تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

الوهميات على المعقولات وغلبة الأوهام على العقول (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) بدواعي الوهم ومقتضى التخيل (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) من الموت وحصول العقاب.

[١٧] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧))

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) تمثيل لتأثير الذكر في القلوب وإحيائها.

[١٨ ـ ٢٠] (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) من المؤمنين بالغيب في مقام النفس لقوله : (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) من أهل الإيقان في مقام القلب لقوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أي : من جنة النفس ونورهم من جنة القلب بتجلي الصفات (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) بقوة اليقين (وَالشُّهَداءُ) أهل الحضور والمراقبة والذين حجبوا عن الذات والصفات في مقابلتهم ، أي : ليسوا من أهل الإيمان بالغيب ولا من أهل الإيقان (أُولئِكَ أَصْحابُ) جحيم الطبيعة.

[٢١] (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) لما حقّر الحياة الحسية النفسية الفانية وصوّرها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء دعاهم إلى الحياة العقلية القلبية الباقية فقال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : تستر صفات النفس بنور القلب (وَجَنَّةٍ عَرْضُها) العالم الجسماني بأسره لإحاطة القلب به وبصوره أو نفرهم عن الحياة البشرية ودعاهم إلى الحياة الإلهية أي : سابقوا إلى مغفرة تستر ذواتكم ووجوداتكم التي هي أصل الذنب العظيم بنور ذاته وجنّة عرضها سموات الأرواح وأرض الأجساد بأسرها ، أي : الوجود المطلق كله الشامل للوجودات الإضافية بأجمعها (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الإيمان العلمي اليقيني على الأول والإيمان العيني والحقي على الثاني.

[٢٢ ـ ٢٣] (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣))

٣٢١

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) من الحوادث الخارجية والبدنية والنفسانية (إِلَّا فِي كِتابٍ) هو القلب الكلي المسمى باللوح المحفوظ. لتعلموا علما يقينا أنه ليس من لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم مدخل وتأثير ، ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلّة حيلتكم وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل ، فلا تحزنوا على فوات خير ونزول شر ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شرّ إذ كلها مقدّرة إن (اللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي : متبختر من شدّة الفرح بما آتاه (فَخُورٍ) به لعدم يقينه وبعده عن الحق بحب الدنيا وانجذابه إلى الجهة السفلية بمنافاته للحضرة الإلهية واحتجابه بالظلمات عن النور.

[٢٤] (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) لشدّة محبة المال (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) لاستيلاء الرذيلة عليهم (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : يعرض عن الله بالتوجه إلى العالم السفلي والجوهر الغاسق الظلماني (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عنه لاستغنائه بذاته (الْحَمِيدُ) لاستقلاله بكماله ، أي : يخذله ويمهله.

[٢٥ ـ ٢٧] (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) بالمعارف والحكم (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي : الكتابة (وَالْمِيزانَ) أي : العدل لأنه آلته (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي : السيف لأنه مادّته وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي وينضبط النظام الكلي المؤدّي إلى صلاح المعاش والمعاد إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول هو العلم والحكمة ، والأصل المعوّل عليه في العمل والاستقامة في طريق الكمال هو العدل ، ثم لا ينضبط النظام ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذان يتم بهما أمر السياسة ، فالأربعة هي أركان كمال النوع وصلاح الجمهور ويجوز أن تكون البينات إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية ، والكتاب إشارة إلى الشريعة والحكم العملية ، والميزان إلى العمل بالعدل ، والسوية والحديد إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل : البينات العلوم الحقيقية والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية ، أي : الشرع والدينار المعدّل للأشياء في المعاوضات والملك وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصي والنوعي في الدارين إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم

٣٢٢

والعمل ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم. أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الإنسان مدنيّ بالطبع محتاج إلى التعامل والتعاون لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع ، والنفوس إما خيرة أحرار بالطبع منقادة للشرع وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال ، والعمل بالعدالة اللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك.

[٢٨ ـ ٢٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني (اتَّقُوا اللهَ) بالتجرّد عن صفاتكم والتنزّه عن ذواتكم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) بالاستقامة في أعمالكم وأحوالكم على طريق المتابعة (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) في جنة النفس (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً) من أنوار الروح وتجليات الصفات في مقام القلب (تَمْشُونَ بِهِ) تسيرون به في الصفات (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب ذواتكم (وَاللهُ غَفُورٌ) بإفناء البقيات (رَحِيمٌ) بهبة الوجودات الحقانيّة بعد فناء الإنيات (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي : المحجوبون بالرين عن الحق أو بطريق الضلالة ودين الباطل عن الصراط المستقيم ودين الحق (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لأنه موهوب لا يمكن اكتسابه (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) أي : في تصرفه وتحت ملكه وقدرته (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) موهبة لا كسبا منه (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي هو نهاية الكمال ، والله تعالى أعلم.

٣٢٣

سورة المجادلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) بإقامتهم عن مراقد الأبدان (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) لانتقاش صور أعمالهم في ألواح نفوسهم (أَحْصاهُ اللهُ) بإثباته في الكتب الأربعة المذكورة (وَنَسُوهُ) لذهولهم عنه باشتغالهم باللذات الحسية وانهماكهم في الشواغل البدنية (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) حاضر معه رقيب (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) لا بالعدد والمقارنة بل بامتيازهم عنه بتعيناتهم واحتجابهم عنه بماهياتهم وإنياتهم وافتراقهم منه بالإمكان اللازم لماهياتهم وهوياتهم وتحققهم بوجوبه اللازم لذاته واتصاله بهم بهويته المندرجة في هوياتهم وظهوره في مظاهرهم وتستره بماهياتهم ووجوداتهم المشخصة وإقامتها بعين وجوده وإيجابهم بوجوبه ، فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم ، ولو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم ولهذا قيل : لو لا الاعتبارات لارتفعت الحكمة. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم نقطة كثرها الجاهلون».

[٨ ـ ١١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ

٣٢٤

حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) إنما نهوا لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث ، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوّى ويتأيد بعضها بالبعض فيما هو سبب الاجتماع لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد فإذا كانت شريرة يتناجون في الشر ويزداد فيهم الشر ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع ، ولهذا ورد بعد النهي : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ) الذي هو رذيلة القوى البهيمية (وَالْعُدْوانِ) الذي هو رذيلة القوى الغضبية (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) التي هي رذيلة القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطنة. ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات ليتقوّوا بالهيئة الاجتماعية ويزدادوا فيها فقال : (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ) أي : الفضائل التي هي أضداد تلك الرذائل من الصالحات والحسنات المخصوصة بكل واحدة من القوى الثلاث (وَالتَّقْوى) أي : الاجتناب عن أجناس الرذائل المذكورة (وَاتَّقُوا اللهَ) في صفات نفوسكم (الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) بالقرب منه عند التجرّد منها (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : افسحوا من ضيق التنافس في الجاه والنخوة فإنه من الهيئات النفسانية واستيلاء القوة السبعية وركود النفس في ظلمة الإنية واحتجابها عن الأنوار القلبية والروحية ، فتنزهوا عنها يفسح الله لكم بالتجريد عن الهيئات البدنية والإمداد بالأنوار فتنشرح صدوركم وتنفسح ويتسع مكانكم في فضاء عالم القدس (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) الإيمان اليقيني (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : علم آفات النفس ودقائق الهوى وعلم التنزّه منها بالتجريد (دَرَجاتٍ) من الصفات القلبية والمراتب الملكوتية والجبروتية في عالم الأنوار (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجازيكم ويعاقبكم بتلك الهيئات.

[١٢ ـ ١٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

(إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) لأن الاتصال بالرسول في أمر خاص لا يكون إلا لقرب روحاني أو مناسبة قلبية أو جنسية نفسانية وأيّا ما كان وجبت

٣٢٥

الصدقة. أما الأول والثاني فيجب فيهما تقديم الانسلاخ عن الأفعال والصفات والتجرّد عن الخارجيات من الأسباب والأموال وقطع تعلقات المسمى بالترك ثم محو آثار والهيئات الباقية منها النفس المسمى بالتجريد عندهم ثم قطع النظر عن أفعاله وصفاته والترقي إلى مقام الروح في الأول وإلى مقام القلب في الثاني حتى يصفو له مقام التناجي الروحي مع النبي في الأسرار الإلهية والمسارة القلبية في الأمور الكشفية. ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه : «كان لعليّ عليه‌السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى». وأما الثالث فيجب فيه تقديم الخيرات ببذل الأموال شكرا لتلك النعمة حتى تبقى وتزيد.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) في الأوّلين للتخلف عن المقامين بالوقوف مع النفس ، وفي الثالث لشح النفس والفقر (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للصفات النفسانية بأنوار صفاته (رَحِيمٌ) بإفاضة أنوار التجليات والمشاهدات والمعارف والمكاشفات الموجبة لوجدان تلك الصدقة في الأولين أو غفور لرذيلة الشحّ وكربة الفقر ، رحيم بالتوفيق لاكتساب الفضيلة وتيسيرها وإعطاء المال في الثالث وكذا الإشفاق والتوبة إنما يكونان لما ذكر. ثم أمر بما يزيل التخلف المذكور ورذيلة الشح وشدّة الفقر إذ بصلاة الحضور والمراقبة في مقام القلب يحصل الأول ، وبزكاة الترك والتجريد يحصل الثاني ، وبطاعة الله ورسوله في الأعمال الخيرية يحصل الثالث لأن الخير عادة ، وببركة الطاعة ينتفي الفقر لحصول الاستغناء باللهقال الله تعالى : «من أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه».

[١٤ ـ ٢١] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) لأنّ الموالاة لا تكون ثابتة حقيقة إلا مع الجنسية والمناسبة ، فإن كانت وجب إزالتها وإلا وجب الاحتراز من سرايتها بالصحبة والموالاة وإنما تمكن الموالاة مع عدمها إذا كانت بسبب خارجي من نفع أو لذّة زالت بزواله وإلا لما أمكنت ، ولهذا نفى الموالاة الحقيقية بينهم بنفي موجبها فقال : (ما

٣٢٦

هُمْ مِنْكُمْ) إنما هي محض النفاق. (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي : الوهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) بتسويل اللذات الحسيّة والشهوات البدنية لهم وتزيين الدنيا وزبرجها في أعينهم.

[٢٢] (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الإيمان اليقيني (يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) إلى آخره ، لأن المحبة أمر روحاني فإذا أيقنوا وعرفوا الحق وأهله غلبت قلوبهم وأرواحهم نفوسهم وأشباحهم فمسخت المحبة الروحانية. والمناسبة الحقيقية بينهم وبين الحق وأهله المحبة الطبيعية المستندة إلى القرابة واتصال اللحمة لأن الاتصال الروحاني أشد وأقوى وألذّ وأصفى من الطبيعي (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) بالكشف واليقين المذكر للعهد الأول الكاشف عنه (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) لاتصالهم بعالم القدس أو بنور تجلي الذات (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) من الجنان الثلاث (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم التوحيد والتشريع (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بمحو صفاتهم بصفاته بنور التجلي (وَرَضُوا عَنْهُ) بالاتصال بصفاته (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) السابقون الذين لا يلتفتون إلى غيره ولا يثبتونه (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالكمال المطلق.

٣٢٧

سورة الحشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٧] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي : نظر بنظر القهر إليهم فتأثروا به لاستحقاقهم لذلك ومخالفة الحبيب ومشاقته ومضادته ولوجود الشك في قلوبهم وكونهم على غير بصيرة من أمرهم وبينة من ربهم إذ لو كانوا أهل يقين ما وقع الرعب في قلوبهم ولعرفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنور اليقين وآمنوا به فلم يخالفوه (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) لأنه متحقق بالله فكل ما أمر به فهو أمر الله وما نهى عنه نهي الله لقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (٤)) (١).

[٨ ـ ٩] (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩))

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) أي : التاركين المجرّدين المهاجرين عن مقام النفس (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) أي : أخرجهم الله ، إذ لوخرجوا بنفوسهم لاحتجبوا بها وبرؤية الترك والتجريد

__________________

(١) سورة النجم ، الآيات : ٣ ـ ٤.

٣٢٨

فوقعوا في مقام النفس مع حجاب العجب الذي هو أشدّ من الذنب (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) من مواطنهم ومألوفاتهم أي : صفات نفوسهم ومعلوماتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) من العلوم والفضائل الخلقية (وَرِضْواناً) من الأحوال والمواهب السنية من أنوار تجليات الصفات (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ببذل النفوس لقوة اليقين (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في الإيمان اليقيني لتصديق أعمالهم دعواهم ، إذ علامة وجدان اليقين ظهور أثره على الجوارح بحيث لا تمكن حركاتها إلا على مقتضى شاهدهم من العلم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) أي : المقرّ الأصلي الذي هو الفطرة الأولى والعهد الأول الذي هو محل الإيمان وموطنه ولهذا قرنه به ، فإن النفس موطن الغربة (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : من قبل هجرة المهاجرين من دار الغربة التي هي النفس إليها لأن هذه الدار هي الدار الأصلية المتقدمة على ديارهم ، ولهذاقال عليه‌السلام : «حبّ الوطن من الإيمان». فهم الذين لم يسقطوا عن الفطرة ولم يحتجبوا بحجاب النفس في النشأة وبقوا على صفائها بخلاف الأولين الذين تكدّروا وتغيروا ثم رجعوا إلى الصفاء بالسير والسلوك (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) لوجود الجنسية في الصفاء وتحقق المناسبة الأصلية والقرابة الحقيقية بالوفاء وتذكر العهد السابق بالموافقة في الدين والإخاء (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا) أوتي المهاجرون من الحظوظ لسلامة قلوبهم عن آفات النفوس وطهارتها عن دواعي الحرص وتنزّهها عن محبة الحظوظ وتيقنها بالأقسام.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) لتجرّدهم وتوجههم إلى جناب القدس وترفّعهم عن مواد الرجس وكون الفضيلة لهم أمرا ذاتيا باقتضاء الفطرة وفرط محبة الإخوان بالحقيقة والأعوان في الطريقة (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) فتقديمهم أصحابهم على أنفسهم لمكان الفتوّة وكمال المروءة ولقوة التوحيد والاحتراز عن حظ النفس وخوف الرجوع إلى المطالب الجزئية بعد وجدان الذوق من المطالب الكلية.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) بعصمة الله وكلاءته ، فإنّ النفس مأوى كل شرّ ووصف رديء ، وموطن كل رجس وخلق دنيء ، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها لملازمتها الجهة السفلية ومحبتها الحظوظ الجزئية فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) بالكمالات القلبية.

[١٠ ـ ١٢] (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢))

٣٢٩

(وَالَّذِينَ جاؤُ) من بعد الذين هاجروا إلى الفطرة ، أي : أخذوا في السلوك وقطع منازل النفس متضرّعين قائلين بلسان الافتقار : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) هيئات الرذائل وصفات النفوس بأنوار القلوب (وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) ذنوب التلوينات بظهور تلك الصفات والضلالة بعد الهدى (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) بالاحتجاب بالهيئات السبعية والشيطانية ورسوخها في قلوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ) تستر تلك الهيئات بأنوار الصفات (رَحِيمٌ) بإفاضة الكمالات وإراءة التجليات.

[١٣ ـ ١٥] (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) لاحتجابهم بالخلق عن الحق بسبب جهلهم بالله وعدم معرفتهم له إذ لو عرفوه لعلموا أن لا مؤثر غيره وشعروا بعظمته وقدرته فلم يبق عظم الخلق ولا أثرهم وقدرهم عندهم ، كماقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «عظم الخالق عندك يصغر المخلوق في عينك». (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) لكونهم غير مقهورين هناك بقهر الله ولا واقعا ظل قهر الرسول وهيبته وعكس نور تأييده وتنوّر نفسه بالاتصال بعالم القدس عليهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) لاتفاقهم في الظاهر (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) لانتفاء الجمعية الحقيقية بنور التوحيد عنها وتجاذب دواعيها لتفنن تعلقاتها بالأمور السفلية وتفرّقها عن الحق بالباطل لاحتجابها بالكثرة عن الوحدة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) فيختارون طريق التوحيد العلمي ويتنحون عن السبل المتفرّقة الوهمية ، فإن طريق العقل واحد وطريق شيطان الوهم متفرّقة ، وتشتت القلوب يوهن العزائم ويضعف القوى.

[١٦ ـ ١٧] (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) أي : مثل إخوانهم المنافقين في إغوائهم كمثل الشيطان ، أي : الوهم الإنساني ، إذ زين للإنسان حال كونه على الفطرة اللذات الحسية والشهوات البدنية وحرّضه على مخالفة العقل بالهوى والاحتجاب بالطبيعية ليقع في الردى فلما احتجب بها عن الحق

٣٣٠

وانغمس في ظلمة النفس تبرأ منه بإدراك المعاني دونه ، والتقرّب إلى جناب الحق بالترقي إلى الأفق العقلي والاطلاع على بعض الصفات الإلهية واستشعار الخوف بإدراك آثار العظمة والقدرة وأنوار الربوبية (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) لكونهما جسمانيين ملازمين للطبيعة ونيرانها المتفننة وآلامها المتنوعة (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا العبادة غير موضعها فعبدوا صنم الهوى وطاغوت البدن ، واتخذوا آلهتهم أهواءهم.

[١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان الغيبي التقليدي (اتَّقُوا اللهَ) في اجتناب المعاصي والسيئات والرذائل واكتساب الحسنات والطاعات والفضائل (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) لما بعد الموت من الصالحات (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاحتجاب بالأعراض والأغراض وتوسيط الحق للمشتهيات (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) بأعمالكم ونيّاتكم فيجازيكم بحسبها ، كماقال عليه‌السلام : «لكل امرئ ما نوى». أو آمنوا الإيمان التحقيقي واتّقوا الله في الاحتجاب عنه بأفعالكم وصفاتكم ولتنظر نفس ما قدّمت لغد من محقرات الأعمال والصفات ، فإنها حجب حاجزة ووسائل مردودة مذمومة ، واتّقوا الله في البقيات والتلوينات فإن الله خبير بما تعملون بنفوسكم وما تعملون به لا بنفوسكم.

[١٩] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية والاشتغال باللذات النفسانية (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه فذهلوا عن الجوهرة القدسية والفطرية النورية (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها وخانوا وغدروا وجاسوا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.

[٢٠ ـ ٢١] (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

(لا يَسْتَوِي) الناسون الغادرون الذين هم (أَصْحابُ النَّارِ وَ) المؤمنون المتحققون المتّقون الموفون بعهدهم الذين هم (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) والخاسرون لفرط غفلتهم وذهاب تمييزهم كأنهم لا يفرقون بين الجنة والنار وإلا لعملوا بمقتضى تمييزهم (عَلى جَبَلٍ) أي : قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع

٣٣١

[٢٢ ـ ٢٤] (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لما كان الإسلام مبنيّا على الجمع والتفصيل كثر تكرارهما في المثاني ، أي : لا إله في الوجود إلا هو ، فجمع ثم فصّل بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) والعلم مبدأ التفصيل إذ عالميته هي تميّز الحقائق وأعيان الماهيات في عين الجمع أي : صور الماهيات في عالم الغيب عن عالميته ووجوداتها في عالم الشهادة هي بعينها ظهرت في مظاهر محسوسة لا بمعنى الانتقال بل بمعنى الظهور والبطون كظهور الصورة المعلومة على القرطاس بالكتابة ، فكل ما ظهر فعن علمه السابق ظهر.

(الرَّحْمنُ) بإفاضة وجودات الماهيات وصورها النوعية على المظاهر باعتبار البداية (الرَّحِيمُ) بإفاضة كمالاتها في النهاية. ثم كرر التوحيد الذاتي باعتبار الجمع لينبه على أن هذه الكثرة المعتبرة باعتبار تفاصيل الصفات لا تنافي وحدته الذاتية كالإضافيات والسلبيات المعدودة بعده (الْمَلِكُ) أي : الغنيّ المطلق الذي يحتاج إليه كل شيء المدبر للكل في ترتيب النظام ، الحكيم الذي لا يمكن كون أتمّ وأكمل منه (الْقُدُّوسُ) المجرد عن المادة وشوائب الإمكان في جميع صفاته فلا يكون شيء من صفاته بالقوة وفي وقت دون وقت (السَّلامُ) أي : المبرّأ عن النقائص كالعجز (الْمُؤْمِنُ) لأهل اليقين بإنزال السكينة (الْمُهَيْمِنُ) الحافظ لمن أمّنه على حالة الأمن من كل مخوف (الْعَزِيزُ) القوي الذي يغلب ولا يغلب (الْجَبَّارُ) الذي يجبر كل أحد على ما أراد (الْمُتَكَبِّرُ) المتعالي عن أن يصل إليه غيره ويقارنه في الوجود (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بإثبات الغير (الْخالِقُ) المقدّر للمظاهر على حسب ما أراد ظهوره من أسمائه وصفاته (الْبارِئُ) المفصل المميز بعضها عن بعض بالهيئات المتميزة في عين ذاته (الْمُصَوِّرُ) لصورة تفاصيل مظاهر صفاته (لَهُ) هذه (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الظاهرة في صور المخلوقات المصوّرة الباطنة في صور المبدعات المغيبة ليسبح ذاته على لسان أسمائه وصفاته والله أعلم.

٣٣٢

سورة الممتحنة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤))

عدوّ الله هو الذي خالف عهده وأعرض بقلبه عن جنابه ، فبالضرورة يكون مشركا بمحبة الغير وعدوّا لكل موحد ينفي الغير لكون كل منهما في عدوة حينئذ ولهذا قال : (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) وأشار إلى كون الموالاة بينهما عرضيا لا ذاتيا بقوله : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ثم بين امتناع كونه ذاتيا ببيان المنافاة الذاتية بينهما وعدم المناسبة والجنسية من جميع الوجوه بقوله : (وَقَدْ كَفَرُوا) إلى آخره ، ثم أشار إلى أن وقوعها لا يكون إلا عند الجنسية وحدوث الميل إلى الشرك ، فإن وقعت فلا بد منهما بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : طريق الوحدة. ثم أشار إلى أن العرضية لا يجوز أن يختارها أهل التحقيق لأن السبب الموجب لها أمور فانية لا يبقى نفعها إلا في الدنيا والعاقل يجب أن يختار الأمور الباقية دون الفانية بقوله : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) أي : لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله لأن القيامة الصغرى مفرّقة بينكم تفريقا أبديا لعدم الاتصال الحقيقي الباقي بعد الموت بينكم ، وهذا معنى قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي : يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم ، كما قال : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦)) (١). ثم علّمهم طريق التوحيد بالتأسي بالموحد الحقيقي السابق إبراهيم النبي عليه‌السلام وأصحابه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي : لأطلبن لك الغفران بمحو صفاتك وسيئات أعمالك بالنور الإلهي (وَما أَمْلِكُ)

__________________

(١) سورة عبس ، الآيات : ٣٤ ـ ٣٦.

٣٣٣

إلا الطلب. وأما وجود ذلك فأمر متعلق بمشيئة الله وعنايته كما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١).

(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) بالخروج عن أفعالنا بشهود أفعالك (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) بمحو صفاتنا بمطالعة صفاتك (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بفناء ذواتنا ووجوداتنا في ذاتك وهو التوحيد التام.

[٥ ـ ١٣] (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي : إنّا لا نخافهم ولا نرى لهم تأثيرا ولا وجودا ولكنا نعوذ بعفوك من عقابك حتى لا تعاقبنا بهم ولا تبلينا بأيديهم بسبب ما فرط منا من السيئات والظهور بالصفات (وَاغْفِرْ لَنا) ذنوب تفريطاتنا بالعفو لا بالعقوبة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) القويّ على عقابنا بهم وعلى دفعهم عنا وقمعهم وقهرهم (الْحَكِيمُ) لا يفعل أحد الأمرين ولا يختاره إلا بمقتضى الحكمة ثم كرر وجوب التأسي بإبراهيم وأصحابه وأثبته لمن كان في بداية التوحيد في مقام الرجاء وتوقع الكمال (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) برفع موجب العداوة الذي هو الكفر ، إذ الاحتجاب ليس أمرا فطريا بل الإيمان بمقتضى الفطرة الأصلية والتحاب وإنما حدث الكفر عند الاحتجاب بالنشأة والانغمار في الغواشي الطبيعية (وَاللهُ) قادر على رفعها ، وإذا ارتفعت ظهرت المودّة الحقيقية بنور الوحدة

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٥٦.

٣٣٤

الذاتية ومقتضى الأخوة الإيمانية (وَاللهُ غَفُورٌ) يستر تلك الهيئات المظلمة الحاجبة بنور صفاته (رَحِيمٌ) يرحم أهل النقصان فيجبره بإفاضة كمالاته (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) لأن العدالة هي ظل المحبة والمحبة ظل الوحدة فما ظهرت العدالة في مظهر إلا وقد تعلقت محبة الله به أولا إذ لا ظلّ بغير الذات والله تعالى أعلم.

٣٣٥

سورة الصف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣] (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) من لوازم الإيمان الحقيقي الصدق وثبات العزيمة ، إذ خلوص الفطرة عن شوائب النشأة يقتضيهما ، وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) يحتمل الكذب وخلف الوعد ، فمن ادّعى الإيمان وجب عليه الاجتناب عنهما بحكم الإيمان وإلا فلا حقيقة لإيمانه ، ولهذا قال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) لأن الكذب ينافي المروءة التي هي من مبادئ الإيمان فضلا عن كماله إذ الإيمان الأصلي هو الرجوع إلى الفطرة الأولى والدين القيم وهي تستلزم أجناس الفضائل بجميع أنواعها التي أقل درجاتها العفة المقتضية للمروءة ، والكاذب لا مروءة له فلا إيمان له حقيقة. وإنما قلنا : لا مروءة له لأن النطق هو الإخبار المفيد للغير المعنى المدلول عليه باللفظ والإنسان خاصته التي تميزه عن غيره هي النطق فإذا لم يطابق الإخبار لم تحصل فائدة النطق ، فخرج صاحبه عن الإنسانية وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير المواقع فدخل في حدّ الشيطنة فاستحق المقت الكبير عند الله بإضاعة استعداده واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف لأنه قريب من الكذب ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة وأول درجاتها ، فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه فثبت المقت من الله.

[٤ ـ ٦] (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه ، فأصل الشرك ومحبة الأنداد محبة النفس فإذا سمح بالنفس كان غير محب لنفسه وإذا لم يحب نفسه

٣٣٦

فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا وإذا كان بذله للنفس في الله وفي سبيله لا للنفس كما قال : «ترك الدنيا للدنيا» ، كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء فكان من الذين قال فيهم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (١) ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم لقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٢).

وبالحقيقة لا تكون محبة الله إلا منه.

(فَلَمَّا زاغُوا) عن مقتضى علمهم لفرط الهوى وحب الدنيا (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن طريق الهدى وحجبهم عن نور الكمال لإقبالهم على الجهة السفلية وميلهم عن مقتضى الفطرة الأصلية (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن مقتضى الفطرة التي هي الدين القيم إلى نور الكمال لزوال الاستعداد وعدم القابل.

[٧ ـ ٩] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إذ وضع نوره في الظلمة وصرف بضاعة البقاء ، أي : الاستعداد الفطري في متاع الفناء مع وجود الداعي الخارجي الذي هو النبي إلى الإسلام الذي هو مقتضى ذلك النور الأصلي (وَاللهُ لا يَهْدِي) الموصوفين بهذه الصفة إلى النور الكمالي أي : نور ذاته وسبحات وجهه لما ذكر في الفاسقين.

[١٠ ـ ١١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان التقليدي لأن التجارة المنجية من العذاب الأليم التي دعاهم إليها إنما تكون للمحتجبين عن نور الله بصفات النفوس وهيئاتها (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تحقيقا ويقينا استدلاليا (وَ) بعد صحة الاستدلال وقوة اليقين (تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) لأن بذل المال والنفس في سبيل الله لا يكون إلا عن يقين (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) لأنهما ستصيران إلى الفناء فإذا بعتموهما بالباقيات من اللذات المستعلية عليهما كان خيرا لكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) علما يقينيا.

[١٢] (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢))

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة المائدة : الآية : ٥٤.

٣٣٧

(يَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوب سيئات أعمالكم وهيئات نفوسكم المظلمة (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ) من جنات النفوس لأنهم كانوا تاجرين باذلين الأنفس والأموال للأعواض ، عاملين بقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أنهار علوم التوكل وتوحيد الأفعال وعلوم الشرائع والأخلاق (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) كمقام التوكل وسائر منازل النفوس ومقاماتها (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) بالنسبة إلى من ليس له هذه المقامات في تلك الجنات لا العظيم المطلق.

[١٣] (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣))

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها) وتجارة أخرى أربح منها وأجلّ محبوبة إليكم هي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) بالتأييد الملكوتي والكشف النوري (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) بالوصول إلى مقام القلب ومطالعة تجليات الصفات وحصول مقام الرضا ، وإنما قال : تحبونها ، لأن المحبة الحقيقية لا تكون إلا بعد الوصول إلى مقام القلب وإنما سماها تجارة لاستبدالهم صفات الله تعالى مكان صفاتهم.

[١٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

الحواريون هم الذين خلصوا عن ظلمة النفوس وسواد الهيئات الطبيعية بالوصول إلى مقام القلب وتنوّروا بنور الفطرة الأصلية ، فابيضّت وجوههم الحقيقية بالتصفية (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : من معي متوجها إلى نصرة اللهبالسلوك في صفاته (قالَ الْحَوارِيُّونَ) الصافون (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) ننصره بإظهار كمالات صفاته في مظاهرنا فسلكوا في صفاته وأظهروا أنوارها حتى بلغوا الكمال القلبي والتكميل بالتأثير (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ) بهم وبتأثير صحبتهم لقبول استعداداتهم (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لاحتجابهم بصفاتهم (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) بالتأييد النوري (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) غالبين عليهم بالحجج النيرة والبراهين الواضحة ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

٣٣٨

سورة الجمعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) كل وضع لا تطلع العقول البشرية على سببه فهو من طور وراء العقل المشوب بالوهم لامتناع وقوع التخصيص من غير مخصص كوضع حروف التهجي وأيام الأسابيع ، بل وضع اللغات كلها ، فإن في كل بقعة من بقاع الأرض لغة لا شك أن أول التكلم بها أمر توقيفي اقتضاه استعداد خاص باجتماع أمور سفلية وعلوية لا يمكننا ضبطها ، ولو قلنا بالاصطلاح لكان لا يخلو أيضا من سبب يوجب الاصطلاح على ذلك الوضع المخصوص ، فأيام الأسبوع وضعت بإزاء الأيام الإلهية التي هي مدة الدنيا وقد اشتهر فيما بين الناس في جميع الأعصار أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة على عدد الكواكب السبعة ، فكل ألف سنة يوم من أيام الله لقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١). وتفيد مدة الدنيا بالسبعة هو أن جميع مدّة دور الخفاء المطلق ستة آلاف سنة ويبتدئ الظهور في السابع مع ظهور محمد عليه‌السلام كماقال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» ، وجمع بين

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٤٧.

٣٣٩

السبابة والوسطى. ويزداد إلى تمام سبعة آلاف سنة من لدن آدم عليه‌السلام أول الأنبياء إلى زمان المهدي عليه‌السلام ، وينقضي الخفاء بالظهور التام لقيام الساعة ووقوع القيامة الكبرى وعند ذلك يظهر فناء الخلق والبعث والنشور والحساب ويتميز أهل النار وأهل الجنة ويرى عرش الله بارزا كما حكى حارثة رضي الله عنه عن شهوده وهي في الآخرة. فالستة منها هي التي خلق فيها السموات والأرض لأن الخلق حجاب الحق ، فمعنى خلق اختفى بهما فأظهرهما وبطن ، واليوم السابع هو يوم الجمع وزمان الاستواء على العرش بالظهور في جميع الصفات ، وابتداء يوم القيامة الذي طلع فجره ببعثة نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى آله ، فالمحمديون أهل الجمعة ومحمد صاحبها وخاتم النبيين ، وإنما سمي يوم الجمع لأنه وقت الظهور في صورة الاسم الأعظم لجميع الصفات ووقت استوائه في الظهور بجميعها بحيث لا يختلف بالظهور والخفاء. ولهذا السر ندبت الصلاة يوم الجمعة وقت الاستواء وكرهت في سائر الأيام ، ويسمى هذا الظهور عين الجمع لاجتماع الكل فيه ولهذا المعنى سميت الجمعة جمعة. واتفق أهل الملل كلها من اليهود وغيرهم أن الله فرغ من خلق السموات والأرض في اليوم السابع ، إلا أن اليهود قالوا : إنه السبت ، وابتداء الخلق من الأحد. وعلى ما أوّلنا يكون هو يوم الجمعة. وكون الأحد ابتداء الخلق مؤوّل بأن أحدية الذات منشأ الكثرة وإن جعلنا الأحد أول الأيام ووقت ابتداء الخلق كان جميع دور النبوة دور الخفاء. وفي السادس ابتداء الظهور وازداد في الخواص حتى ينتهي إلى تمام الظهور وارتفاع الخفاء في آخره عند خروج المهدي ، ويعم الظهور في السابع الذي هو السبت. ولما كان هذا اليوم ـ أي يوم الجمعة ـ موضوعا بإزاء هذا المعنى ، ندب الناس فيه إلى الفراغ من الأشغال الدنيوية التي هي حجب كلها والحضور والاجتماع في الصلاة وأوجب السعي إلى ذكر الله فيه وترك البيع لكي تتظاهر النفوس بهيئة الاجتماع في صلاة الحضور المعدّ للوصول إلى حضرة الجمع عسى أن يتذكر أحدهم بالفراغ عن الأشغال الدنيوية التجرّد عن الحجب الخلقية ، وبالسعي إلى ذكر الله ، السلوك في طريقه ، والصلاة مع الاجتماع : الوصول إلى حضرة الجمع ، فيفلح.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سرّ ذلك وحقيقته (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا) الأمر بالانتشار (فِي الْأَرْضِ) وابتغاء الفضل بعد انقضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع إلى التفصيل بعد الفناء في الجمع بالصلاة الحقيقية ، فإن الوقوف مع الجمع حجاب الحق عن الخلق وبالذات عن الصفات. فالانتشار هو التقلّب في الصفات حال البقاء بعد الفناء بالوجود الحقاني والسير بالله في الخلق وابتغاء فضل الله هو طلب حظوظ تجليات الأسماء والصفات والرجوع إلى مقام أرض النفس وتوفية حظوظها بالحق (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : احضروا الوحدة الجمعية الذاتية في صورة الكثرة الصفاتية بحيث لم تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة فتضلوا

٣٤٠