تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

فتزول عنه الدواعي والشكوك والشبهات ، ويستغني عن الاستدلال ، فتخفّ المحنة عليه بذلك ؛ كما سأل إبراهيم عليه‌السلام ربّه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى طلبا لتخفيف المحنة ؛ وإن كان قد عرف ذلك قبل أن يراه ؛ والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإنّ الرؤية تفيد العلم كما تفيد الإدراك بالبصر ، [قال الشاعر :

رأيت الله إذ سمّى نزرا

وأسكنهم بمكّة قاطنينا] (١)

وذلك أظهر من أن يستدلّ عليه أو يستشهد عليه ؛ [لاشتهاره ووضوحه] (٢) فقال له «جلّ وعزّ» : (لَنْ تَرانِي) أي لن تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته مني ، ثم أكّد تعالى ذلك بأن أظهر في الجبل من آياته وعجائبه ما دلّ به على أنّ إظهار ما تقع به المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز ، وأنّ الحكمة تمنع منه.

والوجه الأول أولى لما ذكرناه من الوجوه ؛ ولأنّه لا يخلو موسى عليه‌السلام من أن يكون شاكّا في أنّ المعرفة الضرورية لا يصحّ حصولها في الدنيا أو عالما بذلك. فإن كان شاكّا فهذا ممّا لا يجوز على [الأنبياء عليهم‌السلام] (٣) ؛ لأنّ الشكّ فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم ، ولا سيما [وقد يجوز أن يعلم ذلك على حقيقته] (٤) بعض أمتهم ، فيزيد عليهم في المعرفة ؛ وهذا أبلغ في التنفير عنهم من كل شيء يمنع منه فيهم. وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلّا أن يقال : إنّه سأل لقومه ، فيعود إلى معنى الجواب الأول.

والجواب الثالث في الآية : ما حكي عن بعض من تكلم في هذه الآية من أهل التوحيد وهو أن قال : يجوز أن يكون موسى عليه‌السلام في وقت مسألته ذلك كان شاكّا في جواز الرؤية على الله تعالى ؛ فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا. قال : وليس شكّه في ذلك بمانع من أن يعرف الله تعالى بصفاته ، بل يجري مجرى شكّه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الأعراض في أنّه

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) ما بين المعقوفتين من تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٤.

٣٦١

غير مخلّ بما يحتاج إليه في معرفته تعالى ؛ فلا يمتنع أن يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لأجل ذلك.

وهذا الجواب يبعد من قبل أنّ الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها ، وإن كان لا يمنع من معرفته تعالى بصفاته فإنّ الشكّ في ذلك لا يجوز على الأنبياء من حيث يجوز من بعض من بعثوا إليه أن يعرف ذلك على حقيقته ، فيكون النبيّ شاكّا فيه وغيره عارفا به ؛ مع رجوعه إلى المعرفة بالله تعالى ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وهذا أقوى في التنفير وأزيد على كلّ ما يوجب أن يجنّبه الأنبياء.

فإن قيل : ففي أيّ شيء كانت توبة موسى عليه‌السلام على الجوابين المتقدّمين؟

قلنا : أمّا من ذهب إلى أنّ المسألة كانت لقومه فإنّه يقول : إنّما تاب لأنّه أقدم على أن سأل على لسان قومه ما لم يؤذن له فيه ؛ وليس للأنبياء ذلك ؛ لأنّه لا يؤمن أن يكون الصلاح في المنع منه ، فيكون ترك إجابتهم إليه منفرّا عنهم. [وليس مسألتهم على سبيل الاستسرار وبغير حضور قومهم يجري مجرى ما ذكرناه ؛ لأنه ليس يجوز أن يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه ؛ لأن منعهم منه لا يقتضي تنفيرا] (١).

ومن ذهب إلى أنّه سأل المعرفة الضرورية يقول : إنّه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف.

[وفي الناس من قال : إنّه تاب من حيث ذكر في الحال ذنبا صغيرا مقدما.

والّذي يجب أن يقال في تلفّظه بذكر التوبة : انه وقع على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه والتقرّب منه وان لم يكن هناك ذنب معروف. وقد يجوز أن يكون أيضا الغرض في ذلك مضافا إلى ما ذكرناه من الاستكانة والخضوع والعبادة تعليمنا وتفهيمنا على ما نستعمله وندعو به عنه نزول الشدائد وظهور الأهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصّة على التوبة ممّا التمسوه من الرؤية

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٥.

٣٦٢

المستحيلة عليه تعالى ؛ فإن الأنبياء عليهم‌السلام وان لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه (١)].

فأمّا قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) فإن التجلّي هاهنا التعريف والإعلام والإظهار لما تقتضى المعرفة ، كقولهم : هذا كلام جليّ أي واضح ، وكقول الشاعر :

تجلّى لنا بالمشرفيّة والقنا

وقد كان عن وقع الأسنّة نائيا

أراد أنّ تدبيره دلّ عليه حتى علم أنّه المدبّر له وإن كان نائيا عن وقع الأسنة ، فأقام ما ظهر من دلالة فعله على مقام مشاهدته ، وعبّر عنه بأنّه تجلّى منه.

وفي قوله : (لِلْجَبَلِ) وجهان :

أحدهما : أن يكون المراد لأهل الجبل ، ومن كان عند الجبل ، فحذف ؛ كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) ؛ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (٣).

وقد علمنا أنّه بما أظهره من الآيات إنّما دلّ من كان عند الجبل على أنّ رؤيته تعالى غير جائزة.

والوجه الآخر : أن يكون المعنى (لِلْجَبَلِ) أي بالجبل ، فأقام اللام مقام الباء ؛ كما قال تعالى : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) (٤) ؛ أي به ؛ وكما يقولون : أخذتك لجرمك أي بجرمك.

ولمّا كانت الآية الدالّة على منع ما سئل فيه إنّما حلّت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلّي إليه.

وقد استدلّ بهذه الآية كثير من العلماء الموحّدين على أنّه تعالى لا يرى

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٥.

(٢) سورة يوسف ، الآية : ٨٢.

(٣) سورة الدخان ، الآية : ٢٩.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٢٣.

٣٦٣

بالأبصار من حيث نفي الرؤية نفيا عاما بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ؛ ثمّ أكدّ ذلك بأن علّق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنّه لم يستقرّ. وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشيء ؛ لأنّهم يعلّقونه بما يعلم أنّه لا يكون ؛ كقولهم : لا كلّمتك ما أضاء الفجر ، وطلعت الشمس ؛ وكقول الشاعر :

إذا شاب الغراب رجوت أهلي

وصار القير كاللبن الحليب

وممّا يجري هذا المجرى قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) (٢).

وليس لاحد أن يقول : إذا علّق الرؤية باستقرار الجبل ؛ وكان ذلك في مقدوره ، فيجب أن تكون الرؤية معلّقة به أيضا في مقدوره ؛ بأنّه لو كان الغرض بذلك التبعيد لعلّقه بأمر يستحيل ، كما علّق دخولهم الجنّة بأمر مستحيل ؛ من ولوج الجمل في سمّ الخياط ؛ وذلك أنّ تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون من جميع الوجوه ؛ ولمّا علّق وقوع الرؤية باستقرار الجبل ـ وقد علم أنّه لا يستقرّ ـ علم نفي الرؤية. وما عدا ذلك من كون الرؤية مستحيلة وغير مقدورة ، واستقرار الجبل بخلافها يخرج عن ما هو الغرض في التشبيه على أنّه إنّما علّق تعالى جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها دكّا ، وذلك محال لما فيه من اجتماع الضدّين ، فجرى مجرى جواز الرؤية في الاستحالة. وليس يجب في كلّ ما علّق بغيره أن يجري مجراه في سائر وجوهه ؛ حتى إذا كان أحدهما مع انتفائه مستحيلا كان الآخر بمثابته ؛ لأنّ تعلّق دخول الكفار الجنّة إنّما علّق بولوج الجمل في سمّ الخياط ؛ وولوج الجمل في سمّ الخياط مستحيل ، بل معلوم أنّ الأوّل في المقدور وإن كان لا يحسن والثاني ليس فيه المقدور. وهذه الجملة كافية في تأويل هذه الآية وبيان ما فيها والحمد لله (٣).

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٠.

(٢) استشهد بهذه الآية في مواضع من كتبه للتعليق بما لا يقع على سبيل التبعيد ، انظر. تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٨٠ والأمالي ، ١ : ٨٠.

(٣) الأمالي ، ٢ : ١٨٥ وراجع أيضا تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١١ و ١٧٨ والملخص في أصول الدين ، ٢ : ٢٦٤.

٣٦٤

ـ (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) [الأعراف : ١٤٦].

[إن سأل سائل] فقال : ما تأويل هذه الآية على ما يطابق العدل؟ فانّ ظاهرها كأنّه مخالف له.

الجواب : قيل له : في هذه الآية وجوه ؛ منها ما ابتدأناه فيها ، ومنها ما سبقنا به فحرّرناه ، واحترزنا فيه من المطاعن ، وأجبنا عمّا لعلّه يعترض فيه من الشّبه.

أوّلها : أن يكون عنى بذلك صرفهم عن ثواب النظر في الآيات ، وعن العزّ والكرامة الذين يستحقّهما من أدّى الواجب عليه في آيات الله تعالى وأدلّته ، وتمسّك بها. والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة ، ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء عليهم‌السلام خاصة ؛ وهذا التأويل يطابقه الظاهر ؛ لأنّه تعالى قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ؛ فبيّن أنّ صرفهم عن الآيات مستحقّ بتكذيبهم ، ولا يليق ذلك إلّا بما ذكرناه.

وثانيها : أن يصرفهم تعالى عن زيادة المعجزات التي يظهرها الأنبياء عليهم‌السلام بعد قيام الحجّة لما تقدّم من آياتهم ومعجزاتهم ؛ لأنّه تعالى إنّما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم أنّه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدّم من الآيات ، فإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها ، وصرف الذين علم من حالهم أنّهم لا يؤمنون عنها ، ويكون الصّرف على أحد وجهين : إمّا بأن لا يظهرها جملة ، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم.

فإذا قيل : وما الفرق فيها ذكرتموه بين ابتداء المعجزات ، وبين زيادتها؟

قلنا : الفرق بينهما أنّ المعجز الأوّل يجب إظهاره لإزاحة العلّة في التكليف ؛ ولأنّا به نعلم صدق الرسول المؤدّي إلينا ما فيه لطفنا ومصلحتنا.

فإذا كان التكليف يوجب تعريف المصالح والألطاف لتزاح العلّة ، وكان لا سبيل إلى معرفتها على الوجه الذي يكون عليه لطفا إلّا من قبل الرسول ، وكان

٣٦٥

لا سبيل إلى العلم بكونه رسولا إلّا من جهة المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع ، وإظهار المعجز على يده لتعلّق هذه الأمور بعضها ببعض ، ولا فرق في هذا الموضع بين أن يعلم أنّ المبعوث إليهم الرسول ، أو بعضهم يطيعون ويؤمنون ، وبين ألّا يعلم ذلك في وجوب البعثة ، وما يجب وجوبها ، لأنّ تعريف المصالح ممّا يقتضيه التكليف العقليّ الذي لا فرق في حسنه بين أن يقع عنده الإيمان أو لا يقع ؛ وليس هذه سبيل ما يظهر من المعجزات بعد قيام الحجّة بما تقدّم منها ؛ لأنّه متى لم ينتفع بها منتفع ، ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن في إظهارها فائدة ، وكانت عبثا ؛ فافترق الأمران.

فإن قيل : كيف يطابق هذا التأويل قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ، ومن المعلوم أنّ صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقّا بذلك؟

قلنا : يمكن أن يكون قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) لم يرد به تعليل قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ) بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه في ترتيب الكلام ، وهو قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) ، لأنّ من كذب بآيات الله جل وعزّ ؛ وغفل عن تأمّلها والاهتداء بنورها ركب الغيّ ، واتّخذه سبيلا ، وحاد عن الرشد وضلّ ضلالا بعيدا. ورجوع لفظة «ذلك» إلى ما ذكرناه أشبه بالظاهر من رجوعها إلى قوله : (سَأَصْرِفُ) ؛ لأنّ رجوع اللفظ في اللغة إلى أقرب المذكورين إليه أولى.

ويمكن أن يكون قوله تعالى : (كَذَّبُوا) وإن كان بلفظ الماضي المراد به الاستقبال ، ويكون وجهه أنّ التكذيب لمّا كان معلوما منهم لو أظهرت لهم الآيات جعل كأنّه [واقع ، فبني الخطاب عليه ، ولهذا نظائر في اللغة كثيرة. أو يكون جوابا لمحذوف ؛ كأنّه] قال : ذلك بأنّه متى أظهرنا لهم آياتنا كذبوا بها. ويجري ما ذكرناه أوّلا مجرى قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) في أنّه بلفظ الماضي والمعنى الاستقبال.

وثالثها : أن يكون معنى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) ، أي لا أوتيها من هذه صفته ،

٣٦٦

وإذا [صرفهم عنها فقد صرفها عنهم] ، وكلا اللّفظتين تفيد معنى واحدا. وليس لأحد أن يقول هلّا قال : «سأصرف آياتي عن الذين يتكبرون» ؛ والآيات ههنا هي المعجزات التي تختص بها الأنبياء.

فإن قيل : فأيّ فائدة في قوله على سبيل التعليل : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وأيّ معنى لتخصيصه الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ ، وهو لا يؤتى الآيات والمعجزات إلّا الأنبياء دون غيرهم ، وإن كان ممّن لا يتكبّر؟

قلنا : لخروج الكلام مخرج التعليل على هذا التأويل وجه صحيح ؛ لأنّ من كذّب بآيات الله لا يؤتي معجزاته لتكذيبه وكفره ، وإن كان قد يكون غير مكذّب ، ويمنع من إتيانه الآيات علّة أخرى ؛ فالتكبّر والبغي بغير الحقّ مانع من إتياء الآيات ، وان منع غيره. ويجري هذا مجرى قول القائل : أنا لا أودّ فلانا لغدره ، ولا يلزم إذا لم يكن غادرا أن يودّه ، لأنّه ربّما خلا من الغدر وحصل على صفة أخرى تمنع من مودّته.

ويجوز أيضا أن تكون الآية خرجت على ما يجري مجرى السبب ، وأن يكون بعض الجهّال في ذلك العصر اعتقد جواز ظهور المعجزات على يد الكفّار المتكبّرين ، فأكذبهم الله تعالى بذلك.

ورابعها : أن يكون المراد بالآيات العلامات التي يجعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين ؛ ليدلّ بها الملائكة على الفرق بين المؤمن والكافر ، فيفعلوا بكلّ واحد منهما ما يستحقّه من التعظيم والاستخفاف ، كما تأوّل أهل الحق الطبع والختم الذين ورد بهما القرآن على أنّ المراد بهما العلامة المميّزة بين الكافر والمؤمن ؛ فيكون سأصرفه عنها ، أي أعدل بها عنهم ، وأخصّ بها المؤمنين المصدّقين بآياتي وأنبيائي. وهذا التأويل يشهد له أيضا قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ؛ لأنّ صرفهم عن هذه الآيات كالمستحقّ لتكذيبهم وإعراضهم عن آياته تعالى.

وخامسها : أن يريد تعالى : إنّي أصرف من رام المنع من أداء آياتي

٣٦٧

وتبليغها ؛ لأنّ من الواجب على الله تعالى أن يحول بين من رام ذلك وبينه ؛ ولا يمكّن منه ؛ لأنّه ينقض الغرض في البعثة. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) ؛ فتكون الآيات هاهنا القرآن وما جرى مجراه من كتب الله تعالى التي تحمّلتها الرسل.

والصرف وإن كان متعلقا في الآية بنفس الآيات فقد يجوز أن يكون المعنى متعلّقا [في الآية بنفس الآيات ، فقد يجوز أن يكون المعنى متعلّقا بغيرها] ممّا هو متعلّق بها. فإذا ساغ أن تعلّقه بالثواب والكرامة المستحقّين على التمسّك بالآيات ساغ أن يعلّقه بما يمنع من تبليغها وأدائها وإقامة الحجّة بها. وعلى هذا التأويل لا نجعل قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) راجعا إلى (سَأَصْرِفُ) بل نردّه إلى ما هو قبله بلا فصل ؛ من قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) على ما بيّناه في الوجه الثاني ، من تأويل هذه الآية.

وسادسها : أن يكون الصرف ههنا الحكم والتسمية والشهادة ، ومعلوم أنّ من شهد على غيره بالانصراف عن شيء جاز أن يقال [فيه] : «صرفه عنه» ، كما يقال : [أكفره وكذّبه وفسّقه] ؛ وكما قال جلّ من قائل : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ؛ أي شهد عليها بالانصراف عن الحقّ والهدى ، وكقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ؛ وهذا التأويل طابقه قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ؛ لأنّ الحكم عليهم [بما ذكرنا من التسمية يوجب تكذيبهم وغفلتهم] عن آيات الله وإعراضهم عنها.

وسابعها : أنّه تعالى لمّا علم أنّ الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحقّ سينصرفون عن النظر في آياته ، والإيمان بها إذا أظهرها على أيدي رسله عليهم‌السلام جاز أن يقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) فيريد سأظهر ما ينصرفون بغير اختيارهم عنه. ويجري ذلك مجرى قولهم : سأبخّل فلانا وأخطّئه ، أي أسأله ما يبخل ، ببذله وأمتحنه بما يخطئ فيه ، ولا يكون المعنى : سأفعل فيه البخل والخطأ.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦٧.

٣٦٨

والآيات على هذا الوجه جائز أن تكون المعجزات دون سائر الأدلة الدالة على الله تعالى ، وجائز أن تكون جميع الأدلة ؛ ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) غير راجع إلى قوله تعالى : (سَأَصْرِفُ) ؛ بل إلى ما قدّمنا ذكره لتصحّ الفائدة.

وثامنها : أن يكون الصّرف هاهنا معناه المنع من إبطال الآيات والحجج ، والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلّة وحججا ، فيكون تقدير الكلام : إنّي بما أؤيّد من حججي ، وأحكمه من آياتي وبيّناتي ؛ صارف للمطلبين والمكذّبين عن القدح في الآيات والدّلالات ، ومانع لهم ممّا كانوا لو لا هذا الإحكام والتأييد يعترضونه ويغتنمونه من تمويههم الحقّ ولبسه بالباطل. ويجري هذا مجرى قول أحدنا : قد منع فلان أعداءه بأفعاله الكريمة ، [وطرائقه المهذّبة ، وصرفهم عن ذمّه] ، وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه ؛ وإنّما يريد المعنى الذي ذكرناه.

فإن قيل : أليس في المبطلين من طعن على آيات الله تعالى وأورد الشبهة فيها مع ذلك؟

قلنا : لم يرد الله تعالى الصرف عن الطعن الذي لا يؤثّر ولا يشتبه على من أحسن النظر ، وإنّما أراد ما قدّمناه ، وقد يكون الشيء في نفسه مطعونا عليه ، وإن لم يطعن عليه طاعن ؛ كما قد يكون بريئا من الطعن ، وإن طعن فيه بما لم يؤثّر ؛ ألا ترى أنّ قولهم : فلان قد أخرس أعداءه من ذمّه ليس يراد به أنّه منعهم عن التلفّظ بالذمّ ، وإنّما المعنى أنّه لم يجعل للذم عليه طريقا ومجالا؟ ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا) يرجع إلى ما قبله بلا فصل ، ولا يرجع إلى قوله : (سَأَصْرِفُ).

وتاسعها : أنّ الله تعالى لمّا وعد موسى عليه‌السلام وأمّته إهلاك عدوّهم قال : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ، وأراد جلّ وعز أنّه يهلكهم ويصطلمهم ويجتاحهم على طريق العقوبة لهم ؛ بما كان منهم من التكذيب بآيات الله تعالى ، والردّ لحججه ، والمروق عن طاعته ، وبشّر من وعده

٣٦٩

بهذه الحال من المؤمنين بالوفاء بها ، وهو تعالى إذا أهلك هؤلاء الجبّارين المتكبّرين ، واصطلمهم فقد صرفهم عن آياته ، من حيث اقتطعهم عن مشاهدتها ، والنظر فيها بانقطاع التكليف عنهم ، وخروجهم عن صفات أهله.

وهذا الوجه يمكن أن يقال فيه : إنّ العقوبة لا تكون إلّا مضادّة للاستخفاف والإهانة ، كما أنّ الثواب لا بدّ أن يكون مقترنا بالتعظيم والتبجيل والإجلال ؛ وإماتة الله تعالى للأمم وما يفعله من بوار واهلاك لا يقترن إليه ما لا بدّ أن يكون مقترنا إلى العقاب من الاستخفاف ، ولا يخالف ما يفعله تعالى بأوليائه على سبيل الامتحان والاختبار ؛ فكيف يصحّ ما ذكرتموه!

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال : لا يمتنع أن يضمّ الله إلى ما يفعله بهؤلاء الكفّار المكذّبين [من الإهلاك والبوار اللعن والذم والاستخفاف] ، ويأمرنا [أن نفعل ذلك بهم ، فيكون ما يقع بهم من الإيلام على وجه العقوبة وبشروطها ، ولا يمتنع أن يكون الله تعالى يتعبّد ويأمر بإهلاكهم] ، وقتلهم على وجه الاستخفاف والنّكال ، ويضيف الله تعالى ذلك إليه من حيث وقع بأمره وعن أذنه.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) ؛ كأنّ في التكبّر ما يكون بالحقّ!

قلنا : في هذا وجهان :

أحدهما : أن يكون ذلك على سبيل التأكيد والتغليظ والبيان على أنّ التّكبر لا يكون إلّا بغير الحقّ ، وأنّ هذه صفة له لازمة غير مفارقة ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (١) ؛ وقوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) (٢) ، ولم يرد تعالى إلّا المعنى الذي ذكرناه. ومثله قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٣) ، ولم يرد النهي عن الثمن القليل دون الكثير ، بل أراد به تأكيد القول

__________________

(١) سورة المؤمنون ، الآية : ١١٧.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٥٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٤١.

٣٧٠

بأن كلّ ثمن يؤخذ عنها يكون قليلا بالإضافة إليها ، ويكون المتعوّض عنها مغبونا مبخوسا خاسر الصفقة.

والوجه الآخر : أنّ في التكبّر ما يكون ممدوحا لأنّ من تكبّر وتنزّه عن الفواحش والدنايا وتباعد عن فعلها ، وتجنب أهلها يكون مستحقّا للمدح ، سالكا لطريق الحقّ ؛ وإنّما التكبّر المذموم هو الواقع على وجه النّخوة والبغي والاستطالة على ذوي الضّعف والفخر عليهم ، والمباهاة لهم ، ومن كان بهذه الصفة فهو مجانب للتواضع الذي ندب الله إليه ، وأرشد إلى الثواب المستحقّ عليه ، ويستحقّ بذلك الذمّ والمقت ، ولهذا شرط تعالى أن يكون التكبّر بغير الحقّ. وقوله تعالى في هذه السورة : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) (١) ، يحتمل أيضا هذين الوجهين اللّذين ذكرناهما.

فإن أريد به البغي المكروه الذي هو الظلم وما أشبهه ، كان قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيدا وإخبارا عن أنّ هذه صفته ، وان أريد بالبغي الطلب ـ وذلك أصله في اللغة ـ كان الشرط في موضعه ؛ لأنّ الطلب قد يكون بالحقّ وبغير الحقّ.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) وهل الرؤية ها هنا العلم والإدراك بالبصر؟ وهب أنّها يمكن أن تكون في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) محمولة على رؤية البصر ، لأنّ الآيات والأدلّة ممّا تشاهد كيف تحمل الرؤية الثانية على العلم ، وسبيل الرشد إنّما هي طريقه ، ولا يصحّ أن يرجع بها إلى المذاهب والاعتقادات التي لا يجوز عليها رؤية البصر ، فلا بدّ إذا من أن يكون المراد به رؤية العلم ؛ ومن علم طريق الرّشد لا يجوز أن ينصرف عنه إلى طريق الغيّ ؛ لأنّ العقلاء لا يختارون مثل ذلك.

قلنا : الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر ، ويكون السبيل المذكور في الآية هي الأدلّة ، لأنّها ممّا يدرك بالبصر ، وتسمّى بأنّها سبيل إلى الرشد ، من

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٣٣.

٣٧١

حيث كانت وصلة إلى الرّشد ، وذريعة إلى حصوله ، ويكون سبيل الغيّ هو الشبهات والمخاريق التي ينصبها المبطلون والمدغلون في الدين ؛ ليوقعوا بها الشبهة على أهل الإيمان ، وتسمّى سبيلّ الغيّ ، وإن كان النظر فيها لا يوجب حصول الغيّ من حيث كان المعلوم ممّن تشاغل بها ، واغترّ بأهلها أنّه يصير إلى الغيّ.

والوجه الثاني : أن يكون المراد بالرؤية العلم ؛ إلّا أنّ العلم لا يتناول كونها سبيلا للرّشد ، وكونها سبيلا للغيّ ؛ بل يتناولها لا من هذا الوجه ؛ ألا ترى أنّ كثيرا من المبطلين يعلمون مذاهب أهل الحق واعتقاداتهم وحججهم ؛ إلّا أنهم يجهلون كونها صحيحة مفضية إلى الحقّ ، فيتجنبونها ؛ وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة الفاسدة ، إلّا أنّهم يجهلون كونها باطلة ، ويعتقدون صحّتها بالشبهة فيصيرون إليها؟ وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون الله تعالى وصفهم بالغيّ وترك الحقّ مع العلم به.

والوجه الثالث : أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغيّ ، ومميّزين بينهما ؛ إلّا أنّهم للميل إلى أعراض الدنيا ، والذّهاب مع الهوى والشبهات يعدلون عن الرشد إلى الغيّ ، ويجحدون ما يعلمون ، كما أخبر بها عن كثير من أهل الكتاب بأنّهم يجحدون الحقّ وهم يعلمونه ويستيقنونه.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ، والتكذيب لا يكون في الحقيقة إلّا في الأخبار دون غيرها؟

قلنا : التكذيب قد يطلق في الأخبار وغيرها ؛ ألا ترى أنّهم يقولون : «فلان يكذّب بكذا» إذا كان يعتقد بطلانه ، كما يقولون : يصدّق بكذا وكذا إذا كان يعتقد صحّته؟ ولو صرفنا التكذيب هاهنا إلى أخبار الله تعالى التي تضمّنتها كتبه الواردة على أيدي رسله عليهم‌السلام جاز ؛ وتكون الآيات هاهنا هي الكتب المنزّلة دون سائر المعجزات.

فإن قيل : فما معنى ذمّه تعالى لهم بأنّهم كانوا عن آياتنا غافلين ، والغفلة

٣٧٢

على مذاهبكم من فعله ، لأنّها السهو وما جرى مجراه ممّا ينافي العلوم الضروريّة ، ولا تكليف على الساهي فكيف يذمّ بذلك؟

قلنا : المراد هاهنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة ، ووجه التشبيه أنّهم لمّا أعرضوا عن تأمّل آيات الله تعالى ، والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها ، فأطلق عليهم هذا القول كما قال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١) ، على هذا المعنى ، وكما يقول أحدنا لمن يستبطئه ويصفه بالإعراض عن التأمل والتبيّن : أنت ميّت وراقد ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، وما أشبه ذلك ، وكل هذا واضح بحمد الله (٢).

ـ (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ١٥٠].

[فان قيل] أو ليس ظاهر هذه الآية يدلّ على أن هارون عليه‌السلام أحدث ما أوجب إيقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد فما الاعتذار لموسى عليه‌السلام من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرّعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟

الجواب : قلنا : ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهما‌السلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما ، وذلك أنّ موسى عليه‌السلام أقبل وهو غضبان على قومه لما أحدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكّرا منكرا ما كان منهم ، فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدّة الفكر. ألا ترى أنّ المفكّر الغضبان قد يعضّ على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى عليه‌السلام أخاه هارون مجرى نفسه ؛ لأنّه كان أخاه وشريكه وحريمه ، ومن يمسّه من الخير والشر ما يمسّه ، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في أحوال الفكر والغضب ، وهذه الأمور تختل أحكامها بالعادات ، فيكون ما هو إكرام في بعضها استخفافا في غيرها ، ويكون ما هو استخفاف في موضع إكراما في آخر.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨.

(٢) الأمالي ، ١ : ٣٠٤.

٣٧٣

وأما قوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (١) ، فليس يدلّ على أنّه وقع على سبيل الاستخفاف ، بل لا يمتنع أن يكون هارون عليه‌السلام خاف من أن يتوهّم بنو إسرائيل لسوء ظنّهم انّه منكر عليه معاتب له ، ثمّ ابتدأ بشرح قصّته فقال في موضع آخر : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٢) وفي موضع آخر : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) إلى آخر الآية ، ويمكن أن يكون قوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ليس على سبيل الامتعاظ والأنفة أي الغيرة ، لكن معنى كلامه : «لا تغضب ولا يشتدّ جزعك وأسفك» ؛ لأنّا إذا كنّا قد جعلنا فعله ذلك دلالة الغضب والجزع فالنهي عنه في المعنى نهي عنهما.

وقال قوم : إنّ موسى عليه‌السلام لمّا جرى من قومه من بعده ما جرى اشتدّ حزنه وجزعه ، ورأى من أخيه هارون عليه‌السلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق ، أخذ برأسه إليه متوجّعا له مسكّنا له ، كما يفعل أحدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها.

وعلى هذا الجواب يكون قوله : (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) لا يتعلّق بهذا الفعل ، بل يكون كلاما مستأنفا.

وأمّا قوله على هذا الجواب : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ، فيحتمل أن يريد أن لا تفعل ذلك وغرضك التسكين منّي فيظنّ القوم أنّك منكر عليّ.

وقال قوم في هذه الآية : إنّ بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه‌السلام ، حتّى أنّ هارون عليه‌السلام كان غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليه‌السلام : أنت قتلته ، فلمّا وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة وأتمّها له بعشر وكتب له في الألواح كلّ شيء وخصّه بأمور شريفة جليلة الخطر ، بما أراه من الآية في الجبل ومن كلام الله تعالى له وغير ذلك من شريف الأمور ، ثمّ رجع إلى أخيه ، أخذ برأسه ليدنيه إليه ويعلمه ما جدّده الله تعالى له من ذلك ويبشّره به ، فخاف هارون عليه‌السلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقا على

__________________

(١) سورة طه ، الآية : ٩٤.

(٢) سورة طه ، الآية : ٩٤.

٣٧٤

موسى عليه‌السلام : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) لتبشّرني بما تريده بين أيدي هؤلاء فيظنّوا بك ما لا يجوز عليك ولا يليق بك والله تعالى أعلم بمراده من كلامه (١).

ـ (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا ...) [الأعراف : ١٥٥].

أنظر الأعراف : ١٤٣ من الأمالي ، ٢ : ١٨٥.

ـ (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ...) [الأعراف : ١٥٧]

«[قال الناصر رحمه‌الله :] إذا وقعت النجاسة في ماء يسير نجس ، تغيّر بها أو لم يتغيّر».

هذا صحيح ، وهو مذهب الشيعة الإماميّة وجميع الفقهاء ... والحجّة في صحّة مذهبنا : إجماع الشيعة الإماميّة ، وفي إجماعهم عندنا الحجّة ، وقد دلّلنا على ذلك في غير موضع من كتبنا (٢).

وأيضا قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٣) وقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) (٤).

وهذه الظواهر تقتضي تحريم النجاسة من غير مراعاة لتغيّر الأوصاف التي هي الطعام واللون والرائحة (٥).

ـ (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ ...) [الأعراف : ١٥٨].

أنظر الأعراف : ٥٤ من الملخص ، ٢ : ٤٤٠.

ـ (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨].

أنظر البقرة : ٤٩ من الأمالي ، ٢ : ٩٤.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١١٦.

(٢) راجع المقدّمات.

(٣) سورة المدثر ، الآية : ٥.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٣.

(٥) الناصريات : ٦٧.

٣٧٥

ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣)) [الأعراف : ١٧٢ ـ ١٧٣].

وقد ظن بعض من لا بصيرة له ، ولا فطنة عنده أنّ تأويل هذه الآية أنّ الله تعالى استخرج من ظهر آدم عليه‌السلام جميع ذريته ، وهم في خلق الذّرّ ، فقرّرهم بمعرفته ، وأشهدهم على أنفسهم.

وهذا التأويل ـ مع أنّ العقل يبطله ويحيله ـ ممّا يشهد ظاهر القرآن بخلافه ؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ، ولم يقل : من آدم ، وقال : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل : من ظهره ، وقال : (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، ولم يقل : ذرّيته ؛ ثمّ أخبر تعالى بأنّه فعل ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة : إنّهم كانوا عن ذلك غافلين ، أو يعتذروا بشرك آبائهم ، وأنّهم نشؤوا على دينهم وسنّتهم ؛ وهذا يقتضي أنّ الآية لم تتناول ولد آدم عليه‌السلام لصلبه ، وأنّها إنّما تناولت من كان له آباء مشركون ؛ وهذا يدلّ على اختصاصها ببعض ذريّة بني آدم ؛ فهذه شهادة الظّاهر ببطلان تأويلهم ، فأمّا شهادة العقول فمن حيث لا تخلو هذه الذّرّية التي استخرجت من ظهر آدم عليه‌السلام فخوطبت وقرّرت من أن تكون كاملة العقول ، مستوفية لشروط التكليف ، أو لا تكون كذلك ؛ فإن كانت بالصّفة الأولى وجب أن يذكر هؤلاء بعد خلقهم وإنشائهم ، وإكمال عقولهم ما كانوا عليه في تلك الحال ، وما قرّروا به ، واستشهدوا عليه ؛ لأنّ العاقل لا ينسي ما يجري هذا المجرى ، وإن بعد العهد وطال الزمان ؛ ولهذا لا يجوز أن يتصرّف أحدنا في بلد من البلدان وهو عاقل كامل فينسي مع بعد العهد جميع تصرّفه المتقدّم وسائر أحواله.

وليس أيضا لتخلّل الموت بين الحالين تأثير ؛ لأنّه لو كان تخلّل الموت يزيل الذكر لكان تخلّل النوم والسّكر والجنون والإغماء من أحوال العقلاء يزيل ذكرهم لما مضي من أحوالهم ؛ لأنّ سائر ما عددناه ممّا ينفي العلوم يجري

٣٧٦

مجرى الموت في هذا الباب. وليس لهم أن يقولوا : إذا جاز في العاقل الكامل أن ينسي ما كان عليه في حال الطفوليّة جاز ما ذكرناه ؛ وذلك أنّا إنّما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى عليهم وهم كاملو العقول ، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه ؛ على أنّ تجويز النّسيان عليهم ينقص الغرض في الآية ، وذلك أنّ الله تعالى أخبر بأنّه إنّما قرّرهم وأشهدهم لئلا يدّعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك ، وسقوط الحجّة عنهم فيه ؛ فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجّة وزوالها ، وإن كانوا على الصّفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم ، وصار ذلك عبثا قبيحا ؛ يتعالى الله عنه.

فإن قيل : قد أبطلتم تأويل مخالفيكم ، فما تأويلها الصحيح عندكم؟

قلنا في هذه الآية وجهان :

أحدهما : أن يكون تعالى إنّما عنى بها جماعة من ذرّية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم ، وقرّرهم على ألسن رسلهم عليهم‌السلام بمعرفته وما يجب من طاعته ، فأقرّوا بذلك ، وأشهدهم على أنفسهم به ؛ لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (١) ، أو يتعذروا بشرك آبائهم. وإنّما أتى من اشتبه عليه تأويل الآية من حيث ظنّ أنّ اسم الذرية لا يقع إلّا على من لم يكن كاملا عاقلا ؛ وليس الأمر كما ظنّ ، لأنّا نسمّي جميع البشر بأنّهم ذرية آدم ؛ وإن دخل فيهم العقلاء الكاملون ، وقد قال تعالى : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) (٢). ولفظ الصالح لا يطلق إلّا على من كان كاملا عاقلا ؛ فإن استبعدوا تأويلنا وحملنا الآية على البالغين المكلّفين ؛ فهذا جوابهم.

والجواب الثاني : أنّه تعالى لمّا خلقهم وركّبهم تركيبا يدلّ على معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته ، وأراهم العبر والآيات والدّلائل في أنفسهم وفي

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٢) سورة غافر ، الآية : ٨.

٣٧٧

غيرهم كان بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم ، وكانوا في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله تعالى ، وتعذّر امتناعهم منه ، وانفكاكهم من دلالته بمنزلة المقرّ المعترف ؛ وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف على الحقيقة ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) ، وإن لم يكن منه تعالى قول على الحقيقة ، ولا منهما جواب ، ومثله قوله تعالى : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) (٢). ونحن نعلم أنّ الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم ؛ وإنّما لمّا ظهر منهم ظهورا لا يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به ؛ ومثل هذا قولهم : جوارحي تشهد بنعمتك ، وحالي معترفة بإحسانك. وما روي عن بعض الخطباء من قوله : سل الأرض : من شقّ أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا (٣). وللعرب في هذا المعنى من الكلام المنثور والمنظوم ما لا يحصى كثرة ، ومنه قول الشاعر :

إمتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ومعنى ذلك : انّني ملأته حتّى أنّه ممّن يقول : حسبي قد اكتفت ، فجعل ما لو كان قائلا لنطق ، كأنّه قال : ونطق به (٤).

[فإن قيل :] ما تقول في الأخبار التي رويت من جهة المخالف والموافق في الذرّ ، وابتداء الخلق على ما تضمّن تلك الأخبار ، هل هي صحيحة أم لا؟ وهل لها مخرج من التأويل يطابق الحقّ؟

الجواب :

إنّ الأدلّة القاطعة إذ دلّت على أمر وجب إثباته والقطع عليه ، وأن لا يرجع عنه بخبر محتمل ، ولا بقول معترض للتأويل ، وتحمل الأخبار الواردة بخلاف ذلك على ما يوافق تلك الدلالة ويطابقه ، وإن رجعنا بذلك عن ظواهرها ،

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ١١.

(٢) سورة التوبة ، الآية : ١٧.

(٣) الأمالي ، ١ : ٥٤.

(٤) الرسائل ج ١ ص ١١٥ و ١١٤.

٣٧٨

وبصحّة هذه الطريقة نرجع عن ظواهر آيات القرآن التي تتضمّن إجبارا أو تشبيها (١) ؛ فهذه الأخبار إمّا أن تكون باطلة مصنوعة ، أو يكون تأويلها ـ إن كانت صحيحة ـ ما ذكرناه (٢).

ـ (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠].

أنظر الإسراء : ١١٠ من الأمالي ، ٢ : ٢٧٠ ، ٢٧٣.

ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)) [الأعراف : ١٨٩ ـ ١٩٠].

[فإن قال قائل :] أوليس ظاهر هذه الآية يقتضي وقوع المعصية من آدم عليه‌السلام ؛ لأنّه لم يتقدّم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه إلّا ذكر آدم عليه‌السلام وزوجته ؛ لأنّ النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء ، فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه ، على أنّه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى ، لمّا أن حملت حوّاء عرض لها وكانت ممّن لا يعيش لها ولد. فقال لها [ان] أحببت أن يعيش ولدك فسمّيه عبد الحارث ، وكان إبليس قد سمّي الحارث ، فلمّا ولدت سمّت ولدها بهذه التسمية. فلهذا قال تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما).

الجواب : يقال له : قد علمنا أن الدلالة العقلية الّتي قدّمناها في باب أنّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير محتملة ، ولا يصحّ دخول المجاز فيها. والكلام في الجملة يصحّ فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلا بدّ من بناء المحتمل على ما لا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل ، لكنّا نعلم في الجملة أنّ تأويلها مطابق لدلالة العقل. وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل وممّا يشهد له اللغة وجوه :

__________________

(١) الرسائل ج ١ ص ١١٣.

(٢) الرسائل ج ١ ص ١١٥ و ١١٤.

٣٧٩

منها : أنّ الكناية في قوله سبحانه : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) غير راجعة إلى آدم وحوّاء عليهما‌السلام ، بل إلى الذكور والإناث من أولادهما ، أو إلى جنسين ممّن اشترك من نسلهما. وإن كانت الكناية الأولى تتعلّق بهما ويكون تقدير الكلام : فلمّا آتى الله آدم وحوّاء الولد الصالح الّذي تمنّياه وطلباه جعل كفّار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى.

ويقوّي هذا التأويل قوله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). وهذا ينبئ على أنّ المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدّمة راجعة إلى آدم وحوّاء عليهما‌السلام ، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا إليهما ؛ لأنّ الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره ، ومن كناية إلى خلافها.

قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١) فانصرف من مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مخاطبة المرسل إليهم ، ثمّ قال : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (٢) يعني الرسول ، ثمّ قال : (وَتُسَبِّحُوهُ) يعني مرسل الرسول ، فالكلام واحد متّصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى.

وقال الهذلي (٣) :

يا لهف نفسي كأنّ جدّة خالد

وبياض وجهك للتراب الأعفر

ولم يقل بياض وجهه.

وقال كثير :

أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقلية إن تقلّت (٤)

فخاطب ثمّ ترك الخطاب.

__________________

(١) سورة الفتح ، الآيتان : ٨ ـ ٩.

(٢) سورة الفتح ، الآية : ٩.

(٣) هو أبو كبير ، والبيت من قصيدة له في شعر الهذليين ، ٢ : ١٠٢.

(٤) أمالي القالي ، ٢ : ١٠٩.

٣٨٠