تفسير ابن عربي - ج ٢

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]

تفسير ابن عربي - ج ٢

المؤلف:

محي الدين بن علي بن أحمد بن عبدالله الطائي الحاتمي [ ابن العربي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولهذا قال عليه‌السلام : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، وهم الأولياء العارفون ، المتمكنون. والرسول هو الذي يكون له مع ذلك كله وضع شريعة وتقنين ، فالنبيّ متوسط بين الوليّ والرسول.

[٥٢ ـ ٥٣] (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(إِذا تَمَنَّى) ظهرت نفسه بالتمني في مقام التلوين (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي) وعاء (أُمْنِيَّتِهِ) ما يناسبها لأن ظهور النفس يحدث ظلمة وسوادا في القلب يحتجب بها الشيطان ويتخذها محل وسوسته وقالب إلقائه بالتناسب (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) بإشراق نور الروح على القلب بالتأييد القدسيّ وإزالة ظلمة ظهور النفس وقمعها ليظهر فساد ما يلقيه ويتميز منه الإلقاء الملكي فيضمحل ويستقرّ الملكي (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بالتمكين (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم الإلقاءات الشيطانية وطريق نسخها من بين وحيه (حَكِيمٌ) يحكم آياته بحكمته ، ومن مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطاني فتنة للشاكين المنافقين المحجوبين القاسية قلوبهم عن قبول الحق وابتلاء لهم لازدياد شكّهم وحجابهم به ، فإنهم بمناسبة نفوسهم الظلمانية وقلوبهم المسودّة القاسية لا يقبلون إلا ما يلقي الشيطان ، كما قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (١). وإنهم لفي خلاف بعيد عن الحق فكيف يقبلونه.

[٥٤] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من أهل اليقين والمحققين : أن تمكّن الشيطان من الإلقاء هو الحكمة والحق من ربّك على قضية العدل والمناسبة (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) بأن يروا الكل من الله فتطمئن (لَهُ قُلُوبُهُمْ) بنور السكينة والاستقامة الموجبة لتمييز الإلقاء الشيطاني من الرحمة (وَإِنَّ اللهَ) لهاديهم إلى طريق الحق والاستقامة فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان ، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن لصفائها وشدّة نوريتها وضيائها.

[٥٥] (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيات : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٦١

(وَلا يَزالُ) المحجوبون (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى) تقوم عليهم القيامة الصغرى (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ) وقت هائل لا يعلم كنهه ولا يمكن وصفه من الشدّة أو وقت لا مثل له في الشدّة أو لا خير فيه.

[٥٦ ـ ٥٧] (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) إذ وقع العذاب وقامت القيامة (لِلَّهِ) لا يمنعهم منه أحد إذ لا قوة ولا قدرة ولا حكم لغيره يفصل (بَيْنَهُمْ) فالموقنون العاملون بالاستقامة والعدالة (فِي جَنَّاتِ) الصفات يتنعمون والمحجوبون عن الذات والمكذبون بالصفات بنسبتها إلى الغير في عذاب مهين من صفات النفوس والهيئات لاحتجابهم عن عزّة الله وكبريائه وصيرورتهم في ذلّ قهره.

[٥٨ ـ ٧٣] (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن مواطن النفوس ومقارها السفلية (فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا) بسيف

٦٢

الرياضة والشوق (أَوْ ماتُوا) بالإرادة والذوق (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) من علوم المكاشفات وفوائد التجليات (رِزْقاً حَسَناً) وليدخلنهم مقام الرضا (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بدرجات استعداداتهم واستحقاقاتهم وما يجب أن يفيض عليهم من كمالاتهم (حَلِيمٌ) لا يعاجلهم بالعقوبة في فرطاتهم في التلوينات وتفريطاتهم في المجاهدات فيمنعهم مما تقتضيه أحوالهم ليمكنهم قبولهم ذلك. من راعى طريق العدالة في المكافأة بالعقوبة ثم مال إلى الانظلام لا إلى الظلم ، لوجب في حكمة الله تأييده بالأمداد الملكوتية ونصرته بالأنوار الجبروتية ، فإن الاحتياط في باب العدالة هو الميل إلى الانظلام لا إلى الظلم. قال النبي عليه‌السلام : «كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم».

(إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ) يأمر بالعفو وترك المعاقبة (غَفُورٌ) يغفر لمن لا يقدر على العفو (ذلِكَ) الغفران عند ظهور النفس في المعاقبة أو التأييد والنصر عند رعاية العدالة فيها مع الانظلام في الكرّة الثانية بسبب (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ) ليل ظلمة النفس في نور نهار القلب بحركتها واستيلائها عليه ، فينبعث إلى المعاقبة (وَيُولِجُ) نور نهار القلب في ظلمة النفس فيعفو ، وكل بتقديره وتصريف قدرته (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لنيّاتهم (بَصِيرٌ) بأعمالهم ، يعاملهم على حسب أحوالهم.

[٧٤ ـ ٧٦] (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوه حق معرفته إذ نسبوا التأثير إلى غيره ، وأثبتوا وجودا لغيره ، إذ كل عارف به لا يعرف منه إلا ما وجد في نفسه من صفاته ولو عرفوه حق معرفته لكانوا فانين فيه ، شاهدين لذاته وصفاته ، عالمين أنّ ما عداه ممكن موجود بوجوده ، قادر بقدرته لا بنفسه ، فكيف له وجود وتأثير (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) يقهر ما عداه بقوّة قهره فيفنيه فلا وجود ولا قوّة له (عَزِيزٌ) يغلب كل شيء فلا قدرة له.

[٧٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الإيمان اليقيني (ارْكَعُوا) بفناء الصفات (وَاسْجُدُوا) بفناء الذات (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) في مقام الاستقامة بالوجود الموهوب ، فإنّ من بقي منه بقية لم يمكنه أن يعبد الله حقّ عبادته إذ العبادة إنما تكون بقدر المعرفة (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) بالتكميل والإرشاد (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالنجاة من وجود البقية والتلوين (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي : بالغوا

٦٣

في المعبودية حتى لا تكون بأنفسكم وأنائيتكم وهو المبالغة في التحذير عن وجود التلوين لأن من نبض منه عرق الأنانية لم يجاهد في الله حقّ جهاده ، إذ حق الجهاد فيه هو الفناء بالكلية بحيث لا عين له ولا أثر ، وذلك هو الاجتهاد في ذاته.

[٧٨] (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(هُوَ اجْتَباكُمْ) بالوجود الحقاني لا غيره ، فلا تلتفتوا إلى غيره بظهور أنائيتكم (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي) دينه (مِنْ حَرَجٍ) من كلفة ومشقة في العبادة فإنه ما دامت النفس باقية أو يجد العابد من القلب والروح بقية ولم يستقر بنور التوحيد ولم يستحكم مقام التفريد لم يكن في العبادة روح تام وذوق عام ، ولا يخلو من حرج وضيق وكلفة ومشقة ، وأما إذا تمكن في الاستقامة ، وتصفى في المحبة التامة وجد السعة والروح.

(مِلَّةَ) أي : أعني وأخصّ ملّة (أَبِيكُمْ) الحقيقي (إِبْراهِيمَ) التي هي التوحيد المحض. ومعنى أبوّته : كونه مقدّما في التوحيد ، مفيضا على كل موحد ، فكلهم من أولاده (هُوَ) أي : إبراهيم ، أو الله تعالى (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا ذواتهم إلى الله بالفناء فيه وجعلكم علماء في الإسلام أولا وآخرا وهو معنى قوله : (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) بالتوحيد ، رقيبا يحفظكم في مقامه بالتأييد حتى لا تظهر منكم بقية (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بتكميلهم ، مطلعين على مقاماتهم ومراتبهم ، تفيضون عليهم أنوار التوحيد إن قبلوا (فَأَقِيمُوا) صلاة الشهود الذاتي فإنكم على خطر لشرف مقامكم وعزّ مرامكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) بإفاضة الفيض على المستعدّين وتربية الطالبين المستبصرين فإنه شكر حالكم وعبادة مقامكم (وَاعْتَصِمُوا) في ذلك الإرشاد (بِاللهِ) بأن لا تروه من أنفسكم وتكونوا به متخلقين بأخلاقه (هُوَ مَوْلاكُمْ) في مقام الاستقامة بالحقيقة وناصركم في الإرشاد بدوام الإمداد (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) وهو الموفق.

٦٤

سورة المؤمنون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ١١] (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

(قَدْ أَفْلَحَ) دخل في الفوز الأعظم الموقنون (الَّذِينَ هُمْ) في صلاة حضور القلب (خاشِعُونَ) باستيلاء الخشية والهيبة عليهم لتجلي نور العظمة لهم (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) أي : الفضول (مُعْرِضُونَ) لاشتغالهم بالحق (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) بالتجرّد عن صفاتهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ) وأسباب لذّاتهم وشهواتهم (حافِظُونَ) بترك الحظوظ والاقتصار على الحقوق (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) بالميل إلى الحظوظ (فَأُولئِكَ هُمُ) المرتكبون العدوان على أنفسهم (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) من أسراره التي أودعهم الله إياها في سرّهم (وَعَهْدِهِمْ) الذي عاهدهم الله عليه في بدء الفطرة (راعُونَ) بالأداء إليه والإحياء به (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى) صلاة مشاهدة أرواحهم (يُحافِظُونَ أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات (هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ) فردوس جنة الروح في حظيرة القدس.

[١٢ ـ ٢٦] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

٦٥

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) غير هذا المتقلب في أطوار الخلقة بنفخ روحنا فيه وتصويره بصورتنا ، فهو في الحقيقة خلق وليس بخلق (لَمَيِّتُونَ) بالطبيعة.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الصغرى (تُبْعَثُونَ) في النشأة الثانية ، أو ميتون بالإرادة ، ويوم القيامة الوسطى تبعثون بالحقيقة ، أو ميتون بالفناء ويوم القيامة الكبرى تبعثون بالبقاء (فَوْقَكُمْ) أي : فوق صوركم وأجسامكم (سَبْعَ طَرائِقَ) عن الغيوب السبعة المذكورة (وَما كُنَّا) عن خلقها (غافِلِينَ) فإنّ الغيب لنا شهادة (وَأَنْزَلْنا) من سماء الروح ماء العلم اليقيني (فَأَسْكَنَّاهُ) فجعلناه سكينة في النفس (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) بالاحتجاب والاستتار (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) من نخيل الأحوال والمواهب وأعناب الأخلاق والمكاسب (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) من ثمرات لذات النفوس والقلوب والأرواح (وَمِنْها) تقوتون وبها تتقون (وَشَجَرَةً) التفكّر (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ) الدماغ أو طور القلب الحقيقي بقوّة العقل (تَنْبُتُ) ما تنبت من المطالب ملتبسا بدهن استعداد الاشتغال بنور نار العقل الفعّال (وَصِبْغٍ) لون نوريّ أو ذوق حاليّ للمستبصرين المتعلمين المستطعمين للمعاني (وَإِنَّ لَكُمْ فِي) أنعام القوى الحيوانية (لَعِبْرَةً) تعتبرون بها من الدنيا إلى الآخرة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من المدركات والعلوم النافعة (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) في السلوك (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) تتقوّتون بالأخلاق (وَعَلَيْها وَعَلَى) فلك الشريعة الحاملة إياكم في البحر الهيولاني (تُحْمَلُونَ) إلى عالمالقدس بقوّة التوفيق.

[٢٧] (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧))

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ) فلك الحكمة العملية والشريعة النبوية (بِأَعْيُنِنا) على محافظتنا إياك عن الزلل في العمل (وَوَحْيِنا) بالعلم والإلهام (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك القوى البدنية والنفوس المنغمسة المادية (وَفارَ) تنور البدن باستيلاء المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي : من كل شيء صنفين من الصور الكلية والجزئية أعني صورتين اثنتين إحداهما كلية نوعية والأخرى جزئية شخصية (وَأَهْلَكَ) من القوى الروحانية والنفوس المجرّدة الإنسانية ممن تشرّع بشريعتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بإهلاكه من زوجتك النفس الحيوانية والطبيعة الجسمانية (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) من القوى

٦٦

النفسانية والنفوس المنغمسة الهيولانية بالاستيلاء على القوى الروحانية والنفوس المجرّدة الإنسانية وغصب مناصبهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) في البحر الهيولاني.

[٢٨ ـ ٣٠] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) بالاستقامة في السير إلى الله ، فاتّصف بصفات الله التي هي الحمد القلبي على نعمة الإنجاء من ظلمة الجنود الشيطانية (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) هو مقام القلب الذي بارك الله فيه بالجمع بين العالمين وإدراك المعاني الكلية والجزئية وأمنه من طوفان بحر الهيولى وطغيان مائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دلائل ومشاهدات لأولي الألباب (وَإِنْ كُنَّا) ممتحنين إياهم ببليّات صفات النفوس والتجريد عنها بالرياضة ، أو ممتحنين العقلاء بالاعتبار بأحوالهم عند الكشف عن حالاتهم وحكاياتهم.

[٣١ ـ ٥٤] (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) في النشأة الثانية (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) القلب (وَأُمَّهُ) النفس المطمئنة (آيَةً) واحدة باتحادهما في التوجه والسير إلى الله وحدوث القلب

٦٧

منها عند الترقي (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) مكان مرتفع بترقي القلب إلى مقام الروح وترقي النفس إلى مقام القلب (ذاتِ) استقرار وثبات وتمكن يستقرّ فيها لخصبها (وَمَعِينٍ) وعلم يقين مكشوف ظاهر.

[٥٥ ـ ٦١] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي : ليس التمتيع باللذات الدنيوية والإمداد بالحظوظ الفانية هو مسارعتنا لهم في الخيرات كما حسبوا ، إنما المسارعة فيها هو التوفيق لهذه الخيرات الباقية وهي الإشفاق بالانفعال والقبول من شدّة الخشية عند تجلي العظمة والإيقان العيني بآيات تجلي الصفات الربانية والتوحيد الذاتي بالفناء في الحق ، والقيام بهداية الخلق وإعطاء كمالاتهم في مقام البقاء مع الخشية من ظهور البقية في الرجوع إلى عالم الربوبية من الذات الأحدية وهو السبق في الخيرات وإليها ولها.

[٦٢] (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : لا نكلف كل أحد بمقامات السابقين فإنها مقامات لا يبلغها إلا الأفراد كما قيل : جلّ جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد ، أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد ، بل كل مكلف بما يقتضيه استعداده بهويته من كماله اللائق به. وهو غاية وسعه.

(وَلَدَيْنا كِتابٌ) هو اللوح المحفوظ أو أمّ الكتاب (يَنْطِقُ) بمراتب استعداد كل نفس وحدود كمالاتها وغاياتها ، وما هو حق كل منها (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بمنعهم عنه وحرمانهم إذا جاهدوا فيه وسعوا في طلبه بالرياضة ، بل يعطي كل ما أمكنه الوصول إليه وما يشتاقه في السلوك إليه.

[٦٣ ـ ٧٠] (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

٦٨

(بَلْ) قلوب المحجوبين (فِي غَمْرَةٍ) غشاوات الهيولى وغفلة غامرة (مِنْ هذا) السبق وطلب الحق (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) على خلاف ذلك موجبة للبعد عن هذا الباب وتكاثف الحجاب ، أي : كما أن أعمال السابقين موجبة للترقي في التنوّر كشف الغطاء والوصول إلى الحق ، فأعمالهم موجبة للتسفل والتكدّر وغلظ الحجاب والطرد عن باب الحق لكونها في طلب الدنيا وشهواتها وهوى النفس ولذاتها. (هُمْ لَها عامِلُونَ) دائبون عليها مواظبون. وكلما سمعوا ذكر الآيات والكمالات ازدادوا عتوّا وانهماكا في الغيّ ، واستكبارا وتعمقا في الباطل ، وهو النكوص على الأعقاب إلى مهاوي جحيم الطبيعة. ولما أبطلوا استعداداتهم وأطفؤوا أنوارها بالرين والطبع على مقتضى قوى النفس والطبع واشتدّ احتجابهم بالغواشي الهيولانية والهيئات الظلمانية عن نور الهدى والعقل ، لم يمكنهم تدبّر القول ولم يفهموا حقائق التوحيد والعدل ، فنسبوه إلى الجنة ولم يعرفوه للتقابل بين النور والظلمة والتضادّ بين الباطل والحق وأنكروه وكرهوا الحق الذي جاء به.

[٧١ ـ ٧٢] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُ) الذي هو التوحيد والعدل ، أيّ الدعوة إلى الذات والصفات (أَهْواءَهُمْ) المتفرّقة في الباطل ، الناشئة من النفوس الظالمة ، المظلمة ، المحتجبة بالكثرة عن الوحدة لصار باطلا لانعدام العدل الذي قامت به السموات والأرض والتوحيد الذي قامت به الذوات المجرّدة ، إذ بالوحدة بقاء حقائق الأشياء ، وبظلها الذي هو العدل ونظام الكثرات قوام الأرض والسماء فلزم فساد الكل.

[٧٣ ـ ٩٥] (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى

٦٩

تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه هو طريق التوحيد المستلزم لحصول العدالة في النفس ووجود المحبة في القلب وشهود الوحدة في الروح. والذين يحتجبون عن عالم النور بالظلمات وعن العقل بالحس وعن القدس بالرجس إنما هم منهمكون في الظلم والبغضاء والعداوة والركون إلى الكثرة ، فلا جرم أنهم عن الصراط ناكبون منحرفون إلى ضدّه ، فهو في واد وهم في واد.

[٩٦ ـ ١١١] (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي : إذا قابلك أحد بسيئة فتثبت في مقام القلب وانظر أيّ الحسنات أحسن في مقابلتها لتنقمع بها نفس صاحبك وتنكسر فترجع عن السيئة وتندم ولا تدع نفسك تظهر وتقابله بمثلها فتزداد حدة نفسه وسورتها وتزيد في السيئة ، فإنك إن قابلته بحسن الحسنات ، ملكت نفسك ، وغلبت شيطانك ، وثبت قلبك ، واستقمت على ما أمرك الله به ، وحصلت على فضيلة الحلم ، وتمكنت على مقتضى العلم ، واستقررت في طاعة الرحمن ومعصية الشيطان ، وأضفت إلى حسنتك إصلاح نفس صاحبك وملكتها إن كان فيه أدنى مسكة وقوّمتها وشددتها ، وتلك حسنة أخرى لك ، فكنت حائزا للحسنيين وإن عكست كنت جامعا للسوأيين (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) أي : كل المسيئ إلى علم الله. واعلم أن الله عالم به ، فيجازيه عنك إن كان مستحقا للعقوبة وهو أقدر منك عليه أو يعفو عنه إن أمكن رجوعه وعلم

٧٠

صلاحه بالعفو عنه. واستعذ بالله من سورة الغضب وظهور النفس بنخس الشيطان وهمزه إياها ومن حضوره وقربه ، أي : توجه إلى ربّك مستعيذا به قائلا : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ) منخرطا في سلك التوجه إلى جنابه بالقلب واللسان والأركان لائذا ببابه من تحريضات اللعين ودواعيه وحضوره ، فيصير مقهورا مرجوما مطرودا.

والموصوف بالسيئة الواصف لك بها ، الذاكر لك بالسوء ، إن بقي على حاله حتى إذا احتضر وشاهد أمارات العذاب وعاين وحشة هيئات السيئات تمنى الرجوع وأظهر الندامة ونذر العمل الصالح في الإيمان الذي ترك ولم يحصل إلا على الحسرة والندامة والتلفظ بألفاظ التحسر والندم ، والدعوة دون المنفعة والفائدة والإجابة (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : أمام رجوعهم حائل من هيئات جرمانية ظلمانية مناسبة لهيئات سيئاتهم من الصور المعلقة ، مانعة من الرجوع إلى الحق وإلى الدنيا ، وهو البرزخ بين بحري النور والظلمة وعالم الأرواح المجرّدة والأجساد المركبة يتعذبون فيه بأشد أنواع العذاب ، وأفحش أصناف العقاب إلى وقت البعث في الصورة الكثيفة عند النفخ في الصور ووقوع القيامة وحشر الأجساد ، وحينئذ (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) لاحتجاب بعضهم عن بعض بالهياكل المناسبة لأخلاقهم وأعمالهم وهيئاتهم الراسخة في نفوسهم المكتوبة عليهم ، فلا يتعارفون (وَلا يَتَساءَلُونَ) لشدّة ما بهم من الأهوال وذهولهم عما كان بينهم من الأحوال ، وتنقطع العلائق والوصل التي كانت بينهم لتفرّقهم بأنواع العذاب وأسباب الحجاب ، وتتغير صورهم وجلودهم وتتبدّل أشكالهم ووجوههم على حسب اقتضاء معايبهم وصفات نفوسهم ، وهو معنى قوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) وذلك غلبة الشقوة وسوء العاقبة الموجبة للخسء والطرد والبعد واللعن كخسء الكلاب.

[١١٢ ـ ١١٨] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

(لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين : الاحتجاب في البرزخ المذكور ، فالصور المذكور أنساهم مدّة اللبث وإنما استقصروها لانقضائها وكل منقض فهو ليس بشيء ، ولهذا صدّقهم بقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ومعنى : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إنكم حسبتموها كثيرا فاغتررتم بها وفتنتم بلذاتها وشهواتها ، ولو علمتموها قليلا لتزودتم وتجرّدتم عن تعلقاتها.

(رَبِّ اغْفِرْ) هيئات المعلقات (وَارْحَمْ) بإفاضة الكمالات (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)

٧١

سورة النور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

[١ ـ ٣٤] (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ

٧٢

لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١) وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) إلى قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) إنما عظم أمر الإفك وغلظ في الوعيد عليه بما لم يغلظ في غيره من المعاصي ، وبالغ في العقاب عليه بما لم يبالغ به في باب الزنا وقتل النفس المحرّمة لأن عظم الرذيلة وكبر المعصية إنما يكون على حسب القوّة التي هي مصدرها. وتتفاوت حال الرذائل في حجب صاحبها عن الحضرة الإلهية والأنوار القدسيّة وتوريطه في المهالك الهيولانية والمهاوي الظلمانية على حسب تفاوت مباديها. فكلما كانت القوة التي هي مصدرها ومبدؤها أشرف ، كانت الرذيلة الصادرة منها أردأ وبالعكس ، لأن الرذيلة ما تقابل الفضيلة. فلما كانت الفضيلة أشرف كان ما يقابلها من الرذيلة أخسّ ، والإفك رذيلة القوّة الناطقة التي هي أشرف القوى الإنسانية ، والزنا رذيلة القوّة الشهوانية ، والقتل رذيلة القوة الغضبية فبحسب شرف الأولى على الباقيتين تزداد رداءة رذيلتها ، وذلك أن الإنسان إنما يكون بالأولى إنسانا وترقيه إلى العالم العلوي ، وتوجهه إلى الجناب الإلهي ، وتحصيله للمعارف والكمالات ، واكتسابه للخيرات والسعادات ، إنما يكون بها ، فإذا

٧٣

فسدت بغلبة الشيطنة عليها واحتجب عن النور باستيلاء الظلمة ، حصلت الشقاوة العظمى وحقّت العقوبة بالنار وهو الرين والحجاب الكلي لقوله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) (١) ولهذا وجب خلود العقاب ودوام العذاب بفساد الاعتقاد دون فساد الأعمال (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٢). وأما الباقيتان فرذيلة كل منهما إنما تعود بظهورها على النطقية الملكية ثم ربما محيت بانقهارها وتسخرها لها عند سكون هيجانها وفتور سلطانها باستيلاء غلبة النور وتسلّطها عليها بالطبع ، كحال النفس اللوّامة عند التوبة والندامة. وربما بقيت بالإصرار وترك الاستغفار ، وفي الحالين لا تبلغ رذيلتهما مقام السرّ ومحل الحضور ومناجاة الربّ ، ولا تتجاوز حدّ الصدر. ولا تصير الفطرة بها محجوبة الحقيقة منكوسة بخلاف تلك ، ألا ترى أن الشيطنة المغوية للآدمي أبعد عن الحضرة الإلهية من السبعية والبهيمية وأبعد بما لا يقدر قدره؟ فالإنسان برسوخ رذيلة النطقية يصير شيطانا ، وبرسوخ الرذيلتين الأخريين يصير حيوانا كالبهيمة أو السبع وكل حيوان أرجى صلاحا وأقرب فلاحا من الشيطان ولهذا قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)) (٣) ، ونهى ها هنا عن اتباع خطوات الشيطان ، فإنّ ارتكاب مثل هذه الفواحش لا يكون إلا بمتابعته ومطاوعته وصاحبه يكون من جنوده وأتباعه ، فيكون أخسّ منه وأذلّ ، محروما من فضل الله الذي هو نور هدايته ، محجوبا من رحمته التي هي إفاضة كمال وسعادة ، ملعونا في الدنيا والآخرة ، ممقوتا من الله والملائكة ، تشهد عليه جوارحه بتبدّل صورها وتشوّه منظرها ، خبيث الذات والنفس ، متورّطا في الرجس ، فإنّ مثل هذه الخبائث لا تصدر إلا من الخبيثين ، كما قال تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) وأما الطيبون المتنزهون عن الرذائل ، فإنما تصدر عنهم الطيبات والفضائل (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) بستر الأنوار الإلهية صفات نفوسهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) من المعاني والمعارف الواردة على قلوبهم.

[٣٥] (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

__________________

(١) سورة المطففين ، الآيات : ١٤ ـ ١٥.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٤٨.

(٣) سورة الشعراء ، الآيات : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٧٤

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) النور هو الذي يظهر بذاته وتظهر الأشياء به ، وهو مطلقا اسم من أسماء الله تعالى باعتبار شدّة ظهوره وظهور الأشياء به ، كما قيل :

خفيّ لإفراط الظهور تعرّضت

لإدراكه أبصار قوم أخافش

وحظ العيون الزرق من نور وجهه

كشدّة حظ للعيون العوامش

ولما وجد بوجوده ، وظهر بظهوره ، كان نور السموات والأرض ، أي : مظهر سموات الأرواح وأرض الأجساد وهو الوجود المطلق الذي وجد به ما وجد من الموجودات والإضاءة (مَثَلُ نُورِهِ) صفة وجوده وظهوره في العالمين بظهورها به كمثل (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) وهي إشارة إلى الجسد لظلمته في نفسه وتنوّره بنور الروح الذي أشير إليه بالمصباح وتشبكه بشباك الحواس وتلألؤ النور من خلالها كحال المشكاة مع المصباح. والزجاجة إشارة إلى القلب المتنوّر بالروح المنوّر لما عداه بالإشراق عليه ، تنور القنديل كله بالشعلة وتنويره لغيره. وشبّه الزجاجة بالكوكب الدريّ لبساطتها وفرط نوريتها وعلوّ مكانها وكثرة شعاعها كما هو الحال في القلب. والشجرة التي توقد منها هذه الزجاجة هي النفس القدسية المزكاة ، الصافية ، شبّهت بها لتشعب فروعها وتفنن قواها ، نابتة من أرض الجسد ومتعالية أغصانها في فضاء القلب إلى سماء الروح ، وصفت بالبركة لكثرة فوائدها ومنافعها من ثمرات الأخلاق والأعمال والمدركات وشدّة نمائها بالترقي في الكمالات وحصول سعادة الدارين ، وكمال العالمين بها ، وتوقف ظهور الأنوار والأسرار والمعارف والحقائق والمقامات والمكاسب والأحوال والمواهب عليها ، وخصّت بالزيتونة لكون مدركاتها جزئية مقارنة لنوء اللواحق المادية كالزيتون ، فإنهليس كله لبّا ، ولوفور قلّة استعدادها للاشتعال والاستضاءة بنور نار العقل الفعال ، الواصل إليها بواسطة الروح والقلب كوفور الدهنية القابلة لاشتعال الزيتون. ومعنى كونها لا شرقية ولا غربية إنها متوسطة بين غرب عالم الأجساد الذي هو موضع غروب النور الإلهي وتستره بالحجاب الظلماني ، وبين شرق عالم الأرواح الذي هو موضع طلوع النور وبروزه عن الحجاب النوراني لكونها ألطف وأنور من الجسد وأكثف من الروح.

(يَكادُ) زيت استعدادها من النور القدسي الفطري الكامن فيها ، يضيء بالخروج إلى الفعل والوصول إلى الكمال بنفسه ، فتشرق (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) العقل الفعال ، ولم يتصل به نور روح القدس لقوّة استعداده وفرط صفائه (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي : هذا المشرق بالإضاءة من الكمال الحاصل نور زائد على نور الاستعداد الثابت المشرق في الأصل كأنه نور متضاعف (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) الظاهر بذاته المظهر لغيره ، بالتوفيق والهداية (مَنْ يَشاءُ) من أهل العناية ليفوز بالسعادة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم الأمثال وتطبيقها ، ويكشف لأوليائه تحقيقها.

[٣٦ ـ ٣٨] (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ

٧٥

وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

(فِي بُيُوتٍ) أي : يهدي الله لنوره من يشاء في مقامات (أَذِنَ اللهُ) أن يرفع بناؤها وتعلى درجاتها (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) باللسان والمجاهدة والتخلّق بالأخلاق في مقام النفس والحضور والمراقبة ، والاتّصاف بالأوصاف في مقام القلب والمناجاة والمكالمة ، والتحقيق بالأسرار في مقام السرّ والمناغاة بالمشاهدة ، والتحيّر في الأنوار في مقام الروح والاستغراق والانطماس والفناء في مقام الذات.

(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) بالتزكية والتنزيه والتوحيد والتجريد والتفريد بغدوّ التجلي وآصال الاستتار (رِجالٌ) أي : رجال أفراد سابقون مجرّدون مفردون قائمون بالحق (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) باستبدال متاع العقبى بالدنيا في زهدهم ، ولا بيع أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة في جهادهم عن ذكر الذات (وَإِقامِ) صلاة الشهود في الفناء (وَإِيتاءِ) زكاة الإرشاد والتكميل حال البقاء (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) إلى الأسرار (وَالْأَبْصارُ) إلى البصائر ، بل تتقلب حقائقها بأن تفنى وتوجد بالحق ، كما قال : «كنت سمعه وبصره» من ظهور البقية وبقاء الإنية (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) بالوجود الحقانيّ (أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من جنات الأفعال والنفوس والأعمال (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) من جنات القلوب والصفات (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) من جنات الأرواح والمشاهدات (بِغَيْرِ حِسابٍ) لكونه أكثر من أن يحصى ويقاس.

[٣٩] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) حجبوا عن الدين (أَعْمالُهُمْ) التي يعملونها رجاء الثواب (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) لكونها صادرة عن هيئات خالية قائمة بساهرة نفس حيوانية (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي : يتوهمها صاحبها المؤمل لثوابها أمورا باقية لذيذة دائمة مطابقة لما توهمه (حَتَّى إِذا جاءَهُ) في القيامة الصغرى (لَمْ يَجِدْهُ) شيئا موجودا ، بل خاليا ، فاسدا ، وظنا كاذبا ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)) (١).

(وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي : وجد ملائكة الله من زبانية القوى والنفوس السماوية والأرضية عند ذلك التخيّل الموهوم يقودونه إلى نيران الحرمان وخزي الخسران ، ويوفونه ما يناسب

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٢٣.

٧٦

اعتقاده الفاسد وعمله الباطل من حميم الجهل وغساق الظلمة.

[٤٠ ـ ٤٢] (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

(أَوْ كَظُلُماتٍ) في بحر الهيولى اللجيّ العميق الغامر لجثة كل نفس جاهلة ، محجوبة بهيئات بدنية ، الغامس لكل ما يتعلق به من القوى النفسانية (يَغْشاهُ) موج الطبيعة الجسمانية (مِنْ فَوْقِهِ) موج النفس النباتية (مِنْ فَوْقِهِ) سحاب النفس الحيوانية وهيئاتها الظلمانية (ظُلُماتٌ) متراكمة (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ) المحجوب بها ، المنغمس ، المحبوس فيها (يَدَهُ) القوة العاقلة النظرية بالفكر (لَمْ يَكَدْ يَراها) لظلمتها وعمى بصيرة صاحبها وعدم اهتدائه إلى شيء ، وكيف يرى الأعمى الشيء الأسود في الليل البهيم؟.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) بإشراق أنوار الروح عليه من التأييد القدسيّ والمدد العقلي (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي) عالم سموات الأرواح بالتقديس وإظهار صفاته الجمالية ومن في عالم أراضي الأجساد بالتحميد والتعظيم وإظهار صفاته الجلالية ، وطير القوى القلبية والسرية بالأمرين (صَافَّاتٍ) مترتبات في مراتبها من فضاء السرّ ، مستقيمات بنور السكينة ، لا تتجاوز واحدة منها حدّها ، كما قال : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)) (١).

(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) طاعته المخصوصة به من انقهاره وتسخره تحت قهره ، وسلطنته علمية كانت أو عملية ، ومن محافظته لتربيته وحضوره لوجهه تعالى فيما أمره به (وَتَسْبِيحَهُ) إظهار خاصيته التي ينفرد بها ، الشاهدة على وحدانيته (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأفعالهم وطاعاتهم.

[٤٣ ـ ٤٤] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي) برياح النفخات والإرادات سحاب العقل فروعا منتزعة من الصور الجزئية ثم يؤلف فيه على ضروب المتألفات المنتجة (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) حججا وبراهين (فَتَرَى) ودق النتائج والعلوم اليقينية (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ) سماء الروح من

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٦٤.

٧٧

جبال أنوار السكينة واليقين الموجبة للوقار والطمأنينة والاستقرار (فِيها) أي : في تلك الجبال من برد الحقائق والمعارف الكشفية والمعاني الذوقية ، أو من جبال في السماء وهي معادن العلوم والكشوف وأنواعها ، فإنّ لكل علم وصنعة معدنا في الروح ثابتا فيه بحسب الفطرة ، يفيض منه ذلك العلم ، ولهذا يتأتى لبعضهم بعض العلوم بالسهولة دون بعض ، ويتأتى لبعضهم أكثرها ولا يتأتى لبعضهم شيء منها ، وكل ميسر لما خلق له ، أي : ينزل من سماء الروح من الجبال التي فيها برد المعارف والحقائق (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) من القوى الروحانية (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) من القوى النفسانية والنفوس المحجوبة.

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي : ضوء بوارق ذلك البرد ، وهو ما يقدّمه من الأنوار الملتمعة التي لا تلبث ولا تستقرّ بل تلمع وتخفى إلى أن تصير متمكنة تذهب بأبصار البصائر حيرة ودهشا ، وكلما زاد ازدادت تحيرا ، ولهذاقال عليه‌السلام : «ربّ زدني تحيّرا» أي : علما ونورا (يُقَلِّبُ اللهُ) ليل ظلمة النفس ونهار نور الروح بأن يغلب تارة نور الروح فينوّر القلب والنفس ويعقبه أخرى ظلمة النفس بالظهور فتتكدّر وتكدّر القلب في التلوينات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) يعتبر بها أولو الأبصار القلبية أو ذوو البصائر ، فيلتجؤون إلى الله في التلوينات وظلم النفس ، ويلوذون بجناب الحق ومعدن النور ، ويعبرون إلى مقام السر والروح ، فينكشف عنهم الحجاب.

[٤٥ ـ ٥١] (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١))

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) من أصناف دواب الدواعي التي تدبّ في أراضي النفوس وتبعثها إلى الأفعال (مِنْ ماءٍ) مخصوص ، أي : علم مناسب لتلك الداعية المتولدة منه. فإن منشأ كل داعية إدراك مخصوص.

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) ويزحف في الطبيعة ، ويحدث الأعمال البدنية الطبيعية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) من الدواعي الإنسانية فيحدث الأعمال الإنسانية والكمالات العملية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) من الدواعي الحيوانية فيبعث على الأعمال السبعية والبهيمية (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من هذه الدواعي من منشأ قدرته الباهرة ، الكاملة في إنشاء

٧٨

الأعمال ويهدي من يشاء بالآيات السابقة المذكورة من الحكم والمعاني والمعارف والحقائق من منشأ حكمته البالغة التامة في إظهار العلوم والأحوال إلى صراط التوحيد الموصوف بالاستقامة إليه (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) أي : يدّعون التوحيد جمعا وتفصيلا والعمل بمقتضاه (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) بترك العمل بمقتضى الجمع والتفصيل ، بارتكاب الإباحة والتزندق (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) الإيمان الذي عرفته وادّعوه من العلم بالله جمعا وتفصيلا.

[٥٢ ـ ٥٤] (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ) باطنا بشهود الجمع (وَرَسُولَهُ) ظاهرا بحكم التفصيل (وَيَخْشَ اللهَ) بالقلب بمراقبة تجليات الصفات (وَيَتَّقْهِ) بالروح عن ظهور أنائيته في شهود الذات (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) بالفوز العظيم.

[٥٥ ـ ٦٤] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ

٧٩

وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) باليقين (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) باكتساب الفضائل (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) وأقسم ليجعلنهم خلفاء في أرض النفس إذ جاهدوا في الله حق جهاده (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ) سبقوهم إلى مقام الفناء في التوحيد من أوليائه (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ) بالبقاء بعد الفناء (دِينَهُمُ) طريق الاستقامة فيه المرضية (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) في مقام النفس (أَمْناً) بالوصول والاستقامة (يَعْبُدُونَنِي) أي : يوحدونني من غير التفات إلى غيري وإثباته (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) بالطغيان بظهور الأنانية ، وخرج عن الاستقامة والتمكين بالتلوين (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن دين التوحيد.

٨٠