تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سلوكه وعرفانه وتذكره لأوطانه والتذّ بلقائه وتصفّى بصفائه وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأولياء والأنبياء والأصفياء والشهداء. والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة ، ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم ومحبة العرفاء والأولياء إياهم ، ومحبة الأنبياء العامة أممهم. والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأغراض الجزئية كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واجتلاب الأموال. والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش وتيسير المصالح الدنيوية كمحبة التجار والصناع ومحبة المحسن إليه للمحسن ، فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل زال بزواله وانقلب عند فقدانه عداوة لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه من اللذة المعهودة والنفع المألوف مع عدمه وامتناعه لزوال سببه ، ولما كان الغالب على أهل العلم أحد القسمين الأخيرين أطلق الكلام وقال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) لانقطاع أسباب الوصلة بينهم وانتفاء الآلات البدنية عنهم وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا قد زالت اللذات والشهوات وبقيت العقوبات والتبعات ، فكل يمحق صاحبه ويبغضه لأنه يرى ما به من العذاب منه وبسببه. ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم كما قال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) ، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢).

ولعمري إن القسم الأول أعزّ من الكبريت الأحمر وهم الكاملون في التقوى البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها ، اجتنبوا أولا المعاصي ثم الفضول ثم الأفعال ثم الصفات ثم الذوات ، فما بقيت منهم بقايا حتى يتنافسوا فيها ويضنوا بها عن حبيبهم فيفسد محبتهم ، بل ما بقي منهم إلا نفس الحب. وأما الفريق الثاني فاقتصروا على الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الرتبة الأولى وقنعوا بظاهر التقوى فرضوا من الآخرة بما أوتوا من النعيم وتسلوا عن الدنيا وما فيها بالفضل الجسيم فأبقى محباتهم فيما بينهم لبقاء أسبابها وهي الصفات المتماثلة والهيئات المتشابهة في ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخط الله وعقابه ، فهم العباد المرتضون أي كلا القسمين لاشتراكهما في طلب الرضا فلذلك نسبهم إلى نفسه بقوله : يا عباد لا خوف على الفريقين لأمنهم من العقاب ولا هم يحزنون على فوات لذات الدنيا لكونهم على ألذ منها وأبهج وأحسن حالا وأجمل ، وإن تفاوت حالهم في اللذة والسرور والروح والحبور بما لا يتناهى ، وشتان بين محمد ومحمد.

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة سبأ ، الآية : ١٣.

٢٤١

والجنة التي أمروا بدخولها هي جنة النفس لاشتراك الفريقين فيها دون جنتي الصفات والذات المخصوصتين بالسابقين بدليل قوله بعده : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإنما الجنة التي هي ثواب الأعمال جنّة النفس لقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).

[٧٧ ـ ٨٠] (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

(وَنادَوْا يا مالِكُ) سمي خازن النار مالكا لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)) (١) كما سمّى خازن الجنة رضوانا لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. وقيل : الرضا بالقضاء باب الله الأعظم وهو الطبيعة الجسمانية الموكلة بأجساد العالم والهيولى الظلمانية أو النفس الحيوانية الكلية الموكلة بالتأثير في الأجساد الحيوانية المستعلية على النفوس الناطقة المحبوسة في قيود اللذات الحسيّة والمطالب السفلية ، وإنما لا يتعذب بالنار لكونه من جوهر تلك النار فهي له جنة ، وللجهنميين نار لتنافي جواهرهم وجوهرها وتباينهما. واختصاص ندائهم بمالك دون الله تعالى لاحتجابهم وبعدهم عن الله بالكلية وتعبّدهم لمالك بالنية والأمنية ، وما ذلك النداء إلا توجههم إليه وطلب المراد منه ودعوتهم بقولهم : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) إشارة إلى تمني زوال بقية الاستعداد بالكلية وإماتة الغريزة الفطرية لئلا يتأذوا بالهيئات المؤذية والنيران المردية ، أو تمني تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدّة التألم بالعذاب الجسماني و (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إشارة إلى المكث المقدّر بحسب رسوخ الهيئات وارتكام الذنوب والآثام إن كانت الاستعدادات باقية والاعتقادات صحيحة أو الخلود فيها إن لم تكن ، فإن المكث أعم من المتناهي وغيره. وكذا المجرم أعم من الشقي الأصلي وغيره ، وعلى هذا حمل الخلود في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) (٢) على المكث الطويل الأعم من المتناهي وغيره ، فإنه قد يستعمل في العرف بمعناه كثيرا مجازا ، وإنما جعلنا المجرم شاملا للقسمين المذكورين من الأشقياء لمقابلته للمتقي الشامل للقسمين المذكورين من السعداء وإن خصصناه بالشقي المردود المطرود في الأزل كان المكث في قوله : (ماكِثُونَ).

(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) كل ما خطر فينا بالبال من الأشرار ينتقش في النفوس

__________________

(١) سورة النازعات ، الآيات : ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) سورة الزخرف ، الآية : ٧٤.

٢٤٢

الفلكية كما ينتقش في الإنسانية لاتصالها بها وانتقاشها كما هي ، إما في القوى الخيالية إن كانت جزئية وإما في القوى العاقلة إن كانت كلية ، وكلاهما يظهر على النفس عند ذهولها عن الحسّ ورجوعها إلى ذاتها وما كانت تنساها تنعكس إليها من النفوس الفلكية عند المفارقة فتذكرها دفعة وذلك معنى قوله : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) (١) فالرسل الكاتبون هم النفوس الفلكية المناسبة لكل واحد من الأشخاص البشرية بحسب الوضع المقارن لاتصال النفس بالبدن.

[٨١ ـ ٨٩] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي : لذلك الولد ، وهو إما أن يدل على نفي الولد عن الله بالبرهان وأما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم ، أما دلالته على الأول فلما دلّ قوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) إلى قوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) على نفي التالي وهو عبادة الولد أي : أوحده وأنزّهه تعالى عما يصفونه من كونه مماثلا لشيء لكونه ربّا خالقا للأجسام كلها فلا يكون من جنسها ، فيفيد انتفاء الولد على الطريق البرهاني. وأما دلالته على الثاني : فإذا جعل قوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) إلى آخره ، من كلام الله تعالى لا من كلام الرسول ، أي : نزّه ربّ السموات عمّا يصفونه فيكون نفيا للمقدّم ويكون تعليق عبادة الرسول من باب التعليق بالمحال والمعلق بالشرط عند عدمه فحوى بدلالة المفهوم أبلغ عند علماء البيان من دلالة المنطوق ، كما قال في استبعاد الرؤية : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٢) والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة المجادلة ، الآية : ٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

٢٤٣

سورة حم الدخان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الليلة المباركة هي بنية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونها حادثة مظلمة ساترة لنور شمس الروح ، ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة من الهداية والعدالة في العالم بسببها وازدياد رتبته وكماله بها. كما سماها ليلة القدر لأن قدره عليه‌السلام معرفته بنفسه وكماله إنما يظهر بها ، ألا ترى أنّ معراجه إنما كان بجسده؟ ، إذ لو لم يكن جسده لم يكن ترقيه في المراتب إلى التوحيد وإنزال الكتب فيها إشارة إلى إنزال العقل القرآني الجامع للحقائق كلها ، والفرقاني المفصّل لمراتب الوجود ، المبين لتفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها ، المميز لمعاني الأسماء وأحكام الأفعال فيها وهو معنى قوله فيها : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أو إلى إنزال الروح المحمدي الذي هو الكتاب المبين حقيقة في صورتها أو القرآن (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) لأهل العالم بوجوده.

[٥ ـ ٩] (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) خصّ الأمر الحكمي بكونه من عنده لأن كل أمر يبتني على حكمة وصواب كما ينبغي من الشرائع والأحكام الفقهية إنما يكون من عنده مخصوصا به مطلقا لما في نفس الأمر وإلا كان أمرا مبنيا على الهوى والتشهي (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) تامة كاملة على العالمين بإنزاله لاستقامة أمورهم الدينية والدنيوية وصلاح معاشهم ومعادهم وظهور الخير والكمال والبركة والرشاد فيهم بسببه أو مرسلين إليك لرحمة كاملة شاملة عليهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم المختلفة في الأمور الدينية الصادرة عن أهوائهم (الْعَلِيمُ) بعقائدهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وأمورهم المخيلة ومعايشهم الغير المنتظمة ، فلذلك رحمهم بإرسال الرسول الهادي إلى الحق في أمر الدين ، الناظم لمصالحهم في أمر الدنيا. المرشد إلى الصواب فيهما بتوضيح الصراط المستقيم وتحقيق التوحيد بالبرهان وتقنين الشرائع وسنن الأحكام لضبط النظام.

٢٤٤

[١٠ ـ ١٢] (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢))

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي : وقت ظهور آيات القيامة الصغرى أو الكبرى فإن الدخان من أشراطها. فاعلم أن الدخان هو من الأجزاء الأرضية اللطيفة المتصاعدة عن مركزها لتلطفها بالحرارة ، فإن فسرنا القيامة الصغرى فالدخان هو السكرة والغشية والانقباضية العارضة لسماء الروح عند النزع بسبب هيئة التعلق البدني والفترة المرتكبة على وجهها من مباشرة الأمور السفلية والميل إلى اللذات الحسية ولهذاقال عليه‌السلام في وصفه : «أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». فأن المؤمن لقلّة تعلقه بالأمور البدنية وضعف تلك الهيئة المستفادة من مباشرة الأمور السفلية يقل انفعاله منها ويسهل زواله وخصوصا إذا اكتسب ملكة الاتصال بعالم الأنوار. وأما الكافر فلشدّة تعلقه وقوة محبته للجسمانيات وركونه إلى السفليات تغشاه تلك الهيئة فتحيره وتشمله حتى عمّت مشاعره الظاهرة والباطنة ومخارجه العلوية والسفلية فلا يهتدي إلى طريق لا إلى العالم العلوي ولا إلى العالم السفلي (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ولما كان الغالب عليه التمني والتندّم فيتمنى ما كان فيه من الحياة والصحة ويتندّم على ما كان عليه من الفسوق والعصيان والفجور والطغيان ، قال بلسان الحال : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أو بلسان المقال على ما ترى عليه حال بعض من وقع في النزع من العصاة من التوبة وموعدة الرجوع إلى الطاعة.

[١٣ ـ ١٦] (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : الاتعاظ والإيمان بمجرد انكشاف العذاب (وَقَدْ جاءَهُمْ) ما هو أبلغ منه من الرسول المبين طريق الحق بالمعجز والبرهان ودعاهم إلى سبيله بالطرق الثلاثة من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن (ثُمَ) أعرضوا ونسبوه إلى الجنون والتعليم المتنافيين لفرط احتجابهم وعنادهم (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) بتعطيل الحواس والإدراكات (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إليه.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي : وقت تمام الفراغ إلى إدراك العذاب المؤلم بتلك الهيئات وتحقق الخلود (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) معذّبون بالحقيقة أو بالردّ إلى الصحة والحياة البدنية ، إنكم عائدون إلى الكفر لرسوخه فيكم يوم نبطش البطشة الكبرى بزوال الاستعداد وانطفاء نور الفطرة بالرين الحاصل من ارتكاب الذنوب والاحتجاب الكلي الموجب للعذاب الأبدي كما

٢٤٥

قال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) (١) ننتقم منهم بالحقيقة بالحرمان الكلي والحجاب الأبدي والعذاب السرمدي. وإن فسرنا القيامة الكبرى : فالدخان هو حجاب الإنية الذي يغشى الناس عند ظهور نور الوحدة بطغيان النفس لانتحال صفات الربوبية وغلبة سكرة يوم الجمع المورثة للإباحة إذ هو من بقية النفس الأرضية اللطيفة بنور الوحدة المرتقبة إلى محل الشهود التي تأتي بها سماء الروح لتأثيره فيها بالتنوير إذ لم تحترق بالكلية بنار العشق بل صفت وتلطفت وتصعدت. فأما المؤمن بالإيمان الحقيقي الموحد التام الاستعداد ، المحب الغالب المحبة ، فيصيبه كهيئة الزكمة ، أي : السكرة التي قال فيها أبو زيد قدّس الله روحه : سبحاني ما أعظم شأني. والحسين بن منصور رحمه‌الله : أنا الحق. ثم يرتفع عنه سريعا لمزيد العناية الإلهية وقوة الاستعداد الفطرية وشدة المحبة الحقيقية ، فيتنبه لذلك ويتعذب به غاية التعذب ويشتاق إلى الانطماس في عين الجمع غاية الشوق ، فيقول : هذا عذاب أليم ، ويطلب الفناء الصرف ، كما قال الحلاج قدّس الله روحه :

بيني وبينك أني ينازعني

فارفع بفضلك أني من البين

ويدعو بلسان التضرع والافتقار : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)) (٢) بالإيمان العيني عند كشف الحجاب الآني ، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) من أين لهم ذكر الذات والإيمان العيني في مقام حجاب الأنانية ، (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي : رسول العقل المبين لوجوداتهم وصفاتهم ، أي : إنما احتجبوا بحجاب الإنية لظهور العقل وإثباته لوجوداتهم ، فكيف ذكرهم للذات تعجب من تذكرهم مع كونهم عقلاء ثم بيّن كونهم عشاقا مشتاقين بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) لقوة المحبة وفرط العشق وقالوا : (مُعَلَّمٌ) أي : من عند الله بإفاضة العلم عليه (مَجْنُونٌ) مستور الإدراك ، محجوب عن نور الذات ، كماقال جبريل عليه‌السلام : «لو دنوت أنملة لاحترقت». (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) أي : عذاب الحجاب والحرمان لإعراضهم بقوة العشق عن الرسول قليلا بطلوع نور الوجه الباقي وإشراق سبحاته وإحراقها ما انتهى إليه بصره من خلقه (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) بالتلوين إلى الحجاب بعد تجلي نور الذات لبقية الآثار إلى وقت التمكين (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) أي : وقت الفناء الكلي والانطماس الحقيقي بحيث لا عين ولا أثر (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي : ننتقم بالقهر الأحدي والإفناء الكلي من وجوداتهم وبقاياهم فيطهرون عن الشرك الخفي بالوجود الأحدي. وأما الكافر ، أي : المحجوب عن نور الذات ، الممنوّ بحجب الصفات ، المحروم عن الطمس عن عين الجمع

__________________

(١) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٥.

(٢) سورة الدخان ، الآية : ١٢.

٢٤٦

بتوهم الكمال فيبقى في مقام الأنانية ويتفرعن وراء حجاب الأنانية كما قال اللعين : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١) (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢) ، فيخلع عن عنقه ربقة الشريعة ويسير بسيرة الإباحة ويتجسر على المخالفات ويتزندق بارتكاب المعاصي وتركه الطاعات ، فيكون من شرار الناس الذين قال فيهم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ» ، فهو في عدم التمييز والرجوع إلى التفصيل والانهماك في الدواعي الطبيعية والتعمّق في الجاهلية كالسكران غلب الهوى على عقله وأحاط به الحجاب من جميع جهاته وظهر أثر الغيّ من مشاعره ، هذا عذاب أليم لكنه لا يشعر به لشدّة انهماكه في تفرعنه وقوة شكيمته في تشيطنه ، كلما دعاه الموحد القائم بالحق المهدي إلى نور الذات بالفناء المطلق المنصور من عند الله بالوجود الموهوب المتحقق ونبهه على ما به من الاحتجاب أبى واستكبر وطغى وتجبّر لاستغنائه بنفسه وثباته في غيّه حتى إذا وقع في الارتياب وتفطّن بالحجاب عند ارتتاج الباب بتعين المآب وتيقن العقاب قال : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)) (٣) كما قال فرعون حين أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) (٤) ، (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : الاتعاظ والإيمان الحقيقي وقد عاندوا الحق وأعرضوا عن القائم بالحق ، فلعنوا وطردوا. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ) ريثما تحققوا ما هم فيه من الوقوف مع النفس وتبينوا التفريط في جنب الحق (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) لفرط تمكين الهوى من أنفسكم وتشرّب قلوبكم بمحبة نفوسكم واستيلاء صفاتها عليكم وقوّة الشيطنة فيكم. (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) بالقهر الحقيقي والإذلالالكلي والطرد والإبعاد ننتقم منهم لمكان شركهم وعبادتهم لأنفسهم ومبارزتهم علينا بالظهور في مقابلتنا ومنازعتهم رداء الكبرياء منّا ، كما قلنا : «العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» ، وأما حكاية قوم فرعون فاشتهيت تطبيقها على حالك فافهم منها.

[١٧ ـ ١٨] (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨))

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) النفس الأمارة من قبط القوى الحيوانية (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) هو موسى القلب الشريف المجرّد (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) المخصوصين به من القوى الروحانية المأسورين في قيود طاعتكم ، المستضعفين باستيلائكم ، المستبعدين لقضاء حوائجكم

__________________

(١) سورة النازعات ، الآية : ٢٤.

(٢) سورة القصص ، الآية : ٣٨.

(٣) سورة الدخان ، الآية : ١٢.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٩٠.

٢٤٧

وتحصيل مراداتكم من اللذات الحسيّة والشهوات البدنية (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) بحصول علم اليقين المأمون من تغيره.

[١٩ ـ ٢٠] (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠))

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) بعصيانه وترك ما أدعوكم إليه واستكباركم (إِنِّي آتِيكُمْ) بحجة واضحة من الحجج العقلية (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) بأحجار الهيولى السفلية والأهواء النفسية والدواعي الطبيعية فتجعلوني بحيث لا حراك في طلب الكمالات الروحانية والأنوار الرحمانية وتهلكوني.

[٢١ ـ ٢٢] (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢))

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي) بطاعتي ومشايعتي في التوجه إلى ربّي وطلب كمالي والتنوّر بأنواري (فَاعْتَزِلُونِ) بعدم ممانعتي وترك محاجزتي ومعاوقتي في سيري وسلوكي (فَدَعا رَبَّهُ) بلسان التضرّع والافتقار (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) في اكتساب المطالب الجرمية واللذات الحسيّة ، منهمكون فيها ، لا يرفعون منها رأسا.

[٢٣ ـ ٤٢] (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧))

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

(فَأَسْرِ) أي : فقال الله : أسر (بِعِبادِي) الروحانيين من القوى العقلية والفكرية والحدسية والقدسية وصفاتك المخلصة إلى حضرة القدس وراء بحر الهيولى (لَيْلاً) وقت نعاس القوى الحسيّة وتعطل القوى البدنية (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) بمطالبتهم إياكم بكمالات الحسّ ومجاذبتهم لكم عن جناب القدس (وَاتْرُكِ) بحر الهيولى والمواد الجسمانية ساكنة على قرارها ساجية عن أمواجها غير مزاحمة إياكم باضطراب أحوالها وانحراف مزاجها ، ومتسعة طرقها

٢٤٨

منفرجة لنفوذ تلك القوى وسريانها وتصرفها فيها (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) هالكون بتموّج البحر وطمسه إياهم عند خراب البدن.

[٤٣ ـ ٤٨] (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨))

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ) شجرة الزقوم هي النفس المستعلية على القلب في تعبّد الشهوة وتعوّد اللذات ، سميت زقوما لملازمتها اللذة ، إذ الزقم والتزقم عندهم أكل الزبد والتمر ، ولكونه لذيذ نسبت تبعة اللذة إليه واشتق لها اسم منه ، ولا يطعم منها ويستمد من قواها وشهواتها إلا المنغمس في الإثم المنهمك في الهوى (كَالْمُهْلِ) أي : دردى الزيت لثقلها وترسبها وسرعة نفوذها في المسام للطافتها وحرارتها اللازمة لطلبها ما يهواها ، أو النحاس الذائب في ميلها إلى الجهة السفلية وإيذائها القلب بشدّة الداعية ولهج الحرص ولهب نار الشوق مع الحرمان (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) تضطرب وتقلق في البواطن من شدّة حرّ التعب في الطلب فتقلق القلوب وتحرقها بنار الهوى ومنافاة ظلمتها لنوريتها وتسري فيها بالأذى لاستيلاء هيئتها عليها ولطف هواها الذي هو روح النفس ورسوخ محبتها فيها ، ولهذا فيل : ذواق السلاطين محرقة الشفتين ، (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) الساري بحرّه في المسامّ للطافته وقوله في البطون كقوله : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧)) (١).

[٤٩ ـ ٥٠] (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) إشارة إلى انعكاس أحوالها لانتكاس فطرتها ، فإنّ اللذة والعزّة الجسمانية والكرامة النفسانية موجبة للألم والهوان والذلّة الروحانية (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) لحسبانكم انحصار اللذات والآلام في الحسيّة واحتجابكم بها عن العقلية.

[٥١ ـ ٥٩] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الكاملين في التقوى باجتناب البقايا (فِي جَنَّاتٍ) عالية من الجنان الثلاث

__________________

(١) سورة الهمزة ، الآيات : ٦ ـ ٧.

٢٤٩

(وَعُيُونٍ) من علوم الأحوال والمعارف وغيرها من المنافع الحقيقية (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) لطائف الأحوال والمواهب لاتصافهم بها كالمحبة والمعرفة والفناء والبقاء (وَإِسْتَبْرَقٍ) فضائل الأخلاق كالصبر والقناعة والحلم والسخاوة (مُتَقابِلِينَ) على رتب متساوية في الصف الأول من صفوف الأرواح لا حجاب بينهم لتجرّد ذواتهم وبروزهم إلى الله عن صفاتهم (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : قرناهم بما فيه قرّة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم وحصولهم على كمال مرادهم (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي : كل ما يتلذذ به من لذائذ الجنان الثلاث (آمِنِينَ) من الفناء والحرمان عن تلك النعماء (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أي : الطبيعة الجسمانية لا الفناء من الأفعال والصفات والذات فإنّ كل فناء منها وإن كان موتا إراديا لكنه حياة أصفى وألذ وأشهى وأبهج مما قبلها وكل منها في جنة (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : جحيم الحرمان بوجود البقية فضلا عن الخذلان في جحيم الطبيعة (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) موهبة محضة وعطاء صرفا من ربك بالوجود الحقاني عند تلاشي الآلات النفسانية (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والله أعلم.

٢٥٠

سورة حم الجاثية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) حم) جواب القسم محذوف لدلالة تنزيل الكتاب عليه ، أي : أقسم بحقيقة الهوية ، أي : الوجود المطلق الذي هو أصل الكل وعين الجمع ، وبمحمد أي : الوجود الإضافي الذي هو كمال الكل وصورة التفصيل لأنزلنّ الكتاب المبين لهما أو يجعل (حم) مبتدأ و (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) خبره على تقدير حذف مضاف أي : ظهور حقيقة الحق المفصلة ، (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : إرسال الوجود المحمدي أو إنزال القرآن المبين الكاشف عن معنى الجمع والتفصيل في غير موضع كما جمع في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١) ثم فصّل بقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٢). (مِنَ اللهِ) من عين الجمع (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) في صورة تفاصيل القهر واللطف اللذين هما. أما الأسماء ومنشؤها الكثرة في الصفات إذ لا صفة إلا وهي من باب القهر أو اللطف.

[٣ ـ ٤] (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤))

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : في الكل (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) بذاته لأن الكل مظهر وجوده الذي هو عين ذاته (وَفِي خَلْقِكُمْ) إلى آخره ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بصفاته لأنكم وجميع الحيوانات مظاهر صفاته من كونه حيّا عالما مريدا قادرا متكلما سميعا بصيرا ، لأنكم بهذه الصفات شاهدون بصفاته.

[٥] (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

(وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى آخره ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أفعاله ، فإن هذه التصرفات أفعاله ، وإنما فرّق بين الفواصل الثلاث بالإيمان والإيقان والعقل لأن شهود الذات أوضح وإن خفي لغاية وضوحه والوجود أظهر والمصدّقون به أكثر لكونه من الضروريات

__________________

(١ ـ ٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨.

٢٥١

ومشاهدة الصفات أدّق وألطف من القسمين الباقيين فعبر عنها بالإيقان ، فكل موقن مؤمن بوجوده ولا ينعكس وقد يوجد الإيقان بدون الإيمان بالذات لذهول المؤمن بالوجود الموقن بالصفات عن شهود الذات لاحتجابه بالكثرة عن الوحدة. وأما الأفعال فمعرفتها استدلال بالعقل إذ التغير في الأشياء لا بد له من تغيير مغير عند العقل لاستحالة التأثر بدون التأثير عقلا. والأول فطري روحي ، والثاني علمي قلبي ، أي : كشفي ذوقي ، والثالث عقلي. فالمحبوب الباقي على الفطرة يؤمن أولا بالذات ثم يوقن بالصفات ثم يعقل الأفعال. وأما المحب المحتجب عن الفطرة بالنشأة والمادة فهو في مقام النفس يعقل أولا أفعاله ثم يوقن بصفاته التي هي مبادئ أفعاله ، ثم يؤمن بذاته ولهذا لماسئل حبيب الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بم عرفت الله؟قال : «عرفت الأشياء بالله».

[٦ ـ ٨] (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨))

(تِلْكَ) أي : آيات سموات الأرواح وأرض الجسم المطلق ، أي الكل وآيات الأحياء من الموجودات وآيات سائر الحوادث من الكائنات (آياتُ اللهِ) أي : آيات ذاته وصفاته وأفعاله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ) وآيات صفاته وأفعاله (يُؤْمِنُونَ) إذ لا موجود بعدها إلا حديث بلا معنى واسم بلا مسمى ، كما قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) (١) أي : بلا مسميات (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) منغمس في إفك الوجود المزخرف الباطل الموهوم ، وإثم الشرك بنسبة الأفعال لذلك الوجود (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) من كل موجود قائل بلسان الحال أو القال (تُتْلى عَلَيْهِ) على لسان كل شيء إلا على لسان النبي وحده (ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) في نسبتها إلى الغير لاحتجابه بوجوده واستكباره وأنائيته لفرط تفرعنه أو لغرّته وغفلته (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) لعدم تأثره بها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ) الحجاب المؤلم والحرمان الموبق.

[٩ ـ ١٧] (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧))

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ٢٣.

٢٥٢

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) بنسبتها إلى من لا وجود له أصلا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) في ذلّ الإمكان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : في تسخير ما في السموات وما في الأرض لكم دلائل لمن يتفكر في نفسه من هو؟ ولما ذا سخّر له هذه الأشياء؟ حتى الملكوت والجبروت منه من جهته فيرجع إلى ذاته ويعرف حقيقته وسرّ وجوده وخاصيته التي بها شرّف وفضل عليها وأهل لتسخيرها له فيأنف عن التأخر عن رتبة أشرفها فضلا عن أخسها ويترقى إلى غايته التي يندب إليها.

[١٨ ـ ١٩] (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩))

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ) طريقة من أمر الحق هي طريقة التوحيد (فَاتَّبِعْها) بسلوكها على بينة وبصيرة (وَلا تَتَّبِعْ) جهالات أهل التقليد (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) علم التوحيد (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لن يدفعوا عنك ضرّا بأفعالهم لعدم تأثيرهم ولا جهالة وحجابا بأوصافهم لعدم قواهم وقدرهم وعلومهم ، إذ لا حول ولا قوّة إلا بالله ولا وحشة بحضورهم إذ لا مناسبة بينك وبينهم فتستأنس بهم بل لا أنس لك إلا بالحق وهم لا شيء محض في شهودك فلا موالاة بينك وبينهم بوجه وإنما موالاة الظالمين ليست إلا مع الظالمين لما بينهم من الجنسية والمناسبة في الاحتجاب (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي : متولي أمور من اتقى أفعاله بالتوكل عليه في شهود توحيد الأفعال أو ناصر من اتقى صفاته في مقام الرضا بمشاهدة تجليات الصفات أو حبيب من اتقى ذاته في شهود توحيد الذات إذ الوليّ يستعمل بالمعاني الثلاثة لغة.

[٢٠ ـ ٢٢] (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))

(هذا) أي : هذا البيان (بَصائِرُ) أي : بيّنات لقلوب الذين طالعوا بهجة الصفات ، يطالعون بكل بصيرة تجلي طلعة صفته (وَهُدىً) لأرواحهم إلى محل شهود الذات (وَرَحْمَةٌ) لنفوسهم من عذاب حجاب الأفعال (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذه البيانات.

[٢٣ ـ ٢٥] (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

٢٥٣

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الإله المعبود ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها ، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه ولو كان حجرا (وَأَضَلَّهُ اللهُ) عالما بحاله من زوال استعداده وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين على تقدير أن يكون على علم حالا من الضمير المفعول في أضله الله لا من الفاعل وحينئذ يكون الإضلال لمخالفته علمه بالعمل وتخلف القدم عن النظر لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى كحال بلعام بن باعورا وأضرابه كماقال عليه‌السلام : «كم من عالم ضلّ ومعه علمه لا ينفعه» أو على علم منه غير نافع ، لكونه من باب الفضول لا تعلق له بالسلوك (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) بالطرد عن باب الهدى والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه لمكان الرين وغلظ الحجاب (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) عن رؤية جماله وشهود لقائه (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) إذ لا موجود سواه يقوم بهدايته (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أيها الموحدون (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي : الحسيّة (نَمُوتُ) بالموت البدني الطبيعي (وَنَحْيا) الحياة الجسمانية الحسيّة لا موت ولا حياة غيرهما ولا ينسبون ذلك إلا إلى الدهر لاحتجابهم عن المؤثر الحقيقي القابض للأرواح والمفيض للحياة على الأبدان.

[٢٦] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) لا الدهر (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ) إليه بالحياة الثانية عند البعث ، أو الله يحييكم لا الدهر بالحياة الأبدية القلبية بعد الحياة النفسانية ثم يميتكم بالفناء فيه ثم يجمعكم إليه بالبقاء بعد الفناء والوجود الموهوب لتكونوا به معه.

[٢٧ ـ ٣٥] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥))

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا مالك غيره في نظر الشهود (وَيَوْمَ تَقُومُ) القيامة

٢٥٤

الكبرى (يَخْسَرُ) الذين يثبتون الغير إذ كل ما سواه باطل ومن أثبته واحتجب به عنه مبطل (وَتَرى) يا موحد (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) لا حراك بها إذ هي بنفسها ميتة غير قادرة كما قال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) (١) أو تراها جاثية في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء على حالها في النشأة الأولى عند الاجتنان وفيه سرّ.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي : اللوح الذي أثبت فيه أعمالها وتجسدت صورها وانتقشت فيه على هيئة جسدانية فإن كتابة الأعمال إنما تكون في أربعة ألواح أحدها : اللوح السفلي الذي يدعى إليه كل أمّة ويعطى بيمين من كان سعيدا وشمال من كان شقيّا ، والثلاثة الأخرى سماوية علوية أشير إليها فيما قبل. وإنما قلنا هذا الكتاب هو اللوح السفلي لأن الكلام هاهنا في جزاء الأعمال لقوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والناسخون هم الملكوت السماوية والأرضية جميعا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي التقليدي أو اليقيني العلمي (وَعَمِلُوا) ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني من أبواب البرّ (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي) رحمة ثواب الأعمال في جنّة الأفعال (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) احتجبوا عن الحق بالكفر الأصلي والانغماس في الهيئات الجرمانية المظلمة بالإجرام بدليل قوله : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : نترككم في العذاب كما تركتم العمل للقائي في يومكم هذا لعدم اعترافكم ، أو نجعلكم كالشيء المنسيّ المتروك بالخذلان في العذاب كما نسيتم لقاء يومكم هذا بنسيان العهد الأزلي.

[٣٦ ـ ٣٧] (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الكمال المطلق الحاصل للكل ببلوغ الأشياء إلى غاياتها وحصولها على أجلّ ما يمكن من كمالاتها (رَبِّ السَّماواتِ) مكمل الأرواح ومدبرها (وَرَبِّ الْأَرْضِ) مدبر الأجساد ومالكها ومصرّفها (رَبِّ الْعالَمِينَ) موجه العالمين إلى كمالاتهم بربوبيته إياهم (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) أي : استعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه ، فكل يحمده بإظهار كماله وجميع صفاته بلسان حاله ويكبره بتغيره وإمكانه وانخراطه في سلك المخلوقات المحتاجة إليه الفانية بالذات القاصرة عن سائر الكمالات غير ما اختصّ به (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي القاهر لكل شيء بتأثيره فيه وإجباره على ما هو عليه (الْحَكِيمُ) المرتب لاستعداد كل شيء بلطف تدبيره ، المهيّئ لقبوله لما أراد منه من صفاته بدقيق صنعته وخفيّ حكمته.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٣٠.

٢٥٥

سورة حم الأحقاف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٥] (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : بالوجود المطلق الثابت الأحدي الصمدي الذي يتقوّم به كل شيء ، أو بالعدل الذي هو ظل الوحدة المنتظم به كل كثرة ، كما قال : بالعدل قامت السموات والأرض. (وَ) بتقدير (أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : كمال معين ينتهي به كمال الوجود وهو القيامة الكبرى بظهور المهدي وبروز الواحد القهار بالوجود الأحدي الذي يفنى عنده كل شيء كما كان في الأزل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالاحتجاب عن الحق (عَمَّا أُنْذِرُوا) من أمر هذه القيامة (مُعْرِضُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) تسمونه وتثبتون له وجود أو تأثير أي شيء كان (أَرُونِي) ما تأثيره في شيء أرضي بالاستقلال أو شيء سماويّ بالشركة (ائْتُونِي) على ذلك بدليل نقليّ من كتاب سابق أو عقلي من علم متقن (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) شيئا ، أي : كان كدعاء الموالي للسادة مثلا إذ لا يستجيب له أحد إلا الله.

[٦ ـ ١٢] (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

٢٥٦

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني وكذا استعباد الموالي لخدمهم فإذا ارتفعت الأغراض وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداء وأنكروا عبادتهم يقولون : ما خدمتمونا ولكن خدمتم أنفسكم ، كما قيل في تفسير قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (١).

[١٣] (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣))

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : تجرّدوا عن العلائق ورفضوا العوائق وانقطعوا إلى الله عن كل ما سواه ورحموا البصر عن طغواه فصدقا قالوا : ربنا الله ، إذ لو بقيت منهم بقايا ولم يأمنوا التلوينات في عرصة الفناء لم يقولوا صادقين : ربّنا الله (ثُمَّ اسْتَقامُوا) بالتحقق به في العمل والتحفظ به في مراعاة آداب الحضرة عن الزلل والخطل ، بحيث لم ينبض منهم عرق ولم يتحرك منهم شعرة إلا بالله ولله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذ لا حجاب ولا عقاب (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) إذ لا مرغوب إلا وهو حاصل لهم فلم يفت منهم شيء ولا يفوت كما قيل : إنّ في الله عزاء لكل مصيبة ودركا عن كل ما فات.

[١٤ ـ ١٨] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨))

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) المطلقة الشاملة للجنان كلها (خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) في حال السلوك حتى الوصول (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) لما كانت النفس ممنوّة بتدبير البدن لتوقف استكمالها عليه مشغولة عن كمالها به في أول النشأة لم تنفتح بصيرتها ولم يصف إدراكها ولم يتبين رشدها إلا وقت بلوغ النكاح كما قال في اليتامى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٢) وذلك هو الأشد الصوري. ألا ترى أن الطبيعة من وقت الطفولة إلى هذا الحد لا تتفرغ إلى تحصيل مادة النوع عن إيرادها ما يزيد

__________________

(١) سورة الزخرف ، الآية : ٦٧.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٦.

٢٥٧

في الأقطار من الغذاء زائدا على بدل المتحلل من البدن لضعف الأعضاء وشدّة الاحتياج إلى النمو والتصلب ، فالنفس حينئذ منغمسة في البدن ، مستعملة للطبيعة في ذلك العمل ، ذاهلة عن كمالها إلى هذا الأجل ، فلما قربت الآلات من حدّ كمالها ووصلت إلى ما يصلح لاستعمالها في تصرفاتها وانتقص الاحتياج إلى ما يزيد في أقطارها تفرّغت الطبيعة إلى ذخيرة مادة النوع من الشخص لاستغنائها بكمال الشخص عن مادته فتفرّغت النفس إلى تحصيل كمالها ، فانفتحت بصيرة عقلها وظهرت أنوار فطرتها واستعدادها وتنبّهت عن نومها في مهدها ، وتيقّظت عن سنة غفلتها وتفطّنت لقدس جوهرها وطلبت مركزها وغايتها لأمرين صلاحية الآلات للاستعمال في الاستكمال وفراغها عن تخصيص البدن بالإقبال لقلة الإشغال ، لكنها ما دامت سنّ النموّ باقية وزيادة الآلاف في القوة والشدة ممكنة ما توجهت بالكلية إلى الجهة العلوية وما تجرّدت لتحصيل الكمالات العقلية والمطالب القدسية للاشتغال المذكور وإن قلّ وذلك إلى منتهى الثلثين من السن كما تبين في علم الطب ، فلما جاوزتها وأخذت في سنّ الوقوف أقبلت إلى عالمها وأشرقت أنوار فطرتها فاشتدّت في طلب كمالها لوقوع الفراغ لها إليها ، فأخذ كافل الأيتام الحقيقية الذي هو روح القدس أن آنس رشدها في دفع أموالها التي هي الحقائق والمعارف والعلوم والحكم إليها ، لبلوغها نكاح الغواني من المفارقات القدسية والنورانيات الجبروتية وذلك وقت سيرها في صفات الله إلى ذات الله حتى الفناء التام بالاستغراق في عين الجمع لإمكان السير في أفعاله من وقت الأشدّ الصوري إلى أشدّ هذا الأشدّ المعنوي الذي نهايته الأربعون تقريبا. ولهذا قيل : الصوفيّ بعد الأربعين أبذّ ، إذ لم يستعدّ بالتوجه والطلب والسير في الأفعال بالتزكية لقبول تلك الأموال والتصرف فيها فلم يأنس روح القدس منه الرشد فلم يدفع إليه ، وإذا تم سيره في الله عند ذلك الأشدّ بالفناء فيه كان وقت البقاء بعد الفناء وأوان الاستقامة في العمل.

وأشار إليها بقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) ولهذا لم يبعث نبي قط إلا بعد الأربعين سوى عيسى ويحيى ومع ذلك وقفا في بعض السموات. ولما كانت النعم أوابد يجب تقييدها بالشكر استوزع الشكر على نعمة الكمال الحاصل المسبوق بالنعم الغير المتناهية لمحافظتها لئلا يحتجب برؤية الفناء فيترك الطاعة تبرّما لحاله واتكالا على كماله ، فإن آفة مقام الفناء رؤية الفناء والمبتلي بها يقع في التلوين ويحرم نعمة التمكين ، ولهذاقال عليه‌السلام : «أفلا أكون عبدا شكورا». فطلب محافظة نعمة الهداية والكمال عليه بإيقافه على الطاعات التي هي شكر نعمته التي أنعم بها عليه وعلى والديه الذين هما السبب القريب لوجوده إذ لو لم يكن فيهما خير وخلق حسن وسرّ صالح لم يظهر عليه ذلك الكمال لأنه سرّهما ولهذا وجب الإحسان والدعاء بالوالدين ولهما (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً) بتكميل المستعدّين فإن الواجب على الكامل

٢٥٨

أولا محافظة كماله ثم تكميل المستكملين ، إذ العمل إنما هو من الأمور النسبية فربما كان صالحا بالنسبة إلى أحد سيئا بالنسبة إلى غيره ، كما قال : «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». ولهذا قال : (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي : أولادي الحقيقية سواء كانوا صلبية أو لا لأن علمه الصالح الذي هو التكميل وتربية المريدين لا ينجع إلا بعد تهيء استعدادهم والصلاح في أعمالهم وأحوالهم وذلك من فيضه الأقدس ، ولو لم يكن هذا الصلاح والقبول التام الذي لا يكون إلا من عند الله لما كان للإصلاح والتكميل والإرشاد أثر كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (١) وهما ، أي : محافظة الكمال بالشكر بالقيام بحق الملهم بالطاعات والتكميل بالإرشاد ملاك العمل في الاستقامة ووظيفة المتحقق بالوجود الحقاني في مقام البقاء (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من ذنب رؤية الفناء وهذه التوبة هي التي تاب بها موسى عليه‌السلام عند الإفاقة كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) (٢) (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين المستسلمين في سلك العباد لمكان الاستقامة (أُولئِكَ) الموصوفون بتلك التوبة والاستقامة هم (الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) بظهور آثار تربيتهم وحسن هدايتهم في مريديهم لأن التكميل أحسن أعمالهم ، ألا ترى أن كل من لم يثبت على طريق المتابعة ولم يتشدّد في حفظ السنة من الكمل لم يكن له أتباع ولم يقم منه كامل لخلله في الاستقامة واتكاله على حاله من الكرامة وذلك علامة عدم قبول عمله الصالح. وهؤلاء لما قاموا بشكر نعمة الكمال قبل عملهم (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) التي هي بقايا صفاتهم وذواتهم بالمحو الكلي والطمس الحقيقي في مقام التمكين فلا يقعون في ذنب رؤية الفناء ولا تلوين ظهور الإنية والأنانية (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) المطلقة (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) حيث قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣).

[١٩ ـ ٢٨] (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٣.

(٣) سورة الطور ، الآية : ٢١.

٢٥٩

إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) لما ذكر السابقين وعقبهم بذكر من يقابلهم من المطرودين الذين حقّ عليهم القول وبين أنّ الفريق الأول في عداد السعداء والفريق الثاني من جملة الأشقياء. تناول الكلام الأصناف السبعة المذكورة في أول الكتاب للتصريح بذكر الصنفين اللذين هما الأصل في الإيمان والكفر ، والتعريض بذكر الخمسة الباقية فقال : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) أي : ولكل صنف من أصناف الناس درجات من جزاء أعمالهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، وغلب الدرجات على الدركات بل لكل أحد من كل صنف رتبة ومقام وموقع قدم من إحدى الجنان أو طبقات النيران.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أنكر عليهم إذهاب جميع الحظوظ في لذات الدنيا لأن لكل أحد بحسب استعداده الأول كمالا ونقصا يقابله ، وبحسب وقت تكوّنه في هذا العالم سعادة عاجلة وشقاوة تقابلها فله بحسب كل واحدة من النشأتين طيبات وحظوظ تناسب كلا كماليه ، فمن أقبل بوجهه على طيبات الدنيا وحظوظها والاستمتاع بها وأعرض بقلبه عن طيبات الأخرى ولذاتها حرم الثانية أصلا لانغماسه في الأمور الظلمانية واحتجابه عن المطالب النورانية ، كما قال تعالى : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١) ، وذلك معنى قوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) لأن حظوظ الأخروية التي تقتضيها هويته ذهبت في هذه ، فكأن ما زاد في النهار نقص من الليل. وأما من أقبل بوجهه إلى الأخرى وتنزّه عن هذه بالزهد والتقوى ورغب في المعارف الحقيقية والحقائق الإلهية واللذات العلوية والأنوار القدسية التي هي الطيبات بالحقيقة فقد أوتي منها حظه ولم ينقص من حظوظه العاجلة على قياس الأول بل وفر منها نصيبه كما قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) (٢) وذلك لأن الاستغراق في عالم القدس والتوجه إلى جناب الحق يورث النفس قوة وقدرة تؤثر بها في عالم الحسّ ، فكيف إذا اتصلت بمنبع القوى والقدر؟ أما ترى أن عالم الملكوت مؤثر في عالم الملك

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٠٠.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ٢٠.

٢٦٠