تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وروي عن ابن عباس أنّه وصف وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسح على رجليه (١).

وقد روي عنه أنّه قال : إنّ كتاب الله جل ثناؤه أتى بالمسح ، ويأبى الناس إلّا الغسل (٢).

وروي عنه أيضا أنّه قال : غسلتان ومسحتان (٣).

وروي عن أمير المؤمنين «صلوات الله عليه» أنّه قال : ما نزل القرآن إلّا بالمسح (٤).

والأخبار الواردة من طرقهم في هذا المعنى كثيرة وهي معارضة لأخبار الغسل ، ومسقطة لحكمها ، وقد بيّنا في مسائل الخلاف الكلام على هذه الأخبار بيانا شافيا.

وقلنا : إنّ قوله : «ويل للأعقاب من النار» مجمل لا يدلّ على وجوب غسل الأعقاب في الطهارة الصغرى دون الكبرى ، ويحتمل أنّه وعيد على ترك غسل الأعقاب في الجنابة.

وقد روى قوم أنّ أجلاف العرب كانوا يبولون وهم قيام فيترشش البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة ، فكان ذلك سببا لهذا الوعيد.

وقلنا أيضا : إنّ الأمر باسباغ الوضوء وإحسانه لا يدلّ على وجوب غسل ولا مسح في الرجلين ، وإنّما يدلّ على الفعل الواجب من غير تقصير عنه ولا إخلال به ، وقد علمنا أنّ هذا القول منه «صلوات الله عليه» غير مقتض وجوب غسل الرأس بدلا من مسحه ، بل يقتضي فعل الواجب من مسحه من غير تقصير ، فكذلك الرجلان.

وقلنا : إنّ الأمر بتخليل الأصابع لا بيان فيه على أنّه تخليل لأصابع الرجلين

__________________

(١) الوسائل ، ٣ : ٤٥٢ باب ٢٥ من أبواب الوضوء ح ٦.

(٢) نفس المصدر ، ح ٧.

(٣) نفس المصدر ، ح ٩.

(٤) نفس المصدر ، ح ٨.

١٢١

أو اليدين ، ونحن نوجب تخليل أصابع اليدين ، والقول محتمل لذلك فلا دلالة فيه على موضع الخلاف.

وممّا لم نذكر هناك أنّه لا بدّ لجميع مخالفينا من ترك ظاهر ما يروونه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به» ؛ لأنّ من أداه اجتهاده ممّن يقول بالتخيير بين المسح والغسل ممن حكينا قوله : لا بدّ من أن يكون مقبول الصلاة عندهم إذا أدّاه اجتهاده إلى المسح ومسح فلا بدّ من أن يكون في الخبر شرط وهو الاجتهاد ، فكأنّه أراد لا يقبل الله الصلاة ممن أدّاه اجتهاده إلى وجوب الغسل دون غيره إلّا به ، وهذا ترك منهم للظاهر.

وكذلك لا بدّ من أن يشترطوا إذا وجد الماء وتمكن من استعماله ولم يخف على نفس ولا عضو ؛ لأنّه متى لم يكن كذلك قبل الله جلّ ثناؤه صلاته وإن لم يفعل مثل ذلك الوضوء ، وإذا تركوا الظاهر جاز لخصومهم أن يتركوه أيضا ، على أنّه لا فرق بين أن يعذروا من أدّاه اجتهاده إلى المسح على جهة التخيير ، من الحسن البصري وابن جرير الطبري والجبائي ولم ينزلوهم منزلة من لا تقبل الله صلاته ، وبين أن يعذروا الشيعة في إيجاب المسح دون غيره إذا أدّاهم اجتهادهم إلى ذلك أيضا ، فليس إجتهادهم في هذا الموضع بأضعف من اجتهاد أصحاب التخيير.

فإن قيل : إذا قبلتم الخبر وتأولتموه فلا بدّ من أن تخرجوا له وجها يسلم على أصولكم التي هي الصحيحة عندكم وأنتم لا ترون الاجتهاد فتشرطوه في هذا الخبر.

قلنا : إنّما قلنا ذلك دفعا لكم عن ظاهر الخبر وإخراجه من أن يكون حجة لكم ، ويمكن إذا تبرعنا بقبوله أن يكون له تأويل صحيح على أصولنا وهو أنّ الفائدة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقبل الله الصلاة إلّا به» وجوب هذا الوضوء ويجري مجرى قولنا لا يقبل الله صلاة إلّا بطهور والفائدة إيجاب الطهور ، وقد يجب في بعض المواضع الوضوء على هذه الصفة عندنا بحيث يخاف من مسح رجليه على

١٢٢

نفسه ولا يجد بدّا من غسلهما للتقيّة ، ولا فرق بين أن لا يتمكّن من فعل الوضوء على الوجه المفروض وبين فقد الماء أو الخوف على النفس من استعماله إمّا من عدوّ أو برد شديد ، وإذا فرضنا أنّ من هذه حاله يخاف أيضا من أن يتيمّم ، كخوفه من مسح قدميه ، جازت له الصلاة بغسل رجليه من غير مسح لهما ، وجرى مجرى من حبس في موضع لا يقدر فيه على ماء يتوضّأ به ولا تراب يتيمّم به (١).

[الثاني :] وقفت على كلام لأبي الحسن علي بن عيسى الربعي ينصر به أنّ القرآن دالّ على وجوب غسل الرجلين في الطهارة ، فلمّا تأمّلته وجدته كلام مخرم غير محقّق لما يقوله ، وكأنّه غريب من هذا الشأن بعيد منه أجنبي ، ومن لا يطيق على أمر فأستر عليه ترك الخوض فيه.

ولمّا لم يتمكّن من حمله القراءة بنصب الأرجل على الأيدي المغسولة ، عدل إلى شيء وجدت شيخه أبا علي الفارسي عوّل عليه ، لمّا أعياه نصرة إيجاب الغسل من الآية على صناعة الاعراب ؛ وهو وجه روي عن أبي يزيد الأنصاري أشدّ تهافتا وتقاربا من كلّ شيء اعتمد عليه في هذه الأية.

ونحن نبيّن ما في هذا الكلام الذي وقفنا عليه من الخلل والزلل بأوجز كلام ، وإن كان من اطّلع على كلامنا فيما كنّا أمليناه من مسائل الخلاف هو ما في هذه المسألة ، وما أوردناه أيضا قريبا من الكلام في ذلك.

وأيّ بحر (٢) هذا الكلام الذي وجدناه لهذا الرجل ولغيره في هذه المسألة كالقطرة بالاضافة إليه ، وأمكن من ضبط ذلك أن ينقض منه كلّ كلام سطر في هذه الأية أوله سطر ، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

قال صاحب الكلام : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) المعوّل في ذلك أنّ من نصب قوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) حمله على الغسل

__________________

(١) الانتصار : ٢٠ وراجع أيضا الناصريات : ١٢٠.

(٢) كذا في النسخة.

١٢٣

وعطفه على الأيدي ، لما كان المعنى عنده على الغسل دون المسح ، فحمل على النصب الذي يقتضيه قوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ليكون على لفظ ما في حكمه في الوجوب من الأيدي التي حملت على الغسل. ولم يجرّ كما جرّ من قرأ (وَأَرْجُلَكُمْ) لمخالفته في المعنى ، فلذلك خالف بينهما في اللفظ.

الجواب : يقال له : يجب أن نبني المذاهب على الأدلّة على الاحكام ، فيجب أن نعتبر وجه دلالته ، فنبني مذاهبنا عليها ويكون اعتقادنا موافقا.

فقولك «ان من نصب الأرجل حمله على الغسل وعطفه على الأيدي لما كان المعنى عنده على الغسل دون المسح» طريق ، ولو لم يكن عند من ذكرت الغسل دون المسح بغير دلالته ، والقرآن يوجب المسح دون الغسل.

وأوّل ما يجب إذا فرضنا ناظرا منّا فلا يحكم بهذه الآية وما يقتضيه من مسح أو غسل ، يجب أن لا يكون عنده غسل ولا مسح ، ولا يتضيّق إليه أحدهما ، بل ينظر فيما يقتضيه ظاهر الآية وإعرابها ، فيبني على مقتضاها الغسل إن وافقه ، أو المسح إن طابقه. وكلامك هذا يقتضي سبلا من الغسل وأنّه حكم الآية حتى يثبت عليه إعراب الأرجل بالنصب ، وهذا هو ضدّ الواجب.

وقد بيّنا في مسائل الخلاف أنّ القراءة بالجرّ أولى من القراءة بالنصب ؛ لأنّا إذا نصبنا الأرجل فلا بدّ من عامل في هذا النصب ، فامّا أن تكون معطوفة على الأيدي ، أو يقدّر لها عامل محذوفا ، أو تكون معطوفة على موضع الجارّ والمجرور في قوله : «برءوسكم» ولا يجوز أن تكون معطوفة على الأيدي ، لبعدها من عامل النصب في الأيدي ؛ ولأنّ إعمال العامل الأقرب أولى من أعمال الأبعد.

وذكرنا قوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (١) وقوله : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٢) وقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٣).

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٩٦.

(٢) سورة الحاقة ، الآية : ١٩.

(٣) سورة الجن ، الآية : ٧.

١٢٤

وذكرنا ما هو أوضح من هذا كلّه ، وهو أنّ القائل إذا قال : ضربت عبد الله ، وأكرمت خالدا وبشرا ، إنّ ردّ «بشرا» إلى حكم الجملة الماضية التي قد انقطع حكمها ووقع الخروج عنها لحن وخروج عن مقتضى اللغة ، وقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) جملة مستقلّة بنفسها ، وقد انقطع حكمها بالتجاوز لها إلى جملة أخرى ، وهو قوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).

ولا يجوز أن تنصب الأرجل بمحذوف مقدّر ؛ لأنّه لا فرق بين أن تقدّر محذوفا هو الغسل ، وبين أن تقدّر محذوفا هو المسح ، ولأنّ الحذف لا يصار إليه إلّا عند الضرورة. وإذا استقلّ الكلام بنفسه من غير تقدير محذوف ، لم يجز حمله على محذوف.

فأمّا حمل النصب على موضع الجارّ والمجرور ، فهو جائز وشائع ، إلّا أنّه موجب للمسح دون الغسل ؛ لأنّ الرؤوس ممسوحة ، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها ، إلّا أنّه لمّا كان اعمال أقرب العاملين أولى وأكثر في القرآن ولغة العرب ، وجب أن يكون جرّ الاية (١) حتّى تكون معطوفة على لفظة الرؤوس أولى من نصبها وعطفها على موضع الجارّ والمجرور ؛ لأنّه أبعد قليلا ، فلهذا ترجّحت القراءة بجرّ الأرجل على القراءة بنصبها.

وممّا يبيّن أنّ حمل حكم الأرجل على حكم الرؤوس في المسح أولى ، أنّ القراءة بالجر يقتضي المسح ولا يحتمل سواه ، فالواجب حمل القراءة بالنصب على ما يطابق معنى القراءة بالجرّ ؛ لأنّ القراءتين المختلفتين تجريان مجرى آيتين في وجوب المطابقة بينهما ، وهذا الوجه يرجّح القراءة بالجرّ للأرجل على القراءة بالنصب لها.

ثمّ قال صاحب الكلام : فإن قال قائل : إنّه إذا نصب فقال : «أرجلكم» جاز أيضا أن يكون محمولا على المسح ، كما قال : «مررت بزيد وعمرا» فحملوا عمرا على موضع الجارّ والمجرور ، حيث كانا في موضع نصب ، فلم لا

__________________

(١) في الهامش : الارجل.

١٢٥

يقولون : إنّ الجرّ أحسن وإنّ المسح أولى من الغسل ، لتجويز القراءتين جميعا بالمسح ، ولأنّ من نصب فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ) يجوز في قوله أن يريد المسح فيها نصب للحمل على الموضع. والذي يجرّ (أَرْجُلَكُمْ) لا يكون إلّا على المسح دون الغسل ، وكيف لم يقولوا : إنّ المسح أو (١) الغسل ، لجوازه في القراءتين جميعا ، وانفراد الجرّ في قوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) بالمسح من غير أن يحتمل غيره.

والقول (٢) في ذلك : أنّ حمل نصب «أرجلكم» على موضع الجارّ والمجرور في الآية لا يستقيم ، لمخالفته ما عليه بغير النبي (٣) بل في هذا النحو ؛ وذلك أنّا وجدنا في التنزيل العاملين إذا اجتمعا حمل الكلام على العامل الثاني الأقرب إلى المعمول فيه دون الأبعد ، وذلك في نحو قوله : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٤) ، حمل على العامل الثاني الأقرب الذي هو (أُفْرِغْ) دون الأوّل الذي هو (آتُونِي) ولو حمل على الأوّل لكان آتوني أفرغه عليه قطرا ، أي آتوني قطرا أفرغ عليه ؛ وكذلك : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (٥) أعمل (يُفْتِيكُمْ) دون (يَسْتَفْتُونَكَ) ولو أعمل الأوّل لكان يستفتونك قل الله يفتيكم فيها.

وكذلك قوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٦) أعمل الأقرب من العاملين ، وهو «اقرءوا» ولو عمل الأوّل لكان هاؤم اقرؤه كتابيه.

فاذن كان حكم العاملين إذا اجتمعا على هذا الذي ذكرت من اعمال الثاني أقرب منهما إلى المعمول ، لم يستقم أن يترك حمل «الارجل» على البناء التي هي أقرب إليه ، ويحمل على الفعل لمخالفته ذلك ما ذكرت من الأي ، وانّ الأكثر في كلامهم : «خشنت بصدره وصدر زيد» بجرّ صدر المعطوف على البناء من حيث كان أقرب إليه ، وهذا مذهب سيبويه.

ثم قال : فإن قال قائل : إذا نصب «الارجل» فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ) فقد حمل

__________________

(١) لعله : أولى من.

(٢) ظ : فالقول.

(٣) كذا في المطبوعة ولعلّه : بغير دليل.

(٤) سورة الكهف ، الآية : ٩٦.

(٥) سورة النساء ، الآية : ١٧٦.

(٦) سورة الحاقة ، الآية : ١٩.

١٢٦

ذلك على أبعد العاملين ، فكيف لا يجوز لمن نصب أن يتأوّل ما ذكرناه من حمله على موضع الجارّ والمجرور ، ويكون تأويله جائزا ، وإن لم يحمل على الباء التي هي أقرب إلى المعمول من قوله : «اغسلوا».

ثم قال : القول في ذلك أنّه رأى أن يحمله على الجرّ لا يستقيم في المعنى ، وانّما يحمل على أقرب العاملين إذا كان الحمل عليه لا يفسد معنى ، فإذا أدّى ذلك فساد المعنى عنده لم يحمله على الأقرب.

ألا ترى أنّ ما تلوناه من الآي إنّما حمل فيه على الثاني دون الأوّل ؛ لأنّ الحمل على كلّ واحد منهما في المعنى مثل الحمل على الأخر ، فلمّا كان كذلك أعمل الأقرب لقربه ، إذا كانوا قد احتملوا لايثارهم الحمل على الأقرب ما لا يصحّ في المعنى ، كقوله :

«كأن غزل العنكبوت المرمل»

ويروي نسج (١) والمرمل من صفة الغزل ، وحمله على العنكبوت من حيث كان أقرب إليه من الغزل ، فإذا صحّ المعنى مع الأقرب فلا يذهب على ذلك.

الجواب : يقال له : أمّا صدر هذا الفصل من كلامك ، فهو كلّه عليك ؛ لأنّك قد نطقت فيه بلسان من نصّ المسح في الأية ، واستشهدت في إعمال الثاني من العاملين دون الأوّل ، بما استشهدنا نحن به في نصرة هذه المسألة ، والردّ على من أوجب الغسل بها دون المسح ، فكأنّك على الحقيقة إنّما حقّقت من وجوب إعمال العامل الثاني دون الأوّل ، لما هو شاهد عليك لا لك.

ولما سألت نفسك عن السؤال الذي فطنت به ما حقّقته وبسطته لك ، عدلت إلى دعوى طريقة ... (٢) من أين لك بلوغها ؛ لأنّك قلت إنّما يعمل الثاني دون الأوّل بحيث يستقيم المعنى ولا يفسد.

فمن أين قلت : إنّ القول بمسح الأرجل يؤول إلى فساد وأنّه ممّا لا يستقيم

__________________

(١) البيت لعجاج ، ذكره في اللسان مادة «غزل» برواية «نسج».

(٢) كذا في المطبوعة.

١٢٧

أوما كان جائزا على جهة التقدير عند كلّ عاقل أن يعبّر الله سبحانه نصّا صريحا على أنّ حكم الأرجل المسح ، كما كان ذلك حكما للرؤوس ، وهل يدفع جواز ذلك إلّا مكابر لنفسه.

اللهمّ إلّا أن تدّعي أنّك علمت قبل نظرك في هذه الآية ، وما هو يوجبه في الأرجل من غسل أو مسح ، أنّ حكم الأرجل الغسل دون المسح ، فيثبت الآية على علمك.

هذا فقد كان يجب أن تبيّن من أين علمت ذلك حتى يثبت عليه حكم الآية ومتى ساغ لك أن تقول : إنّما يعمل العامل الأقرب بحيث يستقيم ولا يفسد؟ وكلّ هذا إخلال منك بما يلزمك.

فأمّا البيت الذي انشدته ، فليس من الباب الذي نحن فيه من ترجيح إعمال الثاني من العاملين دون الأوّل ، وانّما يتعلّق به من نصّ الإعراب بالمجاورة ، كما استشهدوا بقوله : «حجر ضب خرب» وبقوله :

«كبير أناس في بجاد مزمل» (١)

وقد بينا في مسائل الخلاف بطلان الإعراب بالمجاورة بكلام كالشمس وضوحا ، وتكلّمنا على كلّ شيء تعلّق به أصحاب المجاورة.

على أنّه قد خطر لي في قول الشاعر :

«كان غزل العنكبوت المرمل»

شيء ، وما رأيته لأحد ولا وقع لي متقدّما ، وهو أن يكون المرمل صفة العنكبوت لا للغزل ، ويكون من الرمل ؛ لأنّ العنكبوت ربّما ينسج بيته في رمل ؛ وانّما حملت العلماء على أنّه صفة للغزل من حيث ذهبوا في هذه اللفظة إلى أنّها من أرملت الثوب أو الحصى ، ورملته أيضا إذا نسجته ، والنسج لا يليق بالعنكبوت نفسه ، وإنّما يليق بغزله. وهذا التخريج يبطل أيضا تعلّق أصحاب المجاورة بهذا البيت.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

١٢٨

ثمّ قال صاحب الكلام : والأوجه في الأية ـ والله أعلم ـ أن يحمل على الباء ، ويقرأ «وأرجلكم» ولا يحمل على «أغسلوا» ويكون المراد بالمسح الغسل لأمرين :

أحدهما : أنّه حكي عن أبي زيد أنّه قال : المسح أخفّ الغسل ، ومن ذلك تمسحت للصلاة ، فإذا كان كذلك فجاز الذي أوجبه قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) في من جرّ الغسل دون المسح.

ويؤكّد ذلك أنّ الثوري يروي عن أبي عبيدة في تأويل قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (١) أنّ المعنى يضرب ، يقال : مسح علاوته أي ضربها بالاعتماد الذي يقع باليد أو غيرها من آلة الضرب بالمضروب ، مثل الاعتماد الذي يقع على المغسول في حال الغسل باليد إذا كان الغسل بها ، وذلك فرق المسح الذي ليس بغسل.

ويؤكّد ذلك أيضا أنّه موقّت بغاية ، كما وقّت غسل اليد بها في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ).

والأخر : أن يكون قوله أي (امْسَحُوا) الذي يراد به المسح الذي دون الغسل كمسح الرأس ، والمراد به الغسل ، فأجرى الجرّ على الأرجل في اللفظ والمراد به الغسل ، وحمل ذلك لمقاربة المسح للغسل في المعنى ، ليكون الحمل على أقرب العاملين ، كالأي التي ذكرناها.

أمّا إذا كان أهل اللغة قد آثروا ذلك فيما لا يصحّ معناه إيثارا منهم للحمل على الأقرب ، فلمّا استعملوا ذلك فيما لا يصحّ في المعنى ، نحو

«كأن غزل العنكبوت المرمل»

حتى فيما يتقارب فيه المعنيان ؛ لأنّ المعاني إذا تقاربت وقع ألفاظ بعضها على بعض ، نحو قولهم : «أنبأت زيدا عمرا خير الناس» وأنبأت أفعلت من النبأ ،

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٣٣.

١٢٩

والنبأ : الخبر ، فلمّا كان الإنباء ضربا من الإعلام أجروا أنبأت مجرى أعلمت فعدّوه إلى ثلاثة مفاعيل ، كما عدّوا أعلمت إليها وكما جرى قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) (١) مجرى علموا في قوله :

«ولقد علمت لتأتين منيتي»

وذلك أنّ بدا لهم : ظهر لهم رأي لم يكونوا رأوه ، فهو بمنزلة علموا ما لم يعلموا.

وقد زعم أبو الحسن أنّهم قالوا : ما سمعت رائحة أطيب من هذه ، ولا رأيت رائحة أطيب من هذه ، وما رأيت كلاما أصوب من هذا ، فوضع بعض العبارة عن أفعال هذه الحواسّ مكان بعض ، لاجتماعهنّ في العلم بها ، وكذلك وضع المسح مكان الغسل ، لاجتماعه في وقوع التطهير بهما في الأعضاء ؛ والمراد بالمسح الغسل كما كان المراد بما سمعت رائحة ما شمّمت ولا رأيت كلاما ما سمعت ، فوقع كلّ واحد منهما في الاتّساع موضع الأخر ، لاجتماعهما في العلم على الوجه الذي علم به ذلك.

الجواب : يقال له : قد صرّحت في كلامك أنّ القراءة في الأرجل بالجرّ أولى وأرجح من القراءة بالنصب على موجبة العربية. وهذا صحيح مبطل لما يظنّه من لا يعرف العربية من الفقهاء ، إلّا أنّك لمّا أعيتك الحيل في نصرة غسل الأرجل من طريق الاعراب ، عدلت إلى شيء حكي عن أبي زيد الأنصاري من أنّ المسح غسل ، وهذا الذي عدلت إليه من أوضح الفساد من وجوه :

منها : أنّ معنى الغسل وحقيقته يخالف في اللغة وحقيقتها معنى المسح ؛ لأنّ الغسل هو إجراء الماء على العضو المغسول والمسح هو مس العضو بالماء من غير أن يجريه عليه ، فكأنّه قيل للماسح : ند العضو بالماء ولا تسله عليه. وقيل للغاسل : لا تقتصر على هذا القدر بل أسله على العضو وأجره.

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٣٥.

١٣٠

فالمعنيان متضادّان كما تراه ، وكيف يقال : إنّ أحدهما هو الاخر؟ بل ولا يصحّ ما يقوله الفقهاء من أنّ أحدهما داخل في الآخر ؛ لأنّا قد بيّنا تنافي المعنيين ، وما يتنافى لا يتداخل.

ولو جاز أن يسمّى على الحقيقة الماسح غاسلا ويدّعي دخول المسح في الغسل ، لوجب أن يسمّى من دفق إيجاد الكثير على بدنه وصبّه عليه انّه رشّ الماء على بدنه وتقطر الماء عليه ؛ لأنّ الدفق والصبّ يزيد على معنى الرشّ والتقطير ، ويوجب أن يكون من على رأسه عمامة طويلة ، يصحّ أن يقال : على رأسه تكة أو خرقة ؛ لأنّ العمامة تشتمل على هذه المعاني ، وقد علمنا أنّ أحدا لا يطيق ذلك ولا يجيزه.

ومنها : أن لو سلمنا اشتراك ذلك في اللغة ـ وإن كان غير صحيح على ما بيناه ـ لكان الشرع وعرف أهله يمنع من ذلك ؛ لأنّ أهل الشرع كلّهم قد فرّقوا بين المسح والغسل وخالفوا بينهما ، ولهذا جعلوا بعض أعضاء الطهارة ممسوحا وبعضها مغسولا ، وفرّقوا بين قول القائل : فلان يرى أنّ الفرض في الرجلين المسح وبين قولهم : يرى الغسل.

ومنها : أنّ الرؤوس إذا كانت ممسوحة المسح الذي لا يدخل في معنى الغسل بلا خلاف بين الأمّة عطفت الأرجل عليها ، فواجب أن يكون حكمها مثل حكم الرؤوس وكيفيته ؛ لأنّ من فرّق بينهما مع العطف في كيفية المسح ، كمن فرّق بينهما في نفس المسح ، وحكم العطف يمنع من الأمرين.

ألا ترى أنّ القائل إذا قال : قوم زيدا وعمرا ، وأراد بلفظ القوم التأديب والتثقيف ، لم يجز أن يريد بالمعطوف عليه إلّا هذا المعنى ، ولا يجوز أن يحمل قوم في عمرو على الصفة دون التثقيف ، وهو معطوف على ما قاله غير هذا الحكم ... (١)

ومنها : أنّ المسح لو كان غسلا أو الغسل مسحا ، لسقط أن لا يزال

__________________

(١) كذا في المطبوعة.

١٣١

مخالفونا يستدلّون ويفزعون إليه من روايتهم عنه عليه‌السلام أنّه توضّأ وغسل رجليه ، كأنّه كان لا ينكر أن يكون الغسل المذكور إنّما هو مسح ، فصار تأويلهم للآية على هذا يبطل أصل مذهبهم في غسل الرجلين.

فأمّا ما حكاه عن أبي زيد فهو خطأ بما بينّاه وأوضحناه والخطأ يجوز عليه.

فأمّا استشهاد أبي زيد بقولهم : «تمسّحت للصلاة» فقد روي عنه أنّه استشهد بذلك ، فالأمر بخلاف ما ظنّه فيه ؛ لأنّ أهل اللسان لمّا أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ مختصر ، ولم يجز أن يقولوا : «اغتسلت للصلاة» ؛ لأنّ في الطهارة ما ليس بغسل ، واستطالوا أن يقولوا : اغتسلت وتمسّحت ، قالوا بدلا من ذلك تمسّحت للصلاة ؛ لأنّ الغسل ابتداؤه المسح في الأكثر ، ثم يزيد عليه فيصير غسلا ، فرجّحوا لهذا المعنى تمسّحت على اغتسلت ؛ فانّه كان ذلك منهم تجوّزا وتوسّعا.

وأمّا الآية التي ذكرها ، فانّها لم يحسن أن يذكر كيفية الاستدلال بها على أنّ المسح قد يكون غسلا ، وجودته على وجه آخر لا طائل له فيه ، وأيّ فائدة له في أنّ ضرب العلاوة يسمّى مسحا أو [غيرها من آلة الضرب بالمضروب] في أنّ المسح غسل.

والذي عن أبي زيد من الإحتجاج بالأية على غير الوجه الذي ظنّه ؛ لأنّ أبا زيد يحكى عنه أنّه حمل قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (١) أنّه غسل أسوقها وأعناقها بالماء ، وقد أوردنا هذه الشبهة عن أبي زيد.

قلنا : إنّ أكثر المفسّرين قالوا : إنّ المراد غير غسل الاعناق والاسواق بل قال أكثرهم : إنّه أراد مسح يده على أعناقها وأسوقها ، كما يفعل الإنسان ذلك فيما يستحسنه من فرش وثوب وغير ذلك ، وقال قوم : إنّه أراد ضرب أعناقها وسوقها بالسيف ، وقال قوم : إنّه أراد غسل سوقها وأعناقها. وحمل الأية على ما هو حقيقة من غير توسّع ولا تجوّز أولى (٢).

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٣٣.

(٢) سيأتي تفصيل القول في ذلك ذيل الآية ٣٣.

١٣٢

وأمّا التعلّق في أنّ الأرجل مغسولة بالتحديد إلى الكعبين ، وإجراؤها مجرى الأيدي في الغسل لأجل التحديد ، فهو شيء يتعلّق به قديما الفقهاء ، وهو ضعيف جدّا ، وذلك أن عطف الأرجل في حكم المسح على الرؤوس ؛ لأنّه يجب أن يكون ضعيفا من حيث كانت الأرجل محدودة إلى غاية ، والرؤوس ليس كذلك ولا يجب أن يعطف على الأيدي لأنّها محدودة ، وذلك أنّ الأيدي بغير شكّ معطوفة على الوجوه ، لها مثل حكمها من الغسل ، وإلّا جاز أن يعطف محدود من الأرجل على غير محدود من الرؤوس.

والذي نقوله أشبه بتقابل الكلام وترتيبه ؛ لأنّ الأية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود ثمّ عطف عليه من الأيدي عضوا مغسولا محدودا ، فالمقابلة تقتضي إذا ذكر عضوا ممسوحا غير محدود أن يعطف عليه بعض ممسوح محدود بأن يعطف محدودا من أرجل على غير محدود من الرؤوس ، لتتقابل الجملتان الأولى والاخرى ، وهذا واضح جدّا.

فأمّا الكلام الذي طوّل بإيراده من تسمية الشيء بما يقارنه ، فهو ـ إذا صحّ وسلم من كل قدح ـ توسّع من القوم وتجوّز وتعدّ للحقيقة بغير شبهة.

وليس لنا أن نحمل ظاهر كتاب الله على المجاز والاتّساع من غير ضرورة ، وقد رضي القائلون بالمسح أن يكون حكم من أوجب بالأية غسل الرجلين ، حكم من قال : ما سمعت رائحة أطيب من كذا ، وحكم من قال : إنّها توجب المسح حكم [و] القائل : ما شممت رائحة أطيب من كذا ، فما يزيدون زيادة على ذلك.

على أنّ الذي حكاه عن الأخفش من قولهم : «ما سمعت رائحة أطيب من هذه» الأولى أن يكون المراد به ما سمعت خبر رائحة أطيب من كذا وحذف اختصارا. فهذا أحسن وأليق من أن يضع «سمعت» ، وقولهم : «ما رأيت أطيب من كذا» حمله على الرؤية التي هي العلم ؛ لأنّ [حمل] لفظ الرؤية على معنى مشترك أولى من حمله على «ما سمعت» ؛ لأنّ الحمل على ما ذكرناه يفسد حقائق هذه الالفاظ ، ويقتضي خلط بعضها ببعض.

١٣٣

وهذه جملة كافية فيما قصدنا ، والحمد لله رب العالمين (١).

[الثامن :] وممّا إنفردت به الإمامية القول بأنّ مسح الرجلين هو من أطراف الأصابع إلى الكعبين ، والكعبان هما العظمان الناتئان في ظهر القدم عند معقد الشراك ، ووافقهم محمد بن الحسن (٢) صاحب أبي حنيفة ، في أنّ الكعب ما ذكرناه وإن كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع.

والدليل على صحة هذا المذهب ـ مضافا إلى الإجماع الذي تقدّم ذكره ـ أنّ كلّ من أوجب من الأمة في الرجلين المسح دون غيره يوجب المسح على الصفة التي ذكرناها ، وأنّ الكعب هو الذي في ظهر القدم ، فالقول بخلاف ذلك خارج عن الاجماع.

وأيضا فإن دخول الباء في الرؤس يقتضي التبعيض ؛ لأنّ هذه الباء إذا دخلت ولم تكن لتعدية الفعل إلى المفعول فلا بدّ لها من فائدة وإلّا كان إدخالها عبثا ، والفعل متعد بنفسه فلا حاجة به إلى حرف يعدّيه ، فلا بدّ من وجه يخرج إدخاله من العبث وليس ذلك إلّا إيجاب التبعيض ، فإذا وجب تبعيض طهارة الرؤس ، فكذلك في الأرجل بحكم العطف ، وكلّ من أوجب تبعيض طهارة الرجلين ولم يوجب استيفاء جميع العضو ذهب إلى ما ذكرناه ؛ وقد بيّنا في مسائل الخلاف الكلام على هذه المسألة واستوفيناه ، وأجبنا من يسأل فيقول : كيف قال الله تعالى : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وعلى مذهبكم ليس في كلّ رجل إلّا كعب واحد؟

قلنا : إنّه تعالى أراد رجلي كلّ متطهّر وفي الرجلين كعبان على مذهبنا ، ولو بني الكلام على ظاهره لقال : وأرجلكم إلى الكعاب ، والعدول بلفظ أرجلكم الى أنّ المراد بها رجلا كلّ متطهّر أولى من حملها على كلّ رجل ، وتكلّمنا على تأويل أخبار (٣) تعلّقوا بها في أنّ الكعب هو الذي في جانب القدم بما يستغنى هاهنا عن ذكره (٤).

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ١٦١.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١ : ٢٤.

(٣) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٢ : ٢٣٧.

(٤) الانتصار : ٢٧ وراجع أيضا الناصريات : ١٢٠.

١٣٤

[التاسع : إن سأل سائل فقال :] الشيعة الإمامية تنكر المسح على الخفّين ، وخالف فقهاء العامّة في ذلك فأجازوا المسح عليهما ، أو فرّقوا بين رخصة المقيم فيه والمسافر ، إلّا ما روي عن مالك ؛ فانّه كان يبطل التوقيت في مسح الخفّين ، فلا يضرب له غاية.

وقد حكى بعض أصحابه عنه : أنّه كان يضعّف المسح على الخفين على الجملة.

الجواب :

والذي يدلّ على صحة مذهبنا في بطلان المسح على الخفين قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فأمر بغسل ومسح أعضاء مخصوصة بأسماء لها مخصوصة ؛ وقد علمنا أنّ الخفّ غير متطهر ولا فمثل (١) الحكم الأية تدلّ على مسح الرجل والخفّ لا يستحقّ هذه التسمية.

فإن قيل : قد تسمّى الخفّ رجلا في بعض المواضع ؛ لأنّهم يقولون : وطأته برجلي وإن كان فيه خفّ.

قلنا : هذا مجاز والمجاز لا يقاس عليه ، ولا يترك ظاهر الكتاب له ، والكلام محمول على حقيقته وظاهره ، إلّا إذا دلّ دليل على العدول عن الظاهر ، ولا نعرف هاهنا دليلا غير الظاهر يعدل إليه فيعد (٢).

فيجوز أن يريدوا بقولهم : «وطأته برجلي» أي اعتمدت بها اعتمادا أفضى ذلك إلى ذلك الجسم الذي قيل : إنّه موطوء ، والاعتماد بالرجل التي عليها خفّ إنما يبتدأ من الرجل في الحقيقة ، ثم ينتهي إلى الخفّ إلى ما جاوره وماسّه.

فإن قيل : فمن أين لكم وجه الأية إلى كلّ محدث ، وما ينكرون أن يكون خاصّة في غير لابس الخفّ خارجا عنه.

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) كذا في النسخة.

١٣٥

قلنا : قد أجمع المسلمون على أنّ آية الطهارة متوجّهة إلى كلّ محدث يجد الماء ، ولا يتعذّر عليه استعماله ، ولا فرق في ذلك بين لابس الخفّ وغيره ، على أنّ من جعلها خاصّة لا بدّ له من ترك الظاهر ؛ لأنّه تعالى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فعمّ بخطابه جميع المؤمنين ، ولابسوا الخفاف من المحدثين يتناولهم هذا الاسم.

ويدلّ على ذلك أيضا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توضّأ مرّة مرّة وطهّر رجليه ، اما (١) بالمسح على روايتهم ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به.

وقد علمنا أنّ المسح على الخفّين يخالف ذلك الوضوء الذي بيّنه النبيّ وقال : إنّه لا يقبل الصلاة إلّا به.

فكذلك ماسح الخفّ ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشار إلى وضوئه بالماء [و] له كيفية وقع في أعضاء مخصوصة [و] بين أنّ الصلاة لا تقبل إلّا بها. فالظاهر من كلامه أنّ كلّ ما يسمّى وضوءا متى لم يجعل على تلك الصفة والكيفية ، فالصلاة به غير مقبولة ، والتيمّم ليس بوضوء. ولا خلاف أنّ وضوء الماسح على خفّيه كوضوء غاسل رجليه أو ماسحهما في أنّ العموم يتناوله.

ويدلّ أيضا على إنكار المسح على الخفّين إجماع الإمامية ، وهي عندنا الفرقة المحقّة التي في جملتها الإمام المعصوم وقولها حجّة لا يجوز العدول عنه (٢).

[العاشر :] وممّا انفردت به الإمامية به القول بوجوب تولّي المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكّنا من ذلك فلا يجزيه سواه ، والفقهاء كلّهم يخالفون في ذلك (٣). والدليل على صحة هذا المذهب ـ مضافا إلى الإجماع ـ قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فأمرنا بأن نكون غاسلين وماسحين

__________________

(١) كذا والظاهر زيادة «اما».

(٢) الرسائل ، ٣ : ١٨٣ وراجع أيضا الناصريات : ١٢٩.

(٣) البحر الزخّار ، ٢ : ٧٦.

١٣٦

والظاهر يقتضي تولّي الفعل حتى يستحقّ التسمية ؛ لأنّ من وضأه غيره لا يسمّى غاسلا وماسحا على الحقيقة ، وأيضا فانّ الحدث متيقّن ولا يزول إلّا بيقين ، وإذا تولّى تطهير اعضائه زال الحدث بيقين ، وليس كذلك إذا تولّاه له غيره (١).

[الحادي عشر :] وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به القول بأنّ النوم حدث ناقض للطهارة على إختلاف حالات النائم ، وليس هذا ممّا انفردت به الإمامية ؛ لأنّه مذهب المزني (٢) صاحب الشافعي ، وقد استقصينا هذه المسألة في الكلام على مسائل الخلاف ودلّلنا على صحّتها بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) الآية ، وقد نقل أهل التفسير (٣) وأجمعوا على أن المراد إذا قمتم من النوم ، والآية خرجت على سبب يقتضي ما ذكرناه ، فكأنّه قال جلّ ثناؤه : وإذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، وهذا الظاهر يوجب الوضوء من كلّ نوم وإجماع الإمامية أيضا حجّة في هذه المسألة.

وقد عارضنا المخالف لنا فيها بما يروونه في كتبهم وأحاديثهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : العين وكاء السنة فمن نام فليتوضّأ (٤) ، واستوفينا ذلك بما لا طائل في ذكر جميعه هاهنا (٥).

[الثاني عشر :] وممّا انفردت به الإمامية القول بأنّ الدم الذي ليس بدم حيض تجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي وهو المضروب من درهم وثلث ، وما زاد على ذلك لا تجوز الصلاة فيه وفرّقوا بين الدم في هذا الحكم وبين سائر النجاسات من بول وعذرة ومني ، وحرّموا الصلاة في قليل ذلك وكثيره ، وكأنّ التفرقة بين الدم وبين سائر النجاسات في هذا الحكم هو الذي تفرّدوا به ...

وقد استوفينا الكلام في هذه المسألة في كتابنا المفرد لمسائل الخلاف واحتججنا على المخالفين لنا في هذه المسألة بضروب من الاحتجاجات

__________________

(١) الانتصار : ٢٩.

(٢) مختصر المزني : ٣.

(٣) الدرّ المنثور ، ٢ : ٢٦٢.

(٤) سنن ابن ماجة ، ١ : ١٦١.

(٥) الانتصار : ٢٩ وراجع أيضا الناصريات : ١٣٢.

١٣٧

منها قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فجعل تعالى ذكره تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة ، فلو تعلّقت الاباحة بغسل نجاسة لكان ذلك زيادة لا يدلّ عليها الظاهر ؛ لأنّه بخلافه ولا يلزم على هذا ما زاد على الدرهم وما عدا الدم من سائر النجاسات ؛ لأنّ الظاهر وإن لم يوجب ذلك فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر وليس ذلك في يسير الدم ...

ويمكن أن يكون الفرق بين دم الحيض وسائر الدماء ، أنّ حكم دم الحيض أغلظ ؛ لأنّه يوجب الغسل فلهذا خولف بينه وبين غيره ...

ويمكن أن يكون الفرق بين دم الحيض والنفاس إذا جمعنا بين دم الحيض والنفاس في هذه الصفة ، أنّ البلوى بسائر الدماء أعمّ من البلوى بدم الحيض والنفاس ؛ لأنّ سائر الدماء يخرج من جسم الصغير والكبير والذكر والأنثى ، والحيض والنفاس يختصّان ببعض من ذكرنا ؛ وأيضا فانّ دم النفاس والحيض يختصّان في الأكثر بأوقات معيّنة ويمكن التحرّز منها وباقي الدماء بخلاف ذلك ، وإنّما فرّقنا بين الدم والبول والمني وسائر النجاسات في إعتبار الدرهم ؛ للاجماع المتقدم ، ويمكن أن يكون الوجه فيه أنّ الدم لا يوجب خروجه من الجسد وضوءا على اختلاف مواضعه والبول والعذرة والمني يوجب خروج كلّ واحد منها الوضوء ، وفيها ما يوجب الغسل وهو المني فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم (١).

ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة : ٦].

[فيها أمور :]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله] «لا يجوز التيمّم إلّا بالصعيد الطيّب ، الذي يرتفع منه غبار وينبت فيه الحشيش ، ولا يكون سبخة».

__________________

(١) الانتصار : ١٣.

١٣٨

والذي يذهب إليه أصحابنا : أنّ التيمّم لا يكون إلّا بالتراب ، أو ما جرى مجرى التراب ممّا لم يتغيّر تغيّرا يسلبه إطلاق اسم الأرض عليه ، ويجوز التيمّم بغبار الثوب وما أشبهه إذا كان ذلك الغبار من التراب أو ما يجري مجراه.

وقال الشافعي : التيمّم بالتراب وما أشبهه من المدر والسبخ ، ولم يجز التيمّم بالنورة والزرنيخ والجص (١).

وقال أبو حنيفة : يجوز التيمّم بالتراب ، وكلّ ما كان من جنس الأرض ، وأجازه بالزرنيخ والكحل والنورة ، وأجاز التيمّم بغبار الثوب وما أشبهه (٢).

وقال أبو يوسف : لا يجوز التيمّم إلّا بالتراب أو الرمل خاصة (٣).

وأجاز مالك التيمّم بكلّ ما أجازه أبو حنيفة ، وزاد عليه بأن أجازه من الشجر وما جرى مجراه (٤).

دليلنا على صحّة مذهبنا : الإجماع المقدّم ذكره ، ونزيد عليه قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) والصعيد هو التراب.

وحكى ابن دريد في كتاب (الجمهرة) عن أبي عبيدة معمّر بن المثنّى : أنّ الصعيد هو التراب الخالص الذي لا يخالطه سبخ (٥).

وقول أبي عبيدة حجّة في اللغة.

والصعيد لا يخلو أن يراد به التراب أو نفس الأرض ، وقد حكي أنّه يطلق عليها ويراد ما تصاعد على الأرض.

فإن كان الأوّل فقد تمّ ما أردناه ، وإن كان الثاني لم يدخل فيه ما يذهب إليه أبو حنيفة ، لأنّ الكحل والزرنيخ لا يسمّى أرضا بالإطلاق ، كما لا يسمّى سائر المعادن من الذهب والفضّة والحديد بأنّه أرض.

__________________

(١) الام ، ١ : ٦٦ ، ٦٧.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٤ : ٢٩.

(٣) نفس المصدر.

(٤) المغني (لابن قدامة) ١ : ٢٤٨.

(٥) جمهرة اللغة ، ٢ : ٦٥٤.

١٣٩

وإن كان الصعيد ما يصّاعد على الأرض ، لم يخل من أن يكون ما تصاعد عليها ما هو منها وتسمّى باسمها ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأوّل فقد دخل فيما ذكرناه ، وإن كان الثاني فهو باطل ؛ لأنّه لو تصاعد على الأرض شيء من التمر والمعادن ، أو ممّا هو خارج عن جوهر الأرض ، فإنّه لا يسمّى صعيدا بالإجماع.

وأيضا ما روي عنه عليه‌السلام من قوله : «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا».

وأيضا فقد علمنا أنّه إذا تيمّم بما ذكرناه استباح الصلاة بالإجماع ، وإذا تيمّم بما ذكره المخالف لم يستبحها بإجماع وعلم ، فيجب أن يكون الاحتياط والاستظهار فيما ذكرناه.

ولك أيضا أن تقول : أنّه على يقين من الحدث ، فلا يجوز أن يستبيح الصلاة إلّا بيقين ، ولا يقين إلّا بما ذكرناه دون ما ذكره المخالف (١).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «لا يجوز التيمّم بتراب نجس ، ولا مستعمل».

أمّا التراب النجس فلا خلاف في أن التيمّم به لا يجوز ، كما لا يجوز الوضوء بالماء النجس.

وأمّا التراب المستعمل فيجوز التيمّم به ، كما يجوز الوضوء بالماء المستعمل ، وقد دلّلنا على ذلك فيما مضى ، وإنّما بنى من منع من التيمّم بالتراب المستعمل ذلك على المنع بالوضوء بالماء المستعمل ، وقد دلّلنا على جواز الوضوء بالماء المستعمل وأوضحناه.

ويدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ولم يفرّق بين أن يكون الصعيد مستعملا أو غير مستعمل.

__________________

(١) الناصريات : ١٥١.

١٤٠