المكوّر ، أي : المصرف بقدرته المسخّر بملكوته وسلطانه ، المنشئ للكثرة من وحدته بأسمائه وصفاته ، المنزّل لما قضى وقدّر بأفعاله هو الذات الموصوفة بجميع صفاته يربكم بأسمائه (لَهُ الْمُلْكُ) يتصرّف فيه بأفعاله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الوجود (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن عبادته إلى عبادة غيره مع عدمه.

[٧ ـ ٨] (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

(إِنْ تَكْفُرُوا) وتحتجبوا بصفاتكم وذواتكم فإن الله لا يحتاج إلى ذواتكم وصفاتكم في ظهوره وكماله ، لكونها فانية في نفس الأمر ليست شيئا إلا به ، فضلا عن احتياجه إليها وهو الظاهر بذاته لذاته والباطن بحقيقته ، المشاهد لكماله بعينه (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ) الاحتجاب لكونه سبب هلاكهم ووقوعهم في أسر المالك والزبانية ولا يتعلق بهم الرضا ، ولا يقبلون نوره

١٩٨

فيدخلوا الجنّة (وَإِنْ تَشْكُرُوا) برؤية نعمه واستعمالها في طاعته لتستعدّوا لقبول فيضه يرضى الشكر لكم بتجلي الصفات لتّتصفوا بها فتبلغوا مقام الرضا وتدخلوا الجنة ، فما تبعة الكفر إلا عليكم ولا ثمرة الشكر إلا لكم ، أهذا الكافر المحجوب أفضل.

[٩] (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) مطيع في مقام النفس وأوقات ظلمة صفاتها (ساجِداً) بفناء الأفعال والصفات ، قائما بالطاعة والانقياد ، عند ظهور النفس بصفاتها وأفعالها (يَحْذَرُ) عقاب الآخرة ويرجو الرحمة ، إذ السالك في مقام النفس لا يخلو عن الخوف والرجاء (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي) أي : لا يستويان ، وإنما ترك المضمر إلى الظاهر ليبين أنّ المطيع في مقام النفس هو العالم والكافر هو الجاهل. أما الأول فإن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته بل سيّط باللحم والدم فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه ، وأما المرتسم في حيز العقل والتخيل بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه فليس بعلم إنما هو أمر تصوّري وتخيل عارضي لا يلبث بل يزول سريعا ، لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع. وأما الثاني فظاهر ، إذ لو علم لم يحجب بالغير عن الحق (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) ويتعظ بهذا الذكر (أُولُوا) العقول الصافية عن قشر التخيّل والوهم لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه ، بل تتلجلج فيه فيذهب.

[١٠ ـ ١٢] (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢))

(قُلْ يا عِبادِ) المخصوصين فيّ من أهل العناية (الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان العملي (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بمحو صفاتكم (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي : اتّصفوا بالصفات الإلهية فعبدوه على المشاهدة (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) لا يكتنه كنهها في الآخرة وهي شهود الوجه الباقي وجماله الكريم.

(وَأَرْضُ اللهِ) أي : النفس المطمئنة المخصوصة بالله لانقيادها له وقبولها لنوره واطمئنانها إليه ، ذات سعة بيقينها لا تتقيد بشيء ولا تلبث في ضيق من عادة ومألوف وأمر غير الحق (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) الذين صبروا مع الله في فناء صفاتهم وأفعالهم وسلوكهم فيه وسيرهم في منازل النفس الواسعة باليقين (أَجْرَهُمْ) من جنات الصفات (بِغَيْرِ حِسابٍ) إذ الأجر الموفى بحسب الأعمال في مقام النفس مقدّر بالأعمال في جنّة النفوس ، متناه لكونه من

١٩٩

باب الآثار محصورا في الموادّ. وأما الذي يوفى بحسب الأخلاق والأحوال فهو غير متناه لكونه من باب تجليات الصفات في جنة القلب وعالم القدس مجرّدا عن المواد (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) عن الالتفات إلى الغير والسير بالنفس (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) مقدّم المسلمين الذين أسلموا وجوههم إلى الله بالفناء فيه وسابقهم في الصف الأول ، سائرا بالله ، فانيا عن النفس وصفاتها.

[١٣ ـ ١٥] (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥))

(أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص والنظر إلى الغير (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) من الاحتجاب والحرمان والبعد (قُلِ اللهَ) أخصّ بالعبادة (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) عن شوب الأنانية والاثنينية (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) بالحقيقة ، الكاملين في الخسران ، هم الواقفون مع الغير ، المحجوبون عن الحق (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بإهلاك الأنفس وتضييع الأهل من الجواهر المقدّسة التي تجانسهم وتناسبهم في عالمها الروحاني لاحتجابهم بالظلمات الهيولانية عنهم (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ) الحقيقي الظاهر البيّن.

[١٦ ـ ١٧] (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧))

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) لانغمارهم في المواد الهيولانية واستقرارهم في قعر بئر الطبيعة الظلمانية ، فوقهم مراتب من الطبائع وتحتهم مراتب أخرى وهم في غمرات منها (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا) عبادة الغير (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) بالتوحيد المحض (لَهُمُ الْبُشْرى) باللقاء (فَبَشِّرْ عِبادِ) المخصوصين بعنايتي.

[١٨] (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨))

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) كالعزائم والرخص والواجب والمندوب في قول الحق والغير (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) كالعزائم دون الرخص والواجب دون المندوب والقول حق في الكل لا غير (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) إليه بنور الهداية الأصلية (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) المميزون بين الأقوال بألبابهم المجرّدة فيتلقون المعاني المحققة دون غيرها.

[١٩ ـ ٢١] (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

٢٠٠