تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

الشرط ؛ لأنّه لا يتناول إلّا الممدوح ، ولهذه العلّة وجب في الشرط المراعي في النفي أن يكون أيضا إثباتا أو جاريا مجرى الإثبات. ومن تأمّل ما وقع التمدّح فيه بالنفي والإثبات ، علم أنّ الأمر فيه على ما ذكرنا.

فإن قيل : ظاهر الآية إنّما يقتضي نفي إدراك الأبصار عنه ، وهذا ممّا لا يخالف فيه أحد ، وإنّما الخلاف في إدراك المبصرين الذين لم يتناولهم الآية؟

قلنا : ليس يخلو ذكر الأبصار أو المبصرون ، فإن أريد به الرؤية دون حاسّتها ، فذلك باطل بما دللنا به من قبل على أنّ الرؤية ليست بمعنى ، وإن أريد الحاسّة ، بطل أن تكون الآية موجبة لمدحه تعالى ؛ لأنّ الحاسّة كما يستحيل أن ترى هي القديم تعالى ، وكذلك يستحيل أن ترى غيره من جميع الموجودات ، فلا اختصاص هاهنا للقديم تعالى بما ليس لغيره.

وليس لأحد أن يراعي في ذلك كونه رائيا ويشترط النفي به ؛ لأنّ كلّ سليم من الأحياء يشارك في ذلك ، من حيث كان البصر لا يراه على الحقيقة ، وإن كان هو رائيا له.

على أنّ من ليس أدنى بصيرة بالعربيّة (١) ، لا يتعرض بمثل هذا الاعتراض ؛ لأنّهم لا يفرّقون ـ إذا أرادوا النفي ـ بين أن يعلّقوه بالآلة أو بذي الآلة ، ولهذا يقولون : «يد فلان لا تبطش» ، و «رجله لا تسعى» ، و «عينه لا تبصر» ، وإنّما يريدون أنّه في نفسه لا يبطش ولا يسعى ولا يبصر ، فالمعنى واحد ، وإن كان اللفظ الأوّل الذي يعلّق النفي فيه بالآية أفصح وأبلغ.

فإن قيل : من أين لكم عموم الآية على وجه يتضمّن نفي إدراك البعض ، كما يتضمّن نفي إدراك الكلّ ، ظاهر الآية إنّما يقتضي أن جميع المبصرين أيضا لا يدركونه ، وهذا ممّا لا خلاف فيه؟

قلنا : قد أجيب عن هذا السؤال بأنّ إدراك الكلّ يقتضي نفي إدراك البعض ، كما أنّ الإثبات يقتضي ذلك ، وليس هذا بمرضيّ ؛ لأنّ الإثبات في هذا الباب

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلّ الصحيح ، «على انّ من له أدنى بصيرة بالعربية.»

٢٨١

يخالف النفي ؛ لأنّ القائل إذا قال : «لا أكلّم جميع الحدث» و «لا آكل جميع هذا الطعام» متى كلّم بعضهم وأكل بعض الطعام لا يكون كاذبا ، وفي الإثبات إذا قال : «أنا آكل جميع الطعام» و «أكلّم جميع الناس» متى أخلّ بالبعض يكون كاذبا.

والجواب عن ذلك : هو إنّا قد بيّنّا أنّه تعالى لم يتمدّح في الآية بانتفاء فعل أو إثبات فعل ، وإنّما تمدّح بما يرجع إلى ذاته ، وهذا القدر كاف في إسقاط هذا السؤال ؛ لأنّ تمدّحه إذا كان راجعا إلى ما يختصّ في ذاته ، كان انتفاء إدراك البعض كانتفاء إدراك الكلّ ، وإنّما يصحّ معنى السؤال ، لو كان الإدراك معنى ، ثمّ كان ممّا يصحّ انتفائه عن بعض المدركين دون بعضهم وحالهم واحدة ، وإذا كنّا قد دللنا على فساد كلّ ذلك فلا شبهة في السؤال (١).

ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١].

وممّا إنفردت به الإمامية أنّ ذبائح أهل الكتاب محرّمة لا يحلّ أكلها ولا التصرّف فيها ؛ لأنّ الذكاة ما لحقتها ، وكذلك صيدهم وما يصيدونه بكلب أو غيره. وخالف باقي الفقهاء في ذلك (٢) ، دليلنا على صحة ما ذكرناه الاجماع المتردد ، وأيضا قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وهذا نصّ في موضع الخلاف ؛ لأنّ ما ذكرناه من الكفّار لا يرون التسمية على الذبائح فرضا ولا سنة ، فهم لا يسمّون على ذبائحهم ، ولو سمّوا لكانوا مسمّين لغير الله تعالى ؛ لأنّهم لا يعرفون الله تعالى لكفرهم على ما دللنا عليه في غير موضع ، وهذه الجملة تقتضي تحريم ذبائحهم.

فإن قيل : هذا يقتضي أنّه لا يحلّ ذبائح الصبي ؛ لأنّه غير عارف بالله تعالى.

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٢٤٣ وراجع أيضا الأمالي ، ١ : ٤٩.

(٢) المبسوط (للسرخسي) ، ١٢ : ٥ و ١١ : ٢٤٦.

٢٨٢

قلنا : ظاهر الآية يقتضي ذلك ، وإنّما أدخلناه فيمن تجوز ذبائحه بدليل ؛ ولأنّ الصبي وإن لم يكن عارفا فليس بكافر ، ولا معتقد أنّ إلهه غير من يستحقّ العبادة على الحقيقة ، وإنّما هو خال من المعرفة ، فجاز أن يجري مجرى العارف متى ذبح وتلفّظ بالتسمية وهذا كلّه غير موجود في الكفار.

فإن اعترض علينا بقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (١) وادّعي أنّ الطعام يدخل فيه ذبائح أهل الكتاب ، فالجواب عن ذلك أيضا أنّ أصحابنا يحملون قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) على ما يملكونه ممّا يؤكل من حبوب وغيرها ، وهذا تخصيص لا محالة ؛ لأنّ ما صنعوه طعاما من ذبائحهم يدخل تحت اللفظ ولا يجوز إخراجه إلّا بدليل.

فإذا قلنا : تخصيصه بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ). قيل لنا : ليس أنتم بأن تخصّوا آيتنا بعموم آيتكم أولى منّا إذا خصصنا الآية التي تعلّقتم بها بعموم ظاهرها بالآية التي استدللنا بها.

والذي يجب أن يعتمد في الفرق بين الأمرين أنّه قد ثبت وجوب التسمية على الذبيحة ، وأنّ من تركها عامدا لا يكون مذكيا ، ولا يجوز أكل ذبيحته على وجه من الوجوه ، وكلّ من ذهب إلى هذا المذهب من الأمّة يذهب إلى تخصيص قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) وأنّ ذبائحهم لا تدخل تحته ، والتفرقة بين الامرين خلاف الاجماع ، ولا يلزم على ما ذكرناه أنّ أصحاب أبي حنيفة (٢) يوافقونا على وجوب التسمية وإن لم يخصصوا بالآية الاخرى ؛ لأنّا اشترطنا إيجاب التسمية مع الذكر على كلّ حال ، وعند أصحاب أبي حنيفة جائز أن يترك التسمية من أدّاه إجتهاده إلى ذلك ، أو استفتى من هذا حاله ، والإمامية يذهبون إلى أنّ التسمية مع الذكر لا تسقط في حال من الأحوال.

فإن قيل : على هذه الطريقة التي نعتمدها من الجمع بين المسألتين ما أنكرتم

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥.

(٢) اختلاف الفقهاء (للطحاوي) ، ١ : ٦٢.

٢٨٣

أنّ لمن خالفكم أن يعكس هذه الطريقة عليكم ويقول : قد ثبت أنّ التسمية غير واجبة أو يشير إلى مسألة قد دلّ الدليل على صحّتها عنده ، ثم يقول : كلّ من ذهب إلى هذا الحكم يذهب إلى عموم قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) والتفرقة بين الأمرين خلاف الاجماع.

قلنا : الفرق بينهما ظاهر ؛ لأنّا إذا بنينا على مسألة ضمنا عهدة صحّتها ونفي الشبهة عنها ، ومخالفنا إذا بنى على مسألة مثل أنّ التسمية غير واجبة أو غير ذلك من المسائل ، لا يمكنه أن يصحّح ما بنى عليه ولا أن يورد حجّة قاطعة فيه ، والمحنة بيننا وبين من تعاطى ذلك ، ونحن إذا بنينا على مسألة دللنا على صحّتها بما لا يمكن دفعه ، وهذا على التفصيل يخرجه الاختبار والاعتبار (١).

ـ (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الأنعام : ١٢٩].

قيل [في هذه الآية] أقوال :

منها : أن يحشر الظالمون مع أوليائهم فيدخلون النار إلى بيتهم في العقاب.

وقيل : يخلي الفراعنة ويولّيهم على الظالمين ويمكّنهم منه.

وقيل وجه آخر وهو أحسن : وهو ما بيّنه تعالى في موضع آخر بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) فحكم أنّ الكفار بعضهم يتولّى بعضا وينصره ومنع المؤمنين من ذلك فكان حاكما عادلا من حيث حكم بما ذكرناه ، والله تعالى أعلم (٣).

ـ (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ....) [الأنعام : ١٣٣].

أنظر النور : ٥٥ من الشافي ، ٤ : ٣٦ و ٤٥.

ـ (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٤٠].

__________________

(١) الانتصار : ١٨٨ وراجع أيضا الناصريات : ٤٤٠.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥١.

(٣) الرسائل ، ٣ : ١٠١.

٢٨٤

انظر التكوير : ٨ ، ٩ من الأمالي ، ٢ : ٢٤٠.

ـ (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام : ١٤١].

أنظر محمّد : ٣٦ من الانتصار : ٧٨.

ـ (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ...) [الأنعام : ١٤٥].

[قال الناصر رحمه‌الله :] «كلّ حيوان ليس له دم سائل فإنّه لا ينجس بالموت ، [ولا ينجس الماء]».

وهذا صحيح عندنا : أنّ كلّ ما لا نفس له سائلة كالذباب ، والجراد ، والزنابير ، وما أشبهها ، لا ينجس بالموت ولا ينجّس الماء إذا وقع فيه ، قليلا كان أو كثيرا ...

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه قوله تعالى : (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) وظاهر هذه الآية يقتضي أنّه لا يحرم من المطعومات إلّا ما تضمّنت ذكره ، ولم تتضمّن ذكر ما وقع فيه بعض ما لا نفس له سائلة من الطعام والشراب ، فوجب أن يكون مباحا ، فلو كان نجسا لما أبيح أكله وشربه ، ولا يلزمنا ما أخرجناه من عموم هذه الآية من المحرّمات الكثيرة ، لأنّ الدليل اقتضى ذلك ولا دليل فيما اختلفنا فيه يقتضي العدول عن ظاهر الآية.

فإن قيل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (١) وقوله في الآية الّتي تعلّقتم بها (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) فدلّ على بطلان ما ذكرتموه.

قلنا : ليس الأمر على ما ظننتم ، لأنّه غير مسلّم أن اسم الميتة بالإطلاق يتناول ما لا نفس له سائلة من البعوض والبقّ إذا مات ، والتعارف يمنع من

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٣.

٢٨٥

ذلك ؛ على أنّ تحريمه تعالى الميتة إنّما المراد به الأفعال في عين الميتة دون غيرها من أكل ، وبيع ، وتصرف ، وانتفاع ؛ والماء الذي تجاوره الميتة ليس بميتة ، فيجب أن يكون موقوفا في طهارته أو نجاسته على الدلالة ، ولم يعدّده الله تعالى في المحرّمات من المطعومات ، فيجب أن يكون طاهرا.

وأيضا فقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله» (١).

وذلك عموم في الحيّ والميّت ، فدلّ على أنّ حصولها في الماء لا ينجّسه ، ولأنّ المقل يوجب الموت ألا ترى أنّه إذا مقلها في طعام شديد الحرارة فإنّها تموت في الحال. ولم يفصّل عليه‌السلام بين الحارّ والبارد ، [فلو كان موتها يوجب النجاسة لم أمر عليه‌السلام بمقلها مع علمه بأنّه يوجب موتها؟].

وفي خبر آخر ، روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «كلّ طعام أو شراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فهو الحلال أكله ، وشربه ، والوضوء منه» (٢) (٣).

ـ (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١].

[إن سأل سائل] كيف يجوز أن يكون من جملة ما حرّم علينا ألّا نشرك به شيئا ؛ والأمر بالعكس من ذلك.

الجواب : قيل له : هذا سؤال من لا تأمّل عنده بموضوع الآية وترتيب خطابها ؛ لأنّ التحريم المذكور فيها لا يجوز البتّة على مذهب أهل العربية أن يكون متعلّقا بقوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) ؛ وإنّما هو من صلة الجملة الأولى ؛

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ١ : ٣٩.

(٢) سنن البيهقي ، ١ : ٢٥٣.

(٣) الناصريات : ٩٦.

٢٨٦

ولو تعلّق التحريم المذكور بقوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا) لم يخل أن يكون تعلّقه به تعلّق الفاعل أو المفعول (١) ؛ وكأنّه قال : حرّم أن لا تشركوا ، أو المبتدأ والخبر ؛ فكأنّه قال : الذي حرّم ربّكم عليكم ألّا تشركوا.

والتعلّق الأوّل يمنع منه أنّ لفظة «حرّم» من صلة لفظة «ما» التي بمعنى «الذي» لا يعمل فيما بعدها ؛ ألا ترى أنّك إذا قلت : حرّمت كذا ، فالتحريم عامل فيما بعده عمل الفعل في المفعول ؛ فإذا قلت : «الذي حرّمت كذا» بطل هذا المعنى ، ولم يجز أن يكون التحريم متعلّقا بما بعده على معنى الفعلية ؛ بل على سبيل المبتدأ والخبر.

ولا يجوز أن يكون في الآية التعلّق على هذا الوجه ؛ لأنّ صدر الكلام يمنع من ذلك ؛ ألا ترى أنّه تعالى قال : (أَتْلُ ما حَرَّمَ) ف (ما حَرَّمَ) منصوب ، لأنّه مفعول «أتل» ؛ وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون «ما حرّم» مبتدأ حتى يكون «ألّا تشركوا» خبرا له. وإذا بطل التعلّق بين الكلام من كلا الوجهين نظرنا في قوله تعالى : (أَلَّا تُشْرِكُوا) ماذا يتعلّق به؟ واحتجنا إلى إضمار متعلّق به ؛ ولم يجز أن نضمر «حرّم» ألا تشركوا به ؛ لأنّ ذلك واجب غير محرّم ؛ فيجب أن يضمر «ما أوصاكم» ألّا تشركوا به شيئا ، أو «أتل عليكم» ألّا تشركوا. والاضمار الأوّل يشهد له آخر الآية في قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، والإضمار الثاني يشهد له أوّل الآية في قوله تعالى : (أَتْلُ) وما وصّانا به فقد أمرنا به وندبنا إليه.

فإن قيل. فما موضع «أن» من الإعراب؟.

قلنا : في ذلك وجوه ثلاثة :

أحدها : الرفع ؛ ويكون التقدير : ذلك ألّا تشركوا به شيئا ؛ فكأنّه مبتدأ وخبر.

والثاني : النّصب ؛ إمّا على أوصى ألّا تشركوا ، أو على أتل ألّا تشركوا.

__________________

(١) في الرسائل ، ٣ : ٩٨ : تعلق الفاعل والمفعول.

٢٨٧

والثالث : ألّا يكون لها موضع ، ويكون المعنى : لا تشركوا به شيئا.

فأمّا موضع «تشركوا» فيمكن فيه وجهان :

النصب ب «أن» ؛ والثاني الجزم ب «لا» على جهة النهي.

فإن قيل : كيف يعطف النهي في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) على الخبر وهو أوصى (أَلَّا تُشْرِكُوا)؟

قلنا : ذلك جائز ؛ مثل قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١) ؛ ومثل قول الشاعر :

حج وأوصى بسليمى الأعبدا

ألا ترى ولا تكلّم أحدا

ولم يزل شرابها مبرّدا

فعطف «لا تكلّم» ـ وهي نهي ـ على الخبر.

ويمكن في الآية وجه آخر غير مذكور فيها ، والكلام يحتمله : وهو أن يكون الكلام قد انقطع عند قوله تعالى : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) والوقف هاهنا ، ثمّ ابتدأ (عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً).

وإذا كانت على هذا الوجه احتمل : (عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا) وجهين :

أحدهما : أن يراد به يلزمكم وواجب عليكم ذلك ؛ كما يقال : عليك درهم ، وعليك أن تفعل كذا ، ثمّ قال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أي أوصي بالوالدين إحسانا.

والوجه الآخر : أن يريد الإغراء ؛ كما تقول : عليك زيدا ؛ وعليك كذا إذا أمرت بأخذه والبدار إليه.

ولم يبق بعد هذا إلّا سؤال واحد ؛ وهو أن يقال : كيف يجوز أن يقول تعالى : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، ثمّ يأتي بذكر أشياء غير محرّمات حتى يقدروا لها الوصية والأمر ، وصدر الكلام يقتضي أنّ الذي يأتي به من بعد

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٤.

٢٨٨

لا يكون إلّا محرّما؟ ألا ترى أنّ القائل إذا قال : تعال أتل عليك ما وهبت كذا وكذا ، لا بدّ أن يكون ما يعدّده ويذكره من الموهوبات ؛ وإلّا خرج الكلام من الصحّة.

والجواب عن ذلك : أنّ التحريم لمّا كان إيجابا وإلزاما أتى ما بعده من المذكورات على المعنى دون اللفظ بذكر الأمور الواجبات والمأمورات للاشتراك في المعنى. وأيضا فإنّ في الإيجاب والإلزام تحريما ؛ ألا ترى أنّ الواجب محرّم الترك ، وكلّ شيء ذكر بعد لفظ التحريم على بعض الوجوه تحريم.

فإن قيل : ألّا حملتم الآية على ما حملها قوم من أنّ لفظة «لا» زائدة في قوله : «ألّا تشركوا» ، فكأنّه عزوجل حرّم أن تشركوا به ؛ واستشهد على زيادة «لا» بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١) ، وبقول الشاعر :

فما ألوم البيض ألا تسخرا

لما رأين الأسمط القفندرا

وبقول الشاعر :

ألا يا لقوم قد أشطّت عواذلي

ويزعمن أن أودى بحقّي باطلي

ويلحينني في اللهو إلا أحبّة

وللهو داع دائب غير غافل

قلنا : قد أنكر كثير من أهل العربية زيادة «لا» في مثل هذا الموضع ، وضعّفوه وحملوا قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) على أنّه خارج على المعنى ؛ والمراد به : ما دعاك إلى ألا تسجد! وما أمرك بألّا تسجد! لأنّ من منع من شيء فقد دعي إلى ألّا يفعل.

ومتى حملنا قوله تعالى : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) على أنّ لفظة «لا» زائدة ـ على تضعيف قوم لذلك ـ فلا بدّ فيما اتّصل به هذا الكلام من تقدير فعل آخر ؛ وهو قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ؛ لأنّ ذلك لا يجوز أن يكون معطوفا على المحرّم ؛ ولا بدّ من إضمار : «ووصينا بالوالدين إحسانا». وإذا احتجنا إلى هذا

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٢.

٢٨٩

الإضمار ولم يغننا عنه ما ارتكبناه من زيادة لفظة «لا» ، فالأولى أن نكتفي بهذا الإضمار في صدر الكلام على حاله من غير إلغاء شيء منه ، ونقدر ما تقدّم بيانه ؛ فكأنّه تعالى وصّى ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا. ويشهد لذلك يقوّيه آخر الآية (١).

ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣].

أنظر الأحزاب : ٢١ من الذريعة ، ٢ : ٥٧٦.

ـ (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٩٧ راجع أيضا الرسائل ، ٣ : ٩٧ والمتن هناك مغلوط جدّا.

٢٩٠

سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)) [الأعراف : ١ ـ ٣].

أنظر الزخرف : ٤٥ من الأمالي ، ٢ : ٧١.

ـ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤].

أنظر البقرة : ٧٤ من الأمالي ، ٢ : ٥٠ والقيامة : ٢٢ ، ٢٣ من الملخص ، ٢ : ٢٥٧.

ـ (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) [الأعراف : ٨].

أنظر النور : ٢٤ من الذخيرة : ٥٣٠.

ـ (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١].

أجمع أهل العربية على أنّ «ثم» توجب في العطف الترتيب دالّة على التعقيب ، وإذا كان هذا كما وصفوا فما معنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

فيجيء من هذا على قول النحويين أنّه تعالى أمر الملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) بعد خلقه وتصويره قوما خوطبوا بذلك ، فإن كان هؤلاء المخاطبون من ذرّية آدم فهذا من الأمر المستحيل ، وإن كان من غير ذرّية آدم ، فيحتاج الى دليل.

الجواب :

أمّا قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) لقوم

٢٩١

ليسوا من نسل آدم عليه‌السلام بل للجنّ وغيرهم من خلق الله تعالى ، وعلى هذا الجواب تسقط الشبهة ولا يبقى سؤال.

الجواب الآخر : أن يكون قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ) لم يرد به الايجاد والاصلات وإن كان الخطاب به لبني آدم ، وإنّما أراد تعالى التقدير.

وعلى هذا المعنى حمل قوم من العلماء قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١).

بمعنى أنّه تعالى قدرها وعلم كيفيتها وأحوالها وسوء (٢) الخلق الإيجاد والاحداث وقد يسمّى أحدنا بأنّه خالق للاديم وإن لم يكن محدثا ولا موجدا ، فالشبهة أيضا ساقطة عن هذا الجواب.

وقد أجاب قوم عن هذا السؤال ، بأنّ لفظة «ثم» في قوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) لم يأت لترتيب الجواب الأمر بالسجود على الخلق والتصوير ، لا الأمر هو المرتّب عليها (٣).

وهذا الجواب وإن كان مسقطا للشبهة ، فإنّه مخالف للظاهر ؛ لأنّ ظاهر الكلام يقتضي أنّ الأمر بالسجود هو المرتّب لا للاعلام. ألا ترى أنّ القائل إذا قال : ضربت زيدا ثم عمرا ، فإنّ الظاهر من كلامه يقتضي أنّ ضرب عمر هو المرتّب على ضرب زيد.

وعلى هذا الجواب الذي حكيناه يجوز أن يكون ضرب عمرو متقدّما على ضرب زيد ، وإنّما أدخل لفظة «ثم» لإعلام ترتّب الضرب على الضرب ومعلوم خلاف ذلك.

فإن قيل : فالجواب الذي ذكرتموه المبني على أنّ قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ) لم يعن به البشر وإنّما عني به غيرهم ، مخالف أيضا للظاهر.

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ٩٦.

(٢) كذا في النسخة. والظاهر ان كلمة «سوء» زائدة.

(٣) كذا في المطبوعة ولعلّ الصحيح هكذا «لم يأت لترتيب الأمر بالسجود على الخلق والتصوير ، بل الأمر هو المرتّب عليها».

٢٩٢

فان قلتم : خالفنا الظاهر بدليل.

قلنا : ونخالفه أيضا بدليل.

والجواب عن السؤال : أنّه ليس الظاهر من قوله تعالى : (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) ينبغي أن يكون متوجّها إلى بنى آدم دون غيرهم من العقلاء.

والظاهر من قوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) يقتضي ترتّب القول على الخلق والتصوير (١).

ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].

أنظر البقرة : ٣٤ من الرسائل ، ٢ : ١٥٥ والمائدة : ٦ ، الأمر السادس ، الموضع الأوّل ، من الرسائل ، ٢ : ٦٧ والأنعام : ١٥١ من الأمالي ، ٢ : ٢٩٧.

ـ (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) [الأعراف : ١٩].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ)

(أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠].

[استدلّ بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم‌السلام ، قالوا :] فرغبهما بالتناول من الشجرة ليكونا في منزلة الملائكة حتى تناولا وعصيا ؛ وليس يجوز أن يرغب عاقل في أن يكون على منزلة دون منزلته ، حتى حمله ذلك على خلاف الله تعالى ومعصيته ، وهذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء.

فيقال : لم زعمتم أنّ قوله تعالى : (أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) معناه أن تصيرا وتنقلبا إلى صفة الملائكة ، فانّ هذه اللفظة ليست صريحة لما ذكرتم ، بل أحسن الأحوال أن تكون محتملة له.

وما أنكرتم أن يكون المعنى أنّ المنهي عن تناول الشجرة غيركما وأنّ النهي يختصّ الملائكة والخالدين دونكما. ويجري ذلك مجرى قول أحدنا لغيره «ما

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ٩٥.

٢٩٣

نهيت أنت عن كذا إلّا أن تكون فلانا» وإنّما يعني أنّ المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد إلّا أن تنقلب فتصير فلانا. ولمّا كان غرض إبليس إلقاء الشبهة لهما فمن أوكد الشبه إيهامهما أنّهما لم ينهيا وانّما المنهي غيرهما.

ومن وكيد ما يفسد به هذه الشبهة أن يقال : ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا إلى صفة الملائكة وخلقتهم كما رغبهما إبليس في ذلك ، ولا تدلّ هذه الرغبة على أنّ الملائكة أفضل منهما ؛ لأنّ المنقلب إلى خلقة غيره لا يجب أن يكون مثل ثوابه له ؛ فإنّ الثواب لا ينقلب ولا يتغيّر بانقلاب الصور والخلق ، فانّه إنتما يستحقّ على الاعمال دون الهيئات.

وغير ممتنع أن يكونا رغبا في أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها ، وليس ذلك برغبة في الثواب ولا الفضل ؛ فانّ الثواب لا يتبع الهيئات والصور.

إلّا ترى أنّهما رغبا في أن يكونا من الخالدين ، وليس الخلود ممّا يقتضي مزيّة في ثواب ولا فضلا فيه ، وإنّما هو نفع عاجل ، وكذلك لا يمتنع أن تكون الرغبة منهما في أن يصيرا ملكين إنّما كانت على هذا الوجه.

ويمكن أن يقال للمعتزلة خاصة وكلّ من أجاز على الأنبياء الصغائر : ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أنّ الملك أفضل من النبيّ وغلطا في ذلك وكان منهما ذنبا صغيرا ؛ لأنّ الصغائر تجوز عندكم على الأنبياء ، فمن أين لكم إذا اعتقدا أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء ورغبا في ذلك أنّ الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب.

وليس لهم أن يقولوا : إنّ الصغائر إنّما تدخل في أفعال الجوارح دون القلوب ؛ لأنّ ذلك تحكّم بغير برهان ، وليس يمتنع على أصولهم أن تدخل الصغائر في أفعال القلوب والجوارح معا ؛ لأنّ حدّ الصغير عندهم «ما نقص عقابه عن ثواب طاعات فاعله» ، وليس يمتنع معنى هذا الحدّ في أفعال القلوب كما لم يمتنع في أفعال الجوارح (١).

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ١٥٨ و ١٦٠ وراجع أيضا ، ١ : ٤٣٥.

٢٩٤

ـ (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢].

أنظر طه : ١٢١ من التنزيه : ٢٤.

ـ (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣].

أنظر طه : ١٢١ من التنزيه : ٢٤ والأنبياء : ٧ ، ٨ من التنزيه : ١٤١ والقصص : ١٥ ، ١٦ من التنزيه : ١٠٠ والفاطر : ٣٢ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٣ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ...) [الأعراف : ٢٧].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ...) [الأعراف : ٣٣].

أنظر الأعراف : ١٤٦ من الأمالي ، ١ : ٣٠٤ والنور : ٢ الأمر الثالث من الانتصار : ٢٥١.

ـ (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ...) [الأعراف : ٤٠].

أنظر الأعراف : ١٤٣ من الأمالي ، ٢ : ١٨٥.

ـ (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ...) [الأعراف : ٤٤].

أنظر مريم : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ...) [الأعراف : ٥٠].

أنظر الانشراح : ١ ، ٢ ، ٣ من التنزيه : ١٦١.

ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣].

أنظر آل عمران : ٧ من الأمالي ، ١ : ٤١٨.

ـ (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤].

٢٩٥

[استدلّ القائلون بقدم كلامه تعالى بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى فصل في هذه الآية بين الخلق والأمر.] ولو كان الأمر مخلوقا لم يصحّ هذا الفصل والتمييز (١).

يقال لهم : ما أنكرتم أن يكون معنى الأمر غير ما ظننتم من الكلام المخصوص ، وأن يكون فائدة الكلام له تعالى أن يخلق ويفعل ما يشاء من غير اعتراض ولا منازعة ، كما يقال في أحدنا إذا كان قادرا قاهرا لا يعارض ولا ينازع : «لفلان الأمر» ، ولا نقصد بذلك إلى أنّ له كلاما.

وبعد ، فقد يفرد الشيء بالذكر عن الجملة الواقعة عليه وعلى غيره تفخيما وتعظيما ، كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٢) ، فأفردهما عن الملائكة لهذا الوجه ، فما المانع من أن يفرد الأمر الذي هو القرآن عن جملة المخلوقات لعظيم شأنه وجلالة قدره؟ ويلزمهم على هذه الشبهة أنّ الإحسان ليس بعدل ، وإيتاء ذي القربى ليس من العدل والإحسان ؛ لأنّه تعالى قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) (٣) ففصّل بين الجميع.

وقد يقول أحدنا : إنّ الله تعالى يأمر بالقول والعمل ، والإيمان قول وعمل ، وإن كان القول داخلا في جملة العمل ، وإنّما أفرد لبعض الأغراض ، وقال الله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) (٤) وهذا العطف والفصل ـ على ما اعتمدوه ـ يقتضي أنّ كلام الله غير الله ، ويوجب أن لا يشتركا في القدم ؛ لأنّه إذا جاز مع هذا العطف أن يشتركا في القدم ولا يتغايرا ، جاز أن يكون الخلق والأمر يشتركان في الحدوث ولا يتغايران مع الفصل في اللفظ بينهما (٥).

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٤٢٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٩٨.

(٣) سورة النحل ، الآية : ٩٠.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٨.

(٥) الملخص ، ٢ : ٤٤٠.

٢٩٦

ـ (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ...) [الأعراف : ٦٥].

أنظر مريم : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) [الأعراف : ٧٣].

أنظر مريم : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ١٧٠.

ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨].

أنظر الذاريات : ٤١ من الرسائل ، ٣ : ٩٣.

ـ (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩].

[إن سأل سائل عن هذه الآية حاكيا عن شعيب عليه‌السلام] : فقال : أليس هذا تصريحا منه بأنّ الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح ؛ لأنّ ملّة قومه كانت كفرا وضلالا ، وقد أخبر أنّه لا يعود فيها إلّا أن يشاء الله؟

الجواب : قيل له في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن تكون الملّة التي عناها الله إنّما هي العبادات الشرعيات ؛ التي كان قوم شعيب متمسكين بها ؛ وهي منسوخة عنهم ، ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته ؛ مما لا يجوز أن تختلف العبادة فيه ، والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة ؛ من حيث تبعت المصالح والألطاف والمعلوم من أحوال المكلّفين ؛ فكأنّه قال : إنّ ملتكم لا نعود فيها ؛ مع علمنا بأنّ الله قد نسخها وأزال حكمها ؛ إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بمثلها فنعود إليها ؛ وتلك الأفعال التي كانوا متمسّكين بها ؛ مع نسخها عنهم ونهيهم عنها ـ وإن كانت ضلالا وكفرا ـ فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون إيمانا وهدى ؛ بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك ؛ وليس تجري هذه الأفعال مجرى الجهل بالله تعالى ، الذي لا يجوز أن يكون إلّا قبيحا.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال : كيف يجوز أن يتعبّدهم الله تعالى بتلك الملّة مع قوله : (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ

٢٩٧

مِنْها)؟ فيقال له : لم ينف عودهم إليها على كل وجه ؛ وإنّما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيّا عنها ؛ والذي علّقه بمشيئة الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها ، ويتعبّد بمثلها ، والجواب مستقيم لا خلل فيه.

وثانيها : أنّه أراد أنّ ذلك لا يكون أبدا من حيث علّقه بمشيئة الله تعالى لمّا كان معلوما أنّه لا يشاؤه ؛ وكلّ أمر علّق بما لا يكون فقد نفي كونه على أبعد الوجوه ؛ وتجري الآية مجرى قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (١) وكما يقول القائل : أنا لا أفعل كذا حتى يبيضّ القار ؛ أو يشيب الغراب ؛ وكما قال الشاعر :

وحتّى يؤوب القارظان كلاهما

وينشر في القتلى كليب لوائل (٢)

والقارظان لا يؤوبان أبدا ، وكليب لا ينشر أبدا ؛ فكأنّه قال : إنّ هذا لا يكون أبدا.

وثالثها : ما ذكره قطرب بن المستنير من أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، وأنّ الاستثناء من الكفّار وقع لا من شعيب ؛ فكأنّه تعالى قال حاكيا عن الكفّار : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) (٣) ، إلّا أن يشاء الله أن تعودوا في ملّتنا ؛ ثمّ قال حاكيا عن شعيب : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) على كلّ حال.

ورابعها : أن تكون الهاء التي في قوله : «فيها» إلى القرية لا إلى الملّة ؛ لأنّ ذكر القرية قد تقدّم كما تقدم ذكر الملّة ؛ ويكون تلخيص الكلام : إنّا سنخرج من قريتكم ، ولا نعود فيها إلّا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم ، والظّفر بكم ، فنعود إليها.

وخامسها : أن يكون المعنى : إلّا أن يشاء الله أن يردّكم إلى الحقّ ، فنكون

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤٠.

(٢) البيت لأبي ذؤيب الهذليّ ، ديوان الهذليين : ١١ / ٤٥. والقارظان هما رجلان من عنزة ؛ خرجا ينتحيان القرظ ويجتنيانه ، فلم يرجعا فضرب بهما المثل ؛ وانظر اللسان (قرظ) ، وشرح ديوان الهذليين.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٨٨.

٢٩٨

جميعا على ملة واحدة غير مختلفة ؛ لأنّه لمّا قال تعالى حاكيا عنهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) كان معناه : أو لنكوننّ على ملة واحدة غير مختلفة ، فحسن أن يقول من بعد : إلّا أن يشاء الله أن يجمعكم معناه على ملة واحدة.

فإن قيل : الاستثناء بالمشيئة إنّما كان بعد قوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) ؛ فكأنّه قال : ليس نعود فيها إلّا أن يشاء الله ، فكيف يصحّ هذا الجواب؟

قلنا : هو كذلك ؛ إلّا أنه لمّا كان معنى (أَنْ نَعُودَ فِيها) ، هو أن تصير ملتنا واحدة غير مختلفة جاز أن يوقع الاستثناء على المعنى فيقول : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن نتّفق في الملّة بان ترجعوا أنتم إلى الحقّ.

فإن قيل : فكأنّ الله تعالى ما شاء أن ترجع الكفّار إلى الحقّ!

قلنا : بلى قد شاء ذلك ، إلّا أنّه ما شاءه على كلّ حال ، بل من وجه دون وجه ، وهو أن يؤمنوا ويصيروا إلى الحقّ مختارين ؛ ليستحقّوا الثواب الذي أجري بالتكليف إليه ، ولو شاءه على كلّ حال لما جاز أن لا يقع منهم ؛ فكأنّ شعيبا عليه‌السلام قال : إن ملّتنا لا تكون واحدة أبدا ؛ إلّا أن يشاء الله أن يلجئكم إلى الاجتماع معنا على ديننا وموافقتنا في ملتنا ؛ والفائدة في ذلك واضحة ؛ لأنّه لو أطلق أنّا لا نتفق أبدا ، ولا تصير ملتنا واحدة لتوهّم متوهّم أنّ ذلك ممّا لا يمكن على حالّ من الأحوال ؛ فأفاد بتعليقه له بالمشيئة هذا الوجه ؛ ويجري قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) مجرى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (١).

وسادسها : أن يكون المعنى إلّا أن يشاء الله أن يمكّنكم من إكراهنا ، ويخلّي بينكم وبينه ، فنعود إلى إظهارها مكرهين ؛ ويقوّي هذا الوجه قوله تعالى : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٢).

وسابعها : أن يكون المعنى إلّا أن يشاء الله أن يتعبّدنا بإظهار ملّتكم مع

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٩٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٨٨.

٢٩٩

الإكراه ؛ لأنّ إظهار كلمة الكفر قد تحسن في بعض الأحوال إذا تعبّد الله تعالى بإظهارها ؛ وقوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) يقوّي هذا الوجه أيضا.

فإن قيل : فكيف يجوز من نبيّ من أنبياء الله أن يتعبّد بإظهار الكفر وخلاف ما جاء به من الشّرع؟

قلنا : يجوز أن يكون لم يرد بالاستثناء نفسه بل قومه ؛ فكأنّه قال : وما يكون لي ولا لأمّتي أن نعود فيها إلّا أن يشاء الله أن يتعبّد أمتي بإظهار ملّتكم على سبيل الإكراه ؛ وهو جائز غير ممتنع (١).

ـ (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) [الأعراف : ٩٢].

غني الرجل بالمكان إذا طال مقامه به ، ومنه قيل : المغني والمغاني ، قال الله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (٢) ، أي لم يقيموا بها ، وقال الأسود بن يعفر الإياديّ :

ولقد غنوا فيها بأنعم غنية

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد

وقول الأعشى الذي أنشده أبو عبيد وهو :

وكنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التّغنّ

بطول المقام أشبه منه بالاستغناء ، لأنّ المقام يوصف بالطول ولا يوصف الاستغناء بذلك ، فكأنّ الأعشى أراد : إنّني كنت ملازما لوطني ، مقيما بين أهلي ، لا أسافر للانتجاع والطّلب.

ـ (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ...) [الأعراف : ٩٥].

... قال زهير :

قف بالدّيار التي لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم (٣) ...

ولا شبهة في أنّ «عفا» من حروف الأضداد التي تستعمل تارة في الدروس ،

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٣٨٥.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٩٢.

(٣) ديوانه : ١٤٥.

٣٠٠