تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانّه أمر بالوفاء بما هو نذر على الحقيقة ، ونحن نخالف في أنّه يستحقّ هذه التسمية مع فقد الشرط ، فليدلّوا عليه.

وأمّا استدلالهم بقول جميل :

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي

وهمّوا بقتلي يابثين لقوني (١)

وبقول عنترة :

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لقيتهما دمي (٢)

فانّ الشاعرين أطلقا إسم النذر مع عدم الشرط ، فمن ركيك الاستدلال ؛ لأنّ جميلا ما حكى لفظ نذرهم وإنّما أخبر عن أعدائه بأنّهم نذروا دمه ، فمن أين لهم أنّ نذرهم الذي أخبر عنه لم يكن مشروطا ؛ وكذلك القول في بيت عنترة ، على أنّ قوله : «إذا لقيتهما [أو إذا لم ألقهما] دمي» [على اختلاف الرواية] هو الشرط ، فكأنّهم قالوا : إذا لقيناه قتلناه ، فنذروا قتله ، والشرط فيه اللقاء له (٣).

ـ (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١].

أنظر المقدّمة الثالثة ، الأمر الأول.

ـ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣].

[وفيها أمران :

الأوّل :] وممّا ظنّ أنّ الإمامية منفردة به وشنّع به عليها القول بأنّ جلود الميتة لا تطهر بالدباغ وهو مذهب أحمد بن حنبل (٤) ، فالشيعة غير منفردة به ، والدليل على صحّة ما ذهبت إليه من ذلك ـ مضافا إلى الطريقة المشار إليها في كلّ المسائل ـ قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وهذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كلّ حال ، وجلد الميتة يتناوله اسم الموت ؛ لأنّ الحياة تحله وليس بجار مجرى العظم والشعر وهو بعد الدباغ يسمّى جلد ميتة ، كما كان

__________________

(١) ديوان جميل : ٩٣.

(٢) ديوان عنترة : ١٨.

(٣) الانتصار : ١٦٣.

(٤) المحلّى ، ١ : ١٢١.

١٠١

سمّي قبل الدباغ فينبغي أن يكون حظر التصرّف فيه لاحقا به ... (١).

[الثاني : انظر الأعراف : ١٥٧ من الناصريات : ٦٧].

ـ (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [المائدة : ٤].

[فيها أمران :

الأوّل :] وممّا انفردت به الإمامية الآن وإن وافقها في ذلك قول أقوام حكي قديما ، القول : بأنّ الصيد لا يصحّ إلّا بالكلاب المعلّمة دون الجوارح كلّها من الطيور وذوات الأربع ، كالصقر والبازي والشاهين وما أشبههن من ذوات الأربع ، كعناق الأرض والفهد وما جرى مجراهما ، ولا يحلّ عندهم أكل ما قتله غير الكلب المعلّم.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك (٢) وأجروا كلّ ما علم من الجوارح من الطيور وذوات الأربع مجرى الكلاب في هذا الحكم.

وذكر أبو بكر أحمد بن علي الرازي الفقيه في كتابه المعروف «بأحكام القرآن» عن نافع قال : وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : لا يصلح أكل ما قتلته البزاة (٣).

وروي أيضا عن ابن جريح عن نافع قال : قال عبد الله بن عمر ما أمسك من الطير البزاة وغيرهما فما أدركت ذكاته فذكّيته فهو لك ، وإلّا فلا تطعمه (٤). وروى سلمة بن علقمة عن نافع : أنّ عليا عليه‌السلام كره ما قتلته الصقور (٥).

وروي عن مجاهد أنّه كان يكره صيد الطير ويقول : (مُكَلِّبِينَ) إنّما هي الكلاب خاصة (٦). وذكر أبو بكر الرازي أنّ بعض العلماء حمل مكلّبين على

__________________

(١) الانتصار : ١٢ وأيضا : ٢٠٦ وراجع أيضا الناصريات : ١٠١.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٢ : ٣١٣.

(٣) نفس المصدر.

(٤) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٢ : ٣١٣.

(٥) نفس المصدر.

(٦) نفس المصدر.

١٠٢

الكلاب خاصة ، وبعضهم حمل ذلك على الكلاب وغيرها (١).

والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه ، قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الآية ، وهذا نصّ صريح على أنّه لا يقوم مقام الكلاب في هذا الحكم غيرها ؛ لأنّه تعالى لو قال : «وما علّمتم من الجوارح» ولم يقل : «مكلّبين» لدخل في الكلام كلّ جارح من ذي ناب وظفر ، ولمّا أتى بلفظة «مكلّبين» وهو يخصّ الكلاب خاصة ؛ لأنّ المكلّب هو صاحب الكلاب بلا خلاف بين أهل اللغة ، علمناه أنّه لم يرد بالجوارح جميع ما يسمّى هذا الاسم ، وانّما أراد بالجوارح من الكلاب خاصة ، ويجري ذلك مجرى قوله :

ركب القوم مهارهم

مبقّرين أو محمّزين

فانّه لا يحتمل وإن كان اللفظ الأوّل عامّ الظاهر إلّا على ركوب البقر والحمارات. فان قيل : دلّوا على أنّ المكلّبين إنّما أراد به صاحب الكلاب ، وما أنكرتم أن يريد به المضري للجارح الممرن له والمجري ، فيدخل فيه الكلب وغيره.

قلنا : ليس ينبغي أن يتكلّم فيما طريقه اللغة من لا يعرف موضوع أهلها ، ولا يعرف عن أحد من أهل اللغة العربية أنّ المكلّب هو المغري أو المضري ، بل يقولون ـ وقد نصّوا في كتبهم عليه ـ : أنّ المكلّب هو صاحب الكلاب قال النابغة الذبياني :

سرت عليه من الجوزاء سارية

تزجي الشمال عليه جامد البرد

فارتاع من صوت كلاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد (٢)

وفسّر أهل اللغة أنّه أراد بكلاب صاحب الكلاب مكلّب واحد.

وذكر صاحب كتاب الجمهرة : أنّ المكلب صاحب الكلاب ، وأنشد قول الشاعر :

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) ديوان النابغة الذبياني : ٢١ ، ٢٢.

١٠٣

ضرّا أحسّت نباة من مكلّب (١)

وما ذكره في هذا الباب أكثر من أن يحصى ، وقد ذكر في تصريف ما يبني من الكاف واللام والباء أنّ المكلب هو المضري والمعلّم وقد فتّشنا سائر كتب أهل اللغة فما وجدنا أحدا منهم ذكر ذلك ، ومن اغترّ بقولهم : فلان كلب على كذا وتكلّب على كذا ، فغير متأمل ؛ لأنّ الكلب هاهنا هو العطش والمكلّب عندهم هو العطشان ، ولا يقول أحد منهم : كلبت للطائر الجارح ، إذا علّمه واضراه ؛ لأنّ هذه لفظة مستعملة من لفظ الكلاب فكيف تستعمل في غيرها ، فإذا قيل : قد قالوا أسير مكلّب ، قلنا : من قال ذلك فقد فسّره وقال : معنى مكلّب مشدود بالكلب الذي هو القيد ، ولمّا كان الأسير المشدود بالقيد الذي هو الكلب قيل : مكلّب ، وما أنكرنا أن يكون المكلّب في موضع من المواضع يستعمل في غير الكلاب ، وإنّما أنكرنا أن يكون المكلّب هو المعلّم والمغري والمضري ، على أنّا لو سلّمنا هذه اللفظة وأنّها قد استعملت في التعليم والتمرين فذلك مجاز ، والمعنى الذي ذكرنا استعمالها فيه حقيقة ، وحمل القرآن على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، على أنّ قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) يعني أن يكرّر ويقول : معلمين ؛ لأنّ من حمل لفظة مكلّبين على التعليم لا بدّ من أن يلزمه التكرار ، وإذا جعلنا ذلك مختصّا بالكلاب أفاد ؛ لأنّه بيان ؛ لأنّ هذا الحكم يتعلّق بالكلاب دون غيرها ، ولو أبدلنا في الآية لفظة مكلّبين بمعلّمين لمّا حسنت ، فكيف تحمل على معناها ، ولو صرّحنا بها لكان الكلام قبيحا.

ويدلّ أيضا على ما ذهبنا إليه أنّ الجارح غير الكلب إذا صاد صيدا فقتله فقد حلّه الموت ، وكلّ حيوان حلّه الموت فهو ميتة ويستحقّ هذا الاسم في الشريعة إلّا أن تقوم دلالة شرعية على ذكاته ، فلا يجري عليه حينئذ إسم الميتة وإن حلّه الموت ، فان ادّعوا ذكاة ما حلّه الموت من صيد البازي والفهد وما أشبههما

__________________

(١) جمهرة اللغة ، ١ : ٣٢٦.

١٠٤

فعليهم الدلالة ، ولا يتمكّنون من دلالة ، وإنّما يفزعون إلى خبر واحد أو قياس ، وما فيهما ما يوجب العلم فيترك له ظاهر القرآن (١).

[الثاني :] وممّا إنفردت به الإمامية القول بأنّ الكلب إذا أكل من الصيد نادرا أو شاذا وكان الأغلب أنّه لا يأكل حدّ الأكل من ذلك الصيد وإن كثر أكله منه وتكرّر ، فإنّه لا يؤكل منه.

وخالف باقي الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلّم فلا يؤكل ، ويؤكل صيد البازي وإن أكل ، وهو قول الثوري (٢).

وقال مالك والأوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه (٣) ، وقال الشافعي : لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله (٤) ، وإنّما كان هذا إنفرادا ؛ لأنّ من قال من الفقهاء أنّه يؤكل من الصيد وإن أكل منه ، لم يشترط ما شرطناه من الأقل والأغلب بل أطلق فصار الذي شرطناه إنفرادا في هذه المسألة. والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه بعد إجماع الطائفة عليه أنّ أكل الكلب من الصيد إذا تردّد وتكرّر ، دلّ على أنّه غير معلم ، والتعليم شرط في إباحة صيد الكلب بلا خلاف ، وبدلالة قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) وإذا تتابع أكل الكلب من الصيد دلّ على أنّه غير معلّم فلا يحل أكل صيده ؛ ولأنّه إذا توالي أكله منه لا يكون ممسكا له على صاحبه ، بل يكون ممسكا له على نفسه ... (٥)

ـ (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) [المائدة : ٥].

أنظر المائدة : ٩٦ الأمر الثاني من الانتصار : ١٨٨.

ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ

__________________

(١) الانتصار : ١٨٢.

(٢) المغني (لابن قدامة) ، ١١١ : ٨ و ١١.

(٣) بداية المجتهد ، ١ : ٤٧٩.

(٤) المغني (لابن قدامة) ، ١١ : ١١.

(٥) الانتصار : ١٨٥.

١٠٥

وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .....)

[المائدة : ٦].

[فيها أمور : (١)]

[الأوّل : قال الناصر رحمه‌الله :] «النيّة شرط في صحّة الوضوء».

وعندنا : أنّ الطهارة تفتقر إلى نيّة ، وضوء كانت ، أو تيمّما ، أو غسلا من جنابة ، أو حيض ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وربيعة ، وأبي ثور ، وإسحاق بن راهويه ، وداود ، وابن حنبل (٢).

وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : إنّ الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النيّة (٣).

وقالوا جميعا إلّا زفر : إنّ التيمّم لا بدّ فيه من نيّة (٤).

وقال الحسن بن حيّ : يجزي الوضوء والتيمّم جميعا بغير نيّة (٥).

دليلنا بعد الإجماع المقدّم ذكره ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الآية.

وتقدير الكلام : فاغسلوا للصلاة ، وإنّما حذف ذكر الصلاة اختصارا.

وهكذا مذهب العرب ، لأنّهم إذا قالوا : إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك ، وإذا أردت لقاء العدوّ فخذ سلاحك ، وتقدير الكلام : فالبس ثيابك للقاء الأمير ، وخذ سلاحك للقاء العدوّ.

والغسل لا يكون للصلاة إلّا بالنيّة ، لأنّ بالنية يتوجّه الفعل إلى جهة دون غيرها.

وأيضا ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «الأعمال بالنيّات ، وإنّما لامرئ

__________________

(١) تقدّم بعض أحكام الوضوء ذيل الآية ٤٣ من سورة النساء.

(٢) المغن (لابن قدامة) ، ١ : ٩١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) المجموع ، ١ : ٣١٣.

(٥) نفس المصدر.

١٠٦

ما نوى» (١) وقد علمنا أنّ الأعمال قد توجد أجناسها من غير نيّة ، فوضح أنّ المراد بالخبر أنّها لا تكون قربة شرعيّة مجزية إلّا بالنيّات.

وقوله عليه‌السلام : «إنّما لامرئ ما نوى» يدلّ على أنّه ليس له ما لم ينو.

هذا حكم اللغة العربيّة ، ألا ترى أنّ القائل إذا قال : «إنّما لك درهم» ، فقد نفى أن يكون له أكثر من درهم.

والذي يدلّ على صحّة ما ذكرناه في لفظة (إنّما) أنّ ابن عباس كان يذهب إلى جواز بيع الدرهم بالدرهمين نقدا ويأبى نسيّة (٢).

وخالفه في ذلك وجوه الصحابة ، واحتجّوا عليه بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة (٣).

فعارضهم بقوله عليه‌السلام : «إنّما الربا في النسيئة» (٤).

فجعل هذا الخبر دليلا على أنّه لا ربا إلّا في النسيئة. وقول ابن عبّاس حجّة فيما طريقه اللغة ، وبعد فإن المخالفين له في هذه المسألة لم يمنعوه عن قوله من طريق اللغة ، بل من جهة غيرها ، فدلّ ذلك على ما ذكرناه.

وقد استقصينا هذه المسائل غاية الاستقصاء ، وانتهينا فيها إلى أبعد الغايات في (مسائل الخلاف) (٥).

[الثاني : قال الناصر رحمه‌الله :] «تخليل اللحية واجب ، كثيفة كانت أو رقيقة».

الصحيح عندنا : أنّ الأمرد وكلّ من لا شعر له على وجهه يجب عليه غسل وجهه ، وحدّ الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر الذقن طولا ، وما دارت السبّابة والإبهام والوسطى عرضا.

فمن كان ذا لحية كثيفة تغطّي بشرة وجهه ، فالواجب عليه غسل ما ظهر من

__________________

(١) صحيح البخاري ، ١ : ٩٢.

(٢) بداية المجتهد ، ٢ : ١٩٥.

(٣) سنن البيهقي ، ٦ : ١٤١.

(٤) نفس المصدر.

(٥) الناصريات : ١٠٨.

١٠٧

بشرة وجهه وما لا يظهر ممّا تغطّيه اللّحية لا يلزمه إيصال الماء إليه ويجزيه إجراء الماء على اللّحية من غير إيصاله إلى البشرة المستورة ....

وقال أبو حنيفة : يلزمه غسل ما ظهر من الوجه ومن اللّحية ربعها (١).

وقال أبو يوسف : يلزمه إمرار الماء على ما ظهر من بشرة الوجه ، فأمّا ما غطّاه الشعر فلا يلزمه إيصال الماء إليه ، ولا إمراره على الشعر النابت عليه ... (٢)

والذي يدلّ على أنّ تخليل اللّحية الكثيفة وإيصال الماء إلى البشرة لا يلزم ، بل يكفي إجراء الماء على الشعر النابت ، بعد إجماع الفرقة المحقّة قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) والذي يواجه هو اللحية دون البشرة ، لأنّ الشعر قد غطّاها ، فبطلت المواجهة فيها.

وأيضا لا خلاف في أنّ الوجه اسم لما يقع المواجهة به ، وإنّما الخلاف وقع في أنّه هل كلّما يواجه به وجه ، أم لا؟

وقد علمنا أنّ باطن اللحية وبشرة الوجه المستورة بالوجه ليس ممّا يواجه به ، فلا يلزم التّخليل.

فأمّا الحجّة على أبي حنيفة وأبي يوسف فهي قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ومن غسل بعض بشرة وجهه ، وبعض ما على البشرة من شعر لحيته ، لم يغسل جميع وجهه ، والآية تقتضي غسل جميع الوجه.

وأمّا الدليل على صحّة حدّنا في الوجه : فهو بعد الاجماع المقدّم ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ ما اعتبرناه في حدّنا هو من الوجه ويجب غسله ، وإنّما الخلاف فيما زاد عليه ، ومن ادّعى زيادة على المجمع عليه كان عليه الدليل (٣).

[الثالث : قال الناصر رحمه‌الله] : «غسل العذار واجب بعد نبات اللحية كوجوبه قبل نباتها».

هذا غير صحيح ، والكلام فيه قد بيّناه في تخليل اللّحية ، والكلام في

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ١٠١ : ١.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ، ٣ : ٣٤٣.

(٣) الناصريات : ١١٣ ، راجع أيضا الإسراء : ١٦ من الأمالي ، ١ : ٢٩.

١٠٨

المسألتين واحد ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشعر الكثيف إذا علا البشرة انتقل الفرض إليه.

[الرابع : قال الناصر رحمه‌الله :] «يدخل المرفقان في الوضوء».

وهذا صحيح ، وعندنا أنّ المرافق يجب غسلها مع اليدين ، وهو قول جميع الفقهاء إلّا زفر بن الهذيل وحده.

وحكي عن أبي بكر بن داود الاصفهاني مثل قول زفر في هذه المسألة (١).

دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه : إجماع الفرقة المحقّة.

وأيضا قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ولفظة (إلى) قد تستعمل في الغاية ، وتستعمل أيضا بمعنى مع ، وكلا الأمرين حقيقة.

قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٢) أراد ـ بلا خلاف ـ مع أموالكم.

وقال تعالى حاكيا عن عيسى عليه‌السلام : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣) أراد مع الله.

وتقول العرب : ولي فلان الكوفة إلى البصرة ؛ وإنّما يريدون مع البصرة من غير التفات إلى الغاية.

ويقولون أيضا : فعل فلان كذا ، وأقدم على كذا هذا إلى ما فعله من كذا وكذا ، وإنّما يريدون مع ما فعله.

وبعد ، فإنّ لفظة (إلى) إذا احتملت الغاية ، واحتملت أن تكون بمعنى «مع» ، فحملها على معنى «مع» أولى ، لأنّه أعمّ في الفائدة ، وأدخل في الاحتياط لفرض الطهارة.

وشبهة من أخرج المرافق من الوضوء أنّه جعل (إلى) للغاية والحدّ ، وظنّ أنّ الحدّ لا يدخل في المحدود.

وهذا ليس بصحيح ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ لفظة (إلى) مشتركة بين الغاية وغيرها ، ولو حملت على الغاية لكان دخول المرافق واجبا ؛ لأنّه أولى في باب الاستظهار

__________________

(١) المغني (لابن قدامة) ، ١٠٧ : ١.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٢.

(٣) سورة الصف ، الآية : ١٤.

١٠٩

للفرض والاحتياط له ، ولأنّ الحدث قد حصل يقينا فلا يجوز إسقاطه بالشك ، وإذا كان دخول الغاية والحدّ وخروجهما مشكوكا فيه ، وجب إدخال المرافق له مع الشكّ وحصول اليقين (١).

[الخامس :] غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع غير مستقبل للشعر ، واستقباله لا ينقض الوضوء.

وأعلم أن الابتداء بالمرفقين في غسل اليدين هو المسنون ، وخلاف ذلك مكروه ، ولا نقول : إنّه ينقض الوضوء ، حتى لو أنّ فاعلا فعله لكان لا يجزي به. ولا يقدر أحد أن يحكم من أصحابنا المحصّلين تصريحا بأنّ من خالف ذلك فلا وضوء له ، وجميع ما ورد في الأخبار من تغليظ ذلك والتشديد فيه وربّما قيل : «لا يجوز» ، محمول على شدّة الكراهة دون الوجوب واللزوم.

وقد يقال في مخالفة المسنون المغلظ في هذه الألفاظ ما يزيد على ذلك ، ولا يدلّ على الوجوب.

والذي يدلّ على صحّة مذهبنا في هذه المسألة أنّ جميع الفقهاء يخالفونا في أنّه مسنون ، وأنّ خلافه مكروه ، وإجماع الإمامية الذي بيّنا أنّه حجّة لدخول قول المعصوم فيه.

فإن قيل : قد خالفتم ظاهر القرآن ؛ لأنّه قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٢) غاية ، وأنتم قد جعلتم المرافق ابتداء.

قلنا : أمّا لفظة «إلى» فقد تكون في اللغة العربية بمعنى الغاية وبمعنى «مع» ، قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٣) أراد مع أموالكم ، وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه‌السلام : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أراد مع الله ، ويقولون : ولي فلان الكوفة إلى البصرة ، ولا يريدون غاية بل يريدون ولي هذا البلد مع هذا البلد.

__________________

(١) الناصريات : ١١٦.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٢.

١١٠

وقال النابغة الذبياني :

ولا تتركني بالوعيد كأنني إلى

الناس مطلّي به القار أجرب

أراد مع الناس أو عندهم. وقال ذو الرمّة :

بها كلّ خوار إلى كلّ صولة

ورفعي المدا عار الترائب

أراد مع كلّ صولة ، وقال امرؤ القيس :

له كفل كالدعص لبده الندى

إلى خارك مثل الرياح المنصب

أراد مع خارك.

فإن قيل : فهذا يدلّ على احتمال لفظة «إلى» بمعنى الغاية وغيرها ، فمن أين أنّها في الآية لغير معنى الغاية.

قلنا : يكفي في إسقاط استدلالكم بالآية المحتملة لما قلناه ولما قلتموه ، فهي دليلنا ودليلكم.

وبعد فلو كانت لفظة (إِلَى) في الآية محمولة على الغاية ، لوجب أن يكون من لم يبتدأ بالأصابع ونيّته إلى المرافق عاصيا مخالفا للأمر ، وأجمع المسلمون على خلاف ذلك.

وإذا حملنا لفظة «إلى» على معنى «مع» صار تقدير الكلام : فاغسلوا أيديكم مع المرافق ، وهذا هو الصحيح الذي لا يدفعه إجماع ولا حجّة ، كما قلنا فيمن حمل ذلك على الغاية (١).

[السادس : وفيه موضعان :

الأوّل : أن سأل سائل فقال :] ليس يمتنع القول من دخول الباء وإن لم يقتض التبعيض في أصل اللغة ، وإنّما إذا دخلت لغير أن يعدّى الفعل بها وعريت من فائدة من لم يحمل على إفادة التبعيض أن تحمل عليه.

فيقال في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) معلوم أنّ الباء ما دخلت ها هنا

__________________

(١) الرسائل ، ١ : ٢١٣ ، راجع أيضا الانتصار : ١٦. والناصريات : ١١٨.

١١١

لتعدية الفعل إلى المفعول ، لأنّه متعدّ بنفسه ، ومحال أن يكون وجودها كعدمها ، فيجب حملها على إفادة التبعيض ، وإلّا لكان دخولها عبثا.

فإن قيل : ألّا دخلت للتأكيد إذا أريد به أنّه يفيد ما أفاده المؤكّد من غير زيادة عليه كان عبثا ، ويكلمنا على ما يغنى ضربه من قولهم : «جاء زيد نفسه» و «ضربت زيدا نفسه» وما شاكل ذلك من الألفاظ التي يدعي أنّها على سبيل التأكيد ، وبينّا أنّ في ذلك أجمع فوائد زائدة على ما في المؤكّد.

فإن قيل : ألّا كان دخول الباء هاهنا كدخولها في «تزوجت بامرأة» عدولا عن «تزوجت المرأة» و «ما زيد بقائم» و «ليس عمرو بخارج». وليس يمكن ادّعاء فائدة زائدة في دخول الباء هاهنا من تبعيض ولا غيره.

وكما زادوا الباء تأكيدا ، فقد زادوا حروفا أخر على سبيل التأكيد ، فقالوا : «ان في الدار لزيدا» وما دخول هذه اللام إلّا كخروجها في إفادة معنى زائد ، وما هي إلّا للتأكيد. وغير ذلك ممّا [لا] يحصى من الامثلة.

الجواب :

قلنا : أمّا لفظ «تزوجت» فلا يتعدّى إلى المفعول إلّا بالباء ، وإنّما حذفوها في قولهم : «تزوجت امرأة» تخفيفا ، كما حذفوها في قولهم : «مررته» والأصل مررت به. ومثل «تزوجت» في أنّه لا يتعدّى بنفسه ، ولا بدّ من الباء إلّا إذا أردت التخفيف فحذفت.

فأمّا قولهم : «ما زيد بقائم» و «ليس عمرو بخارج» فدخول الباء ها هنا يقتضي التيقّن والتحقيق لما خبر به أو قوّة الظنّ. وليس كذلك إذا أسقط الباء ، فكأنّه مع إسقاط الباء يخبر غير اعتقاده ، أو غرض غير قويّ ، وإذا أدخلها أخبر عن علم أو قوّة ظنّ.

وكأنّني بمن يسمع هذا الكلام ينفر عنه ويستبعده يقول من قال هذا ومن سطره ، ومن أشار من أهل اللغة الذين هم القدوة في هذا الباب إليه ، وليس يجب إنكار شيء ولا إثباته إلّا بحجّة.

١١٢

وقد علمنا أنّ أهل اللغة كلّهم يقولون : قولنا : «ليس زيد بقائم» و «ما عمرو بخارج» أقوى من قولنا : «ليس زيد قائما» و «ما عمرو خارجا» وأنّ دخول الباء يقتضي التأكيد والقوّة ، ولا يزيدون على هذه الجملة في التفسير.

ولو قيل لهم : أيّ قوّة أردتم؟ أو ليس من نفي قيام زيد بغير باء مخبرا أو منبئا كما هو كذلك مع إدخال الباء ، لما قدروا أنّ يفسّروا القوّة إلّا بما ذكرناه إن اهتدوا اليه ، وإلّا كانوا مختلّين على صواب ، ويعذروا عليهم أن يسيروا إلى قوّة لم يتعدّ مع إسقاطه الباء.

ونحن نعلم أنّ العلم أقوى من الظنّ والظنّ أقوى من الاعتقاد ، والظنّ بعضه أقوى من بعض ، فلا يمتنع أن يكون معنى القوّة ما ذكرناه.

وبمثل هذا نجيب عن قولهم : «إنّ في الدار لزيد» أو «أنّك لقائم» لأنّهم يقولون : هذا أقوى ، وما المراد بالقوّة إلّا ما ذكرناه ، وإلّا فما معنى لها.

وربّما زادت العرب حروفا طلبا لفصاحة الكلمة وجزالتها ، وإن لم يفد معنى زائدا على ذلك ، كزيادة «ما» في قول البرّ : «ما والله ما ذلك لعدم مراس ولا قلة أواس ، ولكنّها سمه ما أناس» ، وإنّما أرادت شمه أناس. وقولها : «لأمر ما جدع قصير أنفه» وقولهم لامر ما كان كذا ، وقول الشاعر : لا يسودنكما (١). حذفوا للفصاحة في مواضع كثيرة ، [مثل] قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وكذلك قد زادو اللفصاحة وتجاوزوا هذا بأن زادوا حروفا يعتبر بظاهرها وقبل الاطّلاع على المراد بها المعنى.

ألا ترى أنّ قولهم : «ليس كمثل فلان أحد» وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢). الكاف فيه زائدة ، وهي في الظاهر المغيّرة للمعنى ؛ لأنّها تقتضي أنّه لا مثل لمثله ، وإنّما المراد به لا مثل له. وكذلك قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) (٣) وإنّما معناه : ما منعك أن تسجد. وقول الشاعر :

ولا الزم البيض ألّا تسخرا

__________________

(١) ظ : فكما ، ولعل في الكلام سقطا.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ١١.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٢.

١١٣

والمعنى : أن تسخرا ، ف «ألّا» زائدة ، ودخولها مغيّر للمعنى قبل التأمّل.

وأمّا حملهم طلب التدنّي على الفصاحة على أن يزيدوا حروفا تغيّر ظاهرها المعنى ، فالاولى أن يفعلوا ذلك فيما لا يغيّر ظاهر زيادته معنى.

وأظنّ أنّي قد أمليت في بعض كلامي وجها غريبا ينافي زيادة «لا» في قوله تعالى : «وما منعك ألا تسجد» ، وهو أن يكون المعنى : ما حملك على أن لا تسجد ، ودعاك إلى أن لا تسجد ؛ لأنّ إبليس ما امتنع من السجود إلّا بداع إليه وحامل عليه ، والداعي والحامل إلى أن لا يسجد مانع من السجود ، فأورد لفظة «المنع» ويبنى الكلام على معناها ، فأدخل لفظة «لا» بناء على المعنى لا اللفظ. وهذا لطيف من التعلّل.

ويمكن في قوله «ألّا تسخرا» ما يقارب ذلك من الحمل على المعنى ؛ لأنّ الغرض بالكلام إني لا الزمن (١) أن تسخرن مع مشاهدة الشعر الأبيض ، فأدخل لفظة «لا».

ويجوز أن يكون سبب إدخالها أنّ معنى كلامه : إنّي لا ألوم البيض طالبا أن لا تسخرا. وأريد ألّا يكون ذلك منهنّ ؛ لأنّ من يبرأ من لوم البيض على أن يسخرن ، فقد يبرأ من أن يلومهنّ طالبا ألّا يسخرن ، فلفظة «لا» هاهنا مفيدة غير زائدة.

ولو تعاطينا ذكر ما نقل من كلام العرب المحمول على المعنى ، وما ورد به القرآن من ذلك لأطلنا.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (٢) ولا يقال : بوّأت لفلان منزلا ، وإنّما يقال : بوأته ، لكنّه أراد بمعنى بوّأت وهو جعلت ؛ لأنّ من بوّء فقد جعل ، وقول الشاعر :

جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل إخوة منظور بن سيّار

فنصب لفظة «مثل» ولم يعطفها بالجرّ على ما عملت فيه الباء ؛ لأنّ

__________________

(١) ظ : ألومن.

(٢) سورة الحج ، الآية : ٢٦.

١١٤

معنى : جئني هات واحضرني ، فلحظ معنى الكلام دون لفظه ، وبنى الكلام عليه ، وهذا الجنس أكثر من أن يحصى (١).

[الثاني : قيل : إنّ قوله تعالى :] (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) مجمل ، وجعل بيانه فعله عليه‌السلام ، فاعتمد هذا القائل على أن الباء تقتضي الالصاق ، من غير أن تقتضي القدر الّذي يمسح من الرأس ، فيحتاج فيها إلى بيان.

وهذا يجب أن يتأمّل ؛ لأنّ في الناس من ذهب في الباء إلى أنّها لإلصاق الفعل بالمفعول ، وفيهم من ذهب إلى أنّها للتبعيض (٢). ومن قال بالأوّل اختلفوا : فمنهم من يقول : أنّها تقتضي الإلصاق بكلّ العضو المذكور ، وهو مذهب الحسن البصريّ ومالك وأبي عليّ الجبائيّ ، ومنهم من يقول : أنّها تقتضي الإلصاق على الجملة ، من غير اقتضاء لكلّ ، أو بعض. وعلى المذهب الأوّل لا إجمال في الآية ؛ لأنّها إذا دلّت على مسح جميع الرأس فقد زال الإجمال. وعلى المذهب الثاني ـ وهو الإلصاق المطلق ـ لا بدّ من ضرب من الإجمال ؛ لأنّنا لا نعلم من هذا الظاهر أنّ المراد مسح الجميع ، أو مسح بعض غير معيّن أو بعض معيّن ، فلا بدّ من بيان. وكذلك القول في مذهب من قال : أنّها تقتضي التبعيض ؛ لأنّه بمنزلة أن يقول : «امسحوا بعض رؤوسكم» فإذا لم يبيّن تعيينا ولا تخييرا ، فهو مجمل.

فإذا قيل : لو تعيّن البعض لبيّنه ، فإذا لم يبيّنه ؛ دلّ على أنّا مخيّرون.

قلنا : ولو كان المراد التخيير ، لبيّنه فيجب أن يكون معيّنا (٣).

[السابع : وفيه موضعان :]

[الأوّل :] وممّا انفردت به الإمامية القول بوجوب مسح الرجلين على طريق التضييق ، ومن غير تخيير بين الغسل والمسح على ما ذهب إليه الحسن البصري ومحمّد بن جرير الطبري وأبو علي الجبّائي (٤) ، وكان إيجاب المسح تضييقا من

__________________

(١) الرسائل ، ٢ : ٦٧.

(٢) انظر الأحكام (للآمدي) ، ٣ : ١٠.

(٣) الذريعة ، ١ : ٣٤٨.

(٤) المغني (لابن قدامة) ، ١٢١ : ١.

١١٥

غير بدل يقوم مقامه هو الذي انفردت به الإمامية في هذه الأزمنة ؛ لأنّه قد روي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عباس «رضي الله عنه» وعكرمة وأنس وأبي العالية والشعبي وغيرهم (١) وهذه المسألة ممّا استقصينا الكلام عليها في مسائل الخلاف ؛ وبلغنا فيها أقصى الغايات ، فانتهينا في تفريع الكلام وتشعيبه إلى ما لا يوجد في شيء من الكتب غير أنّا لا نخلّي هذا الموضع من جملة كافية.

والذي يدلّ على صحة مذهبنا في إيجاب المسح دون غيره ـ مضافا إلى الاجماع الذي عولنا في كل المسائل عليه ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فأمر بغسل الوجوه وجعل للأيدي حكمها في الغسل بواو العطف ، ثم ابتدأ جملة أخرى فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأوجب بالتصريح للرؤس المسح وجعل للأرجل مثل حكمها بالعطف ، فلو جاز أن يخالف بين حكم الأرجل والرؤس في المسح جاز أن يخالف بين حكم الوجوه والأيدي في الغسل ؛ لأنّ الحال واحدة.

وقد أجبنا عن سؤال من يسألنا فيقول : ما أنكرتم أن الأرجل إنّما انجرت بالمجاورة لا لعطفها في الحكم على الرؤس بأجوبة : منها : أن الاعراب بالمجاورة شاذ نادر ورد في مواضع لا يلحق بها غيرها ، ولا يقاس عليها سواها بغير خلاف بين أهل اللغة ، ولا يجوز حمل كتاب الله عزوجل على الشذوذ الذي ليس بمعهود ولا مألوف.

ومنها : أنّ الاعراب بالمجاورة عند من أجازه إنّما يكون مع فقد حرف العطف ، وأيّ مجاورة تكون مع وجود الحايل ، ولو كان ما بينه وبين غيره حائل مجاورا لكانت المفارقة مفقودة ، وكلّ موضع استشهد به على الاعراب بالمجاورة مثل قولهم : «جحر ضب خرب» و

__________________

(١) نفس المصدر ، ١ : ١٢٠.

١١٦

«كبير اناس في بجاد مزمّل» (١)

لا حرف فيه حايل بين ما تعدّى إليه إعراب من غيره للمجاورة.

ومنها : أنّ الاعراب بالمجاورة إنّما استعمل في الموضع الذي ترتفع فيه الشبهة ويزول اللبس في الأحكام ، ألا ترى أنّ أحدا لا يشتبه عليه أنّ لفظة خرب من صفات الجحر لا الضب ، وأنّ الحاقها في الاعراب بها لا يوهم خلاف المقصود وكذلك لفظة مزمّل لا شبهة في أنّها من صفات الكبير لا صفة البجاد ، وليس كذلك الأرجل ؛ لأنّه من الجائز أن تكون ممسوحة كالرؤس فإذا اعربت باعرابها للمجاورة ولها حكم الأيدي في الغسل كان غاية اللبس والاشتباه ، ولم تجر بذلك عادة القوم.

ومنها : ولم نذكر هذا الوجه في مسائل الخلاف أنّ محصّلي أهل النحو ومحقّقيهم نفوا أن يكونوا أعربوا بالمجاورة في موضع من المواضع وقالوا : الجر في «جحر ضب خرب» على أنّهم أرادوا خرب جحره ، و

«كبير أناس في بجاد مزمّل»

كبيره [لأن المزمل من صفات الكبير لا البحاد ، (٢)] ويجري ذلك مجرى مررت برجل حسن وجهه.

وقد بيّنا أيضا في مسائل الخلاف بطلان قول من ادعى أنّ الغسل الخفيف يسمّى مسحا ـ وحكي ذلك عن أبي زيد الأنصاري (٣) ـ من وجوه كثيرة ، أقواها : أنّ فائدة اللفظتين في الشريعة مختلفة وفي اللغة أيضا ، وقد فرّق الله تعالى في آية الطهارة بين الأعضاء المغسولة والممسوحة ، وفصل أهل الشرع بين الأمرين ، فلو كانتا متداخلتين لما كان كذلك ، وحقيقة الغسل توجب جريان الماء على العضو وحقيقة المسح تقتضي إمرار الماء من غير جريان ، فالتنافي بين

__________________

(١) عجز بيت لامرئ القيس ، كما في مغني اللبيب لابن هشام ، ٢ : ٦٩٩ وانظر ديوانه : ٢٥.

(٢) ما بين المعقوفتين من الناصريات : ١٢٣.

(٣) المجموع ، ١ : ٤٢٠.

١١٧

الحقيقتين ظاهر ؛ لأنّه من المحال أن يكون الماء جاريا وسائلا وغير جار ولا سائل في حالة واحدة ، وقد بيّنا في مواضع كثيرة من كلامنا أنّ المسح يقتضي إمرار قدر من الماء بغير زيادة عليه فلا يدخل أبدا في الغسل.

ومن أقوى ما أبطل هذه الشبهة أنّ الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤس كانت الرؤس بلا خلاف فرضها المسح الذي ليس بغسل على وجه من الوجوه فيجب أن يكون حكم الأرجل كذلك ؛ لأنّ العطف مقتض للمسح وكيفيته ، وقد بيّنا أيضا في مسائل الخلاف أنّ القرائة في الأرجل بالنصب لا تقدح في مذهبنا ، وأنّها توجب بظاهرها المسح في الرجلين ، كايجاب القراءة بالجر بظاهرها ؛ لأنّ موضع برؤسكم موضع نصب بايقاع الفعل وهو قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) وإنّما جرت الرؤس بالباء الزائدة ، فإذا نصبنا الأرجل فعلى الموضع لا على اللفظ ، وأمثلة ذلك في الكلام العربي أكثر من أن تحصى ، يقولون : لست بقائم ولا قاعدا فينصبون قاعدا على موضع قائم لا لفظه ، كذلك يقولون : حشيت بصدره وصدر زيد.

ومثله قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) (١) بالجزم على موضع فلا هادي له لأنّه موضع جزم (٢).

وأنشدوا :

معاوي اننا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (٣)

فنصبت على الموضع (٤) ، وقال الآخر :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخاعون بن مخراق (٥)

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.

(٢) الناصريات : ١٢٤ ، قال في مجمع البيان ٤ : ٧٧٤ : قرأ أهل العراق : يذرهم بالياء والجزم كوفي غير عاصم والباقون ونذرهم بالنون والرفع.

(٣) البيت لعقبة بن حارث الأسدي ، الجامع للشواهد : ٣ : ٣٣.

(٤) الانتصار : ٢٣.

(٥) شرح ابن عقيل ، ٢ : ١٢٠.

١١٨

وإنّما نصب عبد ربّ ؛ لأنّ من حقّ الكلام : هل أنت باعث دينارا فحمل على الموضع لا اللفظ (١).

ونظيره أنّ زيدا في الدار وعمرو ، فيرفع عمرو على موضع «أنّ» وما عملت فيه ؛ لأنّ ذلك موضع رفع ، ومثله مررت بزيد وعمرا ، وذهبت إلى خالد وبكرا.

وقال الشاعر :

جئني بمثل بني بدر لقومهم

أو مثل أخوة منظور بن سيار

ولمّا كان معنى جئني هات وأعطني وأحضرني مثلهم ، جاز العطف بالنصب على المعنى وهذا أبعد ممّا قلناه في الآية ، وبيّنا أنّ نصب الأرجل عطف على الموضع أولى من أن نعطفها على الأيدي والوجوه ؛ لأنّ جعل التأثير في الكلام القريب أولى من جعله للبعيد ؛ ولأنّ الجملة الأولى المأمور فيها بالغسل قد نقضت وبطل حكمها باستيناف الجملة الثانية ، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن يعطف عليها ، ويجري ذلك مجرى قولهم ضربت زيدا وعمرا وأكرمت خالدا وبشرا ، أنّ ردّ بشر في الاكرام إلى خالد هو وجه الكلام الذي لا يجوز غيره ولا يسوغ ردّه إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه ، على أنّ ذلك لو جاز لرجح ما ذكرناه ؛ ليتطابق معنى القرائتين ولا يتنافيان ، وتحديد طهارة الرجلين لا يدلّ على الغسل كما ظنّه بعضهم (٢) ، وذلك لأنّ المسح فعل أوجبته الشريعة كالغسل ، فلا يمكن تحديده كتحديد الغسل ولو صرّح تعالى فقال : «وامسحوا أرجلكم وانتهوا بالمسح إلى الكعبين» لم يك منكرا ، فان قالوا : تحديد اليدين لمّا اقتضى الغسل ، فكذلك وجب تحديد طهارة الرجلين يقتضي ذلك.

قلنا : لم نوجب في اليدين الغسل للتحديد بل للتصريح بغسلهما وليس كذلك في الرجلين ، وقولهم : عطف المحدود على المحدود أولى وأشبه بترتيب الكلام قلنا : ليس بمعتمد ؛ لأنّ الأيدي معطوفة وهي محدودة على الوجوه

__________________

(١) الناصريات : ١٢٤.

(٢) أحكام القرآن (للجصّاص) ١ ، ٢ : ٣٤٦.

١١٩

وليست في الآية محدودة وإلّا جاز عطف الأرجل وهي محدودة على الرؤوس التي ليست بمحدودة ، وهذا الذي ذهبنا إليه أشبه بالترتيب في الكلام ؛ لأنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسولا محدودا وهما اليدان ثم استأنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس ، فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدود معطوفة عليه دون غيره ليتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود ، وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود ، فإن عارضوا بما يروونه من الأخبار التي يقتضي ظاهرها غسل الرجلين كروايتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه توضأ مرّة مرّة وغسل رجليه وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به (١) ، وفي خبر آخر : أحسنوا الوضوء وأسبغوا الوضوء (٢) ، وفي خبر آخر : أنّه أمر بالتخليل بين الأصابع (٣) ، وفي خبر آخر : ويل للأعقاب من النار (٤) ، فالكلام على ذلك أن جميع ما رووه أخبار آحاد لا توجب علما وأحسن أحوالها أن توجب الظنّ ، ولا يجوز أن يرجع عن ظواهر الكتاب المعلومة بما يقتضي الظنّ ، وبعد فهذه الأخبار معارضة بأخبار مثلها تجري مجراها في ورودها من طريق المخالفين لنا وتوجد في كتبهم وفيما ينقلونه عن شيوخهم ، ونترك ذكر ما ترويه الشيعة (٥) وتنفرد به في هذا الباب ؛ فانّه أكثر عددا من الرمل والحصى ، ومتى عارضناهم بأخبارنا قالوا : ما نعرفها ولا رواها شيوخنا ، فليت شعري! كيف كيف يلزمونا أن نترك بأخبارهم ظواهر الكتاب ونحن لا نعرفها ولا رواها شيوخنا ولا وجدت في كتبنا ، ولا يجيزون لنا أن نعارض أخبارهم التي لا نعرفها بأخبارنا التي لا يعرفونها؟ فهل هذا إلّا محض التحكم؟

فمن أخبارهم ما يروونه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه بال على سباطة قوم قائما ومسح على قدميه ونعليه (٦).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ، ١ : ١٤٥ ح ٤١٩.

(٢) صحيح مسلم ، ١ : ٢١٤ ح ٢٦.

(٣) سنن ابن ماجة ١ : ١٥٣ ح ٤٤٧ و ٤٤٨.

(٤) صحيح مسلم ، ١ : ٢١٤ ح ٢٦.

(٥) الوسائل ، ١ : ٢٩٤ ، باب ٢٥ من أبواب الوضوء.

(٦) التبيان ، ٣ : ٤٥٢.

١٢٠