تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

سورة المزمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أي : المتلفف في غواشي البدن وملابسه (قُمِ) من نوم الغفلة سائرا في سبيل الله ، سالكا مسالك بيداء النفس ومراحل مفازة القلب إلى الله ، ليل مقام النفس واستيلاء الطبع (إِلَّا قَلِيلاً) بحكم الضرورة للاستراحة والأكل والشرب ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن التعيّش بدونها وذلك هو نصفه ، أي : نصف كونه في مقام الطبيعة من الزمان بأسره ليكون الربع من الدورة التامة التي هي أربع وعشرون ساعة للاستراحة والربع لضروريات البدن (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) إن كنت من الأقوياء حتى يبقى الثلث فيكون السدس للاستراحة والسدس لضروريات المعاش (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قليلا إن كنت من الضعفاء حتى يصير إلى الثلثين فيكون الثلث للاستراحة والثلث للضروريات والثلث للاشتغال بالله والسير في طريقه.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) أي : فصل ما في فطرتك من المعاني والحقائق مجموعة ، وفي استعدادك مكنونة بإظهارها وإبرازها بالتزكية والتصفية.

[٥ ـ ٧] (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) بتأييدك بروح القدس وإفاضة نوره عليك حتى يخرج ما فيك بالقوة إلى الفعل من المعاني والحكم (قَوْلاً ثَقِيلاً) ذا وزن واعتبار (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) أي : النفس المنبعثة من مقام الطبيعة ومقيل الغفلة (هِيَ أَشَدُّ) موافقة للقلب وأصوب ، قولا صادرا من العلم لا من التخيل والظنّ والوهم (إِنَّ لَكَ) في نهار مقام القلب وزمان طلوع شمس الروح (سَبْحاً) أي : سيرا وتصرّفا وتقلّبا في الصفات الإلهية ومقامات الطريقة (طَوِيلاً) بلا أمد ونهاية.

[٨ ـ ٩] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

٣٨١

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) الذي هو أنت ، أي : اعرف نفسك واذكرها ولا تنساها فينساك الله ، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها (وَتَبَتَّلْ) وانقطع إلى الله بالإعراض عما سواه انقطاعا تاما معتدّا به (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي : الذي ظهر عليك نوره فطلع من أفق وجودك بإيجادك ، والمغرب الذي اختفى بوجودك وغرب نوره فيك واحتجب بك (لا إِلهَ) في الوجود (إِلَّا هُوَ) أي : لا شيء في الوجود يعبد غيره ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي : انسلخ عن فعلك وتدبيرك برؤية جميع الأفعال منه فيكون أمرك موكولا إليه يدبر أمرك ويفعل بك ما يشاء فكنت متوكلا.

[١٠ ـ ١١] (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١))

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) واحبس نفسك عن الطيش والاضطراب والحركة في طلب الرزق والاهتمام به على ما توسوس إليك قوى نفسك وتلقي إليك من خواطر الوهم ودواعي الشهوة ونوازغ الهوى فتبعثك وتتعبك في حوائجك (وَاهْجُرْهُمْ) بالإعراض عنهم (هَجْراً) مبنيا على العلم الشرعيّ والعقلي لا على الهوى والرعونة (وَذَرْنِي) وإياهم فإنهم المكذبون بمقام التوكل وتكفلي بحوائجك لاحتجابهم بما أنعمت عليهم من نعمة الإدراك والشعور والقدرة والإرادة عني فلا يشعرون إلا بقواهم وقدرهم ولا يصدّقون قولي (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) ريثما أسلب عنهم القوة والقدرة بتجلي الصفات فيظهر عجزهم.

[١٢ ـ ١٣] (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣))

(إِنَّ لَدَيْنا) قيودا شرعية وتكاليف مانعة لهم عن أفعالها (وَجَحِيماً) من حر نار التعب في الطلب (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) من مخالفات طباعهم وحقوقهم بدل حظوظهم (وَعَذاباً أَلِيماً) من أنواع الرياضة والمجاهدة.

[١٤ ـ ٢٠] (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

٣٨٢

(يَوْمَ تَرْجُفُ) أرض النفس باستيلاء إشراقات أنوار التجليات في القلب فتقشعرّ وتضطرب ، وجبال هيئاتها وصفاتها فتندكّ.

(وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) فتنمحى وتذهب. أو ريثما يهيج أعصير انحراف المزاج وغلبة بعض الكيفيات بعضا إن لدينا أنكالا من الهيئات المنكرة والصور المعذّبة المؤذية وجحيما من نيران الطبيعة وطعاما ذا غصّة مما لا تستلذه من أنواع الغسلين والزقوم والضريع ، وعذابا أليما بتلك النيران والصور يوم ترجف أرض البدن بزهوق الروح وسكرات الموت وجبال الأعضاء فتتفتت وتصير كثيبا مهيلا ، والله أعلم.

٣٨٣

سورة المدثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧))

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) أي : المتلبس بدثار البدن ، المحتجب بصورته (قُمْ) عن ما ركنت إليه وتلبست به من أشغال الطبيعة وانتبه عن رقدة الغفلة (فَأَنْذِرْ) نفسك وقواك وجميع من عداك عذاب يوم عظيم (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي : إن كنت تكبر شيئا وتعظم قدره فخصص ربّك بالتعظيم والتكبير لا يعظم في عينك غيره ويصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي : ظاهرك طهره أولا قبل تطهير باطنك عن مدانس الأخلاق وقبائح الأفعال ومذامّ العادات ورجز الهيولى المؤدّي إلى العذاب (فَاهْجُرْ) أي : جرّد باطنك عن اللواحق المادية والهيئات الجسمانية الغاسقة والغواشي الظلمانية الهيولانية (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ولا تعطي المال عند تجرّدك عنه مستغزرا طالبا للأعواض والثواب الكثير به ، فإن ذلك احتجاب بالنعمة عن المنعم وقصور همّة ، بل خالصا لوجه الله افعل ما تفعل صابرا على الفضيلة له لا لشيء آخر ، وهذا معنى قوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أو لا تعط ما أعطيت في الزهد والطاعة والترك والتجريد مستكثرا رائيا إياه كثيرا فتحتجب برؤية فضيلتك وتبتلى بالعجب فيكون ذنب رؤية الفضيلة أعظم من ذنب الرذيلة ، كماقال عليه‌السلام : «لو لم تذنبوا لخشيت عليكم أشدّ من الذنب ، العجب العجب العجب» ، بل اصبر على الفضيلة خالصا لوجه ربّك لا لغرض آخر هاربا عن الرذيلة بالطبع لا فضيلة لها أصلا ، فلا تبتهج برؤية زينتها بالفضيلة بل بفضل الله عليك فتتذلل وتخضع لا تتعزز وتستكثر.

[٨ ـ ٢٥] (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥))

٣٨٤

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) أي : نزع الروح عن الجسد فتنقر الهيئات الروحانية ومحاسن الصور والملاذ والإدراكات عنه ويؤثر بالتفريق والتبديد في ذلك المنقور ، وذلك عبارة عن النفخة الأولى للإماتة أو ينقر في البدن المبعوث فتنتقش فيها الهيئات المكتسبة المردية الموجبة للعذاب أو الحسنة المنجية الموجبة للثواب ، فيكون عبارة عن النفخة الثانية التي للإحياء وهو الأظهر ، فلا يخفى عسر ذلك اليوم على المحجوبين على أحد وإن خفي يسره على غيرهم إلا على المحققين من أهل الكشف والعيان.

[٢٦ ـ ٢٨] (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨))

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) بدل من قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧)) (١) والصعود : عقبة شاقة المصعد ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» وهو والله أعلم إشارة إلى طور النفس الذي هو أعظم أطوارها أي : أفقها الذي يلي الفطرة الإنسانية يصعد إليه سنين متطاولة في صور التعذيب وبرازخ الاحتجاب يهلك ويحترق فيها كماقال عليه‌السلام : «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت إذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت ويهوي فيه إلى أسفل سافلين». كذلك ينتقل دركة دركة في برازخ متنوعة أبدا فذلك الصعود هو سقر الطبيعة من أعلى طبقاتها إلى أسفلها سأصليه إياها لا تبقى فيها شيئا إلا أهلكته وأفنته وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد فأهلكته مرة أخرى هكذا دائما.

[٢٩ ـ ٣٠] (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) مغيرة لظواهر الأجساد إلى لون سواد خطاياهم وهيئات سيئاتهم وذلك من خاصية تلك النار كما تغير النار الجسمانية الألوان والهيئات (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) هي الملكوت الأرضية التي تلازم المادة من روحانيات الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر الموكلة بتدبير العالم السفلي المؤثرة فيه تقمعهم بسياط التأثير وتردّهم في مهاويها.

[٣١] (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) لتغلبهم وتقهرهم فإن عالم الملك في قهر عالم الملكوت وتسخيره (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) إلا لابتلاء المحجوبين وتعذيبهم وزيادة احتجابهم وارتيابهم.

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : ١٧.

٣٨٥

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا) كتاب العقل الفرقاني (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني العلمي (إِيماناً) بالكشف والعيان فلا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون بالجهل البسيط المحجوبون. أو ليستيقن الذين أوتوا الكتاب من المقلّدين ويزداد المحققون تحقيقهم ولا يرتابوا كما ارتاب الجاهلون الذين لا اعتقاد لهم تحقيقا ولا تقليدا (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) نفاق وشك من الجاهلين بالجهل البسيط (وَالْكافِرُونَ) المحجوبون باعتقاداتهم الفاسدة من الجاهلين بالجهل المركب (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي : شيئا عجيبا كالمثل المستغرب المتعجب منه أي : ما ذكرنا عدّتهم وما جعلناها كذلك إلا ليكون سببا لظهور ضلال الضالين وهداية المهتدين كسائر الأسباب الموجبة لضلال من ضلّ وهداية من اهتدى مثل ذلك المذكور (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) من أهل الشقاوة الأصلية (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من أهل السعادة الأزلية (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) عددها وكميتها وكيفيتها وحقيقتها إلا هو لإحاطة علمه بالماهيات وأحوالها (وَما هِيَ) أي : وما سقر متصل بقوله : سأصليه سقر من تتمة أوصافه.

وقوله : (وَما جَعَلْنا) إلى قوله : (إِلَّا هُوَ) اعتراض لبيان حال الزبانية (إِلَّا) تذكرة للبشر.

[٣٢ ـ ٣٧] (كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

(كَلَّا) إنكار أن يكون تذكيرا لهم مطلقا ، فإن أكثرهم غير مستعدين مطبوع على قلوبهم محكوم بشقاوتهم فلا يتعظون به ، ثم أقسم بالقمر أي : بالقلب المستعدّ الصافي القابل للإنذار المتّعظ به المنتفع بتذكيره تعظيما له وبليل ظلمة النفس (إِذْ أَدْبَرَ) أي : ذهب بانقشاع ظلمتها عن القلب بانشقاق نور الروح عليه وتلألؤ طوالعه وبصبح طلوع ذلك النور إذا أسفر فزالت الظلمة بكليتها وتنوّر القلب (إِنَّها) أي : سقر الطبيعة (لَإِحْدَى) الدواهي (الْكُبَرِ) العظيمة أوحدية منها فردة لا نظير لها من جملتها كقولك : إنه أحد الرجال وإنها لإحدى النساء تريد فردا منهم ، منذرة (لِلْبَشَرِ) أو إنذارا أي : فردا في الإنذار لهم لا لكلهم بل للمستعدّين القابلين الذين إن شاؤوا تقدموا باكتساب الفضائل والخيرات والكمالات إلى مقام القلب والروح وإن شاؤوا تأخروا بالميل إلى البدن وشهواته ولذاته فوقعوا فيها.

[٣٨ ـ ٥٦] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ

٣٨٦

الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(كُلُّ نَفْسٍ) بمكسوبها (رَهِينَةٌ) عند الله لا فكاك لها لاستيلاء هيئات أعمالها وآثار أفعالها عليها ولزومها إياها وعدم انفكاكها عنها (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) من السعداء الذين تجرّدوا عن الهيئات الجسدانية وخلصوا إلى مقام الفطرة ففكوا رقابهم عن الرهن هم (فِي جَنَّاتٍ) من جنات الصفات والأفعال يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين لاطلاعهم عليها وما أوجب تعذيبهم وبقاءهم في سقر الطبيعة ، فأجاب المسؤولون بأنّا سألناهم عن حالهم بقولنا : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا) بلسان الحال أو القال : إنّا كنا موصوفين بهذه الرذائل من اختيار الراحات البدنية ومحبة المال وترك العبادات البدنية والحالية والرياضات والخوض في الباطل والهزء والهذيانات والتكذيب بالجزاء وإنكار المعاد التي هي رذائل القوى الثلاث الموجبة للانغمار في نار الطبيعة الهيولانية (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي : الموت فرأينا به ما كنا ننكره عيانا (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ) شافع من نبي أو ملك لو قدر على سبيل فرض المحال لأنهم غير قابلين لها ، فلا إذن في الشفاعة فلذلك فلا شفاعة فلا نفع فإن الشفاعة هناك إفاضة النور وإمداد الفيض ولا يمكن إلا عند قبول المحل بالصفاء. ثم بين امتناع قبولهم لذلك وانتفاعهم بالشفاعة بإعراضهم عن التذكرة وبلادة قلوبهم كقلوب الحمر وتمنياتهم الباطلة لعنادهم ولجاجهم وعدم خوفهم من الآخرة لعدم اعتقادهم وكل ذلك بمشيئة الله وقدره ، والله تعالى أعلم.

٣٨٧

سورة القيامة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ* وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) جمع بين القيامة والنفس اللوّامة في القسم بهما تعظيما لشأنهما وتناسبا بينهما ، إذ النفس اللوّامة هي المصدّقة بها ، المقرّة بوقوعها ، المهيئة لأسبابها لأنها تلوم نفسها أبدا في التقصير والتقاعد عن الخيرات وإن أحسنت لحرصها على الزيادة في الخير وأعمال البرّ تيقنا بالجزاء فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانا. وحذف جواب القسم لدلالة قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) عليه وهو : لتبعثن. والمراد بالقيامة هاهنا الصغرى لهذه الدلالة بعينها (بَلى) أي : بلى نجمعها (قادِرِينَ عَلى) تسوية بنانه التي هي أطراف خلقته وتمامها بأن نعدّلها كما كانت. وقيل في بعض التفاسير الظاهرة : على أن نضمها فنجعلها مسوّاة شيئا واحدا كحافر الحمير وخفّ البعير.

[٥ ـ ١٢] (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢))

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) ليدوم على الفجور بالميل إلى اللذات البدنية والشهوات البهيمية غارزا رأسه فيها فيما بين يديه من الزمان الحاضر والمستقبل ، فيغفل عن القيامة لقصور نظره عنها كونه مقصورا على اللذات العاجلة وفرط تهالكه عليها واحتجابه بها عن الآجلة سائلا عنها متعنتا مستبعدا إياها بقوله : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي : تحير ودهش شاخصا من فزع الموت (وَخَسَفَ) قمر القلب لذهاب نور العقل عنه (وَجُمِعَ) شمس الروح وقمر القلب بأن جعلا شيئا واحدا طالعا عن مغرب البدن لا يعتبر له رتبتان كما كان حال الحياة بل اتحدا روحا واحدا (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي : يطلب مهربا ومحيصا (كَلَّا) ردع له عن طلب المفرّ (لا وَزَرَ) لا ملجأ (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) خاصة مستقرّ من نار أو جنة مفوّض إليه لا إلى غيره ولا إلى اختياره أو إليه خاصة استقراره ورجوعه كقوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)) (١).

__________________

(١) سورة العلق ، الآية : ٨.

٣٨٨

[١٣ ـ ١٥] (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ) من عمله الذي يوجب نجاته وثوابه من الخيرات والصالحات (وَأَخَّرَ) ففرّط وقصر فيه ولم يعمله (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) حجة بينة يشهد بعلمه لبقاء هيئات أعماله المكتوبة عليه في نفسه ورسوخها في ذاته وصيرورة صفاته صور أعضائه ، فلا حاجة إلى أن ينبأ من خارج (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي : أرخى ستوره فاختفى بها عند ارتكاب تلك الأعمال. أو ولو ألقى أعذاره مجادلا عن نفسه بكل معذرة.

[١٦ ـ ٢١] (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) أي : الإنسان عجول بالطبع كما قال : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) (١) فلذلك اختار العاجلة واحتجب بها عن الآجلة. ألا ترى أنك مع وفور سكينتك وكمال وقارك بالله تعجل عند إلقائنا الوحي إليك فتظهر نفسك لتتلقفه وهو ذنب حالك وحجاب وجودك ، وهو معنى قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فلا تفعل ولا تحرّك لسانك به ، فظهور نفسك واضطرابها عجلة به ولتكن قواك هادية ونفسك غائبة عن مورد الوحي وقلبك سالما عن صفاتها خالصا في التوجه آمنا عن حركة النفس.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) إن علينا جمعه فيك وقرآنه أي : ليكن جمعه في مقام الوحدة وقراءتك إياه بنا فانيا عن ذاتك وفي عين الجمع حيث لم يكن لك وجود ولا بقية ولا عين ولا أثر (فَإِذا قَرَأْناهُ) أوجدناه حال فنائك فينا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) بالرجوع إلى مقام البقاء بعد الفناء وظهور القلب والنفس فيّ ، ثم عند كونك في مقام التفصيل (إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وإظهار معانيه في حيز قلبك ونفسك مفصلة مشروحة (كَلَّا) ردع له عن العجلة (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) سواء حالك وحالهم بحكم البشرية ومقتضى الطبيعة والنفس الطيّاشة.

[٢٢ ـ ٤٠] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٧.

٣٨٩

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) للتنوّر بنور القدس والاتصال بعالم النور والسرور والنعيم الدائم متبجحة بزينة معارفها وهيئاتها ، مبتهجة ببهجة ذواتها منخرطة في سلك الملكوت والجبروت (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي : إلى حضرة الذات خاصة متوجهة متوقعة للرحمة التامة في مقام أنوار الصفات أو ناضرة بنوره إلى وجهه خاصة ، ناظرة مشاهدة إياه لا تلتفت إلى ما سواه مشاهدة لجمال ذاته وسبحات وجهه أو مطالعة لحسن صفاته لا تشتغل بغيره (باسِرَةٌ) كالحة لجهامة هيئاتها وظلمة ما بها من الجحيم والنيران وسماجة ما تراه مما هناك من الأهوال وأنواع العذاب والخسران (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها) داهية تفصل فقار الظهر لشدّتها وسوء حالها ووبالها ، وشتان ما بين المرتبتين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٣٩٠

سورة الإنسان

[١ ـ ٤] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤))

(هَلْ أَتى) أي : قد أتى (عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ) فيه (شَيْئاً مَذْكُوراً) أي : على وجه التقرير والتقريب ، أي : كان شيئا في علم الله بل في نفس الأمر لقدم روحه ولكنه لم يذكر فيما بين الناس لكونه في عالم الغيب وعدم شعور من في عالم الشهادة به.

(إِنَّا هَدَيْناهُ) سبيل الحق بأدلة العقل والسمع في حالتي كونه شاكرا مهتديا مستعملا لنعم المشاعر والآلات والوسائط فيما ينبغي أن يستعمل من الطاعات متوصلا بها إلى المنعم (أَوْ كَفُوراً) محتجبا بالنعم عن المنعم مستعملا لها في غير ما يحب أن يستعمل من المعاصي (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) المحتجبين بالنعم (سَلاسِلَ) الميول والمحبات إلى المشتهيات الجسمانية الموجبة لتقيدهم بها والحرمان عن المقاصد الحقيقية في النيران وأغلال الصور والهيئات المانعة عن الحركة في طلب المراد وسعير التعذيب في قعر الطبيعة وقهر الحرمان.

[٥ ـ ٦] (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

(إِنَّ الْأَبْرارَ) أي : السعداء الذين برزوا عن حجاب الآثار والأفعال واحتجبوا بحجب الصفات غير واقفين معها بل متوجهين إلى عين الذات مع البقاء في عالم الصفات وهم المتوسطون في السلوك (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) محبة حسن الصفات لا صرفا بل كان في شرابهم مزج من لذة محبة الذات وهي العين الكافورية المفيدة للذة برد اليقين وبياض النورية وتفريح القلب المحترق بحرارة الشوق وتقويته ، فإن للكافور خاصية التبريد والتفريح والبياض.

والكافور عين (يَشْرَبُ بِها) صرفة (عِبادُ اللهِ) الذين هم خاصته من أهل الوحدة الذاتية المخصوص محبتهم بعين الذات دون الصفات ، لا يفرقون بين القهر واللطف والرفق والعنف والبلاء والشدة والرخاء بل تستقر محبتهم مع الأضداد وتستمر لذاتهم في النعماء والسراء والرحمة والزحمة كما قال أحدهم :

٣٩١

هواي له فرض تعطف أم جفا

ومشربه عذب تكدّر أم صفا

وكلت إلى المحبوب أمري كله

فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا

وأما الأبرار فلما كانوا يحبون المنعم واللطيف والرحيم لم تبق محبتهم عند تجلي القهار والمبلي والمنتقم بحالها ولا لذتهم بل يكرهون ذلك (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) لأنهم منابعها لا اثنينية ثمة ولا غيرية ، وإلا لم يكن كافور الظلمة حجاب الأنانية والاثنينية وسواده.

[٧] (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧))

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي : الأبرار يوفون العهد الذي كان بينهم وبين الله صبيحة يوم الأزل بأنهم إذا وجدوا التمكن بالآلات والأسباب أبرزوا ما في مكامن استعداداتهم وغيوب فطرتهم من الحقائق والمعارف والعلوم والفضائل وأخرجوها إلى الفعل بالتزكية والتصفية (وَيَخافُونَ) يوم تجلي صفة القهر والسخط والانتقام لكونهم وصفيين (يَوْماً كانَ شَرُّهُ) فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ باستيلاء الهيئات المظلمة والحجب الساترة للنور من صفات النفس على القلب وهو نهاية مبالغ الشرّ.

[٨] (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨))

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي : يتجرّدون عن المنافع المالية ويزكون أنفسهم عن الرذائل خصوصا عن الشحّ لكون محبة المال أكثف الحجب فيتصفون بفضيلة الإثار ويطعمون الطعام في حالة احتياجهم إليه لسدّ خلّة جوع من يستحقه ، ويؤثرون به غيرهم على أنفسهم كما هو المشهور من قصة علي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام في شأن نزول الآية من الإيثار بالفطور على المستحقين الثلاثة والصبر على الجوع والصوم ثلاثة أيام أو يزكون أنفسهم عن رذيلة الجهل فيطعمون الطعام الروحاني من الحكم والشرائع مع كونه محبوبا في نفسه على حبّ الله المسكين الدائم السكون إلى تراب البدن واليتيم المنقطع عن تربية أبيه الحقيقي الذي هو روح القدس والأسير المحبوس في أسر الطبيعة وقيود صفات النفس.

[٩] (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩))

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي : قائلين في أنفسهم ذلك ، ناوين بالإطعام رضا الله ، فأن الأبرار يقصدون الخيرات مراضي الله لا الثواب لكونهم بارزين عن حجاب الأفعال إلى الصفات أو لذات الله ومحبتها إذ الوجه عبارة عن الذات مع الصفات لكونهم سالكين سائرين في بيداء الصفات إلى مقصد الذات ، غير واقفين معها (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) مكافأة (وَلا شُكُوراً) وثناء لعدم احتجابنا بالأغراض والأعواض.

٣٩٢

[١٠ ـ ١٢] (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) يوم تجلي السخط والغضب وظهوره في صفة العبوس والقهر (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) بتجليه في صورة الرضا واللطف (وَلَقَّاهُمْ) نضرة الرضوان وسرور النعيم الدائم (وَجَزاهُمْ) بصبرهم عن اللذات النفسانية والتزيينات الشيطانية في جنان الأفعال مع أنوار الصفات جنة الذات وحرير ملابس الصفات الإلهية النورانية اللطيفة.

[١٣] (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣))

(مُتَّكِئِينَ) في تلك الجنة على أرائك الأسماء التي هي الذات مع الصفات بحسب مقاماتهم ومراتبهم ودرجاتهم منها (لا يَرَوْنَ فِيها) شمس حرارة الشوق إليها مع الحرمان ولا زمهرير برودة الوقوف مع الأكوان ، فإن الوقوف مع الكون برد قاسر وثقل عاصر.

[١٤] (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤))

(وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ) ظلال الصفات قريبة منهم ساترة إياهم لاتصافهم بها وكونهم في روحها (وَذُلِّلَتْ) لهم (قُطُوفُها) من ثمار علوم توحيد الذات وتوحيد الصفات والأحوال والمواهب (تَذْلِيلاً) تاما كلما شاؤوا جنوها وتلذذوا وتفكهوا بها.

[١٥ ـ ١٦] (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦))

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) هي مظاهر حسن الصفات من محاسن الصور وكونها من فضة نوريتها وبياضها وزينتها وبهاؤها (وَأَكْوابٍ) من صور أوصاف المجردات اللطيفة والجواهر المقدسة لكونها بلا عرى التعلق بالمواد فلا يمكن قبضها بالعرى من غير الاتصال بذواتها ولكونها من عالم الغيب لم تكن مكشوفة الرأس كالأواني (كانَتْ قَوارِيرَا) لصفائها وتلألؤ نور الذات من ورائها ، وكما قال في تشبيه القلب بالزجاجة : (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) (١) أي : في صفاء الزجاجة وضياء الكوكب فكذلك هاهنا قال : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي : هي في صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة وبريقها (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي : على حسب استعداداتهم ومبالغ ريهم على قدر أشواقهم وإرادتهم كما قدّروا في أنفسهم وجدوها كما قيل : لا تغيض ولا تفيض.

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٣٥.

٣٩٣

[١٧ ـ ١٨] (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨))

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها) زنجبيل لذة الاشتياق ، فإنهم لا شوق لهم ليكون شرابهم الزنجبيل الصرف الذي هو غاية حرارة الطلب لوصولهم ، ولكن لهم الاشتياق للسير في الصفات وامتناع وصولهم على جميعها فلا تصفو محبتهم من لذة حرارة الطلب كما صفت لذة محبة المستغرقين في عين جميع الذات فكان شرابهم العين الكافورية الصرفة (عَيْناً) بدل من زنجبيلا أي : هو عين في الجنة لكون حرارة الشوق عين المحبة الناشئة من منبع الوحدة مع الهجران (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) لسلاستها في الحلق وذوقها. فإن العشاق المهجورين الطالبين السالكين سبيل الوصال في ذوق وسكر من حرارة عشقهم لا يقاس به ذوق.

[١٩ ـ ٢٠] (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠))

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) من فيوض الأسماء الإلهية المتجلية عليهم في عالم القدس وهي الأنوار الملكوتية والجبروتية المنكشفة عليهم في حضرات الصفات وجناتها. ولو كانت جنانهم من جنان الأفعال لطافت عليهم الحور مكان الولدان ، لأن الأسماء مؤثرة في الأفعال والصفات مصادرها ومبادئ الآثار والهيئات وكونهم مخلّدين بقاؤهم على التجرّد أبدا (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) لنوريتهم وصفائهم وبساطة جواهرهم.

[٢١] (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١))

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ) أي : تعلوهم ملابس سندس الأحوال والمواهب اللطيفة من أنوار الصفات البهيجة. والخضرة عبارة عن البهجة والنضرة وإستبرق الأخلاق الإلهية (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي : زينوا بزينة المعاني المعقولة المنوّرة بنور الوجدان (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) من لذة محبة الذات والعشق الحقيقي الصرف الصافي عن كدر الغيرية واثنينية الصفات الطاهر عن دنس ظهور الأنانية والبقية.

[٢٢] (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

(إِنَّ هذا) المذكور من الجنة والأواني والولدان والشراب (كانَ لَكُمْ جَزاءً) لقيامكم بحق تجليات الصفات (وَكانَ سَعْيُكُمْ) من الأعمال القلبية في مقامها كالخشية والهيبة عند تجلي العظمة والخضوع والأنس عند تجلي صفة الرحمة والإخلاص في طلب تجلي الوحدة وأمثال ذلك (مَشْكُوراً) بهذا الجزاء.

٣٩٤

[٢٣ ـ ٢٤] (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤))

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) بذاتنا دون من عدانا (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ) التجلي الأحدي الذاتي في مقام الفناء مع بلاء ظهور الأنانية والبقية ، فإن الربّ في مقام نزول الصفات هو الذات وحدها (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً) محتجبا بالصفات والأحوال أو بذاته عن الذات وبصفات نفسه وهيئاتها عن الصفات (أَوْ كَفُوراً) محتجبا بالأفعال والآثار واقفا معها بأفعاله ومكسوباته عن الأفعال فتحتجب بموافقتهم.

[٢٥] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥))

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي : ذاتك الذي هو الاسم الأعظم من أسمائه بالقيام بحقوقه وإظهار كمالاته (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) في المبدأ والمنتهى بالصفات الفطرية من وقت طلوع النور الإلهي بإيجادها في الأزل وإيداع كمالاته فيها وغروبه بتعيينها واحتجابه بها وإظهارها مع كمالاتها.

[٢٦] (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦))

(وَمِنَ اللَّيْلِ) وخصص مقام النفس أو القلب حال البقاء بعد الفناء والرجوع إلى الخلق للتشريع بسجود الفناء والعبادة الحقانية فإن الدعوة لا تمكن إلا بحجاب القلب ووجود النفس (فَاسْجُدْ لَهُ) سجود الفناء برؤية بقاء نفسك بالحق وفناء البشرية بالكلية فتكون موجودا به لا بها ، ونزّهه عن المعيّة والاثنينية والأنانية وظهور البقية (لَيْلاً طَوِيلاً) بقاء دائما أبديّا ما دمت في ذلك المقام.

[٢٧] (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧))

(إِنَّ هؤُلاءِ) أي : المحتجبين بالآثار والأفعال أو الصفات (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي : شاهدهم الحاضر من الذوق الناقص (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) يوم التجلي الذاتي ، أي : القيامة الكبرى الشاق المعتبر الذي لا يحتمله أحد.

[٢٨] (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨))

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) بتعيين استعداداتهم (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قوّيناهم بالميثاق الأزلي والاتصال الحقيقي (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) بأن نسلب أفعالهم بأفعالنا ونمحو صفاتهم بصفاتنا ، ونفني ذواتهم بذواتنا فيكونوا أبدالا.

[٢٩ ـ ٣٠] (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠))

٣٩٥

(إِنَّ هذِهِ) تذكير لسلوك طريقي والسير فيّ (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) سبيلا إليّ (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا) بمشيئتي بأن أريدهم فيريدوني فتكون إرادتهم مسبوقة بإرادتي ، بل عين إرادتي الظاهرة في مظاهرهم (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما أودع فيهم من العلوم (حَكِيماً) بكيفية إيداعها وإبرازها فيهم بإظهار كمالهم.

[٣١] (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) بإفاضة ذلك الكمال المودع فيه عليه وإظهاره (وَالظَّالِمِينَ) الباخسين حقهم الناقصين حظهم منها بالاحتجاب عنها ، أو الواضعين نور فطرتهم الذي هو النور الإلهي الأصلي الحاصل من اسمه المبدئ في غير موضعه من محبة الأنداد والاحتجاب بالآثار وعبادة الأغيار (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً) بالوقف على الربّ لوقوفهم مع الغير ثم على النار لوقوفهم مع الآثار مؤلما إيلاما شديدا.

٣٩٦

سورة والمرسلات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٢] (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أقسم سبحانه بأنوار القهر واللطف الموجبة للكمال والوقوف على أحوال القيامة فقال : والمرسلات ، أي : الأنوار القاهرة التي أرسلت إلى النفوس الإنسانية (عُرْفاً) أي : متتالية متتابعة ولوائح ولوامع وطوالع من قولهم : جاءوا عرفا ، ثم تشتدّ وتقوى كالرياح العاصفة فتعصف بالصفات النفسانية والقوى البدنية والروحانية بتجليات صفات العظموت والجبروت فتقهرها وتذريها. وإن فسر العرف بالذي هو ضدّ النكر فمعناه : والمرسلات للإحسان فإن هذا القهر في ضمنه لطف خفيّ كماقال : «سبقت رحمتي غضبي». وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته.

[٣ ـ ٥] (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥))

(وَالنَّاشِراتِ) والأنوار التي تنشر وتحيي ما أهلكته وأفنته العاصفات من تجليات صفات المحبة والرحموت ، فتفرق بينها بإقامة كل في مقامها ليتميز بعضها من بعض وتفصل بين الحق والباطل من أفعالها ، فتلقي الذكر أي : العلم والحكمة لأن العلم يستدعي دعاء وجوديا ظاهرا فلا يمكن فيضانه في حال الفناء بالتجلي القهري ولا قبله وإلا لكان فكريا مستنبطا بالعقل المشوب بالوهم فكان شيطنة وشبها مختلطا فيها الحق بالباطل.

[٦] (عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦))

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) كلاهما بدل من ذكرا أي : عذرا للمستغفرين المتصلين ومحوا لسيئاتهم وهيئات نفوسهم وصفاتهم وإنذارا للمنغمسين في ملابس الطبيعة والبدن المحجوبين بغواشيها ولذاتها وشهواتها عن الحق أو مفعول لهما أي : لمحو سيئات الأوّلين وذنوب صفاتهم وأفعالهم وإنذار الآخرين أو حالان أي : فيلقين ذكرا عاذرات ومنذرات.

[٧ ـ ١٢] (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢))

(إِنَّما تُوعَدُونَ) من أحوال القيامة الصغرى والكبرى (لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ) أي : الحواس

٣٩٧

(طُمِسَتْ) ومحيت بالموت (وَإِذَا السَّماءُ) أي : الروح الحيوانية (فُرِجَتْ) وشققت وانفلقت من الروح الإنسانية (وَإِذَا الْجِبالُ) أي : الأعضاء (نُسِفَتْ) أي : فنيت وأذريت (وَإِذَا الرُّسُلُ) أي : ملائكة الثواب والعقاب (أُقِّتَتْ) عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لها ، إما لإيصال البشرى والروح والراحة وإما لإيصال العذاب والكرب والذلة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي : ليوم عظيم أخرت عن معاجلة الثواب والعقاب في وقت الأعمال أو رسل البشر وهم الأنبياء ، عينت وبلغت ميقاتها الذي عين لهم للفرق بين المطيع والعاصي والسعيد والشقيّ فأن الرسل يعرفون كلّا بسيماهم.

[١٣ ـ ١٤] (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤))

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بين السعداء والأشقياء ، وإن فسرت القيامة الكبرى فإذا نجوم القوى النفسانية محيت بالعاصفات ، وإذا سماء العقل فرجت وشقت بتأثير نور الروح فيها ، وإذا جبال صفات النفس نسفت بالتجليات الوصفية في القيامة الوسطى ، بل جبال النفس والقلب والعقل والروح وكل ما عليها بالتجلي الذاتي ، وإذا الرسل الناشرات بالأحياء في حال البقاء بعد الفناء عينت لوقت الفرق بعد الجمع وهو حال البقاء أي وقت الرجوع من الجمع إلى التفصيل المسمى يوم الفصل أخرت من وقت الجمع الذي هو الفناء إلى ذلك الوقت.

[١٥ ـ ٢٩] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩))

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بإحدى القيامتين المحجوبين عن الجزاء ، وقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وما بعده يدل على أن المراد بما توعدون هو القيامة الصغرى.

[٣٠ ـ ٣١] (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١))

(انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي : ظل شجرة الزقوم وهي النفس الخبيثة الملعونة الإنسانية إذا احتجبت بصفاتها وانقطعت عن نور الوحدة بظلمة ذاتها فبقيت راسخة في أرض البدن نابتة ناشئة في نار الطبيعة متشعبة إلى شعب النفوس الثلاث البهيمية والسبعية والشيطانية وهي القوة الملكوتية المغلوبة بالوهم العاملة بمقتضى هوى النفس (لا ظَلِيلٍ) كظل شجرة طوبى ، أي : حالها في إفادة الروح والراحة بخلاف حال تلك وهي النفس الطيبة المتنوّرة بنور الوحدة الوحدانية في أفعالها الصادرة عن العقل الغير المتشعبة إلى الشعب المختلفة المتضادّة (وَلا يُغْنِي) من لهب نار الهوى وتعب طلب ما لا يبقى.

٣٩٨

[٣٢ ـ ٣٤] (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤))

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) الدواعي العظيمة والتمنيات الباطلة كالجبال النارية مع الحرمان عن المتمنيات.

[٣٥ ـ ٣٧] (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧))

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) لفقدان آلات النطق وعدم الإذن فيه بالختم على الأفواه فلا يعتذرون لأنهم لا يتمكنون من الاعتذار وذلك اليوم يوم طويل لا نهاية لطوله والمواقف فيه مختلفة ففي بعض المواقف لا ينطقون وفي بعضها يمكنهم النطق.

[٣٨ ـ ٤٠] (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ) بالحشر العامّ في عين جمع الوجود مع الأولين ثم فرّقنا بين السعداء منكم والأشقياء أو فصلنا بينكم بتمييزكم من السعداء وجمعناكم مع الأولين من الأشقياء المتوفين قبلكم في النار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تعجيز لهم وبيان لمقهوريتهم وعدم حيلتهم في رفع العذاب.

[٤١] (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١))

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) المتزكين عن صفات النفوس وهيئات الأعمال المتجردين عنها (فِي ظِلالٍ) من الصفات الإلهية (وَعُيُونٍ) من العلوم والمعارف والحكم والحقائق المستفادة من تجلياتها.

[٤٢ ـ ٤٣] (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣))

(وَفَواكِهَ) من لذات المحبات والمدركات (مِمَّا يَشْتَهُونَ) على حسب إرادتهم مقولا لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : كلوا من تلك الفواكه واشربوا من تلك العيون أكلا هنيئا وشربا هنيئا سائغا رافها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الأعمال الزكية والرياضات القلبية والقالبية.

[٤٤ ـ ٤٧] (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧))

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الذين يعبدون الله في مقام مشاهدة الصفات والذات من ورائهالقوله : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».

[٤٨] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) انخفضوا واخشعوا بالانكسار وتواضعوا لقبول الفيض بترك التجبر والاستكبار لا يقبلون ولا ينقادون وذلك إجرامهم الموجب لهلاكهم.

٣٩٩

سورة النبأ

[١ ـ ١٦]

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) النبأ العظيم هو القيامة الكبرى ، ولذلك قيل في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

هو النبأ العظيم وفلك نوح

أي : الجمع والتفصيل باعتبار الحقيقة والشريعة لكونه جامعا لهما.

[١٧] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧))

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : يوم يفصل بين الناس ويفرق السعداء من الأشقياء وبين كل طائفة من الفريقين باعتبار تفاوت الهيئات والصور والأخلاق والأعمال وتناسبها (كانَ) عند الله وفي علمه وحكمه (مِيقاتاً) حدّا معينا ووقتا موقتا ينتهي الخلق إليه.

[١٨] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨))

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) باتصال الأرواح بالأجساد ورجوعها بها إلى الحياة (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) فرقا مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.

وعن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا معاذ! سألت عن أمر عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه وقال : «يحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا وبعضهم صمّا بكما وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم. فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس ، وأما الذين على صورة

٤٠٠