تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

وقال الله تعالى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (١) وإنّما أراد هذا المعنى لا محالة.

فإذا تقرّر ما ذكرناه ، وكان الصحيح الجسم يشقّ عليه المشي الطويل إلى الحج لم يكن مستطيعا له في العرف الذي ذكرناه ؛ وكذلك من وجد الراحلة ولم يجد نفقة لطريقه ولا لعياله يشقّ عليه السفر ويصعب وتنفر نفسه لا يسمّى مستطيعا ، فوجب أن تكون الاستطاعة ما ذكرناه ، لارتفاع المشاقّ والتكلّف معه (٢).

[الثالث : إن سأل سائل] فقال : ما القول في الاستطاعة؟ وهل تكون قبل الفعل أو معه؟

الجواب وبالله التوفيق :

إنّ الاستطاعة هي القدرة على الفعل ، والقدرة التي يفعل بها الفعل لا يكون إلّا قبله ، ولا يكون معه في حال وجوده.

والذي يدلّ على ذلك : أنّ القدرة إنّما يحتاج إليها ليحدث بها الفعل ، ويخرج بها من العدم إلى الوجود ، فمتى وجبت والفعل موجود ، فقد وجبت في حال استغنائه عنها ؛ لأنّه لم يستغن بوجوده عن مؤثّر في وجوده ، وإنّما يستغنى في حال البقاء من مؤثرات الوجود لحصول الوجود ، لا بشيء سواه.

وليس يمكن أن تنزّل القدرة في مصاحبتها للفعل الذي تؤثر فيه منزلة العلة المصاحبة للمعلول ؛ لأنّ القدرة ليست علة في المقدور ولا موجبة له ، بل تأثيرها اختيار وإيثار من غير إيجاب ؛ لما قد بيّن في مواضع كثيرة من الكتب.

ولو لا أنّها مفارقة للعلّة بغير شبهة لاحتاج المقدور في حال بقائه إليها ، كحاجته في حال حدوثه ؛ لأنّ العلّة يحتاج المعلول إليها في كلّ حالة من حدوث أو بقاء. ولا خلاف في أنّ القدرة يستغني عنها المقدور في حال بقائه.

وقد قال الشيوخ مؤكدين لهذا المعنى : فمن كان في يده شي فألقاه لا يخلو

__________________

(١) سورة الكهف ، الآيات : ٧٥ ـ ٧٢ ـ ٦٧.

(٢) الناصريات : ٣٠٣.

٢١

استطاعة إلقائه من أن تكون ثابتة ، والشيء في يده أو خارج عنها. فإن كانت ثابتة والشيء في يده ، فقد دلّ على تقديمها ، وهو الصحيح ؛ وإن كانت ثابتة والشيء خارج عن يده ملقى عنها ، فقد قدر على أن يلقي ما ليس في يده ، وهذا محال. وليس بين كون الشيء في يده وكونه خارجا عنها واسطة ومنزلة ثالثة.

وممّا يدلّ أيضا على أنّ الاستطاعة قبل الفعل ، أنّها لو كانت مع الفعل كان الكافر غير قادر على الإيمان ، ولما كان الإيمان موجودا منه على هذا المذهب الفاسد ، ولو لم يكن قادرا على الإيمان لما حسن أن يؤمر به ، ويعاقب على تركه ، كما لا يعاقب العاجز عن الإيمان بتركه ولا يؤمر به. ولا فرق بين العاجز والكافر على مذاهبهم ؛ لأنّهما جميعا غير قادرين على الإيمان ولا متمكنين منه.

قد قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فشرط توجه الأمر بالاستطاعة له ، فلو لا أنّها متقدّمة للفعل وأنّه يكون مستطيعا للحجّ وإن لم يفعله لوجب أن يكون الأمر بالحجّ إنّما توجّه إلى من فعله ووجد منه. وهذا محال.

وقد بيّنا الكلام وأحكامها في مواضع كثيرة من كتبنا ، وفي هذه الجملة مقنعة (١).

[الرابع :] ويوصف تعالى بأنه «غنيّ» ، ومعنى ذلك أنّه حيّ غير محتاج ، ولا يجوز عليه الحاجة وهو تعالى غنيّ لنفسه ، ويوصف تعالى بذلك فيما لم يزل ولا يزال.

ولا يوصف تعالى بكلّ صفة يقتضي كونه محتاجا ونفي كونه غنيا ، كوصفه بأنه يسرّ ويفرح ويخاف ويرجو ويشفق ويفزع ؛ لأن ذلك يقتضي جواز اللذّة والألم عليه (٢).

ويوصف تعالى بأنه «كريم» على وجهين : بمعنى أنه عزيز ، كما يقولون «فلان يكرم عليّ» ، و «فلان أكرم عليّ من فلان» أي أعزّ عليّ منه. والوجه الآخر

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ١٤٤.

(٢) الذخيرة : ٥٨٧.

٢٢

أن يكون كريما ، بمعنى أنه فاعل الكرم والانعام ، ومن هذا الوجه يلحق بصفات الأفعال (١).

ـ (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠٦].

أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ٣٩٩ والبقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.

ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠].

[قال القاضي : قد استدلّ الخلق على صحّة الاجماع بهذه الآية التي وصفهم بهذه الصفات الموجبة لكون فعلهم صوابا] وهذا إن دلّ فإنّما يدل على أن الكبائر لا تقع منه ، لأنّ حال جميعهم (٢) كحال الواحد إذا وصف بهذه الصفة ، وقد علمنا أن ذلك لا يمنع من وقوع الصغير منهم ، فكذلك حال جميعهم.

وليس لأحد أن يقول : وقوع الصغيرة منهم لا يمنع من كونهم حجة ، كما لا يمنع ذلك في الرسول عليه‌السلام ؛ لأنّا قد بيّنّا أن الذي نجيزه في الرسول لا يمنع من تمييز أفعاله وأقواله التي هو حجّة فيها من الصغائر التي نجيزها عليه ، ولا طريق في ذلك يتميّز به الكبير من الصغير فيما يضاف إلى الأمة (٣) فقد سلك في الطعن على الاستدلال بهذه الآية مسلكنا (٤) في الطعن على استدلاله بقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٥) فصار ما أورده هاهنا من الطعن طعنا في كلامه المتقدّم ، واعتراضا عليه ؛ لأنّه إذا كان ما تقتضيه هذه الآية هو نفي الكبائر التي يخرجون بها من أن يكونوا مؤمنين ، ولا حظّ لها في نفي الصغائر ، وكان حال

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٠.

(٢) في المغني : «جمعهم».

(٣) المغني ١٧ : ١٩٦.

(٤) في نسخة : ما سلكنا.

(٥) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣ ، تقدّمت طعونه ذيل هذه الآية.

٢٣

جميعهم كحال واحدهم لو وصفت بهذه الصفة على ما قرّره ، فهكذا القول في الشهداء ؛ لأنّ أكثر ما تقتضيه الشهادة نفي الكبائر عن صاحبها دون الصغائر ، وحال الجميع في ذلك كحال الواحد أو الاثنين لو وصفا بهذه الصفة ، فإن خرجت احدى الآيتين من أن تدلّ على صحّة الاجماع خرجت الأخرى ، فإن أعاد هاهنا ما كنّا حكيناه عنه من أنّ تجويز الصغائر على الشهداء يخرجهم من أن يكونوا حجّة في شيء من أفعالهم وأقوالهم ، وقد ثبت بمقتضى الآية أنّهم حجّة ، فإذا ثبت ذلك ، ولم يكن بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من بعض ، منعنا من وقوع الصغائر منهم.

قيل له : فكيف أنسيت هذا الضرب من الاستخراج في هذه الآية؟

وألا سوّغت من تعلّق بها أن يعتمد مثله! فيقول : قد ثبت أن قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) تقتضي كون الموصوفين بالآية حجّة ، وليس بعض أقوالهم وأفعالهم بذلك أولى من بعض ؛ لأنها لا تتميّز كتمييز بعض أفعال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب نفي الصغائر عنهم ، وألّا خرجت جميع أقوالهم وأفعالهم من أن تكون حجّة.

وقد كنّا أبطلنا هذه الطريقة عند اعتصامه بها في الآية المتقدّمة ، وبيّنّا فسادها ، فلا حاجة بنا إلى إعادة كلامنا عليها ، وإنّما قصدنا بما أوردناه هاهنا إلزامه تصحيح التعلّق بالآيتين ، أو إطراحهما والكشف عن دخول ما طعن به في إحداهما على الأخرى ، والصحيح ما بيّنّاه من فساد التعلّق بكلّ واحدة منهما في صحّة الاجماع.

فأما قوله : «على أنّ قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) إن كانت إشارة إلى جميع المصدّقين فالمتعالم من حال كثير منهم خلافه ، وإن كانت إشارة إلى غيرهم فذلك مجهول لا يعلم به حال جماعة مخصوصة يصير إجماعها حجّة» (١).

__________________

(١) المغني ١٧ : ١٩٧.

٢٤

وقوله : «فإن قال : إذا أجمع (١) المصدّقون على شيء يعلم دخول هذه الجماعة فيهم فيصير الاجماع حجّة كما ذكرتم في الشهداء والمؤمنين ؛ قيل له : إنّما يصحّ ذلك ؛ لأنّهم وصفوا بصفة (٢) علمنا معها دخولهم تحت المصدّقين ، وخروجهم عمّن سواهم ، وليس كذلك الحال فيما تعلّقت به من هذه الآية ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون المراد بها من كان في عهد الرسول وعند نزول الخطاب ؛ لأنّهم في تلك الحال كانوا بهذه الصفة فمن أين أن غيرهم بمنزلتهم (٣)؟ وقوله تعالى : (كُنْتُمْ) يدلّ على ذلك ، ويفارق من هذا الوجه ما قدّمناه وهو قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) ؛ لأنّ تلك الآية وإن كانت تقتضي الإشارة ففيها ما يدلّ على العموم وهو قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٤) وليس في هذه الآية ما يقتضي هذا المعنى» (٥).

فما نراه يخرج فيما يورده من الكلام على من تعلّق بالآية التي ذكرها عمّا يأتي على جميع ما اعتمده في الآية الأولى (٦) وحتّى كأنّه يناقض من تعلّق بالآيتين معا ، وإن استدلّ بالآية التي يضعف التعلّق بها أن يقول ليس المعني بها جميع المصدّقين ، بل من كان مؤمنا خيرا يستحقّ ما تضمنته الآية من الأوصاف ، ونعلم إجماعهم عند علمنا بإجماع المصدّقين الذين هم في جملتهم ، وما ذكره في الشهداء والمؤمنين من أنّهم وصفوا بصفة علمنا معها دخولهم تحت المصدّقين وخروجهم عمّن سواهم ، قائم في الآية الأخرى ؛ لأنّها تتضمّن من أوصاف المدح والتعظيم ما يقتضي كون المراد بها في جملة المصدّقين ، وإن لم يكن جميعهم ، ويقتضي أيضا خروجهم عمّن سواهم ، وتخصيصه الآية بمن كان في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلزمه مثله في الآية الأخرى ويقابل بمثل كلامه ، فيقال : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) خطاب لمن كان في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّهم كانوا في تلك الحال بهذه الصفة ، فمن أين

__________________

(١) في المغني : «اجتمع».

(٢) في المغني : «بصيغة».

(٣) في المغني : «بعينهم».

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣.

(٥) المغني ١٧ : ١٩٧.

(٦) سورة البقرة ، الآية : ١٤٣.

٢٥

أن غيرهم بمنزلتهم؟ والإشارة التي تشبّث بها في إحدى الآيتين مثلها في الأخرى ؛ لأنّ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً) يجري في الإشارة مجرى قوله : (كُنْتُمْ) وترجيحه الآية التي اعتمدها مع اعترافه بالإشارة فيها بقوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) بناء على ما تقدّم من الكلام ، فإذا كان قوله تعالى (جَعَلْناكُمْ) يقتضي التخصيص من حيث الإشارة على ما ذكره في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) فما هو بناء عليه ، ومتعلّق به من قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) جار مجراه في الخصوص ؛ لأنّ الاعتبار في العموم والخصوص بما تقدّم في الكلام دون ما هو مبنيّ عليه ، على أنّه إن رضي لنفسه بما ذكره فليرض بمثله إذا قال له خصمه ، وكذلك قوله تعالى : (كُنْتُمْ) وإن كان فيه معنى الإشارة فقد تلاه ما يقتضي العموم ، ويخرج عن معنى التخصيص من قوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

فأمّا قوله : وقوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ليس فيه دلالة على أنهم لا يأمرون إلّا به حتى يستدل باتفاقهم على الأمر بالشيء على أنّه حقّ ، وإنما يبيّن بذلك أنّ هذه طريقة لهم ، وسجيّتهم على طريقة المدح ، فلا يمنع من أن يقع منهم خلافه إذا لم يخرجهم من طريقة المدح ؛ ولأن ذلك يوجب تقدّم المعرفة بالمعروف والمنكر ، ويخرج بذلك أمرهم من أن يكون دالّا على أن المأمور به من قبلهم معروف ، والمنهي عنه من قبلهم منكر ، فكذلك قوله تعالى : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ليس فيه دلالة على أنّهم خيار عدول في كلّ شيء ، وفي كلّ حال ، ولا أنّهم أيضا شهود بكلّ أمر وفي كلّ حال ، وليس يمتنع أن يخرجوا من أن يكونوا شهداء ، فلا يجب أن يكونوا عدولا ، على أنّه في هذا الكلام تارك لعموم القول بظاهره الذي لا يزال يتعلّق به ويعتمده ؛ لأنّ قوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إذا أخذ على عمومه لم يسغ (١) ما ذكره من التجويز عليهم أن يأمروا بغير المعروف ؛ لأنّ

__________________

(١) في نسخة «لم يسمع».

٢٦

تجويز ذلك تخصيص للعموم الذي يقتضيه إطلاق القول على أصله ، وليس يجب تقدّم المعرفة لنا بالمعروف والمنكر كما ظنّه ، بل لا ينكر أن يكون المراد أنّهم يأمرون بالمعروف الذي يعلمه الله تعالى كذلك ، وينهون عن المنكر على هذا السبيل ، فيكون اجتماعهم (١) على الأمر بالشيء دلالة على أنّه معروف ، ونهيهم عنه دلالة على أنّه منكر ، ولسنا نعلم من أي وجه يلزم أن يتقدّم علمنا بالمعروف والمنكر في هذا القول؟

[انظر أيضا مريم : ٢٨ و ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.]

ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : ١٢٢].

انظر يوسف : ٢٤ من التنزيه : ٧٣.

ـ (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) [آل عمران : ١٢٨].

[إن سأل سائل] فقال : كيف جاءت «أو» بعد ما لا يجوز أن يعطف عليه؟ وما الناصب لقوله تعالى : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وليس في ظاهر الكلام ما يقتضي نصبه؟

الجواب : قلنا : قد ذكر في ذلك وجوه :

أوّلها : أن يكون قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معطوفا على قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) والمعنى أنّه تعالى عجّل لكم هذا النصر ، ومنحكم به ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أي قطعة منهم ، وطائفة من جمعهم أو يكبتهم أي يغلبهم ويهزمهم فيخيّب سعيهم ، ويكذّب فيكم ظنونهم ، أو يعظهم ما يرون من تظاهر آيات الله تعالى الموجبة لتصديق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتوبوا ويؤمنوا فيقبل الله تعالى ذلك منهم ، ويتوب عليهم ، أو يكفروا بعد قيام الحجج ، وتأكيد البيّنات والدلائل ، فيموتوا أو يقتلوا كافرين ؛ فيعذّبهم الله تعالى باستحقاقهم في النار ؛ ويكون على هذا

__________________

(١) في نسخة : «اجماعهم».

٢٧

الجواب قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معطوفا على قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ؛ أي ليس لك ولا لغيرك من هذا الأمر شيء ؛ وإنّما هو من الله تعالى.

والجواب الثاني : أن يكون (أَوْ) بمعنى «حتى» ، أو «إلّا أنّ» ؛ والتقدير : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم ؛ أو إلّا أن يتوب عليهم ، كما قال امرؤ القيس :

بكى صاحبي لمّا رأى الدّرب دونه

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا (١)

فقلت له : لا تبك عيناك إنّما

نحاول ملكا ، أو نموت فنعذرا

أراد : إلّا أن نموت.

وهذا الجواب يضعّف من طريق المعنى ؛ لأنّ لقائل أن يقول : إنّ أمر الخلق ليس إلى أحد سوى الله تعالى قبل توبة العباد وعقابهم وبعد ذلك ؛ فكيف يصحّ أن يقول : ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذّبهم ؛ حتى كأنّه إذا كان أحد الأمرين كان إليه من الأمر شيء!

ويمكن أن ينصر ذلك بأن يقال : قد يصحّ الكلام إذا حمل على المعنى ؛ وذلك أنّ قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) معناه : ليس يقع ما تريده وتؤثره من إيمانهم وتوبتهم ، أو ما تريده من استئصالهم وعذابهم ، على اختلاف الرواية في معنى الآية وسبب نزولها ؛ إلّا بأن يلطف الله لهم في التوبة فيتوب عليهم أو يعذّبهم ؛ وتقدير الكلام : ليس يكون ما تريده من توبتهم أو عذابهم بك ، وإنّما يكون ذلك بالله تعالى.

والجواب الثالث : أن يكون المعنى : ليس لك من الأمر شيء أو من أن يتوب الله عليهم ؛ فأضمر «من» اكتفاء بالأولى ، وأضمر «أن» بعدها لدلالة الكلام

__________________

(١) ديوانه : ١٠٠. الدرب : باب السكة الواسع ؛ وهو هنا كل مدخل إلى الروم فهو درب ؛ وصاحبه عمرو بن قميئة الشاعر ؛ وكان رفيق امرئ القيس في رحلته.

٢٨

عليها أو اقتضائه لها ، وهي مع الفعل الذي بعدها بمنزلة المصدر ؛ وتقدير الكلام : ليس لك من الأمر شيء ومن توبتهم وعذابهم.

ووجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباريّ يطعن على هذا الجواب ويستبعده ، قال : لأنّ الفعل لا يكون محمولا على إعراب الاسم الجامد الذي لا تصرّف له على إضمار «أن» مع الفعل ؛ لأنّه ليس من كلام العرب : «عجبت من أخيك ويقوم» على معنى : «عجبت من أخيك ومن أن يقوم» لأنّ أخاك اسم جامد محض ، لا يعطف عليه إلّا ما شاكله. وقال : وهذا إذا يستقيم ويصلح في ردّ الفعل على المصدر ، كقولهم : «كرهت غضبك ويغضب أبوك» ؛ على معنى : «كرهت غضبك وأن يغضب أبوك» ، فيطّرد هذا في المصادر ، لأنّها تتأوّل ب «أن» فيقول النحويون : «يعجبني قيامك» ، وتأويله : «يعجبني أن تقوم» ، قال : والاسم الجامد لا يمكن مثل هذا فيه.

وليس الذي ذكره ابن الأنباريّ مستبعدا ، وإن لم يضعف هذا الجواب إلّا من حيث ذكر فليس بضعيف ؛ وذلك أن فيما امتنع منه مثل الذي أجازه ؛ لأنّه قد أجاز ذلك في المصادر ، وإن لم يجزه في غيرها.

وقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فيه دلالة الفعل ، لأنّ «الأمر» مصدر أمرت أمرا ؛ فكأنّه تعالى قال : ليس لك من أن آمرهم أو تأمرهم شيء ، ولا من أن يتوبوا ، وجرى ذلك مجرى قولهم : «كرهت غضبك ويغضب أبوك» ، وفي رد الفعل على المصدر ؛ والوجه الأوّل أقوى الوجوه ؛ والله أعلم بمراده (١).

ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣]

[استدلّ بهذه الآية وكذا قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (٢) على أن الأمر مقتض للفور].

ويقال لهم : أمّا قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ) فهو مجاز من حيث ذكر

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٥٨٨.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ١٤٨.

٢٩

المغفرة وأراد ما يقتضيها ، ومجمل من حيث كان مبنيّا على كيفيّة وجوب الواجبات من فور أو تراخ ؛ لأنّا إنّما نتقرّب إلى الله تعالى ، بأن نفعل ما أوجبه علينا أو ندبنا إلى فعله ، بأن نفعله على ذلك الوجه ، وفي الوقت الّذي علّق به ، فلا دلالة فيه للمخالف. وكذلك قوله سبحانه : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ). على أنّ الفزع إلى هذه الآيات تسليم لما نريده من أنّ مقتضى الأمر في الوضع لا يدلّ على ذلك ، وإنّما يرجع فيه إلى دليل منفصل (١).

ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥].

أنظر يونس : ١٠٠ من الأمالي ، ١ : ٦٤.

ـ (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ...)

[آل عمران : ١٥٣].

أنظر البقرة : ٢٣ من الذخيرة : ٣٦٤.

ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥].

[نقل القاضي استدلال واصل بن عطاء بهذه الآية على بطلان طريقة الإمامية في سوء الثناء على بعض الصحابة.

قال السيّد :] فلنا أن ننازع في اقتضاء ظاهر العموم ، وإذا سلّمنا ذلك جاز أن يحمل على العفو عن العقاب المعجل في الدنيا دون المستحق في الآخرة ، فقد روى هذا المعنى بعينه ، وقد يجوز أن يعفو الله تعالى عن الجماعة عن عقاب هذا الذنب خاصة بأن يكون سبق من حكمه ووعده أن يعفو عنه ، وإن كان منهم من يستحق عقابا على ذنوب أخر لم يعف عنها ؛ فإن العقل لا يمنع من العفو عن بعض العقاب دون بعض ، كما لا يمنع من العفو عن الجميع والسمع أيضا لا يمنع من ذلك إلّا في أقوام مخصوصين (٢).

__________________

(١) الذريعة ، ١ : ١٤٠.

(٢) الشافي في الإمامة وإبطال حجج العامّة ، ٤ : ٢٠.

٣٠

ـ (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : ١٥٩].

فأمّا التوكّل في الحقيقة فهو طلب الشيء من جهته ، وعلى الوجه الذي أبيح له طلبه منه ، وأن لا يقع جزع وقنوط عند فوته ، ولهذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو توكّلتم على الله تعالى حقّ التوكّل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطلانا» (١) ، فسمّاها مع الغدو والرواح في طلب الرزق متوكّلة (٢).

ـ (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) [آل عمران : ١٦٧].

[قد يقال : يمكن ان يتعلّق بهذه الآية لإثبات الكلام النفسي ، لكنّه ليس كذلك ؛ لانها] إنّما يقتضي أنّ قولهم ليس في قلوبهم ، ونحن متّفقون على ذلك ، ولا دلالة فيه على إثبات قول لغيرهم في القلب إلّا من طريق دلّ الخطاب وليس بصحيح.

على أنّ المعنيّ بذلك أنّهم ينافقون ويظهرون ما لا ينطوون على العلم بصحّته (٣).

ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)) [آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠].

[فيها أمور :

الأوّل :] الشهادة : خروج النفس في طاعة الله تعالى أو قربته إليه ؛ لأنه لا يسمى من في معصيته ولا في طاعة معصيته شهيدا. ووجدت بعض ثقات أهل اللغة يحكي في كتابه أن الشهيد هو الحي ، وأظنّه ذهب إلى قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ٧١ / ١٥١ ، مسند أحمد بن حنبل ١ / ٣٠ ، ٥٢.

(٢) الذخيرة : ٢٧٢.

(٣) الملخص ، ٢ : ٤٠٢.

(٤) الرسائل ، ٤ : ١١٠.

٣١

[الثاني : سئل] كيف يصح مع استحالة ورود السمع بما ينافي المعلوم استدلالا يرد عنا؟ فإن المعلوم ضرورة ، وعلم الضرورة أقوى لكونه من الشبهة أبعد وأقصى. وقد نهى الله سبحانه عن القول بأن الشهداء أموات ، وأخبر أنهم أحياء عند ربّهم يرزقون ، وقال بعد ذلك (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذا مع العلم حسا ومشاهدة بموتهم ، وكون أجسادهم طريحة لا حياة فيها مثل جسم مولانا الحسين عليه‌السلام ، وكونه بالطف طريحا ، وبقاء رأسه مرئيا محمولا أيّاما ، وقد انضاف إلى هذا العلم الضروري شهادات الحجج عليهم‌السلام بأن الجسم الطريح جسمه والرأس المحمول رأسه.

وكذلك القول في حمزة وجعفر عليهما‌السلام وأن الكبد المأكولة كبد حمزة ، واليدين المقطوعتين يدا جعفر وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أبدله بهما جناحين يطير بهما في الجنّة مع الملائكة (١) ، وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوما : لقد اجتاز بي جعفر يطير في زمرة من الملائكة (٢).

فإن كانت هذه الحياة المأمور بالقطع عليها على الفور ، فهو دفع للضرورات وتكذيب المشاهدات والشهادات والمتناقضة نفسها ، وإن كانت على التراخي وفي المعاد العام ، ففيه بطلان ما اتّفقت الطائفة (حرسها الله عليه) بأن المسلم عند قبورهم مسموع الكلام مردود عليه الجواب ، ولذلك يقولون عند زياراتهم : أشهد أنك تسمع كلامي وترد جوابي. وذلك واجب المضي على ظاهره ؛ لأن الانصراف عنه مع خروجه عن الاستحالة بحياتهم المقطوع عليها غير جائز ، وإنّما ينصرف عن الظواهر إذا استحالت ، أو منع منها دليل ، فلينعم بما عنده في جميع ذلك مشروحا مبينا أعظم الله ثوابه وأكرم مآبه.

الجواب : إعلم أنه ليس في القول بأن الأئمّة والشهداء والصالحين بعد أن يموتوا ويفارقوا الحياة في الدنيا أحياء عند ربّهم يرزقون ، مدافعة لضرورة ولا

__________________

(١) جامع الأصول ، ١٧٦.

(٢) بحار الأنوار ، ٢٢ : ١٧٣ ، ٢٧٦.

٣٢

مكابرة لمشاهدة ؛ لأن الإعادة للحي منا إلى جنّة أو نار أو ثواب أو عقاب ، لا تفتقر إلى إعادة جميع الأجزاء الّتي يشاهدها الأحياء منا دائما. وإنّما يجب إعادة الأجزاء الّتي تتعلّق بها بنية الحياة ، والّتي إذا انقضت (١) خرج الحي منا أن يكون حيّا ، وليس كلّ ما نشاهده من الأحوال (٢) هذا حكمه. ألا ترى أن الحي منا لو قطعت أطرافه ، كيده أو رجله أو أنفه أو أذنه ، لا يخرج من أن يكون حيّا [يجري] مجرى أجزاء السمين الّتي إذا زالت بالهزال ، لم يخرج من أن يكون حيّا ، ولا يضرب أحكامه في مدح وذمّ أو ثواب وعقاب.

وليس يجري ذلك مجرى قطع رأسه أو توسيطه ؛ لأنه يخرج بقطع الرأس والتوسط من أن يكون حيّا ، فالإعادة على هذا الأصل الّذي ذكرناه إنّما تجب للأجزاء الّتي إذا انتقصت خرج الحي من أن يكون حيّا.

وليس نمنع إعادة الأجزاء من جسم ميت ، وإن شاهدناه في رأي العين على هيئة الأولى ، ووجدنا أكثر أعضائه وبنيته باقية ؛ لأن المعول على تلك الأجزاء الّتي هي الحي على الحقيقة ، فإذا أعادها الله تعالى وأضاف إليها أجزاء أخر غير الأجزاء الّتي كانت في الدنيا لأعضائه ، جرى ذلك مجرى السمن والهزال والأبدال يد بيد ، فلا مانع إذن من أن يكون حيّا متنعّما في النعيم والثواب وإن كنا نرى جسمه في القبر طريحا.

وهذا يزيل الشبهة المعترضة في هذا الباب الّتي السبب في اعتراضها قلّة العلم بدقائق هذه الأمور وغوامضها وسرائرها. وممّا يشهد لما ذكرناه ما روي في جعفر الطيّار عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن الله تعالى أبدله بيديه المقطوعتين جناحين يطير بهما في الجنّة.

وقد كنا أملينا قديما مسألة مفردة في تأويل قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) استوفينا الكلام فيها (٣). وذكرنا

__________________

(١) ظ : انتقصت.

(٢) ظ : الاجزاء.

(٣) لا يوجد في الرسائل ولعلّه مفقود.

٣٣

في كتابنا المعروف بالذخيرة الكلام في كيفية الإعادة ، وما يجب إعادته وما لا يجب ذلك فيه (١) واستوفيناه والجملة الّتي ذكرناها هاهنا كافية لمن تصفحها (٢).

[الثالث : ان سأل سائل فقال :] إذا كنا نعلم أن علم المكلّف بوصوله إلى ثواب طاعاته عقيب فعلها يقتضي إلجاؤه إليها ، وأن يفعلها لأجل الثواب لا لوجه وجوبها ، وأن ذلك وجهان يقتضيان قبح تكليفها ، ولذلك قلنا بوجوب تأخير الثواب. فما الوجه من كون الشهيد حيّا عنده تعالى والوجيه الحال وما وردت به من وصول الأنبياء والأوصياء ومخلصي المؤمنين إلى الثواب عقيب الموت ، وأنهم أجمع أحياء عند الله يرزقون.

الجواب : إعلم أن الّذي يمضي في الكتب من أن المكلّف لو قطع على وصوله إلى ثواب طاعته وعقاب معصيته عقيب الطاعة والمعصية ، يقتضي الالجاء على نظر في ذلك ، غير مناف لما نقوله من أن الشهيد يدخل الجنّة عقيب موته بالشهادة. وكذلك الأنبياء والأوصياء ؛ لأن الشهادة أولا ليست من فعل الشهيد ، وإنّما بطلان حياته بالقتل في سبيل الله تعالى يسمى (شهادة) ، والقتل الّذي به تكون الشهادة من فعل غير الشهيد ، فكيف يجوز الالجاء إليه؟ ولا هو يجوز أن يقال أنهم ملجأون إلى الجهاد ؛ لأن الجهاد (٣) لا يعلم وقوع الشهادة لا محالة ، ولأن المجاهد إنّما يفعل الجهاد ويقصد به غلبته للمشركين ، لا إلى أن يغلبوه ويقتلوه شهيدا ، فالالجاء هاهنا غير متصوّر.

فأمّا الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام فليس يتعيّن لهم الطاعة الّتي يجازون بالثواب ودخول الجنّة عقيبها ، ولا طاعة يفعلونها إلّا وهم يجوزون أن يتأخّر الجزاء عليها ، بأن يغيّر تكليفهم ويستمرّ ، كما يجوزون أن يصلوا عقيبها إلى الثواب.

وهذا التجويز وعدم القطع يزيلان الالجاء الّذي اعتبر فيمن يقطع على وصوله إلى ثواب طاعته عقيب فعله ، وهذا بين لمن تدبّره.

__________________

(١) الذخيرة : ١٥١.

(٢) الرسائل : ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٨.

(٣) ظ : المجاهد.

٣٤

ونسأل الله تعالى أن يؤيدنا ويسددنا في كلّ قول ينحوه وفعل يعروه ، وأن يجعل ذلك كلّه خالصا له ومقرّبا منه ، إنّه سميع مجيب (١).

ـ (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١].

أنظر المائدة : ٦٤ الأمر الأوّل من الأمالي ، ٢ : ٥.

ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥].

أنظر مائدة : ١١٦ من الأمالي ، ١ : ٣١٧.

ـ (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩٤].

أنظر البقرة : ١٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٩٩.

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ٣٧٨.

٣٥

سورة النّساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

أنظر المائدة : ٦ الأمر الأوّل من الوضوء ، من الناصريات : ١١٦.

ـ (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣].

[إن سأل فقال :] هل تجري المستمتعات بهن مجرى الزوجات في التحصين ، فيحرم على المستمتع الزيادة على الأربع أو تجري مجرى الإماء في كثرة العدد وترك الالتفات إلى هذا الباب.

الجواب وبالله التوفيق :

لا خلاف بين أصحابنا في أن للمتمتع أن يجمع بين النساء أكثر من أربع حرائر ، وأنهن يجرين مجرى الإماء اللواتي يستباح بملك اليمين وطؤهن ، وقوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) وكل ظاهر من قرآن أو سنة يقتضي ذلك الزائد على أربع ، نحمله على أن المراد نكاح الدوام دون المتعة (١).

ـ (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء : ٤].

وممّا ظنّ إنفراد الإمامية به ـ ولها فيه موافق ـ القول بأنّه : لا حدّ لأقلّ الصداق ، وأنّه يجوز بالقليل والكثير ، والشافعي يقول بذلك (٢). وقال مالك وأبو حنيفة أقلّ الصداق ما تقطع فيه اليد (٣) ، والذي تقطع فيه اليد عند مالك ثلاثة

__________________

(١) الرسائل ، ٤ : ٤٢.

(٢) المحلّى ، ٩ : ٤٩٦.

(٣) المحلّى ، ٩ : ٤٩٥.

٣٦

دراهم (١) ، وعند أبي حنيفة عشرة دراهم (٢) ، فان أصدقها أقل من عشرة دراهم كمل لها عشرة عند أبي حنيفة وأبي يوسف (٣) ، وعند زفر يسقط المسمّى ويجب لها مهر المثل (٤). وقال النخعي : أقلّ الصداق أربعون درهما (٥). وقال سعيد بن جبير : خمسون درهما (٦).

دليلنا ـ بعد إجماع الطائفة ـ قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً). وقوله في موضع آخر : (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) (٧) والقليل يقع عليه الاسم كالكثير فيجب إجزاؤه.

وممّا يعارضون به ما يروونه عنه عليه‌السلام من إستحل بدرهمين فقد إستحلّ (٨) ، وقوله : لا جناح على امرئ أصدق امرأة صداقا قليلا كان أو كثيرا (٩) (١٠).

ـ (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧].

إعلم أنّ مخالفينا في هذا الباب يذهبون في ذلك إلى ما لم يقم به حجّة من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ؛ ويعوّلون في هذا الأصل الجليل على أخبار آحاد ضعيفة لو سلمت من كلّ قدح ومخالفة لنصّ الكتاب وظاهره على ما نستدلّ عليه ومعارضة بأمثالها لكانت غاية أمرها أن توجب الظنّ الذي قد بيّنا في غير موضع أنّ الأحكام الشرعية لا تثبت بمثله ، وادّعاء الإجماع على قولهم في التعصيب غير ممكن مع الخلاف المعروف المسطور فيه سالفا وآنفا ؛ لأنّ ابن عبّاس رضي الله عنه كان يخالفهم في التعصيب ، ويذهب إلى مثل مذهب الإمامية ويقول فيمن خلّف بنتا وأختا : أنّ المال كلّه للبنت دون الأخت ، ووافقه في ذلك جابر ابن عبد الله (١١).

__________________

(١) بداية المجتهد ، ٢ : ٤٤٢.

(٢) تحفة الفقهاء ، ١ : ١٣٦.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

(٥) المغني (لابن قدامة) ، ٨ : ٤.

(٦) نفس المصدر.

(٧) سورة النساء ، آيتان : ٢٤ ، ٢٥.

(٨) نيل الأوطار ، ٦ : ١٦٧.

(٩) المحلّى ، ٩ : ٥٠٠.

(١٠) الانتصار : ١٢٣.

(١١) المغني (لابن قدامة) ، ٧ : ٦.

٣٧

وحكى الساجي أنّ عبد الله بن الزبير قضى أيضا بذلك ، وحكى الطبري مثله (١) ، ورويت موافقة ابن عبّاس عن إبراهيم النخعي في رواية الأعمش عنه ، وذهب داود بن علي الأصفهاني إلى مثل ما حكيناه ولم يجعل الأخوات عصبة مع البنات (٢) ، فبطل ادّعاء الإجماع مع ثبوت الخلاف متقدّما ومتأخّرا ، والذي يدلّ على صحّة مذهبنا وبطلان مذهب مخالفينا في العصبة بعد إجماع الطائفة الذي قد بيّنا أنّه حجّة ، قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) وهذا نصّ في موضع الخلاف ؛ لأنّ الله تعالى صرّح بأنّ للرجال من الميراث نصيبا ، وأنّ للنساء أيضا نصيبا ولم يخصّ موضعا دون موضع ، فمن خصّ في بعض المواريث بالميراث الرجال دون النساء فقد خالف ظاهر هذه الآية.

وأيضا توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة من أحكام الجاهلية ، وقد نسخ الله تعالى بشريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحكام الجاهلية ، وذمّ من أقام عليها واستمرّ على العمل بها بقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) (٣) وليس لهم أن يقولوا : إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنة ، وذلك أنّ السنة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يخصّص بها القرآن ، كما لا ينسخه بها ، وإنّما يجوز بالسنة أن يخصّص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم اليقين ، ولا خلاف في أن الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما ، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظنّ ، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة (٤) من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة ، وأنّه بالقربى والرحم ، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظواهر الكتاب.

فاعتماد المخالفين في العصبة على حديث رواه ابن طاوس ، عن أبيه ، عن

__________________

(١) المحلّى ، ٩ : ٢٥٦.

(٢) بداية المجتهد ، ٢ : ٢٧٢.

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٥٠.

(٤) الوسائل ، ١٧ : ٤٣١.

٣٨

ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقسّم المال على أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت فلأولى ذكر قرب (١) ، وهذا خبر لم يروه أحد من أصحاب الحديث إلّا من طريق ابن طاوس ، ولا رواه ابن طاوس إلّا ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ولم يقل ابن عباس فيه سمعت ولا حدّثنا ، وابن طاوس يسنده تارة : إلى ابن عباس في رواية وهب ومعمّر (٢) ، وتارة أخرى : يرويه عنه الثوري وعلي بن عاصم ، عن أبيه مرسلا (٣) ، غير مذكور فيه ابن عباس. فيقول الثوري وعلي بن عاصم ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ هو مختلف اللفظ ؛ لأنّه يروى : فما أبقت الفرائض فلأولى ذكر (٤) ، وروي أيضا : فلأولى عصبة قرب (٥) ، وروي أيضا : فلأولى عصبة ذكر (٦) ، وفي رواية أخرى : فلأولى رجل ذكر عصبة (٧) ، واختلاف لفظه والطريق واحد ، يدلّ على ضعفه. وقد خالف ابن عباس الذي يسند هذا الخبر إليه ما اجتمع ناقلوا هذا الخبر عليه في توريث الأخت بالتعصيب إذا خلّف الميت بنتا وأختا على ما قدّمناه وحكيناه عنه ، وراوي هذا الخبر إذا خالف معناه كان فيه ما هو معلوم. ثمّ إذا تجاوزنا عن ذلك من أين لهم أنّ معنى العصبة المذكورة في الخبر هو ما يذهبون إليه ، وليس في اللغة العربية لذلك شاهد ، ولا في العرف الشرعي ، فأمّا اللغة فإنّ الخليل بن أحمد قال في كتاب العين (٨) : إنّ العصبة مشتقّة من الأعصاب وهي الّتي تصل بين أطراف العظام ، ولمّا كانت هذه الواصلة بين المتفرقة من الأعضاء حتى التأمت ، وكان أولاد البنات أولادا للجدّ ، كما أنّ أولاد الابن ولد للجدّ ، والجدّ جدّ للجميع كان البنات في جميع ولدهن إلى الجد ، وضمّ الأهل والقبيلة المنسوبة إلى الجدّ كالبنين وكانوا جميعا كالأعصاب التي تجمع العظام وتلائم الجسد ، فوجب أن يسمّوا جميعا عصبة ، وذكر أبو

__________________

(١) جامع الأصول ، ١٠ : ٢٧٩ ح ٧٤٠١.

(٢) صحيح البخاري ، ٨ : ١٨٧.

(٣) لم نعثر عليه.

(٤) مسند أحمد ، ١ : ١٣١.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) الوسائل ، ١٧ : ٤٣٢ ح ٥.

(٧) سنن ابن ماجة ، ٢ : ٩١٥ ح ٢٧٤٠.

(٨) كتاب العين : مادة (عصب).

٣٩

عمرو غلام ثعلب قال : قال ثعلب : قال ابن الأعرابي : العصبة جميع الأهل من الرجال والنساء ، فإنّ هذا هو المعروف المشهور في لغة العرب ، وأن الكلالة ما عدا الوالدين والولد من الأهل ، فإذا كانت اللغة على ما ذكرناه فهي شاهد بضدّ ما يذهب إليه مخالفنا في العصبة ، وليس هاهنا عرف شرعي مستقرّ في هذه اللفظة ؛ لأنّ الاختلاف واقع في معناها ؛ لأنّ في الناس من يذهب إلى أنّ العصبة إنّما هي القرابة من جهة الأب.

وفيهم من يذهب فيها إلى أنّ المراد بها قرابة الميت من الرجال الذين اتّصلت قرابتهم به من جهة الرجال ، كالأخ والعمّ دون الأخت والعمّة ، ولا يجعل للرجال الذين اتّصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة ، كأخوة الميّت لأمّه وفيهم من جعل العصبة مأخوذة من التعصّب والرايات والديوان والنصرة ، ومع هذا الاختلاف لا إجماع يستقرّ على معناها. على أنّهم يخالفون لفظ هذا الحديث الذي يروونه ؛ لأنّهم يعطون الأخت مع البنت بالتعصيب وليست برجل ولا ذكر كما تضمنه لفظ الحديث.

فإن قالوا : نخصّ هذا اللفظ إذا ورّثنا الأخت مع البنت ، قلنا : ما الفرق بينكم إذا خصصتموه ببعض المواضع ، وبينا إذا فعلنا في تخصيصه مثل فعلكم ، فجعلناه مستعملا في من خلّف اختين لأمّ ، وابن أخ وابنة أخ لأب ، وأمّ وأخا لأب ، فإنّ الأختين من الأمّ فرضهن الثلث وما بقي فلأولى ذكر قرب وهو الأخ من الأب ، وسقط ابن الأخ وبنت الأخ ؛ لأنّ الأخ أقرب منهما ، وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميت امرأة وعمّا وعمة وخالا وخالة وابن أخ أو أخا ، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو الأخ وابن الأخ وسقط الباقون ، ثمّ يقال لهم : من أيّ وجه كانت الأخت مع البنت عصبة ، فإن قالوا : من حيث عصبها أخوها ، قلنا : فألّا جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصبها ، وإذا كان الأبن أحقّ بالتعصيب من الأب فالأب أحقّ بالتعصيب من الأخ ، فأخت الأبن أحقّ بالتعصيب كثيرا من أخت الأخ.

وكذلك يلزمهم أن يجعلوا العمّة عند عدم العم عصبة في ما توجه لا نجازه

٤٠