تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

تفسير الشريف المرتضى - ج ٢

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

والصحيح أنّ معنى (مِنْهُ) أي من أجل الشّأن والقصّة «من قرآن» ؛ فيحمل على الشأن والقصّة ليفيد معنى آخر (١).

ـ (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [يونس : ٦٨].

أنظر النحل : ٢٦ من الأمالي ، ١ : ٣٤٠.

ـ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨].

أمّا قوله تعالى : (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ففيه وجوه :

أوّلها : أنّه أراد لئلّا يضلّوا عن سبيلك ، فحذف «لا» وهذا له نظائر كثيرة في القرآن ، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (٢) وإنّما أراد «لئلّا تضل» وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (٤).

وقال الشاعر :

نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا (٥)

والمعنى : أن لا تشتمونا.

فإن قيل : ليس هذا نظيرا لقوله تعالى : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) لأنّكم حذفتم في الآية «ان» و «لا» معا وما استشهدتم به إنّما حذف منه لفظة «لا» فقط.

قلنا : كلّما استشهدنا به فقد حذف فيه اللام ولا معا ، ألا ترى أنّ تقدير الكلام «لئلا تشتمونا»؟. وفي الآية إنّما حذف أيضا حرفان وهما «أن» و «لا» ، وإنّما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بإزاء حذف «أن» في الآية من حيث

__________________

(١) الأمالي ، ٢ : ٢٥٨ وأيضا الرسائل ، ٢ : ٧٥.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢.

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢.

(٤) سورة النحل ، الآية : ١٥.

(٥) البيت لعمرو بن كلثوم التغلبي راجع جمهرة أشعار العرب ١ : ٤٤.

٤٢١

كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلّان على المقصود ، ألا ترى أنّهم يقولون : «جئتك لتكرمني» ، كما تقولون : «جئتك أن تكرمني»؟ والمعنى أنّ غرضي الكرامة ، فإذا جاز أن يحذفوا أحد الحرفين جاز أن يحذفوا الآخر.

ثانيها : أنّ اللام هاهنا لام العاقبة وليست لام الغرض ، ويجري مجرى قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) وهم لم يلتقطوه لذلك بل لخلافه ، غير أنّ العاقبة لمّا كانت ما ذكره ، حسن إدخال اللام ، ومثله قول الشاعر :

وللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّور تبنى المساكن (٢)

ونظائر ذلك كثيرة ، فكأنّه تعالى لمّا علم أنّ عاقبة أمرهم الكفر ، وأنّهم لا يموتون إلّا كفّارا ، وأعلم ذلك نبيّه ، حسن أن يقول : إنّك آتيتهم الأموال ليضلّوا.

وثالثها : أن يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم أنّ الله تعالى فعل ذلك ليضلّهم ، ولا يمتنع أن يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبّرة في أنّ الله تعالى يضلّ عن الدين ، فردّ بهذا الكلام عليه كما يقول أحدنا : «إنّما أتيت عبدي من الأموال ما آتيته ليعصيني ولا يطيعني» ، وهو إنّما يريد الإنكار على من يظنّ ذلك به ، ونفي إضافة المعصية إليه.

وهذا الوجه لا يتصوّر إلّا على الوجهين : إمّا بأن يقدّر فيه الاستفهام وإن حذف حرفه ، أو بأن يكون اللام في قوله : «ليعصيني» لام العاقبة الّتي قد تقدّم بيانها. ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين ، لم يتصوّر أن يكون الكلام خارجا مخرج النفي والانكار.

ورابعها : أن يكون أراد الاستفهام ، فحذف حرفه المختصّ به ، وقد حذف حرف الاستفهام في أماكن كثيرة من القرآن.

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ، ٨.

(٢) البيت لسابق البربري راجع العقد الفريد ، ١ : ١١٣.

٤٢٢

وهذا الجواب يضعّف ؛ لأنّ حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلّا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، مثل قول الشاعر :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظّلام من الرّباب خيالا (١)

لأنّ لفظة «أم» يقتضي الاستفهام ، وقد سأل «أبو علي الجبّائيّ» نفسه عن هذا السؤال في التفسير ، وأجاب عنه : بأن في الآية ما يدلّ على حذف حرف الاستفهام ، وهو دليل العقل الدالّ على أنّ الله تعالى لا يضلّ العباد عن الدّين. ودليل العقل أقوى ممّا يكون في الكلام دالا على حرف الاستفهام.

وهذا ليس بشيء ؛ لأنّ دليل العقل وإن كان أقوى من كل دليل يصحب الكلام ، فإنّه ليس يقتضي في الآية أن يكون حرف الاستفهام منها محذوفا لا محالة ؛ لأنّ العقل إنّما يقتضي تنزيه الله تعالى عن أن يكون مجرّبا بشيء من أفعاله إلى إضلال العباد عن الدين ، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح ، من غير أن يذكر الاستفهام ويحذف حرفه ، وإذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام ، وانّما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذّر تنزيهه تعالى عن إرادة الضلال ، إلّا بتقدير الاستفهام.

فأمّا قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فأجود ما قيل فيه : إنّه عطف على قوله : (لِيُضِلُّوا) وليس بجواب لقوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) وتقدير الكلام (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ). وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة ، وأن يكون المعنى فيها لئلّا يضلّوا أيضا.

وقال قوم : إنّه أراد (فلن يؤمنوا) فأبدل الألف من النون الخفيفة ، كما قال الأعشى :

__________________

(١) البيت للأحظل ، تقدّم تخريجه في سورة الأنعام ، الآيتان : ٨٦ ـ ٨٧.

٤٢٣

وصلّ علي حين العشيّات والضّحى

ولا تحمد المثرين والله فاحمدا (١)

أراد : فاحمدن ، فأبدل النون ألفا ، وكما قال عمر بن أبي ربيعة :

وقمير بدا ابن خمس وعش

رين له قالت الفتاتان قوما

أراد : قومن.

وممّا استشهد به من أجاب بهذا الجواب الّذي ذكرناه آنفا في أنّ الكلام خبر ، وإن خرج مخرج الدعاء ، ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «لن يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» وهذا نهي ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر وتقدير الكلام : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين» ؛ لأنّه لو كان خبرا لكان كذبا. وإذا جاز أن يراد بما لفظه لفظ الخبر النهي ، جاز أن يراد بما لفظه لفظ الدعاء الخبر. فيكون المراد بالكلام : «فلن يؤمنوا».

وقد ذكر «أبو علي الجبّائيّ» أنّ قوما من أهل اللغة قالوا : إنه تعالى نصب قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) وحذف منه النون. وهو يريد في المعنى «ولا يؤمنون» على سبيل الخبر عنهم ؛ لأنّ قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) وقع موقع جواب الأمر الّذي هو قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) فلمّا وقع موقع جواب الأمر وفيه الفاء ، نصبه بإضمار «أن» ؛ لأنّ جواب الأمر بالفاء منصوب في اللغة ، فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب ، وإن لم يكن في الحقيقة جوابا. ومثله قول القائل : «انظر إلى الشمس تغرب» «بالجزم» ، وتغرب ليس هو جواب الأمر على الحقيقة ؛ لأنّها لا تغرب لنظر هذا الناظر ، ولكن لمّا وقع موقع الجواب أجراه مجراه في الجزم ، وإن لم يكن جوابا في الحقيقة.

وقد ذكر «أبو مسلم محمد بن بحر» في هذه الآية وجها آخر ، وهو من أغرب ما ذكر فيها ، قال : «إنّ الله تعالى إنّما آتى فرعون وملأه الزينة والأموال

__________________

(١) لسان العرب ٢ : ٤٧٠ وفيه :

وسبح على حين العشيات والضحى

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

٤٢٤

في الدنيا على طريق العذاب لهم والإنتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال ، وعلمه من أحوالهم في المستقبل من أنّهم لا يؤمنون. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (١). فسأل موسى عليه‌السلام ربّه وقال : ربّ إنّك اتيتهم هذه الأموال والزينة في الحياة الدنيا على طريق العذاب ولتضلّهم في الآخرة عن سبيلك الّتي هي سبيل الجنّة وتدخلهم النار بكفرهم ، ثمّ سأله أن يطمس على أموالهم بأن يسلبهم إيّاها ليزيد ذلك في حسرتهم وعذابهم ومكروههم ، ويشدّ على قلوبهم بأن يميتهم على هذه الحال المكروهة. وهذا جواب قريب من الصّواب والسّداد» [انتهى كلامه ، وفيه نظر] (٢).

ـ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)) [يونس : ٩٠ ـ ٩١].

أنظر البقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [يونس : ٩٤].

[إن سأل سائل فقال :] كيف يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكّ ممّا أوحي إليه؟ وكيف يسأل عن صحّة ما أنزل إليه الذين يقرؤون الكتاب من قبله وهم اليهود والنصارى المكذّبون له؟.

[قلنا :] إنّ قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ظاهر الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمعنى لغيره ؛ كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٣) فكأنّه قال : فإن كنت أيّها السامع للقرآن في شكّ ممّا أنزلناه على نبيّنا ؛ فاسأل الذين يقرأون الكتاب.

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٥٥.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٠٦.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ١.

٤٢٥

وليس يمتنع عند من أنعم النظر أن يكون الخطاب متوجّها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس إذا كان الشكّ لا يجوز عليه لم يحسن أن يقال له : إن شككت فافعل كذا ، كما قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١) ، ومعلوم أنّ الشرك لا يجوز عليه.

ولا خلاف بين العلماء في أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل في ظاهر آيات الوعيد والوعد ، وإن كان لا يجوز أن يقع منه ما يستحقّ به من العقاب. وإن قيل له : إن أذنبت عوقبت ؛ فهكذا لا يمتنع أن يقال له : إن شككت فافعل كذا وكذا ؛ وإن كان ممّن لا يشكّ.

ووجدت بعض المفسّرين يجعل «إنّ» هاهنا بمعنى «ما» التي للجحد ، ويكون تقدير الكلام : ما كنت في شكّ ممّا أنزلنا إليك ، واستشهد على ذلك بقوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (٢) ، أي ما نحن ، وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) (٣) ؛ أي ما أنت إلّا نذير ، ولا شكّ ولا شبهة في أنّ لفظة «إن» قد تكون بمعنى «ما» في بعض المواضع ؛ إلّا أنّه لا يليق بهذا الموضع أن تكون (إِنْ) بمعنى «ما» ؛ لأنّه لا يجوز أن يقول تعالى : ما أنت في شكّ ممّا أنزلنا إليك ؛ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ؛ لأن العالم لا حاجة به إلى المسألة ؛ وإنّما يحتاج أن يسأل الشاكّ.

غير أنّه يمكن نصرة هذا الجواب بأنّه تعالى لو أمره بسؤال أهل الكتاب من غير أن ينفي شكّه لأوهم أمره بالسؤال أنّه شاكّ في صدقه ، وصحّه ما أنزل عليه ، فقدّم كلاما يقتضي نفي الشكّ عنه فيما أنزل عليه ، ليعلم أنّ أمره بالسؤال ليزول الشكّ عن غيره ، لا عنه.

فأمّا الذين أمر بمسألتهم فقد قيل إنّهم المؤمنون من أهل الكتاب ، الراجعون إلى الحقّ ؛ ككعب الأحبار ، ومن جرى مجراه ممّن أسلم بعد اليهودية ، لأنّ هؤلاء لا يصدّقون عمّا شاهدوه في كتبهم من صفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبشارة به ؛ وإن كان غيرهم ممّن أقام على الكفر والباطل لا يصدق عن ذلك.

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ٦٥.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ١١.

(٣) سورة فاطر ، الآية : ٢٣.

٤٢٦

وقال قوم آخرون : إنّ المراد بالذين يقرؤون الكتاب جماعة اليهود ، ممّن آمن وممّن لم يؤمن ؛ فإنّهم يصدقون عمّا وجدوه في كتبهم من البشارة بنبيّ موصوف ، يدّعون أنّه غيرك ، وأنّك إذا قابلت بتلك الصفات صفاتك علمت أنت وكلّ من أنصف أنّ المبشّر بنبوّته هو أنت.

وقال آخرون : ما أمره أن يسألهم عن البشارة به ؛ لأنّهم لا يصدقون عن ذلك ؛ بل أمره عليه‌السلام أن يسألهم عمّا تقدّم ذكره على هذه الآية بغير فصل من قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١) ثمّ قال تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) (٢) ، أي في شكّ ممّا تضمّنته هذه الآية من النعمة على بني إسرائيل ؛ فما كانت اليهود تجحد ذلك ، بل تقرّ به ، وتفخر بمكانه.

وهذا الوجه يروى عن الحسن البصريّ. وكلّ ذلك واضح لمن تأمّله (٣).

ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩].

أنظر الأعراف : ٨٩ من الأمالي ، ١ : ٣٨٥ والبقرة : ٢٦ ، ٢٧ من الرسائل ، ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ١٠٠].

[إن سأل سائل وقال :] ظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ الإيمان إنّما كان لهم فعله بإذنه وأمره ، وليس هذا مذهبكم ؛ وإن حمل الإذن هاهنا على الإرادة اقتضى أنّ من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله منه ، وهذا أيضا بخلاف قولكم. ثمّ جعل الرّجس الذي هو العذاب على الذين لا يعقلون ؛ ومن كان فاقدا عقله لا يكون

__________________

(١) سورة يونس ، الآية : ٩٣.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٩٤.

(٣) الأمالي ، ٢ : ٣١٧ راجع أيضا الرسائل ، ٣ : ١٠٥.

٤٢٧

مكلّفا ، فكيف يستحقّ العذاب؟ وهذا بالضدّ من الخبر المرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أكثر أهل الجنة البله».

الجواب : يقال له في قوله تعالى : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وجوه :

منها : أن يكون الإذن الأمر ، ويكون معنى الكلام : إنّ الإيمان لا يقع إلّا بعد أن يأذن الله فيه ، ويأمر به ، ولا يكون معناه ما ظنّه السائل من أنّه لا يكون للفاعل فعله إلّا بإذنه ، ويجري هذا مجرى قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١).

ومعلوم أنّ معنى قوله : ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه ، وإن كان الأشبه في هذه الآية التي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم.

ومنها : أن يكون الإذن هو التوفيق والتيسير والتسهيل ، ولا شبهة في أنّ الله يوفّق لفعل الإيمان ويلطف فيه ، ويسهّل السبيل إليه.

ومنها : أن يكون الإذن العلم من قولهم : أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته ، وأذنت فلانا بكذا إذا أعلمته ؛ فتكون فائدة الآية الإخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات ، فإنّه ممّن لا يخفي عليه الخفيّات. وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن (بكسر الألف وتسكين الذال) عبارة عن العلم ، وزعم أن الذي هو العلم الأذن (بالتحريك) ، واستشهد بقول الشاعر (٢) :

إنّ همّي في سماع وأذن

وليس الأمر على ما توهّمه هذا المتوهّم ، لأنّ الأذن هو المصدر ، والإذن هو اسم الفعل ؛ فيجري مجرى الحذر في أنه مصدر ؛ والحذر (بالتسكين) الاسم على أنّه لو لم يكن مسموعا إلّا الأذن (بالتحريك) لجاز التسكين ، مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٥.

(٢) هو عدي بن زيد العبادي ؛ وتمام البيت هكذا : ايّها القلب تعلّل بددن ...

٤٢٨

ومنها : أن يكون الإذن العلم ، ومعناه إعلام الله المكلّفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله ، ويكون معنى الآية : وما كان لنفس أن تؤمن إلّا بإعلام الله لها بما يبعثها على الإيمان ، وما يدعوها إلى فعله.

فأمّا ظنّ السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل ؛ لأنّ الإذن لا يحتمل الإرادة في اللّغة ، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهّمه ، لأنّه إذا قال : إنّ الإيمان لا يقع إلّا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع ، وليس في صريح الكلام ولا دلالته شيء من ذلك.

وأمّا قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) فلم يعن بذلك الناقصي العقول ، وإنّما أراد الّذين لم يعقلوا ولم يعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة الله خالقهم ، والاعتراف بنبوّة رسله والانقياد إلى طاعتهم ، ووصفهم تعالى بأنّهم لا يعقلون تشبيها ؛ كما قال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١) ، وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور ، أو لم يعلم ما هو مأمور بعمله بالجنون وفقد العقل.

فأمّا الحديث الّذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل إنّه «عليه وآله السلام» لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون ، وإنّما أراد البله عن الشرّ والقبيح ، وسمّاهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه ، لا من حيث فقدوا العلم به. ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر ، فإنّ الأبله عن الشيء هو الذي لا يعرض له ولا يقصد إليه ، فإذا كان المتنزّه عن الشرّ معرضا عنه ، هاجرا لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة التي ذكرناها ؛ ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر :

ولقد لهوت بطفلة ميّادة

بلهاء تطلعني على أسرارها (٢)

أراد أنّها بلهاء عن الشر والريبة ؛ وإن كانت فطنة لغيرهما ؛ وقال أبو النّجم العجليّ :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨.

(٢) الأضداد ص ٢٥٢ ، واللسان (بله) ـ بلا عزو.

٤٢٩

من كلّ عجزاء سقوط البرقع

بلهاء لم تحفظ ولم تضيّع

أراد بالبلهاء ما ذكرناه. فأمّا قوله : «سقوط البرقع» فأراد أنّها تبرز وجهها ولا تستره ، ثقة [بحسنه وإدلالا بجماله] ، وقوله : «لم تحفظ» أراد أنّ استقامة طرائقها تغني عن حفظها ، وأنّها لعفافها ونزاهتها غير محتاجة إلى مسدّد وموقّف ؛ وقوله : «لم تضيّع» أراد أنّها لم تهمل في أغذيتها وتنعيمها وترفيهها فتشقى ، ومثل قوله : «سقوط البرقّع» قول الشاعر (١) :

فلمّا تواقفنا وسلّمت أقبلت

وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا

ومثله أيضا :

بها شرق من زعفران وعنبر

أطارت من الحسن الرّداء المحبّرا (٢)

أي رمت بها عنها ثقة بالجمال والكمال ، ومثله ـ وهو مليح :

لهونا بمنجول البراقع حقبة

فما بال دهر لزّنا بالوصاوص

أراد بمنجول البراقع اللاتي يوسعن عيون براقعهنّ ثقة بحسنهن ، ومنه الطعنة النّجلاء ، والعين النّجلاء ؛ ثمّ قال : ما بال دهر أحوجنا واضطرنا إلى القباح ، اللواتي يضيّقن عيون براقعهنّ لقبحهنّ ، والوصاوص : هي النّقب الصّغار للبراقع ؛ وممّا يشهد للمعنى الأوّل الذي هو الوصف بالبله لا بمعنى الغفلة قول ابن الدّمينة :

بمالي وأهلي من إذا عرضوا له

ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب (٣)

 ـ ويروي بنفسي وأهلي ـ

ولم يعتذر عذر البريّ ولم تزل

به ضعفة حتّى يقال مريب

__________________

(١) هو عمر بن أبي ربيعة : والبيت في ديوانه ٣٣.

(٢) البيت للشماخ ، ديوانه : ٢٩.

(٣) الشعر والشعراء : ٤٥٩. وفي بعض النسخ : «بأهلي ومالي».

٤٣٠

ومثله :

أحبّ اللّواتي في صباهنّ غرّة

وفيهنّ عن أزواجهنّ طماح (١)

مسرّات حبّ مظهرات عداوة

تراهنّ كالمرضى وهنّ صحاح

ومثله :

يكتبين الينجوج في كبد المش

تي وبله أحلامهنّ وسام (٢)

أمّا قوله : «يكتبين» فمأخوذ من لفظ الكباء ، وهو العود ، أراد يتبخّرن به ، والينجوج هو العود ، وفيه ست لغات : ينجوج ، وأنجوج ، ويلنجوج ، وألنجوج ، وألنجج ، ويلنجج.

فأمّا كبد المشتي ، فهو ضيقته وشدّته ، ومنه قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٣) ؛ وقد روي : «في كبّة المشتى» والمعنى متقارب ، لأنّ الكبّة هي الصدمة ، مأخوذ من كبّة الخيل ؛ وأمّا الوسام فهنّ الحسان من الوسامة ، وهي الحسن.

ويمكن أن يكون في البله جواب آخر : وهو أن يحمل على الخبر معنى البله الذي هو الغفلة والنقصان في الحقيقة ، ويكون معنى الخبر : أنّ أكثر أهل الجنة الذين كانوا بلها في الدنيا ، فعندنا أنّ الله ينعم الأطفال في الجنّة والمجانين والبهائم ، وإنّما لم نجعلهم بلها في الجنة وإن كان ما يصل إليهم من النعيم على سبيل العوض أو التفضّل لا يفتقر إلى كمال العقل لأنّ الخبر ورد بأنّ الأطفال والبهائم إذا دخلوا الجنّة لم يدخلوها إلّا وهم على أفضل الحالات وأكملها ، ولهذا صرفنا البله عنهم في الجنة ، ورددناه إلى أحوال الدنيا ، وإلّا فالعقل لا يمنع من ذلك كمنعه إياه في باب الثواب والعقاب (٤).

__________________

(١) البيتان في مصارع العشاق ٣٤٧ ، وعزاهما إلى بعض الأعراب ، ورواية البيت الأول فيه :

أحبّ اللواتي هنّ من ورق الصّبا

ومنهنّ عن أزواجهنّ طماخ

ويقال : طمح ببصره ؛ إذا رمى به ، وفي حاشية بعض النسخ : «صماح : شماس».

(٢) البيت لأبي دؤاد الإيادي ، وهو في الأصمعيات ٦٨ ، وفي حاشية الأصل : «أي عقولهن بله ، وهن وسام ، وواحد الوسام وسيم».

(٣) سورة البلد ، الآية : ٤.

(٤) الأمالي ، ١ : ٦٤.

٤٣١

سورة هود

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٣].

أنظر هود : ٩٠ من التنزيه : ٩٦.

ـ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) [هود : ٥].

أنظر البقرة : ١ من الرسائل ، ٣ : ٢٩٧ ، ٣٠٥.

ـ (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ...) [هود : ١٨].

أنظر النساء : ١١٥ من الشافي ، ١ : ٢١٦.

ـ (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) [هود : ٢٠].

[إن سأل سائل] فقال : أي معنى اختصاص «الأرض» بالذكر وهم لا يفوتون الله ولا يعجزونه ، ولا يخرجون عن قبضته على كلّ حال ، وفي كل مكان؟ ولم نفى الأولياء عنهم ، وقد نجد أهل الكفر يتولّى بعضهم بعضا وينصرونهم ويحمونهم من المكاره؟ وكيف نفى استطاعتهم للسمع والإبصار ، وأكثرهم قد كان يسمع بأذنه ويرى بعينه؟

الجواب : قلنا : أمّا الوجه في اختصاص الذكر بالأرض ، فلأنّ عادة العرب جارية بقولهم للمتوعّد : لا مهرب لك مني ، ولا وزر ، ولا نفق ، والوزر : الجبل ، والنّفق : السّرب ، وكلّ ذلك ممّا يلجأ إليه الخائف المطلوب ، فكأنّه تعالى نفى أن يكون لهؤلاء الكفّار عاصم منه ، ومانع من عذابه ؛ وأنّ جبال الأرض وسهولها لا تحجز بينهم وبين ما يريد إيقاعه بهم ؛ كما أنّها تحجز عن

٤٣٢

كثير من أفعال البشر ؛ لأنّ معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر من المكاره ؛ ويلجؤون بها إلى الاعتصام بها عند المخاوف ؛ فإذا نفى تعالى أن يكون لهم في الأرض معقل فقد نفى المعقل من كل وجه.

فأمّا قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فمعناه أنّه لا وليّ لهم ، ولا ناصر من عذاب الله تعالى وعقابه لهم في الآخرة ؛ ولا ممّا يريد أيضا إيقاعه بهم في الدنيا ، وإن كان لهم من يحميهم من مكروه البشر وينصرهم ممّن أرادهم بسوء ؛ وقد يجوز أن يكون ذلك أيضا بمعنى الأمر ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر ؛ ويكون التقدير : وليس لهم أن يتّخذوا أولياء من دون الله ، بل الواجب أن يرجعوا إليه في معونتهم ونصرهم ، ولا يعوّلوا على غيره.

فأمّا قوله عزوجل : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) ففيه وجوه :

أحدها : أن يكون المعنى : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون ؛ وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون ؛ عنادا للحقّ ، وذهابا عن سبيله ؛ فأسقط الباء من الكلام ، وذلك جائز كما جاز في قولهم : «لأجزينّك بما عملت» و «لأجزينّك ما عملت» ؛ و «لأحدثّنك بما عملت» و «لأحدثنك ما عملت» ؛ وكما قال الشاعر :

نغالي اللّحم للأضياف نيئا

ونبذله إذا نضج القدير (١)

فأراد : نغالي باللحم.

والوجه الثاني : أنّهم لاستثقالهم استماع آيات الله تعالى ، وكراهيّتهم تذكّرها وتفهّمها ، جروا مجرى من لا يستطيع السمع ، كما يقول القائل : ما يستطيع فلان أن ينظر لشدّة عداوته إلى فلان ، وما يقدر على أن يكلمه ؛ وكما نقول لمن عهدنا منه العناد والاستثقال لاستماع الحجج والبينات : ما تستطيع أن تسمع الحقّ ؛ وما تطيق أن يذكر لك ، وكما قال الأعشى :

__________________

(١) البيت في اللسان (غلا) : قال في شرحه : «نغالي اللحم ، نشتريه غاليا ، ثمّ نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا». والقدير : ما طبخ من اللحم بتوابل.

٤٣٣

ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل (١)

ونحن نعلم أنّه قادر على الوداع ؛ وإنّما نفى قدرته عليه من حيث الكراهة والاستثقال. ومعنى : «وما كانوا يبصرون» أي أن إبصارهم لم يكن نافعا لهم ؛ ولا مجديا عليهم ؛ مع الإعراض عن تأمّل آيات الله تعالى وتدبّرها ؛ فلمّا انتفت عنهم منفعة الإبصار جاز أن ينفي عنهم الإبصار نفسه ؛ كما يقال للمعرض عن الحقّ ، العادل عن تأمّله : مالك لا تبصر ، ولا تسمع ؛ ولا تعقل؟ وما أشبه ذلك.

والوجه الثالث : [أن يكون معنى نفى السمع والبصر] راجعا إلى آلهتهم لا إليهم ؛ وتقدير الكلام : أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض ، يضاعف لهم العذاب ؛ ثمّ قال مخبرا عن الآلهة : «ما كانوا يستطيعون السّمع وما كانوا يبصرون» ، وهذا الوجه يروي عن ابن عباس «رحمة الله عليه» ، وفيه أدنى بعد.

ويمكن في الآية وجه رابع : وهو أن يكون ما في قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) ليست للنفي ؛ بل تجري مجرى قولهم : لأواصلنّك ما لاح نجم ؛ ولأقيمنّ على مودّتك ما طلعت شمس ؛ ويكون المعنى أنّ العذاب يضاعف لهم في الآخرة ؛ ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ؛ أي أنّهم معذّبون ما كانوا أحياء.

فإن قيل : كيف يعبّر عن كونهم أحياء باستطاعة السمع والإبصار ؛ وقد يكون حيّا من لا يكون كذلك؟

قلنا : للعرب في مثل هذا عادة ؛ لأنّهم يقولون : والله لا كلّمت فلانا ما نظرت عيني ، ومشت قدمي ؛ وهم ، يريدون : ما بقيت وحييت ؛ لأنّ الأغلب من أحوال الحيّ أن تنظر عينه ، وتمشي قدمه ؛ فجعلوا الأغلب كالواجب ؛ ومن ذلك قول الشاعر :

وما أنس من شيء تقادم عهده

فلست بناس ما هدت قدمي نعلي

عشيّة قالت والدّموع تعينها :

هنيئا لقلب عنك لم يسله مسلي

__________________

(١) ديوانه : ٤١.

٤٣٤

وإنّما أراد : أنّي لا أنسى ذلك ما حييت ؛ وكذلك لا يمتنع أن يعلّق على هذا المذهب دوام العذاب بكونهم مستطيعين للسمع والإبصار ؛ ويعود المعنى إلى تعلّقه ببقائهم ، وكونهم أحياء ؛ والمرجع في ذلك إلى التأبيد لأنّه إذا علّق العذاب ببقائهم وإحيائهم علمنا أنّ الآخرة لا موت فيها ، ولا خروج عن الحياة ، علمنا تأبيد العذاب (١).

[انظر أيضا الإسراء : ٤٨ من الأمالي ، ٢ : ١٤٥].

ـ (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [هود : ٣٤].

[إن سأل سائل] فقال : أوليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنّ نصح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينفع الكفّار الذين أراد الله تعالى بهم الكفر والغواية ، وهذا بخلاف مذهبكم!.

الجواب : قلنا : ليس في ظاهر الآية ما يقتضيه خلاف مذهبنا ؛ لأنّه تعالى لم يقل إنّه فعل الغواية وأرادها ؛ وإنّما أخبر أنّ نصح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينفع إن كان الله يريد غوايتهم. ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها لا دلالة عليه في الظاهر ؛ على أنّ الغواية هاهنا الخيبة وحرمان الثواب ؛ ويشهد بصحّة ما ذكرناه في هذه اللفظة قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (٢)

فكأنّه قال : إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم وكفركم ، ويحرّمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه ؛ إلّا أن تقلعوا وتتوبوا.

وقد سمّى الله تعالى العقاب غيّا ، فقال : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٣) ؛ وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه ؛ وأنّ القوم استعجلوا عقاب الله تعالى : (قالُوا يا نُوحُ

__________________

(١) الأمالي ، ١ : ٥١٨.

(٢) البيت للمرقش الأصغر (المفضليات ٢٤٧ ـ طبعة المعارف).

(٣) سورة مريم ، الآية : ٥٩.

٤٣٥

قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) (١) الآية فأخبر أن نصحه لا ينفع من يريد الله أنّ ينزل به العذاب ، ولا يغني عنه شيئا.

وقال جعفر بن حرب : إنّ الآية تتعلّق بأنّه كان في قوم نوح طائفة تقول بالجبر ، فنّههم الله تعالى بهذا القول على فساد مذهبهم ؛ وقال لهم على طريق الإنكار والتعجب من قولهم : إن كان القول كما تقولون من أنّ الله يفعل فيكم الكفر والفساد ، فما ينفعكم نصحي ؛ فلا تطلبوا منّي نصحا وأنتم على ذلك لا تنتفعون به ؛ وهذا جيّد.

وروي عن الحسن البصريّ في هذه الآية وجه صالح ؛ وهو أنّه قال : المعنى فيها إن الله يريد أن يعذّبكم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم ، وإن قبلتموه وآمنتم به ؛ لأنّ من حكم الله تعالى ألّا يقبل الإيمان عند نزول العذاب ؛ وهذا كلّه واضح في زوال الشبهة بالآية (٢).

ـ (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠].

[وفيها أمران :

الأوّل : إن سأل سائل عن هذه الآية] قلنا : أمّا التنور فقد ذكر في معناه وجوه :

أوّلها : أنّه تعالى أراد بالتنّور وجه الأرض ؛ وأنّ الماء نبع وظهر على وجه الأرض وفار ؛ هذا قول عكرمة ، وقال ابن عباس مثله ، والعرب تسمّي وجه الأرض تنّورا.

وثانيها : أن يكون المراد أنّ الماء نبع من أعالي الأرض ، وفار من الأماكن المرتفعة منها ؛ وهذا قول قتادة ؛ وروي عنه في قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ) ؛ قال : ذكر لنا أنّه أرفع الأرض وأشرفها.

__________________

(١) سورة هود ، الآيات : ٣٢ ـ ٣٤.

(٢) الأمالي ، ٢ : ٢١١.

٤٣٦

وثالثها : أن يكون المراد ب «وفار التّنّور» أي برز النّور ، وظهر الضوء ، وتكاثفت حرارة دخول النهار ، وتقضّي الليل. وهذا القول يروى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ورابعها : أن يكون المراد بالتنّور الذي يختبز فيه على الحقيقة ؛ وأنّه تنور كان لآدم عليه‌السلام. وقال قوم : إن التّنّور كان في دار نوح عليه‌السلام بعين وردة (١) من أرض الشام. وقال آخرون : بل كان التنّور في ناحية الكوفة ؛ والذي روي عنه أنّ التنّور هو تنّور الخبز الحقيقي ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم.

وخامسها : أن يكون معنى ذلك : اشتدّ غضب الله تعالى عليهم ، وحلّ وقوع نقمته بهم ؛ وذكر تعالى التّنّور مثلا لحضور العذاب ، كما تقول العرب : قد حمي الوطيس ؛ إذا اشتدّ الحرب ، وعظم الخطب. والوطيس هو التّنّور. وتقول العرب أيضا : قد فارت قدر القوم إذا اشتد حربهم ؛ قال الشاعر :

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلا (٢)

أراد بقدرهم حربهم ، ومعنى نديمها : نسكّنها ، ومن ذلك الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نهى عن البول في الماء الدائم ؛ يعنى الساكن. ويقال : قد دوّم الطائر في الهواء ، إذا بسط جناحيه وسكنهما ولم يخفق بهما. ونفثؤها ، معناه نسكّنها ؛ يقال : فثأت غضبه عنّي ، وفثأت الحارّ بالبارد إذا كسرته به.

وسادسها : أن يكون التنّور الباب الذي يجتمع فيه ماء السفينة ؛ فجعل فوران الماء منه والسفينة (٣) على الأرض علما على ما أنذر به من إهلاك قومه ؛ وهذا القول يروى عن الحسن.

وأولى الأقوال بالصواب قول من حمل الكلام على التنّور الحقيقي ؛ لأنّه

__________________

(١) في حاشية بعض النسخ : وردة : اسم امرأة : تنسب العين إليها.

(٢) البيت في اللسان (فثأ) ، ومقاييس اللغة (٢ / ٣١٥) منسوبا إلى النابغة الجعدي.

(٣) ضبطت في الأصل بالفتح والضم معا ؛ وفي حاشية بعض النسخ : إذا نصب كان عطفا على «فوران» ويكون «على الأرض» حالا ؛ والرفع أولى.

٤٣٧

الحقيقة وما سواه مجاز ؛ ولأنّ الروايات الظاهرة تشهد له ؛ وأضعفها وأبعدها من شهادة الأثر قول من حمل ذلك على شدّة الغضب واحتداد الأمر تمثيلا وتشبيها ؛ لأنّ حمل الكلام على الحقيقة التي تعضدها الرواية أولى من حمله على المجاز والتوسّع مع فقد الرواية.

وأيّ المعاني أريد بالتنّور فإنّ الله تعالى جعل فوران الماء منه علما لنبيّه ؛ وآية تدلّ على نزول العذاب بقومه ؛ لينجو بنفسه وبالمؤمنين.

فأمّا قوله تعالى : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فقد قيل : المراد به : إحمل من كلّ ذكر وأنثى اثنين ، وإنّه يقال لكلّ واحد من الذكر والأنثى زوج.

وقال آخرون : الزوجان هاهنا الضربان ؛ وقال آخرون : الزوج : اللون ؛ وإنّ كلّ ضرب يسمى زوجا ؛ واستشهدوا ببيت الأعشى (١) :

وكلّ زوج من الدّيباج يلبسه

أبو قدامة محبورا بذاك معا

ومعنى «من سبق عليه القول» ؛ أي من أخبر الله تعالى بعذابه وحلول الهلاك به والله أعلم بمراده (٢).

[الثاني : استشهد السيّد بهذه الآية على أن لفظة «أمر» تستعمل بمعنى الفعل أيضا ، قال :] وإنّما يريد الله تعالى بذلك الأهوال والعجائب الّتي فعلها جلّ اسمه ، وخرق بها العادة (٣).

ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦)) [هود : ٤٥ ـ ٤٦].

[إن سأل سائل] فقال : ظاهر قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) يقتضى تكذيب قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) والنبيّ لا يجوز عليه الكذب ، فما الوجه في ذلك؟ وكيف يصحّ أن يخبر عن ابنه بأنّه (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ)؟ وما المراد به؟

__________________

(١) ديوانه : ٨٦.

(٢) الأمالي ، ٢ : ١٤٨.

(٣) الذريعة ، ١ : ٢٨.

٤٣٨

الجواب : قلنا : في هذه الآية وجوه :

أوّلها : أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول نفي النّسب ، وإنّما نفى أن يكون من أهله الذين وعد بنجاتهم ؛ لأنّه عزوجل كان وعد نوحا عليه‌السلام بأن ينجّي أهله ، ألا ترى إلى قوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) (١) ، فاستثنى تعالى من أهله من أراد إهلاكه بالغرق! ويدلّ عليه أيضا قول نوح : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ، وعلى هذا الوجه يتطابق الأمران ولا يتنافيان ؛ وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسّرين.

والجواب الثاني : أن يكون المراد بقوله تعالى : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي أنه ليس على دينك ؛ وأراد تعالى أنّه كان كافرا مخالفا لأبيه ؛ فكأنّ كفره أخرجه من أن يكون له أحكام أهله ؛ ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على طريق التعليل : «إنّه عمل غير صالح» ، فبيّن تعالى أنّه إنّما خرج عن أحكام أهله لكفره وسيّئ عمله ، وقد روى هذا التأويل أيضا عن جماعة من المفسّرين ؛ وحكي عن ابن جريج أنه سئل عن ابن نوح فسبّح طويلا ثمّ قال لا إله إلّا الله! يقول الله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) وتقول : ليس منه! ولكنه خالفه في العمل فليس منه من لم يؤمن.

وروي عن عكرمة أنّه قال : كان ابنه ولكنه كان مخالفا له في النية والعمل ؛ فمن ثمّ قيل : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ).

والوجه الثالث : أنّه لم يكن ابنه على الحقيقة ؛ وإنّما ولد على فراشه ، فقال عليه‌السلام : إنّه ابني على ظاهر الأمر ؛ فأعلمه الله تعالى أنّ الأمر بخلاف الظاهر ، ونبّهه على خيانة امرأته ؛ وليس في ذلك تكذيب لخبره ، لأنّه إنّما أخبر عن ظنّه ، وعمّا يقتضيه الحكم الشرعيّ ، فأخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره ؛ وقد روي هذا الوجه عن الحسن وغيره.

وروى قتادة عن الحسن قال : كنت عنده ؛ فقال : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، لعمر

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٤٠.

٤٣٩

الله ما هو ابنه ، قال : فقلت : يا أبا سعيد ؛ يقول الله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) وتقول : ليس بابنه! قال : أفرأيت قوله : (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)؟ قال : قلت معناه : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجّيهم معك ، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه ، فقال : أهل الكتاب يكذبون ؛ وروي عن مجاهد وابن جريج مثل ذلك.

وهذا الوجه يبعد إذ فيه منافاة للقرآن ؛ لأنّه تعالى قال : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، فأطلق عليه اسم البنوّة ؛ ولأنّه أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ؛ ولأنّ الأنبياء عليهم‌السلام يجب أن ينزّهوا عن مثل هذه الحال ؛ لأنّها تعرّ وتشين وتغضّ من القدر ؛ وقد جنّب الله تعالى أنبياءه عليهم‌السلام ما هو دون ذلك ؛ تعظيما لهم وتوقيرا ، ونفيا لكلّ ما ينفّر عن القبول منهم ؛ وقد حمل ابن عباس ظهور (١) ما ذكرناه من الدّلالة على أنّ تأوّل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط : (فَخانَتاهُما) على أنّ الخيانة لم تكن منهما بالزنّا ، بل كانت إحداهما تخبر الناس بأنّه مجنون ؛ والأخرى تدلّ على الأضياف ؛ والمعتمد في تأويل الآية هو الوجهان المتقدّمان.

فأمّا قوله تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فالقراءة المشهورة بالرفع ، وقد روي عن جماعة من المتقدّمين أنّهم قرؤوا : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) بنصب اللام وكسر الميم ونصب «غير» ولكلّ وجه.

فأمّا الوجه في الرفع فيكون على تقدير أن ابنك ذو عمل غير صالح ؛ وصاحب عمل غير صالح ؛ فحذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه ؛ وقد استشهد على ذلك بقول الخنساء :

ما أمّ سقب علي بوّ تطيف به

قد ساعدتها على التّحنان أظآر (٢)

__________________

(١) في التنزيه : ٣٦ : قوّة.

(٢) ورواية الديوان :

فما عجول على بوّ تطيف به

لها حنينان : إصغار وإكبار

والسقب : الذكر من ولد الناقة. والبو : أن ينحر ولد الناقة ويؤخذ جلده فيحشى ويدنى من أمه فترأمه والتحنان : الحنين. والأظئار : جمع ظئر ؛ وهي التي تعطف على ولد غيرها.

٤٤٠