تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

منها : أن الأمة مجمعة مع اختلافها على توجهها إليه عليه‌السلام ؛ لأنها بين قائل إنه عليه‌السلام المختص بها ، وقائل إن المراد بها جميع المؤمنين الذي هو عليه‌السلام أحدهم.

ومنها : ورود الخبر بنقل طريقتين مختلفتين ومن طريق العامة والخاصة بنزول الآية في أمير المؤمنين عليه‌السلام عند تصدّقه بخاتمه في حال ركوعه ، والقصة في ذلك مشهورة ومثال الخبر الذي ذكرنا إطباق أهل النقل عليه ما يقطع به.

ومنها : أنا قد دلّلنا على أن المراد بلفظة ولى في الآية ما يرجع إلى الإمامة ، ووجدنا كلّ من ذهب إلى أن المراد بهذه اللفظة ما ذكرناه يذهب إلى أن أمير المؤمنين عليه‌السلام المقصود بها ، فوجب توجهها إليه ، والذي يدل على أنّه عليه‌السلام المختصّ باللفظة دون غيره أنه إذا ثبت اقتضاء اللفظة للإمامة وتوجهها إليه عليه‌السلام بما بيّناه ، وبطل ثبوت الإمامة لأكثر من واحد في الزمان ثبت أنه عليه‌السلام المتفرد بها ؛ ولأن كل من ذهب إلى أن اللفظة تقتضي الإمامة أفرده صلوات الله عليه بموجبها.

قال صاحب الكتاب : «واعلم أن المتعلق بذلك لا يخلو (١) من أن يتعلق بظاهره أو بأمور تقارنه ، فإن تعلق بظاهره فهو غير دال على ما ذكر ، وإن تعلق بقرينة فيجب أن يبيّنها ، ولا قرينة في ذلك من إجماع أو خبر مقطوع به.

فإن قيل : ومن أين أن ظاهره لا يدلّ على ما ذكرناه؟

قيل له : من وجوه : أحدها : أنّه تعالى ذكر الذين آمنوا من غير تخصيص بمعين (٢) أو نص عليه ، والكلام بيننا وبينهم في واحد معيّن فلا فرق بين من تعلّق بذلك في أنه الإمام وبين من تعلّق به في أن الإمام غيره وجعله نصّا فيه ، على أنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معين؟ وقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) لو ثبت أنه لم يحصل إلّا لأمير المؤمنين عليه‌السلام لم يوجب ذلك أنه المراد بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لأن صدر الكلام إذا كان عاما لم يجب تخصيصه

__________________

(١) في المغني : «لا يخلو إما».

(٢) في المغني «تخصيص لعليّ».

١٦١

لأجل تخصيص الصفة ، كما ذكرناه في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) إلى ما شاكله ، وليس يجب إذا ما خصّصنا الذي ذكره ثانيا لدليل أن نخصّ الذي ذكره أولا (٢) من غير دليل» (٣).

يقال له : قد بيّنا كيفية الاستدلال بالآية على النصّ ودلّلنا على أنّها متناولة لأمير المؤمنين عليه‌السلام دون غيره ، وفي ذلك إبطال لما تضمّنه صدر هذا الفصل وجواب عنه.

فأمّا حمل لفظ الجمع على الواحد فجائز معهود استعماله في اللغة والشريعة ، قال الله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) (٤) (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (٥) و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) (٦) وإنّما المراد العبارة عنه تعالى دون غيره ، وهو واحد ، ومن خطاب الملوك والرؤساء «فعلنا كذا» و «أمرنا بكذا» ، ومرادهم الوحدة دون الجمع ، والأمر في استعمال هذه الألفاظ على التعظيم في العبارة عن الواحد ظاهر ، فإن أراد صاحب الكتاب بقوله : «إنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معيّن» السؤال عن جواز ذلك في اللغة ، وصحّة استعماله ، فقد دلّلنا وضربنا له الأمثلة ، وإن سأل عن وجوب حمل اللفظ مع أن ظاهره للجمع على الواحد ، فالذي يوجبه هو ما ذكرناه فيما تقدّم.

فأمّا إلزامه أن يكون لفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) على عمومه وإن دخل التخصيص في قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فغير صحيح ؛ لأن اختصاص الصفة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع يدلّ على اختصاص صدر الكلام ؛ لأن الكل صفات الموصوف الواحد ، ألا ترى أن قائلا لو قال في وصيته : أعطوا من مالي كذا للعرب ، الذين لهم نسب في بني هاشم ؛ أو قال : لقيت الأشراف النازلين في محلّة كذا ، لم يوجب كلامه ، ولم يفهم منه إلّا تفريق ماله على من اختصّ من

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١١٠. تقدّم كلامه ذيل هذه الآية فراجع.

(٢) المغني «أولا ، لا من دليل».

(٣) المغني ، ٢٠ : ١٣٤.

(٤) سورة الذاريات ، الآية : ٤٧.

(٥) سورة نوح ، الآية : ١.

(٦) سورة الحجر ، الآية : ٩.

١٦٢

العرب بكونه من بني هاشم ؛ وأنه لقي من الأشراف من كان نازلا في المحلة المخصوصة التي عيّنها ، وإن أحدا لا يقول : إن ظاهر كلامه يقتضي إعطاء المال لكل العرب ، وأنه لقي أشراف بلده كلهم ، أو إشراف جميع الأرض ، ويدّعي أن القول المتقدّم لا يختصّ بتخصيص الصفة الواردة عقيبه ، فقد وجب بما ذكرناه أن يختص لفظ (الَّذِينَ آمَنُوا) بمن آتى الزكاة في حال الركوع ، كما وجب اختصاص ما استشهد به من المثالين.

فإن قال : أراكم قد حملتم الآية على مجازين أحدهما : أنّكم جعلتم لفظ الجمع للواحد ، والمجاز الآخر : حملكم لفظ الاستقبال على الماضي ؛ لأن قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لفظه لفظ الاستقبال وأنتم تجعلونه عبارة عن فعل واقع ، فلم صرتم بذلك أولى منا إذا حملنا الآية على مجاز واحد ، وهو أن يحمل قوله تعالى : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) على أنه أراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة ، ومن صفتهم أنّهم راكعون ، من غير أن يكون إحدى الصفتين حالا للأخرى ، هذا إذا ثبت أنه إذا حمل على ذلك كان مجازا على نهاية اقتراحكم أو تحمله لفظة (إِنَّما) إذا عدلنا عن تأويل الركوع بما ذكرناه على المبالغة لا على تخصيص الصفة بالمذكور ونفيها عمّن عداه ، فنكون أولى منكم ؛ لأن معكم في الآية على تأويلكم مجازين ومعنا مجاز واحد.

قيل له : أما ظنّك أن لفظ «يؤتون» موضوع للاستقبال وحمله على غيره يقتضي المجاز فغلط ؛ لأن لفظة «يفعلون» وما أشبهها من الألفاظ التي تدخل عليها الزوائد الأربع الموجبة للمضارعة وهي الهمزة والتاء والنون الياء (١) ليست مجرّدة للاستقبال ، بل هي مشتركة بين الحال والاستقبال ، وإنما تخلص للاستقبال بدخول السين أو سوف ، وقد نصّ على ما ذكرناه النحويّون في كتبهم ، فمن حملها على الحال دون الاستقبال لم يتعدّ الحقيقة ، ولا تجاوز باللفظة ما وضعت له ، وعلى هذا تأولنا الآية ؛ لأنا جعلنا لفظة «يؤتون الزكاة» عبارة عما

__________________

(١) ويجمعها لفظة «أنيت».

١٦٣

وقع في الحال من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليس يمتنع أن نذكر في الجواب عن السؤال وجها آخر ـ وإن كنّا لا نحتاج مع ما ذكرنا إلى غيره ؛ لأنّه الظاهر من مذهب أهل العربية ـ وهو أن يقال : إن نزول الآية وخطاب الله تعالى بها يجوز أن يكونا قبل الفعل الواقع في تلك الحال ، فتجري اللفظة على جهة الاستقبال وهو الحقيقة ، بل الظاهر من مذاهب المتكلمين في القرآن انّ الله تعالى أحدثه في السماء قبل نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمدد طوال وعلى هذا المذهب لم يجر لفظ الاستقبال في الآية إلّا على وجهه ؛ لأنّ الفعل المخصوص عند احداث القرآن في الابتداء لم يكن إلّا مستقبلا ، وإنّما يحتاج إذا كان القول في القرآن على ما حكيناه إلى أن تتأول ألفاظه الواردة بلفظة الماضي مما يعلم أنّه وقع مستقبلا ، وإلّا فما ذكر بلفظ الاستقبال لا حاجة بنا إلى تأوله لوقوعه على وجهه ، فأمّا لفظة «الذين» فإنّها وإن كانت موضوعة في الأصل للجمع دون الواحد فغير ممتنع أن تكون بالعرف وكثرة الاستعمال قد دخلت في أن تستعمل في الواحد المعظم أيضا على سبيل الحقيقة ، يدلّ على ذلك أنّ قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) وما أشبهه من الألفاظ لا يصحّ أن يقال : أنه مجاز ، وكذلك قول أحد الملوك : «نحن الذين فعلنا كذا».

لا يقال إنّه خارج عن الحقيقة ؛ لأن العرف قد ألحقه ببابها ، ولا شكّ في أنّ العرف يؤثر هذا التأثير ، كما أثر في لفظة «غائط» (٢) وما أشبهها ، على أنا لو سلمنا أن استعمال لفظة الذين في الواحد مجاز وعلى وجه العدول عن الحقيقة لكنا بحمل الآية على هذا الضرب من المجاز أولى منكم بحملها على أحد المجازين اللذين ذكرتموهما في السؤال من وجهين :

أحدهما : أن المجاز الذي لم يشاهد في الاستعمال وجرت عادة أهل اللسان باستعماله أولى ممّا لم يكن بهذه الصفة ، وقد بيّنا الشاهد باستعمال

__________________

(١) سورة نوح ، الآية : ١.

(٢) فإن الغائط في الأصل المطمئن من الأرض الواسع ولما كان من يريد قضاء الحاجة يطلب ذلك المكان قيل : جاء من الغائط ثم نقلها العرف إلى المعنى المشهور حتى ترك المعنى الأول.

١٦٤

مجازنا من القرآن والخطاب ، وأنّه لقوّته وظهوره قد يكاد يلحق بالحقائق ، وليس يمكن المخالف أن يستشهد في استعمال مجازه لا قرآنا ولا سنّة ولا عرفا في الخطاب ؛ لأن خلو سائر الخطاب من استعمال مثل قوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) إلّا على معنى يؤتون الزكاة في حال الركوع ظاهر ، وكذلك خلوه من استعمال لفظة (إنّما) على وجه التخصيص وإن وجدت هذه اللفظة فيما يخالف ما ذكرناه فلن يكون ذلك إلّا على وجه الشذوذ والمجاز ، ولا بدّ أن يكون هناك شبه قوي يختصّ بالصفة ولا تثبت إلّا له حتى يكون المسوّغ لاستعمالها قوّة الشبه بما يبلغ الغاية في الاختصاص.

والوجه الآخر : انا إذا حملنا الآية على أحد المجازين اللذين في خبر المخالف ليصحّ تأولها على معنى الولاية في الدين دون ما يقتضي وجوب الطاعة والتحقق بالتدبير لم نستفد بها إلّا ما هو معلوم لنا ؛ لأنا نعلم وجوب تولّي المؤمن في الدّين بالقرآن ، وقد تأولنا الآية الدالة على ذلك فيما تقدم ، وبالسنّة والاجماع ، والأمر فيه ظاهر جدّا ؛ لأن كل أحد يعلمه من دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا عدلنا إلى المجاز الذي اخترناه في تأويل الآية استفدنا معه بالآية فائدة ظاهرة لا تجري مجرى الأولى ، وكلام الحكيم كما يجب حمله على الوجه الذي يفيد عليه ، كذلك حمله على ما كان أزيد فائدة ، فظهرت مزية تأويلنا على كلّ وجه.

وبعد ، فمن ذهب من مخالفينا إلى أن الألف واللام إذا لم يكونا للعهد اقتضتا الاستغراق وهم الجمهور وصاحب الكتاب أحد من يرى ذلك ، فلا بدّ له في تأويل الآية من مجاز آخر زائد على ما تقدم ؛ لأن لفظه «الذين آمنوا» تقتضي الاستغراق على مذهبه ، وهو في الآية لا يصحّ أن يكون مستغرقا لجميع المؤمنين ؛ لأنّه لا بدّ أن يكون خطابا للمؤمنين ؛ لأن الموالاة في الدين لا تجوز لغيرهم ، ولا بدّ أن يكون من خوطب بها ووجّه بقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) خارجا عمّن عني بالذين آمنوا وإلّا أدّى إلى أن يكون كلّ واحد ولي نفسه ، فوجب أن يكون لفظ «الذين آمنوا» غير مستغرق لجميع المؤمنين ، وإذا خرج عن

١٦٥

الاستغراق خرج عن الحقيقة عند من ذكرناه من مخالفينا ولحق بالمجاز ، وانضم هذا المجاز إلى أحد المجازين المتقدّمين ، فصارا مجازين ، وعلى تأويلنا إذا سلمنا أن العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على سبيل التعظيم يكون مجازا لا يتحصّل إلّا مجاز واحد ، فصار تأويلنا في هذه أولى من تأويله.

قال صاحب الكتاب : «وبعد ، فمن أين أن المراد بالثاني هو أمير المؤمنين عليه‌السلام وظاهره يقتضي الجمع (١)؟

وليس يجب إذا روي أنه عليه‌السلام تصدّق بخاتمه وهو راكع ألّا يثبت غيره مشاركا له في هذا الفعل بل (٢) يجب لأجل الآية أن يقطع (٣) في غيره بذلك وإن لم ينقل (٤) ؛ لأن نقل ما جرى هذا المجرى لا يجب ، وبعد فمن أين أن المراد بقوله : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ما زعموه ، دون أن يكون المراد به أنهم يؤتون الزكاة وطريقتهم التواضع والخضوع ليكون ذلك مدحا لهم في إيتاء الزكاة وإخراجا لهم (٥) من أن يؤتوها مع المن والأذى وعلى طريقة (٦) الاستطالة والتكبر ، فكأنّه تعالى مدحهم غاية المدح فوصفهم بإقامة (٧) الصلاة وبأنهم يؤتون الزكاة على أقوى وجوه القربة ، وأقوى ما تؤدى عليه الزكاة مع ما ذكرناه وليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة ؛ لأن الواجب في الراكع أن يصرف همّته ونيّته إلى ما هو فيه ولا يشتغل بغيره ومتى أراد الزكاة فعلها تالية للصلاة ، فكيف يحمل الكلام على ذلك ولا يحمل على ما يمكن توفية العموم (٨) حقه معه أولى ممّا يقتضي تخصيصه ، ...» (٩).

__________________

(١) المغني «الجميع».

(٢) في المغني «بل يجب بالأثر أن نقطع على غيره بذلك».

(٣) لأجل أن لا يمتنع أن يقطع ، خ ل.

(٤) لو كان لنقل ولو من طريق ضعيف وقد روي عن أحد الصحابة أنّه قال : «لقد تصدقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل فيّ ما نزل بعلي فما نزل» سفينة البحار ١ / ٣٧٨ مادة ختم).

(٥) في المغني «فاخراج حالهم».

(٦) في المغني «طريق».

(٧) في المغني «بادامة الصلاة» وما في المتن أوجه.

(٨) في المغني «ما يمكن فيه العموم».

(٩) المغني ، ٢٠ : ١٣٥.

١٦٦

يقال له : قد دلّلنا على أن المراد باللفظ الأول الذي هو (الَّذِينَ آمَنُوا) أمير المؤمنين عليه‌السلام وإن كان لفظ جمع ، واللفظ الثاني الذي هو «يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» إذا كان صفة للمذكور باللفظ الأول ، فيجب أن يكون المعنيّ بهما واحدا ، ولم نعتمد في أنه عليه‌السلام المخصوص بقوله تعالى : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) دون غيره على نقل الخبر ، بل اعتمدنا الخبر في جملة غيره من الوجوه في الدلالة على توجّه الآية إليه عليه‌السلام واعتمدنا في أنه عليه‌السلام المتفرّد بها دون غيره على الوجهين اللذين قدّمناهما.

فأمّا حمله لفظة الركوع على التواضع فغلط بيّن ؛ لأنّ الركوع لا يفهم منه في اللغة والشرع معا إلّا التطأطؤ المخصوص دون التواضع والخضوع ، وإنّما يوصف الخاضع بأنه راكع على سبيل التشبيه والمجاز ، لما يستعمله من التطامن وترك التطاول.

قال صاحب الكتاب «العين» : «كلّ شيء ينكبّ لوجهه فيمسّ بركبتيه الأرض أو لا يمسّ بعد أن تطأطأ رأسه فهو راكع وأنشد للبيد (١) :

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدبّ كأني كلما قمت راكع

وقال صاحب الجمهرة : الراكع الذي يكبو على وجهه ، ومنه الركوع في الصلاة قال الشاعر :

وأفلت حاجب فوت العوالي

على شقاء تركع في الظراب

أي يكبو على وجهها».

وإذا ثبت أن الحقيقة في الركوع ما ذكرناه لم يسغ حمله على المجاز لغير ضرورة.

ويقال له : في قوله : «ليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة ، وأن الواجب على الراكع أن يصرف همّته إلى ما هو فيه» إنّما لا يكون ما ذكرته

__________________

(١) البيت من قصيدة للبيد بن ربيعة مطلعها :

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

١٦٧

مدحا إذا كان قطعا للصلاة وانصرافا عن الاهتمام بها والاقبال عليها ، فأمّا إذا كان مع القيام بحدودها والأداء بشروطها فلا يمتنع أن يكون مدحا ، على أن الخبر الذي بيّنا وروده من طريقين مختلفين مبطل لتأويله هذا ؛ لأن الرواية وردت بأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما خرج إلى المسجد وسأل عمن تصدّق على السائل فعرف أن أمير المؤمنين عليه‌السلام تصدّق بخاتمه هو راكع ، قال : «إن الله تعالى أنزل فيه قرآنا» وقرأ الآيتين ؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن فعله عليه‌السلام وقع على غاية ما يقتضي المدح والتعظيم ، فكيف يقال : إنه يتنافى في الجمع بين الصلاة والزكاة؟

وبعد ، فإنا لم نجعل إيتاء الزكاة في حال الركوع جهة لفضل الزكاة حتى يجب الحكم بأن فعلها في حال الركوع أفضل ، بل مخرج الكلام يدل على أنه وصف بإيتاء الزكاة في حال الركوع المذكور أولا على سبيل التمييز له من غيره وللتعريف ، فكأنّه تعالى لما قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أراد أن يعرف من عناه بالذين آمنوا فقال تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) غير أنّ وجه الكلام وإن كان ما ذكرناه ، فلا بدّ أن يكون في إعطائه الزكاة في حال الركوع غاية الفضل وأعلى وجوه القرب ، بدليل نزول الآية الموجبة للمدح والتعظيم فيه عليه‌السلام ، وبما وقع من مدحه عليه‌السلام أيضا يعلم أن فعله للزكاة لم يكن شاغلا عن القيام بحدود الصلاة.

قال صاحب الكتاب ـ بعد أن أورد كلاما يتضمن أن إثباته وليا لنا لا يمنع من كون غيره بهذه الصفة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك ـ : «وبعد فإن صحّ أنه المختص بذلك ، فمن أين أنه يختص بهذه الصفة في وقت معيّن ولا ذكر للأوقات فيه؟

فإن قالوا : لأنّه تعالى أثبته كذلك فيجب أن يكون هذا الحكم ثابتا له في كلّ وقت.

قيل لهم : إن الظاهر انما يقتضي أنه كذلك في حال الخطاب ، وقد علمنا أنه لا يصحّ أن يكون إماما مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يصحّ التعلّق بظاهره.

ومتى قيل : إنّه إمام من بعد في بعض الأحوال فقد زالوا عن الظاهر ،

١٦٨

وليسوا بذلك أولى ممن يقول : إنه إمام في الوقت الذي ثبت أنه إمام فيه (١) ، هذا لو سلّمنا أن المراد بالولي ما ذكروه ، فكيف وذلك غير ثابت ؛ لأنّه تعالى بدأ بذكر نفسه ولا يصحّ إن يوصف تعالى بأنّه ولينا بمعنى إمضاء الحدود والأحكام على الحدّ الذي يوصف به الإمام ، بل لا يقال ذلك في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا بدّ من أن يكون محمولا على تولّي النصرة في باب الدّين ، وذلك ممّا لا يختص بالإمامة ، ولذلك قال من بعد (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٢) فبيّن ما يحصل لمن يتولى الله من الغلبة والظفر ، ذلك لا يليق إلّا بتولّي النصرة ، ولذلك ذكر في الآية الأولى الولي (٣) وفي الآية الثانية التولي ، وفصل بين الإضافتين ليبيّن أن المراد تولّي النصرة في باب الدين ؛ لأن ذلك هو الذي يقع فيه الاشتراك ، ...» (٤).

يقال له : أمّا الذي يدلّ على اختصاصه بموجب الآية في الوقت الذي ثبت له عليه‌السلام الإمامة فيه عندنا ، فهو أن كل من أوجب بهذه الآية الإمامة على سبيل الاختصاص أوجبها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وليس يعتمد على ما حكاه من أنّ الظاهر إثبات الحكم في كلّ وقت ، ومن قال بذلك من أصحابنا فإنه ينصر هذه الطريقة بأن يقول : الظاهر لا يقتضي الحال فقط ، بل يقتضي جميع الأوقات التي الحال من جملتها ، فإذا خرج بعضها بدليل بقي ما عداه ثابتا بالظاهر أيضا ، ولم يسغ الزوال عنه ، ويقول : إنني أخرجت الحال بدليل إجماع الأمة على أنه لم يكن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام غيره. ولا دليل يقتضي إخراج الحال التي تلي الوفاة بلا فصل ، والمعتمد هو الأول.

فأمّا الجواب لمن قال : لستم بذلك أولى ممن يقول : إنه إمام في الوقت الذي تثبت عنده إمامته فيه ، يعني بعد وفاة عثمان ، فهو أيضا ما قدمناه ؛ لأنّه لا أحد من الأمة يثبت الإمامة بهذه الآية لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد عثمان دون ما قبلها من الأحوال ، بل لا أحد يثبتها له عليه‌السلام بعد عثمان دون ما تقدّم من

__________________

(١) في المغني «في الوقت الذي اقيم فيه».

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥٦.

(٣) الولي ساقطة من «المغني».

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٣٦.

١٦٩

الأحوال على وجه من الوجوه وبدليل من الأدلة ، والقديم تعالى وإن لم يوصف بأنّه وليّنا بمعنى إقامة الحدود علينا ، فهو يوصف بذلك بمعنى أنه أملك بتدبيرنا وتصريفنا ، وأن طاعته تجب علينا ، وهذا المعنى هو الذي يجب للرسول والإمام ، ويدخل تحته إمضاء الحدود والأحكام وغيرها ؛ لأن إمضاءها جزء مما يجب طاعته فيه ، غير أن ما يجب لله تعالى لا يصحّ أن يقال : إنّه مماثل لما يجب للرسول والإمام بالاطلاق ؛ لأن ما يجب له عزوجل آكد مما يجب لهما من قبل أن ما يجب لهما راجع إلى وجوب ما وجب له عزوجل ، ولو لا وجوبه لم يجب.

وقول صاحب الكتاب : «لا يقال ذلك في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» طريف ؛ لأنا لا نعلم مانعا من أن يقال ذلك في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أحد ما يجب طاعته فيه ، وكيف لا يقال؟ ونحن نعلم أن الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خليفة له وقائم فيما كان يتولاه ويقوم به مقامه ، وإذا كان إلى الإمام إقامة الحدود وإمضاء الأحكام ، فلا بدّ أن يكونا إلى من هو خليفة له وقائم فيها مقامه.

وليس له أن يقول : إنما عنيت ان الرسول لا يوصف بإمضاء الحدود وإقامة الأحكام على الحدّ الذي يوصف به الإمام ، ولم أرد أنه لا يوصف بهما أصلا ؛ لأنّه لا مانع من أن يوصفا جميعا بما ذكره على حدّ واحد من قبل أن المقتضي له فيهما واحد ، وهو فرض الطاعة ؛ وإن كانا يختلفان من حيث كان أحدهما نبيّا والآخر إماما ، وليس لاختلافهما من هذا الوجه مدخل فيما نحن فيه.

فأمّا حمله لفظة «وليّ» على معنى التولّي في الدين المذكور في الآية الثانية (١) فغير صحيح ؛ لأنّه غير ممتنع أن يخبر تعالى بأنه وليّنا ورسوله ومن عناه ب (الَّذِينَ آمَنُوا) ثمّ يوجب علينا في الآية الثانية توليهم ونصرتهم ، ويخبرنا بما لنا فيهما من الفوز والظفر ، وإذا لم يمتنع ما ذكرناه وكنا قد دلّلنا على وجوب تناول الآية الأولى لمعنى الإمامة فقد بطل كلامه.

قال صاحب الكتاب ـ بعد أن ذكر شيئا قد مضى الكلام عليه «وقد ذكر

__________________

(١) وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) [المائدة : ٥٦].

١٧٠

شيخنا أبو علي (١) أنه قيل ـ : إنها نزلت في جماعة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) في حال كانوا فيها في الصلاة وفي الركوع فقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) في الحال ، ولم يعن أنهم يؤتون الزكاة في حال الركوع ، بل أراد أن ذلك طريقتهم ، وهم في الحال راكعون ، وحمل الآية على هذا الوجه أشبه بالظاهر ؛ ويبين ذلك أن الغالب من حال أمير المؤمنين عليه‌السلام أن الذي دفعه إلى السائل ليس بزكاة لوجوه ، منها : أن الزكاة لم تكن واجبة عليه على ما نعرف من غالب أمره في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأن دفع الخاتم بعيد أن يعدّ في الزكاة ، ولأن دفع الزكاة منه عليه‌السلام لا يقع إلّا على وجه القصد عند وجوبه وما فعله فالغالب منه أنه جرى على وجه الإنفاق (٣) لما رأى السائل المحتاج ، وأن غيره لم يواسه فواساه وهو في الصلاة ، فذلك بالتطوّع أشبه ، ولم نقل ذلك إلّا نصرة للقول الذي حكيناه ، لا أنه يمتنع في الحقيقة أن يكون ذلك زكاة لماله ، ...» (٤).

يقال له : ليس يجوز حمل الآية على ما تأولها شيخك أبو علي من جعله إيتاء الزكاة منفصلا من حال الركوع ، ولا بدّ على مقتضى اللسان واللغة من أن يكون الركوع حالا لإيتاء الزكاة ، والذي يدلّ على ذلك أن المفهوم من قول أحدنا : «الكريم المستحق للمدح الذي يجود بماله وهو ضاحك» و «فلان يغشي إخوانه وهو راكب» معنى الحال دون غيرها حتى أن قوله هذا يجري مجرى قوله : «إنه يجود بما له في حال ضحكه» و «يغشي إخوانه في حال ركوبه» ، ويدلّ أيضا عليه أنا متى حملنا قوله تعالى : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) على خلاف الحال ، وجعلنا المراد بها أنهم يؤتون الزكاة ومن وصفهم أنهم راكعون ، من غير تعلّق لأحد الأمرين بالآخر كنا حاملين الكلام على معنى التكرار ؛ لأنّه قد أفاد تعالى بوصفه لهم بأنهم يقيمون الصلاة وصفهم بأنّهم راكعون ؛ لأن الصلاة

__________________

(١) هو أبو علي الجبائي.

(٢) في المغني «من فضلاء أصحاب النبيّ صلّى الله عليه».

(٣) في نسخة : على وجه الانعام.

(٤) المغني ، ٢٠ : ١٣٧.

١٧١

مشتملة على الركوع وغيره ، وإذا تأولناها على الوجه الذي اخترناه استفدنا بها معنى زائدا ، وزيادة الفائدة بكلام الحكيم أولى.

فإن قال : إنّما قبح أن يحمل قولهم فيمن يريدون مدحه : «فلان يجود بماله وهو ضاحك» على خلاف الحال من قبل أن وقوع الجود منه مع طلاقة الوجه يدل على طيب نفسه بالعطيّة ، وهو أن المال لا يعظم في عينه ، فصار ذلك وجها تعظم معه العطيّة ويكثر المدح المستحق عليها ، وليس الحال في الآية هذه ؛ لأنّه لا مزية لإعطاء الزكاة في حال الركوع على إتيانها في غيرها ، وليس وقوعها في تلك الحال يقتضي زيادة مدح أو ثواب ففارق حكمها حكم المال الذي أوردتموه.

قيل له : لو كانت العلة في وجوب حمل الكلام الذي حكيناه على الحال ، وقبح حمله على خلافها ما ذكرته لوجب أن يحسن حمل قولهم : «فلان يغشي إخوانه وهو راكب» و «لقيت زيدا وهو جالس» ، على خلاف الحال لمفارقته للمثال الأوّل في العلّة حتى يفهم من قولهم : «إنّه يغشي إخوانه ، ومن صفته أنه راكب» و «لقيت زيدا ومن صفته أنه جالس» من غير أن يكون حالا للغشيان والجلوس حالا للقاء ، وإذا كان المفهوم خلاف هذا فقد بطل أن تكون العلّة ما ذكرته ، ووجب أن يكون الظاهر في كلّ الخطاب الوارد على هذه الصفة معنى الحال فأمّا قوله : «إن الزكاة لم تكن واجبة على أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما يعرف من غالب أمره في تلك الحال» فظاهر البطلان ؛ لأنّه غير واجب أولا حمل اللفظ على الزكاة الواجبة دون النافلة ، ولفظ الزكاة ـ لو كان إطلاقه مفيدا في الشرع للعطية الواجبة ـ فغير ممتنع أن نحمله على النفل الذي يشهد بمعناه أصل اللغة ؛ لأنّ الزكاة في اللغة النماء والطهارة ، والواجب من الزكاة والنفل جميعا يدخلان تحت هذا الأصل ، ويكون الموجب للانتقال عن ظاهر اللفظ ـ لو كان له ظاهر ـ علمنا بالخبر [الذي] توجه الآية [به] إلى من يستبعد وجوب الزكاة عليه.

وبعد ، فإن الاستبعاد لوجوب الزكاة عليه لا معنى له ؛ لأنّه غير ممتنع وجوبها عليه في وقت من الأوقات بحصول أدنى مقادير النصاب الذي تجب في

١٧٢

مثله الزكاة ، وليس هذا من اليسار المستبعد فيه ؛ لأن ملك مائتي درهم لا يسمّى مؤسرا.

فأمّا دفع الخاتم فما نعلم من أيّ وجه استبعد أن يكون زكاة ؛ لأن حكم الخاتم حكم غيره ، وكل ما له قيمة وينتفع الفقراء بمثله جائز أن يخرج في الزكاة.

فأمّا القصد إلى العطيّة ، فمما لا بدّ منه ، وإنّما الكلام في توجهه إلى الواجب أو النفل وليس في ظاهر فعله صلوات الله عليه ما يمنع من القصد إلى الواجب ؛ لأنّه عليه‌السلام وإن لم يعلم بأن السائل يستحضر فيسأله ، لا يمتنع أن يكون أعدّ الخاتم للزكاة فلما حضر من يسأل اتفاقا تصدق به عليه ، أو يكون عليه‌السلام يعدّه لذلك ، فلما حضر السائل ولم يواسه أحد دفعه إليه ونوى الاحتساب به في الزكاة ، وقد يفعل الناس هذا كثيرا فأيّ وجه لاستبعاده والقول بأنه بالتطوع أشبه؟.

فأما اعتذاره في آخر الكلام من إيراده وتضعيفه له فقد كان يجب أن لا يورد ما يحوج إلى الاعتذار والتنصّل (١) ؛ فإن ترك إيراد ما يجري هذا المجرى أجمل من إيراده مع الاعتذار.

قال صاحب الكتاب : «وقد قال شيخنا أبو هاشم : يجب أن يكون المراد بذلك : الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة الواجبتين ، دون النقل الذي وجوده كعدمه في أنه يكون المؤمن مؤمنا معه ، فلا بدّ من حمله على ما لولاه لم يكن مؤمنا ، ولم يجب توليه ؛ لأنّه جعله من صفات المؤمنين ، فيجب أن يحمل على ما لولاه لم يكن مؤمنا [ولا كان كذلك (٢)]. قال :

«والذي فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام كان من النفل ؛ لأنّه عليه‌السلام وغيره من جلّة الصحابة (٣) لم يكن عليهم زكاة ، وإنما الذي وجب عليه زكاة عدد يسير ، وذلك يمنع من أن لا يراد بالآية سواه».

__________________

(١) التنصّل : التبرأ ، يقال : تنصّل من ذنبه أي تبرأ.

(٢) التكملة من المغني.

(٣) في المغني «عامّة الصحابة ممّن».

١٧٣

قال : «ومثل هذا الجمع في لغة العرب لا يجوز أن يراد به الواحد ، وإنّما يجوز ذلك في مواضع مخصوصة».

قال : «والمقصد بالآية مدحهم ، فلا يجوز أن يحمل على ما لا يكون مدحا ، وإيتاء الزكاة في الصلاة مما ينقض (١) أجر المصلّي ؛ لأنّه عمل في الصلاة ، فيجب أن يحمل على ما ذكرناه من أنه أداء الواجب ، ومما يبيّن صحّة هذا الوجه أنه أجرى الكلام على طريق الاستقبال ؛ لأن قوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لا يدخل تحته الماضي من الفعل ، فالمراد الذين يتمسكون بذلك على الدوام ويقومون به ، ولو كان المراد به أن يزكوا في حال الركوع لوجب أن يكون ذلك طريقة لفضل الزكاة في الصلاة وأن يقصد إليه حالا بعد حال ، فلمّا بطل ذلك علم أنه لم يرد به هذا المعنى ، وأنه أريد به الذين يقيمون الصلاة في المستقبل ، ويدومون عليها ، ويؤتون الزكاة وهم في الحال متمسّكون بالركوع وبالصلاة ، فجمع لهم بين الأمرين ، أو يكون المراد بذكر الركوع الخضوع على ما قدّمنا ذكره ؛ لأن الركوع والسجود قد يراد بهما هذا المعنى.

وقد أنشد (٢) أبو مسلم (٣) لما ذكر هذا الوجه ما يدل عليه ، وهو قول الأضبط بن قريع :

لا تحقرن الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

وقال : والذين وصفهم في هذا الموضع بالركوع والخضوع هم الذين وصفهم (٤) من قبل بأنه يبدل المرتدّين بهم (٥) بقوله : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأراد به طريقة التواضع (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (٦) وكل ذلك يبيّن أن المراد بالآية الموالاة في الدين ؛ لأنّه قد قيل فكأنه قال : إنما الذي ينصركم ويدفع عنكم لدينكم هو الله ورسوله والذين آمنوا.

__________________

(١) في المغني بالصاد المهملة والمعنى متقارب.

(٢) في المغني «وقد استدل».

(٣) أبو مسلم محمّد بن بحر الأصفهاني.

(٤) في المغني «وهو الذي وصف».

(٥) في المغني «منهم».

(٦) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

١٧٤

وقد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت (١) لأنّه كان قد دخل في حلف اليهود ثم تبرّأ منهم ومن ولايتهم ، وفزع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فأنزل الله تعالى هذه الآية مقوية لقلوب من دخل في الإيمان ، ومبيّنا له أن ناصره هو الله ورسوله والمؤمنون» (٢).

يقال له : ليس الأمر على ما ظنّه أبو هاشم من أن الآية تقتضي الصلاة والزكاة الواجبتين دون ما كان متنفلا به ؛ لأنها لم تخرج مخرج الصفة لما يكون به المؤمن مؤمنا ، وإنما وصف الله تعالى من أخبر بأنه وليّنا بالائتمام وبإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة ولا مانع من أن يكون في جملة من الصفات ما لو انتفى لم يكن مخلّا بالإيمان ، وإنما كان يجب ما ظنه أن لو قال : «إنما المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» ، فأمّا إذا كانت الآية خارجة خلاف هذا المخرج فلا وجه لما قاله ، ولا شبهة في أنه كان يحسن أن يصرح تعالى بأن يقول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ) بعد ذكر نفسه تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و (وَالَّذِينَ آمَنُوا) الذين يتطوعون بفعل الخيرات ويتنفلون بضروب القرب ويفعلون كذا وكذا مما لا يخرج المؤمن بانتفائه عنه من أن يكون مؤمنا ، هذا إذا سلّمنا ما يريده من أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبتين من شرائط الإيمان ، ومما لا يكون المؤمن مؤمنا إلّا معه ؛ والصحيح عندنا خلافه ، وليس يمكن أن يدّعى أن لفظ الصلاة في الشرع يفهم من ظاهره الصلاة الواجبة دون النفل ، وليس ادّعاء ذلك في الصلاة بجار مجرى ادعائه في الزكاة ؛ لأنا نعلم من عرف أهل الشرع جميعا أنهم يستعملون لفظ الصلاة في الواجب والنفل على حدّ واحد ، حتى أنّ أحدهم لو قال : «رأيت فلأنا يصلّي» و «مررت بفلان وهو في الصلاة» لم يفهم من قوله الصلاة الواجبة دون غيرها ، على أنا قد بيّنا قبيل هذا الفصل أن الذي فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام ليس بمنكر أن يكون واجبا ، وأن المستبعد فيه وفيمن علمنا من حاله ما علمناه

__________________

(١) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي صحابي كبير شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد بعدها توفي بالرملة وقيل بالقدس سنة ٣٨ ه‍.

(٢) المغني ، ٢٠ : ١٣٨ مع اختلاف يسير.

١٧٥

من حاله عليه‌السلام استمرار وجوب الزكاة في الأحوال ووجوب المقادير منها التي يعدّها الناس يسارا ، فأمّا وجودا قبل مقاديرها في بعض الأحوال فغير مستنكر ولا مناف للمعلوم ، والعدد اليسير الذي أشار إليهم وإخراج أمير المؤمنين عليه‌السلام من جملتهم هم الموصوفون باليسار وكثرة المال واتساعه ، ومن وجبت عليه زكاة مّا في بعض الأوقات لا يجب دخوله في جملتهم ، فبطل قول أبي هاشم : إن الذي ذكره يمنع من أن لا يراد بالآية سواه ؛ لبطلان ما جعل قوله الذي حكيناه ثمرة له ، ونتيجة على أن الذي يمنع من أن يراد بها سواه عليه‌السلام قد قدّمناه وبيّناه.

فأمّا التعلّق بلفظ الجمع فقد مضى الكلام فيه.

وأمّا تعلّقه بالعمل في الصلاة فيسقط من وجهين :

أحدهما : أنه لا دليل على وقوع فعله عليه‌السلام على وجه يكون قاطعا للصلاة ، بل جائز أن يكون عليه‌السلام أشار إلى السائل بيده إشارة خفيفة لا تقطع منها الصلاة فهم منها أنه يريد التصدق عليه ، فأخذ الخاتم من إصبعه ، وقد أجمعت الأمة على أن يسير العمل في الصلاة لا يقطعها.

والوجه الآخر : أنه غير واجب للقطع ، على أن جميع الأفعال في الصلاة كانت محظورة في تلك الحال.

وقد قيل : إن الكلام فيها كان مباحا ثم تجدد حظره من بعد ، فلا ينكر أن يكون هذه أيضا حال بعض الأفعال ، والذي يبيّن ما ذكرناه ، ويوجب علينا القطع على أن فعله عليه‌السلام لم يكن قاطعا للصلاة ولا ناقضا من حدودها ما علمنا من توجه مدح الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه بذلك الفعل المخصوص.

وقوله : «فيجب أن يحمل على ما ذكرناه من أنه أداء الواجب» إن أراد به أداءه في الصلاة فهو الذي أنكره وعدّه قطعا لها ، وإن أراد أداءه على طريق الانفصال من الصلاة فقد مضى أن الكلام يقتضي إيتاء الزكاة في حال الركوع ، والتعلق بلفظ الاستقبال قد مضى أيضا ما فيه ، وكذلك كون الركوع جهة وطريقة لفضل الزكاة ؛ لأنا قد بيّنا أن الآية لا تقتضي كون الركوع جهة وطريقة لفضل الزكاة والصلاة ، حتى يجب القصد إلى فعل أمثالها.

١٧٦

وقلنا : إن الخطاب أفاد الوصف لمن عني بلفظ (وَالَّذِينَ آمَنُوا) والتمييز له عن سواء ، فكأنّه تعالى قال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الذين يصلون ويؤتون الزكاة في حال ركوعهم ليتميّز المذكور الأول ، مع أن فعله عليه‌السلام لا بدّ أن يكون واقعا على نهاية القربة لما حصل عليه من المدح ، ويشبه ما تأولنا عليه الآية قول أحد ملوكنا مقبلا على أصحابه : أفضلكم عندي وأكرمكم لديّ من نصرني في غرّة شهر كذا ، وهو راكب فرسا من صفته كذا ، وأشار إلى فعل مخصوص وقع من بعض أصحابه على وجه ارتضاه وعظمت منزلته به عنده ، ونحن نعلم أن قوله لا يقتضي أن لغرّة الشهر والأوصاف التي وصف ناصره بها تأثيرا في قوة نصرته ؛ حتى يكون ذلك جهة وطريقة يقصد إليها من أراد نصرته ، وقد تقدّم أن حقيقة الركوع ما ذكرناه ، وأنه يستعمل في الخضوع وما يجري مجراه على سبيل المجاز ، والبيت الذي أنشده مما يجوّز فيه شاعر ، والمجاز لا يقاس عليه.

فأمّا قوله : حاكيا عن أبي مسلم بن بحر : «أن الذين وصفهم في هذا الموضع بالركوع والخضوع هم الذين وصفهم من قبل بأنه يبدل المرتدين بهم» فغير صحيح ؛ لأنّه غير منكر (١) أن يكون الموصوف بإحدى الآيتين غير الموصوف بالآية الأخرى حتى تكون الآية التي دلّلنا على اختصاصها بأمير المؤمنين عليه‌السلام على ما حكمناه به من خصوصها ، والآية الأولى عامة في جماعة من المؤمنين ، وليس يمنع من ذلك نسق الكلام وقرب كلّ واحدة من الآيتين من صاحبها ؛ لأن تقارب آيات كثيرة من القرآن مع اختلاف القصص والمعاني والأحكام معلوم ظاهر ، وهو أكثر من أن يذكر له شاهدا.

وإذا كنّا قد دلّلنا على أن لفظة قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) يدل على اختصاص أمير المؤمنين عليه‌السلام بالآية فليس يسوّغ أن يترك ما تقتضيه الدلالة لما يظن أن نسق الكلام وقرب بعضه من بعض يقتضيه ، على أنه لا مانع لنا من أن نجعل الآية الأولى متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ومختصة به أيضا ؛ لأنّا قد بيّنا

__________________

(١) في نسخة «غير ممتنع».

١٧٧

أن لفظ الجمع قد يستعمل في الواحد بالعرف ، فليس لمتعلق أن يتعلّق بلفظ الآية في دفع اختصاصها به عليه‌السلام ومما يقوي هذا التأويل أن الله تعالى وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مستكملا لها بالاجماع ؛ لأنّه تعالى قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) وقد شهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين عليه‌السلام بما يوافق لفظ الآية في الخبر الذي لا يختلف فيه اثنان حين قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرّ عنها واحدا بعد آخر : «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه» (٢) فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان من ظفره وفتحه ما وافق خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم ، والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدّة نكايته فيهم ووطأته عليهم ، وهذه أوصاف أمير المؤمنين عليه‌السلام لا يدانى فيها ولا يقارب ، ثم قال : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فوصف جلّ اسمه من عناه بقوة الجهاد ، وبما يقتضي الغاية فيه.

وقد علمنا أن أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين رجلين رجل لا غناء له في الحرب ولا جهاد ، وآخر له جهاد وغناء ، ونحن نعلم قصور كلّ مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين في الجهاد ، وأنهم مع علوّ منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته ، ولا يقاربون رتبته ؛ لأنّه عليه‌السلام المعروف بتفريج الغمّ ، وكشف

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥٤.

(٢) حديث الراية رواه عامّة علماء الحديث والسير نذكر منهم البخاري ج ٤ / ١٢ في كتاب الجهاد والسير ، باب ما قيل في لواء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي باب فضل من أسلم على يديه وص ٢٠ وج ٤ / ٢٠٧ في كتاب بدأ الخلق باب مناقب عليّ بن أبي طالب وج ٥ / ٧٦ كتاب المغازي باب غزوة خيبر ومسلم ج ٧ / ١٢١ و ١٢٢ في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب وج ٥ / ١٩٥ في كتاب الجهاد والسير في باب غزوة ذي قرد وغيرها. والترمذي ج ٢ / ٣٠٠ والإمام أحمد في المسند ج ١ / ٩٩ و ٣٢٠ وج ٢ / ٣٨٢. وج ٤ / ٥١ وج ٥ / ٣٥٣ ، والنسائي ص ٥ وفي مواضع أخرى من خصائص أمير المؤمنين الخ.

١٧٨

الكرب عن وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي لم يحجم قط عن قرن ، ولا نكص عن هول ، ولا ولّى الدبر ، وهذه حال لم يسلم لأحد قبله ولا بعده ، وكان عليه‌السلام للاختصاص بالآية أولى ؛ لمطابقة أوصافه لمعناها ، وقد ادّعى قوم من أهل الغباوة والعناد أن قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المراد به أبو بكر من حيث قاتل أهل الردّة.

ولسنا نعرف قولا أبعد من الصواب من هذا القول ، حتّى أنه ليكاد أن يعلم بطلانه ضرورة ؛ لأن الله تعالى إذا كان قد وصف من أراده بالآية بالعزة على الكافرين ، وبالجهاد في سبيله مع اطراح خوف اللوم ، كيف يجوز أن يظن عاقل توجّه الآية إلى من لم يكن له حظ من ذلك الوصف؟ لأنّ المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين ، ولا قتيل في الاسلام ، ولا وقف في شيء من حروب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موقف أهل البأس والعناء ، بل كان الفرار سنّته والهرب ديدنه ، وقد انهزم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جملة المنهزمين في مقام بعد مقام ، وكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله على الوجه المذكور في الآية من لا جهاد له جملة ، وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مع العلم الحاصل لكل أحد بموافقة أوصافه بها إلى أبي بكر إلّا عصبيّة ظاهرة ، وانحراف شديد.

وقد روي نزولها في قتال أمير المؤمنين عليه‌السلام أهل البصرة عنه عليه‌السلام نفسه ، وعن عبد الله بن عباس. وعمار بن ياسر رضي الله عنهما وإذا عضد ما ذكرناه من مقتضى الآية الرواية زالت الشبهة ، وقويت الحجّة على أن صاحب الكتاب قد وهم في الحكاية عن أبي مسلم ، وحكى عنه ما لم يقله ، ولا يقتضيه صريح قوله ولا معناه ؛ لأن الذي قاله أبو مسلم بعد إنشاد البيت : «والذي وصفهم به من الركوع في هذا المعنى هو الذي وصف به من أوعد المرتدين بالإتيان بهم بدلا منهم من الذلة على المؤمنين ، والعزّة على الكافرين» هذه ألفاظه بعينها في كتابه في تفسير القرآن ؛ وهي بخلاف حكاية صاحب الكتاب ؛ لأن أبا مسلم جعل الوصف في الآيتين واحدا ، ولم يقل : ان الموصوف واحد ، وصاحب الكتاب حكى عنه

١٧٩

أن الموصوفين بالآية الأولى هم الموصوفون بالآية الأخرى ، وهذا تحريف ظاهر ؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون الوصف واحدا والموصوف يختلف ، ولم يحقق حكايته هذا الضرب من التحقيق ؛ لأن أبا مسلم لو ادّعى ما حكاه عنه كانت دعواه حجّة ، بل أردنا أن نبيّن عن وهم صاحب الكتاب في الحكاية ، والذي تقدّم من كلامنا مبطل للدعوى التي ذكرها في الآية ، سواء كان أبو مسلم مدّعيا أو غيره.

فأما قوله : «وقد روى أنها نزلت في عبادة بن الصامت» فباطل ، وليس يقابل ما ادّعاه من الرواية ما روي من نزولها في أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأن تلك رواية أطبق على نقلها جماعة أصحاب الحديث من الخاصة والعامة ، وما ادّعاه أحسن أحواله أن يكون مسندا إلى واحد معروف بالتحايل والعصبيّة ، ولا يوجد له موافق من الرواة ولا متابع ، على أن مفهوم الآية ممتنع مما ذكره ؛ لأنا قد دلّلنا على اقتضائها فيمن وصف بها معنى الإمامة ، فليس يجوز أن يكون المعني بها «عبادة» بعينه ؛ للاتفاق على أنه لا إمامة له في حال من الأحوال ، ولا يجوز أيضا أن يكون نزلت بسببه الذي ذكره ؛ لأن الآية يصحّ خروجها على سبب لا يطابقها وإن جاز مع مطابقته أن يتعدّى إلى غيره ، وقد بيّنا أن المراد بها لا يجوز أن يكون ولاية الدين والنصرة ؛ لدخول لفظة «إنّما» المقتضية للتخصيص ، فلم يبق فيما ذكرناه شبهة (١).

ـ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٦٠].

[إن سأل سائل] فقال : ما أنكرتم أن تكون هذه الآية دالة على أنّه جعل الكافر كافرا ؛ لأنّه أخبر بأنّه جعل منهم من عبد الطاغوت ؛ كما جعل القردة والخنازير؟ وليس يجعله كافرا إلّا بأن خلق كفره!

الجواب : يقال له : قبل أن نتكلّم في تأويل الآية بما تحتمله من المعاني :

__________________

(١) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٢ : ٢١٧.

١٨٠