تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وقد قيل في الآية ـ على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم في الآخرة ـ : إنّ المراد به أنّا ما كنا عند نفوسنا وفي اعتقادنا مشركين ؛ بل كنّا نعتقد أنّا على الحقّ والهدى ، وقوله تعالى من بعد : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) لم يرد هذا الخبر الذي وقع منهم في الآخرة ؛ بل إنّهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بإخبارهم أنّهم مصيبون محقّون غير مشركين ؛ وليس في الظاهر إلّا أنّهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت ؛ فلم يحمل على آخرة دون دنيا.

ولو كان للآية ظاهر يقتضي وقوع ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا ؛ بدلالة أنّ أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنّهم ملجئون إلى ترك القبيح.

فأمّا قوله تعالى حاكيا عنهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فمن الناس من حمل الكلام كلّه على وجه التمني ؛ فصرف قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) إلى غير الأمر الذي تمنّوه ؛ [لأن التمنّي لا يصحّ فيه معنى الصدق والكذب] ؛ لأنّهما إنّما يدخلان في الأخبار المحضة ؛ لأنّ قول القائل : ليت الله رزقني ولدا ؛ وليت فلانا أعطاني مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا ؛ وقع ما تمنّاه أو لم يقع ؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مصروفا إلى حال الدنيا ، كأنّه تعالى قال : وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإضافة واعتقاد الحقّ ؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا عن أنفسهم أنّهم متى ردّوا آمنوا ولم يكذبوا ؛ وإن كان ما كان ممّا حكي عنهم من التمنّي ليس بخبر.

وقد يجوز أيضا أن يحمل قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) على غير الكذب الحقيقيّ ؛ بل يكون المراد والمعنى أنّهم تمنّوا ما لا سبيل إليه فكذب أملهم وتمنّيهم ؛ وهذا مشهور في الكلام ؛ لأنّهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك : كذب أملك ، وأكدى رجاؤك ؛ وما جرى مجرى ذلك ؛ قال الشاعر :

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها

مراغمة ما دام للسّيف قائم

٢٦١

وقال آخر :

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بنى شاب قرناها تصرّ وتحلب (١)

ولم يرد الكذب في الأقوال ؛ بل في التمنّي والأمل.

وليس لأحد أن يقول : كيف يجوز من أهل الآخرة مع معارفهم الضرورية ، وأنّهم عارفون بأنّ الرجوع لا سبيل إليه أن يتمنّوه ؛ وذلك أنّه غير ممتنع أن يتمنّى المتمنّي ما يعلم أنّه لا يحصل ولا يقع ؛ ولهذا يتعلّق التمني للشيء بألّا يكون ما قد كان. ولقوّة اختصاص التمنّي بما يعلم أنّه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنّه لا يكون تمنّيا ؛ فهذا الذي ذكرناه وجه في تأويل الآية.

وفي الناس من يجعل بعض الكلام تمنّيا وبعضه إخبارا ، وعلّق تكذيبهم بالخبر دون (لَيْتَنا) فكان تقدير الآية : يا ليتنا نرد ـ وهذا هو التمنّي ـ ثمّ قال من بعده : فإنّا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، فأخبروا بما علم الله تعالى أنّهم فيه كاذبون ؛ وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك ؛ فلهذا كذّبهم تعالى. وكلّ هذا واضح (٢).

ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥].

أنظر ص : ٣٤ من التنزيه : ١٣٦.

ـ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣].

[إن سأل سائل] فقال : كيف يخبر عنهم بأنّهم لا يكذّبون نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعلوم منهم إظهار التكذيب ، والعدول عن الاستجابة والتصديق ، وكيف ينفي عنهم

__________________

(١) البيت في اللسان (قرن) ، وكتاب سيبويه ١ / ٢٥٩ ، ٢ / ٦٥ ، وشاب قرناها : لقب لامرأة.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٢٣٤.

٢٦٢

التكذيب ثمّ يقول : إنّهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآيات الله إلّا تكذيب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!.

الجواب : قلنا : قد ذكر في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن يكون إنّما نفى تكذيبهم بقلوبهم تديّنا واعتقادا ، وإن كانوا مظهرين بأفواههم التكذيب ؛ لأنّا نعلم أنّه كان في المخالفين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يعلم صدقه ، ولا ينكر بقلبه حقّه ؛ وهو مع ذلك معاند ؛ فيظهر بخلاف ما يبطن ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١).

وممّا يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلّام بن مسكين ، عن أبي يزيد المدنيّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل ، فقيل له : يا أبا الحكم ، أتصافح هذا الصّبيّ؟ فقال : والله إنّي لأعلم أنّه نبيّ ؛ ولكن متى كنّا تبعا لبني عبد مناف! فأنزل الله الآية.

وفي خبر آخر أنّ الأخنس بن شريق خلا بأبا جهل ، فقال له : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أصادق هو أم كاذب! فإنّه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال له أبو جهل : ويحك! والله إنّ محمدا لصادق ، وما كذب محمد قطّ ؛ ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والحجابة والسّقاية والنّدوة والنبوّة ، ماذا يكون لسائر قريش!.

والوجه الثاني : أن يكون معنى (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) أي لا يفعلون ذلك بحجّة ، ولا يتمكّنون من إبطال ما جئت به ببرهان ؛ وإنّما يقتصرون على الدعوى الباطلة ؛ وهذا في الاستعمال معروف ؛ لأنّ القائل يقول : فلان لا يستطيع أن يكذّبني ولا يدفع قولي ؛ وإنّما يريد أنّه لا يتمكّن من إقامة دليل على كذبه ، ومن حجّة على دفع قوله ؛ وإن كان يتمكّن من التكذيب بلسانه وقلبه ، فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجّة ولا برهان غير معتدّ به.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أنّه قرأ هذه الآية بالتخفيف : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) ، ويقول : أنّ المراد بها أنهم لا يأتون بحقّ هو أحقّ من حقك.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٤٦.

٢٦٣

وقال محمد بن كعب القرظيّ : معناها لا يبطلون ما في يديك ؛ وكلّ ذلك يقوّي هذا الوجه ؛ وسنبيّن أنّ معنى هذه اللفظة مشدّدة ترجع إلى معناها مخفّفة.

والوجه الثالث : أن يكون معنى الآية أنّهم لا يصادفونك ولا يلفونك متقوّلا ؛ كما يقولون : قاتلته فما أجبنته ، أي ما وجدته جبانا ، وحادثته فما أكذبته ؛ أي لم ألفه كاذبا ؛ وقال الأعشى :

أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا (١)

أراد أنّه صادف منها خلفا المواعيد ، ومثله قولهم : أصممت القوم ؛ إذا صادفتهم صمّا ، وأخليت الموضع ، إذا صادفته خاليا ؛ وقال الشاعر :

أبيت مع الحدّاث ليلي فلم أبن

فأخليت فاستجمعت عند خلائيا

أي أصبت مكانا خاليا.

ومثله لهميان بن أبي قحافة :

يسنّ أنيابا له لوامجا (٢)

أوسعن من أشداقه المضارجا (٣)

يعني ب «أوسعن» أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.

وقال عمرو بن براق :

تحالف أقوام عليّ ليسمنوا

وجرّوا عليّ الحرب إذ أنا سائم (٤)

يقال : أسمن بنو فلان ، إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.

وقال أبو النجم :

مستأسدا ذبابه في غيطل

يقلن للرائد أعشبت أنزل (٥)

أي أصبت مكانا معشبا.

__________________

(١) ديوانه : ١٥٠.

(٢) اللمج : الأكل.

(٣) المضارج : الثياب المشوقه ؛ والبيت في اللسان (ضرج).

(٤) البيت في الأغاني ٢١ / ١١٤.

(٥) الطرائف الأدبية ٥٩.

٢٦٤

وقال ذو الرمة :

تريك بياض لبّتها ووجها

كقرن الشّمس أفتق ثمّ زالا (١)

أي وجد فتقا من السحاب.

وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصّا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد ؛ لأنّ في الوجهين معا يمكن هذا الجواب ، لأنّ «أفعلت» و «فعلت» يجوزان في هذا الموضع ، و «أفعلت» هو الأصل ثمّ شدّد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار ؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت ، وأعظمت وعظّمت ، وأوصيت ووصّيت ، وأبلغت وبلّغت ؛ وهو كثير قال الله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (٢) ؛ إلّا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه ؛ لأنّ استعمال هذه اللفظة مخفّفة في هذا المعنى أكثر.

والوجه الرابع : ما حكى الكسائيّ من قوله : إنّ المراد أنّهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أثبت به ؛ لأنّه كان أمينا صادقا لم يجرّبوا عليه كذبا ؛ وإنّما كانوا يدفعون ما أتى به ، ويدّعون أنّه في نفسه كذب ؛ وفي الناس من يقوّي هذا الوجه ، وأنّ القوم كانوا يكذّبون ما أتى به ، وإن كانوا يصدّقونه في نفسه بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وبقوله تعالى : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) (٣) ولم يقل : وكذّبك قومك. وكان الكسائيّ يقرأ : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة ، والباقون على التشديد ؛ ويزعم أنّ بين أكذبه وكذّبه فرقا ، وأنّ معنى أكذب الرجل ، أنّه جاء بكذب ، ومعنى كذّبته أنّه كذّاب في كلّ حديثه. وهذا غلط وليس بين «فعّلت» و «أفعلت» في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر ممّا ذكرناه من أنّ التشديد يقتضي التكرار والتأكيد ، ومع هذا لا يجوز أن يصدّقوه في نفسه ، ويكذّبوا بما أتى به ؛ لأنّ من المعلوم أنه عليه‌السلام كان يشهد بصحّة ما أتى به وصدقه ، وأنّه الدين القيّم ، والحقّ الذي لا يجوز العدول عنه ؛ وكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره وكان الذي أتى به فاسدا! بل إن كان صادقا

__________________

(١) ديوانه : ٤٣٤.

(٢) سورة الطارق ، الآية : ١٧.

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٦٦.

٢٦٥

فالذي أتى به حقّ صحيح ، وإن كان الذي أتى به فاسدا ؛ فلا بدّ من أن يكون في شيء من ذلك كاذبا ؛ وهو تأويل من لا يتحقق المعاني.

والوجه الخامس : أن يكون المعنى في قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) أن تكذيبك راجع إليّ ، وعائد عليّ ؛ ولست المختصّ به ؛ لأنّه رسول فمن كذّبه فهو في في الحقيقة مكذّب لله تعالى ورادّ عليه. وهذا كما يقول أحدنا لرسوله : امض في كذا فمن كذّبك فقد كذّبني ، ومن دفعك فقد دفعني ؛ وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.

والوجه السادس : أن يريد : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الأمر الذي يوافق فيه تكذيبهم ، وإن كذّبوك في غيره.

ويمكن في الآية وجه سابع : وهو أن يريد تعالى أنّ جميعهم لا يكذّبونك وإن كذّبك بعضهم ؛ فهم الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنّهم يجحدون بآيات الله ؛ وإنّما سلّى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا القول وعزّاه ؛ فلا ينكر أن يكون موسى عليه‌السلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقّيهم إيّاه بالردّ ؛ وظنّ أنّه لا متّبع له منهم ، ولا ناصر لدينه فيهم أخبره الله تعالى بأنّ البعض وان كذّبك فإنّ فيهم من يصدّقك ويتّبعك وينتفع بإرشادك وهدايتك ؛ وكلّ هذا واضح والمنة لله (١).

ـ (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٣٧].

إذا كان الفعل قد صحّ منه تعالى وجب أن يسمّى «قادرا» ؛ لأن اللغة توجب وصف من صحّ منه الفعل بأنه قادر.

ويجب أن نصفه بأنه قادر فيما لم يزل ولا يزال ؛ لأن الفعل إذا صحّ منه تعالى لما يرجع إلى ذاته وما هو عليه في ذاته حاصل في كلّ حال. وإنّما لم يصحّ وجود الفعل فيما لم يزل لأمر يرجع إلى الفعل ، كما أن أحدنا قادر على ما يوجد بعد أوقات كثيرة وان لم يصحّ وجود ذلك في الثاني لأمر يرجع إلى المقدور لا إلى الصفة المصحّحة لإيجاد الفعل (٢).

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٢٨.

(٢) الذخيرة : ٥٧٨.

٢٦٦

ـ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام : ٥٠].

[استدلّ بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام قالوا :] فلو لا أن حال الملائكة أفضل من حال النبيّ لما قال ذلك (١).

ويقال لهم لا دلالة في هذه الآية على أنّ حال الملائكة أفضل من حال الأنبياء ؛ لأنّ الغرض في الكلام إنّما هو نفي ما لم يكن عليه ، لا التفضيل لذلك على ما هو عليه ، ألا ترى أنّ أحدنا لو ظنّ به أنّه على صفة وليس عليها جاز أن ينفيها عن نفسه بمثل هذا اللفظ وإن كان على أحوال هي أفضل من تلك الحال وأرفع.

وليس يجب إذا انتفى ممّا تبرأ منه من علم الغيب وكون خزائن الله تعالى عنده أن يكون فيه فضل أن يكون ذلك معتمدا في كلّ ما يقع النفي له والتبرّء منه ، وإذا لم يكن ملكا كما لم يكن عنده خزائن الله جاز أن ينتفي من الأمرين ، من غير ملاحظة ؛ لأنّ حاله دون هاتين الحالتين.

وممّا يوضح هذا ويزيل الاشكال فيه أنّه تعالى حكى عنه في آية أخرى :

(وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) (٢) ونحن نعلم أنّ هذه منزلة غير جليلة وهو على كلّ حال أرفع منها وأعلى ، فما المنكر من أن يكون نفي الملكية عنه في أنّه لا يقتضي أنّ حاله دون حال الملك بمنزلة نفي هذه المنزلة.

والتعلّق بهذه الآية خاصّة ضعيف جدا ، وفيما أوردناه كفاية وبالله التوفيق (٣).

ـ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) [الأنعام : ٥٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ١٦٠.

(٢) سورة هود ، الآية : ٣١.

(٣) الرسائل ، ٢ : ١٦٥ وراجع أيضا ، ١ : ٤٣٤.

٢٦٧

ـ (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) [الأنعام : ٦٦].

أنظر الأنعام : ٣٣ من الأمالي ، ٢ : ٢٢٨.

ـ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)) [الأنعام : ٧٥ ـ ٧٨].

[فيها أمران :

الأوّل : فإن قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّه عليه‌السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات الألوهيّة للكواكب ، وهذا ممّا قلتم أنّه لا يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام؟

الجواب : قيل له في هذه الآية جوابان :

أحدهما : انّ إبراهيم عليه‌السلام إنّما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمّل له ؛ لأنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنّما اكتسب المعرفة لمّا أكمل الله تعالى عقله ، وخوّفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلمّا رأى الكواكب : ـ وقد روي في التفسير أنّه رأى الزهرة ـ وأعظمه ما رآها عليه من النور وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون أنّها آلهة ، قال : «هذا ربّي» على سبيل الفكر والتأمّل لذلك ، فلمّا غابت وأفلت وعلم أنّ الأفول لا يجوز على الإله ، علم أنّها محدثة متغيّرة منتقلة ، وكذلك كانت حالته في رؤية القمر والشمس ، وانّه لمّا رأى أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة الوهيّتهما ، وقال في آخر الكلام : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى ، وعلمه بأنّ صفات المحدثين لا يجوز عليه تعالى.

فإن قيل : كيف يجوز أن يقول عليه‌السلام (هذا رَبِّي) ، مخبرا ، وهو غير عالم

٢٦٨

بما يخبر به ، والأخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون كاذبا فيه قبيح ؛ وفي حال كمال عقله ولزوم النظر لا بدّ من أن يلزمه التحرّز من الكذب ، وما جرى مجراه من القبح.

قلنا : عن هذا جوابان :

أحدهما : أنّه لم يقل ذلك مخبرا ، وإنّما قاله فارضا ومقدّرا على سبيل الفكر والتأمل ، ألا ترى انّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظرا في شيء ومتأمّلا بين كونه على إحدى صفتيه ، أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة؟ ولهذا يصحّ من أحدنا إذا نظر في حدوث الاجسام وقدمها أن يفرض كونها قديمة ، ليتبيّن ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد.

والجواب الآخر : أنّه أخبر عن ظنّه ، وقد يجوز أنّه يظنّ المفكّر والمتأمّل في حال نظره وفكره ما لا أصل له ، ثمّ يرجع عنه بالأدلّة والعقل ، ولا يكون ذلك منه قبيحا.

فإن قيل : الآية تدلّ على أنّ إبراهيم عليه‌السلام ما كان رأى هذه الكواكب قبل ذلك ؛ لأنّ تعجّبه منها تعجّب من لم يكن رآها ، فكيف يجوز أن يكون إلى مدّة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم؟

قلنا : لا يمتنع أن يكون ما رأى السماء إلّا في ذلك الوقت ؛ لأنّه على ما روي كان قد ولدته أمّه في مغارة خوفا من أن يقتله النمرود ، ومن يكون في المغارة لا يرى السماء فلمّا قارب البلوغ وبلغ حدّ التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكّر فيها ، وقد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلّا أنه لم يفكّر في اعلامها ؛ لأنّ الفكر لم يكن واجبا عليه. وحين كمل عقله وحرّكته الخواطر فكّر في الشيء الّذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكّرا فيه.

والوجه الآخر في أصل المسألة : هو أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك

٢٦٩

الحال موقنا عالما بأنّ ربّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب ، وإنّما قال ذلك على سبيل الانكار على قومه والتنبيه لهم على أنّ ما يغيب ويأفل لا يجوز ان يكون إلها معبودا ، ويكون قوله : (هذا رَبِّي) محمولا على أحد وجهين :

[أحدهما :] أي هو كذلك عندكم وعلى مذاهبكم. كما يقول أحدنا للمشبّه على سبيل الانكار لقوله : هذا ربّه جسم يتحرّك ويسكن.

والوجه الآخر : أن يكون قال ذلك مستفهما ، وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه ، وقد جاء في الشعر ذلك كثيرا :

قال الأخطل :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (١)

وقال الآخر :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان (٢)

وأنشدوا قول الهذلي :

وقوني وقالوا يا خويلد لم ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم (٣)

يعني أهم هم؟

وقال ابن أبي ربيعة :

ثمّ قالواتحبّها قلت بهرا

عدد الرّمل والحصى والتّراب (٤)

فإن قيل : حذف حرف الاستفهام إنّما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوضا عنه ، وليس تستعمل مع فقد العوض ، وما أنشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدّم ؛ والآية ليس فيها ذلك.

__________________

(١) ديوانه ص ٤١. راجع أيضا لسان العرب ج ١ ص ٧٠٤.

(٢) راجع الكامل في اللغة والأدب ١٠ : ٢٣٣ ، نسبه إلى ابن أبي ربيعة المخزومي.

(٣) راجع الأغاني ٥ : ٣٩٤ وفيه رفوني : أي سكنوني وقالوا لا بأس عليك.

(٤) راجع الأغاني ١ : ٣٩٤ وفيه عدد القطر ....

٢٧٠

قلنا : قد يحذف حرف الاستفهام مع إثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام ، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الإستفهام ومن العوض عنه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١) قال : هو أفلا اقتحم العقبة؟ فالقيت ألف الاستفهام. وبعد ، فإذا جاز أن يلقوا ألف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها ، فهلّا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها؟ لأنّ دلالة العقل أقوى من دلالة غيره (٢).

[الثاني : إن سأل سائل فقال :] ما جواب من اعترض ما أورده «حرس الله مدته» في كتابه الموسوم ب «التنزيه» من تجويزه أن يكون قول إبراهيم عليه‌السلام للنجم والشمس والقمر (هذا رَبِّي) أوّل وقت تعيّن فرض التكليف للنظر عليه ، وأنّه قال ذلك فارضا له مقدّرا ، لا قاطعا ولا معتقدا ، فلمّا رأى أفول كلّ واحد منها رجع عمّا فرض وأحال ما قدر.

فقال : الذاهب إلى هذا لا ينفكّ من أن يلزمه أحد أمرين ، وهما :

القول : بأنّ تحيّز هذه الكواكب وحركاتها لا تدلّ على حدوثها ، كما تدلّ على أفولها ، إذ لو دلّ لما أهمل القطع به على حدوثها ، والرجوع عمّا فرضه فيها إلى حين أفولها ، واستدلاله بذلك عليه.

والقول : بأنّ إبراهيم عليه‌السلام في حال كمال عقله قصر عن المعرفة ، بأنّ التحيّز والحركات تدلّ على الحدوث.

وإلى أيّ الأمرين ذهبتم كان قادحا في معتمدكم ؛ لأنّ الذهاب إلى الأوّل يقدح في دلالة الحركات والتحيّز عندكم على الحدوث ؛ والثاني يقدح فيما تذهبون إليه من عصمة الأنبياء قبل النبوّة وبعدها ، وفي إهمال القطع بالأدلة المثمرة للعلم بالمطلوب ، تغرير من المهمل لذلك ، والتغرير بالنفس قبيح.

وما أدري كيف يكون الغيبة بعد الظهور دليلا على الحدوث والظهور بعد

__________________

(١) سورة البلد ، الآية : ١١.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٣٩.

٢٧١

الغيبة غير دليل عليه ، وقد تقدّم الظهور بعد الغيبة عنده على الغيبة بعد الظهور ، وشفّع ذلك التحيز والحركة ، بل العلم بذلك مقارن للعلم بالظهور.

ولا أدري كيف يسوغ أن لا يعلم أعلم الأنبياء من دلالة هذه الأمور ما يعلمه [غير] النبيّ ، أو من علم حرارة ، أم الرجوع منه واجب.

الجواب :

إعلم أنّا قد تكلّمنا في كتابنا الموسوم ب «تنزيه الأنبياء والأئمة صلوات الله على جماعتهم» على تأويل هذه الآية ، وأجبنا فيها بهذا الوجه الذي حكي في السؤال وبغيره. والوصل الذي يجب تحقيقه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام لا يجوز أن يخلف عارفا بالله تعالى وأحواله وصفاته : لأنّ المعرفة ليست ضرورية ، بل مكتسبة بالأدلة فلا بدّ من أحوال يكون غير عارف ثم تجدّد له المعرفة.

إلّا أن نقول : إنّ المعرفة لا يجوز أن تحصل إلى النبي أو الإمام ، إلّا في أقصر زمان يمكن حصولها فيه ؛ لأنّ المعصية لا تجوز عليه قبل النبوّة أو الإمامة كما لا تجوز عليه بعدها.

وقد روي أنّ إبراهيم عليه‌السلام ولد في مغارة ، وأنّه ما كان رأى السماء ثم تجدّدت رؤيته لها ، فلمّا رأى ما لا تعهده ولا تعرفه من النجم ولم يره متجدّد الطلوع بل رآه طالعا ثابتا في مكانه ، من غير أن يشاهده غير طالع ثم طالعا ، فقال فرضا وتقديرا على ما ذكرناه : (هذا رَبِّي) فلما أفل واستدلّ بالأفول على الحدوث علم أنّه لا يجوز أن يكون إلها. وجرى ذلك في القمر والشمس.

ولو كان علم تجدّد طلوعه كما علم تجدّد أفوله ، لاستدلّ على حدوثه بالطلوع ، كما استدلّ بالأفول. إلّا انّا قد فرضنا أنّه لم يعلم ذلك.

ومن الجائز أن يكون عالما به على الوجوب لمن شاهد السماء من طلوع الكواكب ثم تجدّد طلوعه فيها.

وقد زال بهذا البيان الذي أوضحناه ، الشكّ في الجواب الذي اختار في الكتاب المشار إليه ؛ لأنّه بنى على أنّا فرقنا في دلالة الحدوث بين طلوع متجدّد

٢٧٢

وأفول متجدّد ، وقد بيّنا أنّا ما فرقنا بين الأمرين ، وكيف نفرّق بين ما فرّق فيه (١).

ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام : ٨٢].

أنظر البقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠].

أنظر يس : ٨٢ من الملخص ، ٢ : ٤٤٤ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ...) [الأنعام : ١٠١].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ....) [الأنعام : ١٠٢].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣].

نفى إدراك الأبصار الذي هو رؤيتها عنه على وجه التمدّح ، فوجب القطع على أنّ الرؤية لا يتناوله في حال من الأحوال ؛ لأنّ ما تمدّح تعالى بنفيه وإثباته ولم يكن متفضلا به ، فلا يكون إثبات المنفي منه أو نفي المثبت إلّا نقصا ، وإذا كان النقص لا يجوز عليه تعالى ، وجب نفي الهوية على جميع الأحوال.

فإن قيل : دلّوا على الجملة التي ادّعيتم؟

قلنا : أمّا الّذي يدلّ على أنّ الآية متضمّن نفي الرؤية بالأبصار ، فهو أنّ لفظة «الإدراك» وإن كانت متى أطلقت في اللغة احتملت أشياء كثيرة ، كاللحوق والنصح وإدراك الحرارة والصوت وغير ذلك ، فإنّها إذا قيّدت بنفس البصر

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٤١١.

٢٧٣

اختصّت وزال عنها الاحتمال ، واختصّت بما تكون البصر آلة فيه ، وهو الرؤية دون غيرها ، والذي يدلّ على ذلك أنّ أهل اللغة العربية لا يفصّلون بين قول أحدهم : «أدركت ببصري» و «رأيت ببصري» و «أحسست ببصري» ، ولأنّهم يصفون كلّ ما أطلقوا عليه أنّه مدرك بالبصر بأنّه مرئيّ بالبصر ، وهذا واضح في تساوي معنى اللفظين.

وبعد ، فلو كانت الرؤية غير الإدراك لوجب انفصالهما ، فلو كان أحدنا لا يعقل لنفسه متى أدرك ببصره الشيء وراء حالة واحدة ، واستحال أن يكون مدركا له ببصره وهو غير راء له ، وأن يكون رائيا له وهو مدرك له ببصره ، دلّ على أنّ المعنى في اللفظين واحد.

فإن قيل : ما أنكرتم أنّ الإدراك المنفيّ في الآية ، إنّما هو الإحاطة التي لا تجوز إلّا على الأجسام دون الرؤية؟

قلنا : هذه الألفاظ تبطل من وجوه :

أوّلها : ما قدّمناه من أنّ اللغة الّذين إليهم نرجع في معاني هذه الألفاظ ، لا يفرّقون بين قول القائل «أدركت ببصري» و «رأيت وأحسست» ، فمن ادّعى أنّ الإدراك بمعنى الإحاطة ، كمن ادّعى ذلك في الرؤية والإحساس.

وثانيها : انّ الإدراك لا يستعمل في موضع من المواضع بمعنى الإحاطة. ألا ترى أنّهم لا يقولون : «أدرك السور المدينة» و «أدرك الجراب الدقيق» ، وإذا كان مع الإطلاق لا يريدون بلفظة «الإدراك» الإحاطة ، فأحرى أن لا يريدوا ذلك مع التقييد بالبصر.

ثالثها : انّ الّذي نفاه تعالى عن نفسه من الإدراك في الآية الكريمة ، هو الذي أثبته لها ، وقد علمنا أنّه لم يرد بقوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) الإحاطة ، بل أراد الرؤية ، فيجب أن يكون ما نفاه كذلك.

فإن قالوا : فلم أنكرتم أن يكون الإدراك بالبصر رؤية مخصوصة ، وهي المتناولة للمرئيّ من جميع جهاته ، وأن يكون إنّما نفي هذه الرؤية عن نفسه دون الرؤية المطلقة؟

٢٧٤

قلنا : قد ثبت أنّ أهل اللغة لا يفرّقون بين معنى قولهم «أدركت ببصري» و «رأيت» ، ومن ادّعى فرقا بين الأمرين مدّع لما ليس بمعروف عندهم ، وهو بمنزلة من عكس كذلك ، وادّعى أنّ المتناولة للشيء من جميع جهاته هي الرؤية ، والإدراك بخلافها في هذا المعنى ، على أنّ هذا القول يوجب ألّا يوصف أحد منّا بأنّه مدرك لشيء من الأجسام في الحالة الواحدة ؛ لأنّه لا يراها من جميع جهاتها ، وكذلك كان يجب ألّا يوصف بأنّه يرى السواد ؛ لأنّه لا جهات له ، وفي علمنا بخلاف ذلك دليل على فساد هذا القول.

فإن قيل : كيف يصحّ ما ادّعيتموه من أنّ الإدراك إذا قيّد بالبصر ، لم يفد إلّا الرؤية ، ونحن نجدهم يقولون : «أدركت حرارة الميل ببصري» ، وإذا صحّ هذا جاز أن يكون النفي بالآية هو هذا الضرب من الإدراك؟

قلنا : أول ما في هذا السؤال انّا لا نعرف ما تضمّنه مستعملا في لغة العرب ، ولا يقدر المتعرض به أن ينشد فيه شعرا لهم ، أو يروى به خبرا عنهم ، فعلى معتمدهم أن يصحّح روايته حتى يلزمنا الكلام على معناه.

على أنّ ذلك لو كان مستعملا معروفا ، لم يقدح فيما اعتمدناه ؛ لأنّ الإدراك الحاصل بالبصر على ضربين :

أحدهما : يختصّ البصر بأنّه آلة فيه ، وهو الرؤية.

والضرب الآخر : حكم البصر فيه ، وكلّ محلّ للحياة حكمه واحد ، وهو إدراك الحرارة وما يجري مجراها.

فالإدراك متى أضيف إلى البصر أو أطلق ، لم يعقل منه إلّا الرؤية التي تختصّ البصر بأنّه آلة فيها ، كما أنّ الإدراك إذا أضيف إلى البصر أو الأذن وأطلق لم يعقل منه إلّا ما يختصّ هاتان الجارحتان ، بكونهما آلة في إدراكه ، وما سئلنا عنه بخلاف ذلك ؛ لأنّ القائل إذا قال : «أدركت حرارة الميل ببصري» فقد علّق الإدراك بالحرارة التي لا تكون البصر آلة في إدراكها من جهة الرؤية ، وصار هذا التقييد مزيلا لما يقتضيه ظاهر إضافة الإدراك إلى البصر مع الإطلاق ،

٢٧٥

وجرى مجرى أن تقول : «أدركت حرارة كذا بأنفي أو أذني» في أنّه يؤيّد ما يقتضيه ظاهر تعلّق الإدراك بالأنف والأذن مع الإطلاق.

على أنّ الآية إذا اقتضت نفي إدراك الأبصار عنه تعالى ، فيجب أن تنفي ذلك على كلّ وجه يضاف إلى البصر ، فبقي أن يكون مرئيا بالبصر ، ومدركا به على سبيل إدراك الحرارة وغيرها ، وهذا بيّن في سقوط السؤال.

وأمّا الّذي يدلّ على أنّه تعالى يمدح بنفي الإدراك عن نفسه ، فهو إجماع الأمّة ؛ لأنّه لا خلاف بينها في ذلك ، وإنّما اختلفوا في كيفية تمدّحه :

فقال قوم : إنّه تمدّح بنفي الإدراك عن نفسه ، والإدراك غير الرؤية.

وقال آخرون : إنّما تمدّح بنفي الرؤية عنه في الدنيا دون الآخرة.

وقال آخرون : إنّه تمدّح بنفي إدراك هذه الحاسة له ، وان صحّ أن يرى بحاسّة سادسة.

وقال أهل الحقّ : انه تمدّح بنفي الإدراك الذي هو الرؤية عن نفسه على كلّ وجه وفي كلّ حال.

وهذا إجماع لا يقدح فيه خلاف من نعلمه أن يخالف فيه حادثا ؛ لأنّ ذلك يقتضي استقرار إجماع على شيء من الأشياء.

على أنّ سياق الكلام ، وترتيب الآيات الثلاث إلى قوله تعالى : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، يقتضي كون جميع ما تضمّنه الكلام من نفي وإثبات مدحا ؛ لأنّ العادة لم تجر للعرب الذين خوطبنا بلسانهم ، أن يتمدّحوا بخطاب على هذا النسق ، ويحلّلوا بينه وبين ما لا يقتضي المدح ولا له مدخل فيه.

فأمّا الذي يدلّ على أنّه تعالى يمدح بما يرجع إلى ذاته ، دون ما يكون أن يكون متفضّلا به ، فهو أنّ الإدراك ليس بمعنى على ما دللنا عليه ، فيصحّ أن يقال : إنّه تمدّح بألّا يفعله على سبيل التفضيل ، ولم يبق بعد ذلك ألّا يكون التوجيه أنّه في نفسه على صفة يستحيل معها إدراكه ، وما تقتضيه ذاته لا يصحّ

٢٧٦

تغيّره ولا خروجه تعالى عنه ، فصحّ بذلك ما ذهبنا إليه من استحالة الرؤية عليه على كلّ حال.

واعلم إنّما تمدّح القديم تعالى بنفيه وإثباته على ضربين :

أحدهما يرجع إلى فعله ، والآخر إلى ذاته.

فأمّا الضرب الأوّل : فهو على قسمين :

أحدهما : أن يتمدّح به على سبيل الإثبات.

والآخر : أن يتمدّح به على طريق النفي.

والقسم الأوّل : على ضربين :

أحدهما : يقتضي انتفائه النقص والذمّ ، وهو التمدّح بفعل الواجب.

والآخر : لا يقتضي ذلك ، وهو كلّ ما كان متفضّلا بفعله من الإحسان والإنعام.

وأمّا الضرب الثاني : من أقسام الفعل ، وهو التمدّح بنفي الفعل ، فهو أيضا على ضربين :

أحدهما : يقتضي إثباته النقص والذم ، وهو التمدح بأن لا يفعل القبائح.

والضرب الثاني : لا يقتضي إثباته ذمّا ، وهو التمدّح بأن لا يفعل ما يكون متفضّلا ما لا يفعله ، كنحو تمدّحه بأنّه لا يعاقب الكافر لو تمدّح بذلك ؛ لأنّ إثبات ذلك يجري مجرى نفي ما يتفضّل بفعل من ضروب الإحسان في أنّه لا يوجب ذمّا ، من حيث كان للمتفضّل أن لا يتفضّل وله أن يتفضّل ، ولا فرق في ذلك بين النفي والإثبات.

وليس لأحد أن يقول : كيف يصحّ أن يتمدّح بأنّه يفعل الإحسان ثمّ لا يفعله ، وكذلك فكيف يتمدّح بأنّه لا يعاقب الكافر ثمّ يعاقبه ، وكلّ ذلك يقتضي الذمّ بخلاف ما قلتم؟

وذلك أنّ الوعد بالتفضّل لا يدخله في أن يكون واجبا ، فمتى وعد بما

٢٧٧

يجري مجرى التفضّل ـ سواء كان نفيا أو إثباتا ـ كان له أن لا يفعله من حيث كان تفضّلا ، وإنّما يقبح أن لا يفعله من وجه آخر ؛ لأنّه يكون كاذبا مع تقدّم الوعد ، وهذا خارج عمّا نحن بسبيله.

على أنّا نفرض المثال بحيث لا شبهة فنقول : متى وعد بأنّه يتفضّل على زيد بالإحسان ، جاز أن لا يتفضّل على عمرو بمثل ذلك ، ولا يكون مذموما ، وكذلك إذا وعد بأنّه لا يعاقب أحدا من الكفّار جاز أن يعاقب الجميع ، ومثل هذا لا يجوز في الفعل الواجب ، لا على طريق النفي ولا الإثبات. ألا ترى انّه لا يجوز أن يتمدّح بأنّه يفعل بزيد ما استحقّه من الثواب ولا يفعل مثل ذلك بسائر المستحقّين ، فكذلك لا يجوز أن يتمدّح بأنّه لا يظلم زيدا ويظلم غيره ، فقد تمّ غرضنا على كلّ حال في الفرق بين الأمرين.

فأمّا ما يتمدّح به تعالى فيما يرجع إلى ذاته فهو على ضروب ثلاثة :

تمدّح بإثبات على الحقيقة.

وتمدّح بما يجري مجرى الإثبات.

وتمدّح بما جرى مجرى النفي.

وعلى كلّ الوجوه لا يجوز انتفاء المثبت ولا إثبات المنفي ، ولا تغيّر الحال في ذلك ، فالإثبات الحقيقي كالوصف له بأنّه موجود باق ، وما يجري مجرى النفي كنحو تمدّحه تعالى بأنّه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (١) وبنفي الصاحبة والولد ، ويجري مجرى ذلك تمدّحه بأنّه لا مدرك بالأبصار ، فلا فرق على ما ذكرناه بين من جوّز أن يرى في الآخرة ، وبين من جوّز أن تأخذه سنة أو نوم ، أو يتّخذ ولدا في بعض الأحوال.

فإن قيل : كلّ شيء أشرتم إليه فيما يقتضي انتفائه وإثباته النقص له معقول يقتضي ذلك فيه ، وليس في إثبات رؤيته تعالى وجه معقول يقتضي النقص ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٥.

٢٧٨

وكيف يصحّ التمدّح بنفي الرؤية ، وكيف يصحّ حملها على ما قد عقل وجه التمدّح بنفيه؟

قلنا : إذا ثبت أنّه تعالى متمدّح بالآية ، فلا بدّ من أن يكون في نفي الرؤية عنه وجه يقتضي المدحة ؛ لأنّه تعالى لا يتمدّح بما لا وجه له في المدحة ، فهذا القدر كاف في علمنا بأنّه لا بدّ من وجه المدحة على سبيل الجملة ، وينتظم معه الاستدلال بالآية وإن لم نعلم الوجه بعينه على سبيل التفصيل ، كما أنّ العلم بوجه وجوب الشيء على الجملة كاف في العلم بوجوبه وغير مخلّ به ، وإن كان لا بدّ من أن يكون هناك وجه للوجوب مفصل ، والوجه المفصل في كون نفي الرؤية عنه تعالى مدحا ، هو أنّ من شأن ما يرى أن يكون هو أو محلّه في جهة من الجهات ، وذلك يقتضي حدوثه.

وليس لأحد أن يقول : متى علم هذا الوجه وأنّ المدحة تعلّقت به ، استغنى عن الاستدلال بالآية وخرجت من أن تكون دليلا.

وذلك أنّا قد بيّنّا أنّ العلم بتفصيل وجه المدحة غير واجب ، وأنّ الاستدلال بالآية لا نفتقر إليه ، وأنّ العلم بأنّه لا بدّ من وجه على سبيل الجملة كاف ، فسقط هذا السؤال.

فإن قيل : يتمدّح تعالى بنفي الإدراك عنه ، وقد شاركه في ذلك ما ليس بمندرج من المعدومات وكثير من الأعراض الموجودات؟

قلنا : قد أجاب أهل الحقّ عن هذا السؤال :

فقال بعضهم : إنّه لم يتمدّح بمجرّد نفي الإدراك عنه ، بل بكونه يرى ولا يرى ؛ لأنّ ما عداه من الذوات على ضروب :

منها : ما يرى ولا يرى ، كالألوان.

ومنها : ما يرى ويرى ، كالإنسان وما جرى مجراه من الأحياء.

وليس منها ما يرى ولا يرى ، فإذا اختصّ هو تعالى بذلك ، وجبت له المدحة.

وقال آخرون : إنّه لم يتمدّح تعالى بنفي الرؤية عنه في الحقيقة ، وإنّما تمدّح

٢٧٩

بصفته الذاتية التي اقتضت له نفي الإدراك عنه وإثباته فيه ، كما أنّه تعالى لمّا تمدّح بنفي الشبيه والولد والصاحبة لم يتمدّح بالنفي على الحقيقة ، وإنّما يتمدّح بما اقتضى له من صفته الذاتية.

وقد اعترض المخالفون [على] الوجه الأوّل فقالوا : كيف يصحّ أن يتمدّح لمجموع أمرين كلّ واحد منهما بانفراده ولا يقتضي المدح ، ولئن جاز هذا ليجوزنّ أن يتمدّح بأنّه شيء عالم ، أو ذات قادرة ، فبنفيه المدح لمجموعه وإن كان الانفراد بخلافه.

وقد أجيب عن هذا : إنّه غير ممتنع في الصفة التي لا تقتضي مدحا على الانفراد ، أن تكون مؤثّرة في المدح عند الانضمام إلى غيرها أو وقوعها على بعض ، ومثّلوا ذلك بتمدّحه تعالى بنفي الشبيه والولد ، وأنّه لم يكن مدحا لمجرّد النفي ، من حيث قد ينتفي ذلك عن ذوات كثيرة غير ممدوحة ، وإنّما كان مدحا من حيث انتفى من حيّ له صفات من يجوز مثل ذلك عليه في الشاهد.

ومثلوه أيضا بمدحنا له تعالى بأنّه موجود لم يزل ، فإن كان لا مدح في مجرّد كونه موجودا وقالوا : إن لزم على ما ذكرناه في التمدّح بنفي الإدراك في الآية ، أن نتمدّح بأنّه شيء عالم ، لزم المخالف مثله إذا مدحه بنفي السنة والنوم وغير ذلك ممّا أوردناه.

والذي يجب أن يحصل في هذا الموضع ، أنّ الصفة المنفية لا تمتنع أن تقتضي المدح بشرط متى لم يحصل لم يكن مدحا ، بل لا بدّ في كلّ مدح تعلّق بالنفي دون الإثبات من أن يكون مشروطا ، فلا بدّ في شرطه أيضا من أن يكون إثباتا ، وليس ذلك واجبا في المدح بالإثبات. ألا ترى انّا إذا مدحنا بنفي الجهل والعجز والظّلم ، فلا بدّ من اشتراط كون من نمدحه بذلك حيّا له صفات مخصوصة ، وفي الظّلم لا بدّ أن يكون قادرا عليه وله دواع إليه ، وقد استقصينا هذا الكلام في مسألة أمليناها متقدّما وبسطنا الكلام فيها ، وبيّنّا أنّ النفي إنّما فارق الإثبات في الافتقار إلى الشرط ، من حيث كان النفي أعمّ من الإثبات ، فلعمومه يتناول الممدوح وغير الممدوح ، والإثبات أخصّ منه ، فيستغني عن

٢٨٠